الخميس، ٢٥ تشرين الثاني ٢٠١٠

ظواهر و أبعاد آلازدواجية الفكرية؟


إذا كنتَ مِمّن لا يقرأ إلاّ ما يُعجبهُ فإنك لا و لن تتثقف أبداً
عزيز الخزرجي

أسفارٌ في أسرار الوجود ج3 ح4


ظواهر و أبعاد آلازدواجية الفكرية؟
في هذه الحلقة سنطرح موضوعاً من أدقّ و أهم الموضوعات التي تعدّ بمثابة المفتاح السري للأسفار بالدخول في أعماق المعرفة آلتكوينية للأنسان, و لكن بعد مقدمة هامة, و بسفرنا هذا سنتعرف بالضمن على جذور الازدواجية الفكرية التي أصابت إنسان العصر .. أي إنسان, و لا فرق أن يكون فقيهاً أو رئيساً او متخصصاً أو إنساناً عادياً, و سنركز عند الضرورة على الأنسان العراقي و العربي و المسلم حصراً بسبب كثرة آلتناقضات و المحن و الدكتاتوريات .. لما يُواجههُ قهراً من المتسلطين عليه بجانب مردودات ألصراع المحتدم على الصعيد الحضاري و الفكري بين الشرق و الغرب عموماً, و الذي نتج عنه صراعات و تناقضات على المستوى السياسي أو العسكري أو الأقتصادي, و لم تُجْدي مُحاولات التوافق الحضاري ألذي أبدعهُ المُفكرون الأسلاميون قبل أكثر من ثلاثة عقود إبتداءاً ببياناتنا و بدعوة و رسائل الأمام الخميني و السيد محمد باقر الصدر ثم السيد الخاتمي (الرئيس آلأسبق للجمهورية الاسلامية) و المفكر سروش, و من قبلهم الأفغاني و إقبال اللاهوي و غيرهم , و أخيراً نداآت السيد الخامنئي قائد الدولة الأسلامية المعاصرة الداعية إلى نبذ الخصومات والتحكم بالمنطق و آلأنصاف والعدل مع الشعوب و مصير الأنسان, و على الرغم من عدم نجاح تلك الدعوات على الصعيد العالمي عملياً لتَعَقّد و إختلاف الأهداف الرئيسية و المتبنيات الفكرية بين الأتجاهين (ألشرق و الغرب) أو (ألأسلام و الديمقراطية الليبرالية) , إلاّ أنها ستبقى بالرغم من ذلك خطوة مُتقدمة في أعماق المستقبل والفكر, و ستأسف لها البشرية فيما بعد .. إنّها نبوءة عُرفاء لم يُزدوج لديهم الفكر الأنساني سواءاً على المستوى النظري أو العملي .. مُقابل الصدام الحضاري الذي أبدعه هينغتون و كيسنجر و فوكوياما و غيرهم من ألذين إزدوجت لديهم الفكر الأنساني, ليدعوا بلا دليلٍ منطقي و علمي و تأريخي .. بأنّ النهاية و المستقبل ستكون للرأسمالية المعلو – مالية (راجع كتاب نهاية التأريخ).

إنّ إنسان اليوم, يتقدمه المسلم يعيش بين حقيقتين متناقضتين ؛ الأولى ألتقدم المدني – التكنولوجي في الغرب, ألذي بدأ يتغلغل بقوة و بشكل قهري لا مجال من الأستغناء عنه في حياتنا, هذا بجانب التشبث ألغربي بكل الوسائل المُمْكنة لإخضاع الدول الأخرى و شعوب الأرض لِهيمنتها, مُدّعين بأنّ ذلك إستحقاق طبيعي لهم لما حققوه من ألتقدم العلمي و المدني – كتنظيم المدن والأعمار و الأتصالات و غيرها, هذا بموازة تخلف الطرف المقابل بسبب تمسكهم بالدين و التراث و كل ما هو قديم و عدم إلتحاقهم بركب الحضارة الغربية كما يدعون .

أما الحقيقة الثانية فهي ما روج له الأعلام الغربي و إعلام الحكام المسلمين ليس فقط عدم قدرة الفكر الأسلامي و تناسبه مع التقدم العلمي و الفكري و الوضع الحضاري الجديد للبشرية بل توجيه تهمة الأرهاب للأسلام أو من يدين به, بيد إنّ المسلمين و مهما بلغت الأمور في وضعهم السلبي المُتخلف حقيقةً و للأسف .. فأنهم لا يزال يقدسون على آلأقل دينهم, رغم جهلهم الفاضح بحقائق الاسلام نفسه و بشتى مذاهبهم و حصرها فقط ضمن الأطر العبادية التقليدية, و كان لإستبداد الحكام و أساليب التزوير و القسوة و المطاردة, دورٌ كبير في مأساة الأسلام و المسلمين معاً, و ليس سهلاً على المسلم أنْ يترك عقيدته الألهية المتوارثة ألمتجذرة في أعماقه و حياته رغم كل ما جرى عليه, لأنّ بتركها لا يبقى عنده شئ يتسلى أو يتداوى به على الأقل .. ليعيش مُتردداً منهزماً بين قوة الهجمة الغربية المدعمة بالقوة وبالتكنولوجيا و آلديمقراطية و الدولار ألتي أشيع بأنها هي السبب في تقدمهم و رُقييهم الحضاري, مع محاولات ضمنية لنبذ الاسلام و إتهامه بالعنف و القسوة و آلأرهاب و عدم صلاحه للحكم بين الناس, ليتمكن بعد هذا من حصره في البيوت و داخل جدران المساجد و الحسينيات, بالضبط كما فعلوا بالمسيحية و اليهودية في العالم حيث حصرت المسيحية في دولة الفاتيكان في ارضٍ لا تتجاوز مساحتها إربعين كليومتراً مربعاً, هذا مع توافق كامل بإشاعة و دعم التوجه الداعي في البلدان العربية و الاسلامية - بإستثناء إيران – إلى أنّ الدّين الأسلامي الحقيقي هو ما تمثله المرجعية الدينية في النجف الأشرف في العراق بالنسبة للمذهب الشيعي الجعفري, و مرجعية آلأزهر الشريف في القاهرة تمثل آلمذاهب السنية في مُحاولة لأبقاء مبادي هذا الدين العظيم مُقيدةً الف عام أخَرْ بين فكّي كماشة الأستكبار العالمي و المرجعيات التقليدية آلآنفة, لتقليل و إخفاء وَهَجَها الساطع و حقيقتها بعد إنتصار ثورتها المعاصرة في إيران و التي أركعت آلأرادة الغربية, حتى وصلت هزاتها اطراف إسرائيل.


لقد عاش العراقيون أياماً عصيبة حين إنتصار الثورة عندما جار الظلم البعثي عليهم بسبب إستبشارها بذلك الأنتصار, و إن جميع قوى آلأستكبار العالمي مسؤولون عن محنة العراق بدعمهم المفرط للنظام البعثي البائد, كما ساهمت الحكومات العربية في تعميق تلك المحنة, و عاش العراقيون بعدها بين ساكت عن الحق و خائف من النظام أو متعاون معه أو مُتباهٍ بأفعاله, إلى أنْ أحاط آلظلم بكلّ شئ, بل و إمتدّ ليشمل حلفاء آلأمس في الأنظمة والشعوب الخليجية و العربية الأخرى, لتتشابك الأمور في الموقف العربي و الشخصية العربية نفسها إلى حدّ النزاع و الحرب, و لم يعد هناك من يعرف الحقيقة التي كانت بالأساس مُشوهةً في اوساطهم بسبب المظالم و المذابح و الحروب, و لو أنّ الأسلام الحقيقي ألذي نزل صافياً كاملاً كان قد وصلنا, لما كانت أمّتنا تواجه كل ذلك.

أما على صعيد الشخصية آلأسلامية ؛ فأنّ آلأمر مُعقّدٌ أكثر كونه نتاج ذلك الواقع المشار إليه, و يمتد أسباب التناقض فيها, إلى البذور التي زرعها النظام التربوي العراقي أساساً, و التي يُمكن إعتبارها حالة عربية مقيتة .. لأنّ طبيعة المواد الدراسية التي كان و ما يزال يتلقاها العراقي أو العربي في المدرسة من الرّوضة و حتى المراحل العليا – تطغى عليها طابع العنف و الشدة و الفروسية و القسوة و القنص و آلغارات و الحرب و الهجوم و ظاهرة الأبطال المُتبطلين في التأريخ كيزيد و معاوية و خالد و عكرمة و عنترة و القعقاع و عدنان القيسي و جون فريري و غيرهم من الذين كانوا بمثابة القدوة التربوية و الفكرية و الروحية للعراقي و العربي, لينشؤوا أجيالاً من آلمغرورين والمُتطرفين, و فيهم حتى من الأطباء و المهندسين و المتخصصين ذووي البعد الواحد, و هم لا يحفظون قصيدة واحدة في الحب الحقيقي ألمتمثل بالله تعالى أو المجازي ..المتمثل بحب الحبيب و آلأخ و آلأرحام بل حتى آلأشياء آلجميلة في الطبيعة والكون.

أتذكر جيداً حتى نهاية الستينيات من القرن آلماضي بوجود بعض القصائد العرفانية كـ " الطين" لإيليا أبو ماضي ألذي جَسّدَ فيها الشاعر الفيلسوف إنسانية الأنسان بأحلى صورة و أبهى وصف, أو مقاطع من أدب جبران خليل جبران ألرائع و التي تركت أثراً عميقاً في وجودي, بعد أن كان الأستاذ يُوجب علينا حفظها .. و قد حُذفت من متون كتب الأدب و اللغة العربية, و لم يعد إهتمام بذلك المنحى, و إستبدلت بنصوصٍ تؤكد و توجه التفكير العراقي نحو القنص و القتل و الهجوم و الحرب و الغارات و العزة الكاذبة (ألتكبر), ناهيك عن عدم وجود أيّ ذكرٍ لنهج البلاغة وقصائد آلأمام علي (ع) التي تُعبّر عن قمة النهج و الفكر الأنساني و العرفاني, و كذلك النصوص العرفانية و آلأنسانية للأدباء و المفكرين في العالم أمثال الشاعرة الانكليزية نيكلسون و الفيلسوف سعدي الشيرازي و إقبال اللاهوري أو قصائد الأمام الخميني العرفانية الأدبية الراقية و غيرها.

أما التناقض في العلاقات الأجتماعية و صلة الرحم .. فهي الأخرى تأثرت بفعل التوجيه الخاطئ بحيث لم تعد هناك رحمة بين أبناء الشعب, فقد تبدّدت أوصالها, و تفككت العلاقات الرحيمية بين الأبناء و آلأهل, لأنّ الرّوح الأنسانية عندما تنمو و تكبر فأنها تصاب بالتناقضات و ترتكب الجرائم و آلأخطاء, و تتلبّس بأقنعة عديدة, و يتبدل مزاجه كما يتبدل لون الحرباء, تبعاً للمصالح و آلأهواء ليكون إنتهازياً و منافقاً و كاذباً و سارقاً و حتى قاتلاً!


فداخله مُقوّض بأفكار سلبية و إضطرابات و خوف يُمزّقه على الدوام, و خارجه شيئ آخر يظهر و يتأقلم بخلاف ما بداخله حسب الظروف و آلأوضاع آلرّاهنة, لتتحطم مصداقية أمثال هذه الشخصيات و تتعمق فيها الأزدواجيه و آلأمراض, و قد تألقت تلك الحالات و برزت إلى حدٍ كبير بعد تدهور الوضع الاقتصادي.

أما المشهد السياسي فهو إنعكاس للأخلاقية المزدوجة التي تخلّق بها الأنسان العراقي أصلاً, فهو في الوقت الذي يعلن إيمانه بمبدأ المساوات و بحقوق المواطنة على المستوى السياسي نراه يستنكرها على المستوى الوظيفي, هذه الازدواجية الفكرية أثرت بالسلب على مصداقيته, لذلك فما شهدناهُ قبل و بعد زوال النظام البائد من التناقضات والتقلبات في الوضع السياسي لدليلٌ كبير و مصداق واضح لما توصلنا إليه في إصابة العراقي بالازدواجية الشخصية ألمزمنة بسبب تلاطم و تداخل آلأفكار و العقائد السلبية ألمختلفة في وجوده, و عدم ثباته على الحق لعدم معرفته به, و من هنا فمفهوم السياسة بَدَلَ أنْ يصبح وسيلةً لخدمةِ ألأمة و الوطن بالحق, عبر تحقيق و إجراء العدالة و التوازن في نشر الخير و العطاء .. أصبحت وسيلةً للتسلط والأبتزاز و النهب و تعميق آلفكر و العصبيات الحزبية و العشائرية و القومية و الطائفية.

كما أنّ التعاطي المزدوج مع الأفكار والمتبنيات التي يحملها القادة السياسيون في العراق هو الدليل الأكبر على فساد و تخلف الشخصية العراقية بإعتبارهم القدوة والنموذج الذي شهد الحضارات الأخرى بسبب هجرة اكثرهم, فرئيس الجمهورية السيد جلال الطالباني في الوقت الذي يدعي و يُؤمن بالأشتراكية نراه لا يتواني من إمتلاك الفلات والمليارات هو و عائلته و يكفي التحقيق في اعمال و ممتلكات إبنه في أمريكا, و كذلك المقربين منه بالأضافة لما يمتلكه من المنتجعات والفيلات في العراق و خارج العراق ليتبين لك التناقض الصريح لمبادئه الأشتراكية, أما موقفه من عدم التوقيع على قرارات الأعدام التي صدرت بحق المجرمين في العراق له دليل أكبر على عدم إيمانه بحقوق الأنسان و حريته, أما موضوع الشراكة الوطنية فأنها مسألة واضحة أخرى, فقد حاول مراراً التملص من الكثير من المواقف بشأن القضايا المشتركة بين حكومة كردستان و الحكومة المركزية عبر التساوم مع بعض الأطراف, في محاولات للتلاعب بحقوق الأكثرية على حساب الأقلية الكردية عبر الكثير من القرارات و المواقف.

أما العلمانيون فأننا نرى ظهور الأزدواجية في فكرهم بوضوح, فعندما ينكرون تأريخ ا لأديان ثم يستشهدون بالتأريخ من أجل تسويق مشروعهم السياسي, فأنّ مُنظريهم لا يمتلكون الحكمة الفكرية التي تشد الأنسان إلى وجهات نظر جديدة يمكن أن تؤثر إيجابياً في مستقبل الأمة.

أما الأسلاميون فأخواننا السنة لا هم مسلمين على وجه و لا كفار في تعاملهم, و لا حتى علمانيون في تعاطيهم مع الموقف السياسي, أما المسلمون الشيعة فأنهم في الوقت الذي يعلمون بأنّ النظرية الأسلامية لأهل البيت (ع) لا تُؤمن بالديمقراطية لأنتخاب رئيس الجمهورية أو الوزارة .. إلا أنهم يُشاركون آلأطراف و الشعب بجعل الخيار الديمقراطي (الأنتخابات) هو الحَكَمُ الفصل في تعيين الرئيس أو المُمثلين للأمّة, هذا مع غضّنا النظر عن تحكيم إسلوب المحاصصة و المُوازنه و المُصالحة من قبلهم, تلك آلأساليب التي لا تقرّها حتى الدّيمقرطية نفسها, و العجيب ألغريب أنّ المرجعية الدّينية في النجف آلأشرف قد شجعت و أيّدت آلأنتخابات الديمقراطية كمعيار شرعي في الحكم, بعد أنْ كانت صامتةً لا تحرك ساكناً, و أصدرت فتاوى و توصيات عديدة بشأن العملية السياسية وعملية الأنتخابات التي جرت عدة مرات في العراق بعد سقوط النظام البائد, في حين أن الأمامة و الولاية التكوينية و كذا التشريعية (ألعلمية) في مدرسة أهل البيت هي من حقّ الله تعالى و الذي تحدّد على لسان رسوله ثم الأئمة من بعده بخصوص النيابة العامة, فالشيعة المؤمنون بخط أهل البيت(ع) لا يعتمدون الانتخابات المعيار الأساسي و ألوحيد لأنتخاب الحاكم أو الرئيس فلا بد من مباركة الولي الفقيه للمنتخبين, و هذا الموضوع معروف و موضح بشكل بنود مُفصلة في دستور الجمهورية الاسلامية و التي كتبها بالمناسبة الفيلسوف الكبير محمد باقر الصدر (قدس) بداية عام 1980م, حيث يشترط في إنتخاب الرئيس ( رئيس الدولة أو الوزارة) قبول و تأييد ولي أمر المسلمين (ألمرجع الفقية العادل ألمتصدي لزعامة آلأمة) كشرط أساسي لذلك.

لقد ولّدت تلك التناقضات و الأزدواجيات في الوسط العراقي ألكثير من آلظلامات و المحن, كنتيجة طبيعية لتزاحم الأفكار و إختلافها في فكر السياسيين العراقيين المُتديّنين – بالطبع لا نتحدث عن غيرهم مِمّن لا يُؤمنون بالاسلام كنظام – بإعتبار وضعهم خطير و مُضطرب و يحتاج كلٍّ منهم و على الفور إلى عشرة أطباء إختصاصيين في السايكولوجيا والأنتربولوجيا لمعالجتهم, بعد أنْ وصلت التناقضات والأزدواجيات مداها في وجودهم.

و عذراً لقرّائي الاعزاء على آلأطالة في المقدمة آلآنفة, حيث حاولنا بيان و توضيح آبعاد سريان هذا المرض العضال و كان لا بدّ منها, لأنها تُمثل إستقراءاً و كشفاً علمياً منهجياً للواقع العراقي و العربي الراهن, و الذي سيُولد لا محالة إفرازات مُستقبلية خطيرة كتبعاتٍ و ردود أفعال لذلك الواقع, لذا رأينا من الضروري و الواجب ألأسهاب قليلاً في طرحها و بيانها ليكون الباحث على بينة من هذا الموضوع, لأنّ تشخيص المرض بالأعراض تمثل نصف العلاج, خصوصاً إذا كان الموضوع يتعلق بالأتجاه الفكري و آلأجتماعي و آلأمراض الفكرية للأنسان كونها أعقد و أصعب عند التشخيص, و إن الأزدواجية الفكرية بنظرنا تعدّ من أخطر الأمراض التي تسبب الكوارث ليس فقط للمصابين, بل لكل المجتمع الأنساني, لأن الفكر سواءاً كان سلبياً أو إيجابياً فأنها تسري لتفتك بالأمم بقوة تفوق تأثير القنبلة الذرية, الذي ينتهي مفعولها بعد إصابة الملايين من الناس ربما بعد سنة أو سنوات, إلا أن مفعول الفكر يبقى سارياً ربما إلى آخر الزمان في جميع البشرية.

يمتلك الأنسان فكراً واحداً أو بعبارة أفصح وجوداً إنسانياً واحداً .. لكنه ينقسم إلى إتجاهين عمليّين مختلفين في المواصفات والخصال, لكن القاسم المشترك بينهما واضح في نظر المتخصصين, كما أنّ أساليب عملهما يتميزان عن بعضهما.

و هذان البعدان (ألأتجاهان) في الفكر لهما مُسمّيات مُختلفة .. كالبعد أو (ألقسم) الفاعلي و البعد أو (القسم) المفعولي للفكر, أو الفكر الواعي و الفكر النصف الواعي, الفكر اليقظ و الفكر النائم, ألفكر الظاهر و الفكر الباطن, الفكر الأرادي و الفكر الغير إرادي, ألفكر المؤنت و آلفكر المذكر, و أسماء أخرى لو أطلقناها؛ فأنها لا تختلف و لا تؤثر في جوهرها و حقيقتها و محتواها, و قد إخترنا من بين تلك التسميات ؛ مصطلح الفكر الواعي و آلفكر النصف الواعي, و آلمسألة آلأهم من بعد هذا هو معرفة و فهم أوجه الأختلاف بينهما.

ألضمير الواعي و الضمير النصف الواعي :
إنّ آلأسلوب أو آلطريقة السهلة و المُثلى التي بأمكاننا إتّخاذها, لمعرفة التباين بين الضميرين؛ هو أنْ نفرض و نتصوّر بأنّ آلضمير النصف الواعي كحديقةٍ أو مزرعةٍ,و دورنا فيها كفلاح يعمل لزرع البذور والأقلام والشجيرات, و كثيراً ما يغفل الفلاح و يجهل كيفية زراعة تلك البذور أو الشجيرات في الحديقة أو المزرعة,
كما إننا كثيراً ما نزرع بذور آلافكار و المعتقدات في وجودنا بشكل إرادي و طوعيّ, و أحياناً تتمّ عملية الزراعة بشكل غير إراديّ أو طوعيّ, و من الطبيعي في كل الأحوال أنْ نجني ثمار تلك آلبذور بشكل من الأشكال, تلك الثمار (ألأفكار) ألمزروعة كرهاً أو طوعاً .. عمداً أو جهلاً .. تظهر آثارها بعد فترةٍ في وجودنا و محيطنا و في شخصية أبنائنا و حتى في مجتمعنا بعد فترة من الزمن, لهذا يُمكننا أن نتصوّر و نلمس في كثير من الأحيان وفرة المحصول و غناهُ و جودته و رونقه و بهائه سواءاً كان جيداً أو سيئاً .. مفيداً أو مضراً, و لو زرعنا في تلك المزرعة ألشوك أو العاقول فلا يمكننا إنتظار قطف الورود أو العنب أو الرمان منه, و لو زرعنا فيه بذور الحنظل فلا يمكننا أن نجني منه التين أو التمر.

لذلك فأنّ كل بذرة فكر يكون بمثابة العلة, و كل محصول (إنعكاسات الفكر) في الواقع هو بمثابة المعلول, و كما للبيئية و المناخ و خصوبة التربة و مدى الأهتمام بالمزروع له أهمية و تأثير في نوع المحصول و جودته و رونقه, فأنّ لطريقة و إسلوب و نوعية و ظروف و أجواء إستلام الأفكار و إستقطابها والتعاطي معها أو تلقينها لها أثرٌ كبير و حيويّ على مدى و آبعاد أنعكاسات ذلك الفكر في وجودنا و سلوكنا و واقع حياتنا الأجتماعية و السياسية و الأقتصادية, لذلك علينا الحذر واليقظة عند التعاطي مع الأفكار.


فعلينا تقع مسؤولية ما نعبئ و نحمل من الأفكار لأنها أصبحت بعهدتنا على أيّ حال, فيتوجب علينا الحذر عند إعمالها والتعاطي معها في مواقفنا عن طريق جوارحنا, خصوصاً اللسان و ما يقول .. و العين و ما ترى .. والقلم و ما يكتب.. و هكذا باقي أقسام وجودنا, و تاتي مسؤولية التنظير و الكتابة و التأليف في مقدمتها جميعاً, لما لها من آثار قد تمتدّ إلى آخر الزمان و في كل البشر.

و يُمكننا إدارة الأمور و التعامل مع أنفسنا, بشكل إيجابيّ و فعّال, ليمكننا على الأقل ضبط و تحكيم الشروط و آلأجواء المطلوبة لزرع و تلقي آلافكار و تنميتها لتثمر بشكل مطلوب و مؤثر و مفيد.

و علينا توطين أنفسنا على آلأفكار المُبسطة و الرؤى الأيجابية آلمُسالمة, و آلأقوال الحسنة, و الحِكَم النظرية المفيدة, والرؤى آلأنسانية لتعمّر دواخلنا و تنعكس مردوداتها بالخير و البركة على الجميع, و هم يتطلعون بقلوبٍ طاهرةٍ مفعمة بالأمل و السعادة تكتنف مؤهلات معرفة أسرار الوجود.

و من هنا يتوجب علينا التحقّق أولاً و التفهم الكامل للتأكد من نوعية الافكار التي تواجهنا و كيفيتها و مصادرها, قبل أنْ نسمح بغرس بذورها في حديقتنا (نفوسنا) لكي نضمن وفرة و بركة إنتاجها.

فعندما يكون الفكر بناءاً و صحيحاً و مفيداً .. فمن الطبيعي أنْ يُولّد في حديقتنا .. في ضميرنا اللاواعي (النصف اليقظ) فضاآت رحبة, و ذبذبات متناغمة و منسجمة تُسرّد قصة الوجود في أوقات يُؤَمّن صاحبها الأتصال مع الغيب, بفضل الله, و سيظهر أمامنا كل شئ, و يتجسد تأثيرها في عملنا, و بشرها في قلوبنا و وجوهنا بإيجابيةٍ محببةٍ لجميع النفوس التي تحيط أو تتصل بنا.

و بمرور الزمن يتطبع الأنسان, و كل المجتمع على تلك الأصول و المعارف, عبر نهج فكري متكاملٍ إلى الحدّ الذي يمكنهُ السيطرة على السياقات الفكرية – هذا إذا لم يكن مولداً للفكر و العلم – عندها يمكننا أن نستمد العون والقدرة من ضمائرنا النصف الواعية والتي ربما تصبح واعية تماماً بموازاة العقل أو فوق ذلك ليصل الكمال المطلق, بعدما يتحقق الأتحاد والتناغم الكامل مع قوى العقل الظاهر (الضمير الواعي) و قوى الباطن (الضمير النصف الواعي), لنمتلك في هذه الحالة القدرة الخارقة ألاعجازية, والتي أودعها الله فينا اساساً لتجعل كلّ شئ تحت تصرفنا في هذا الوجود ؛ و هي الحالة التي أشار لها الباري تعالى في حديث قدسيّ رائع للرسول (ص) بالقول: {... ما زال العبد يتقرّب إلىّ بالنوافل, حتى أكون سمعه الذي يسمع به, و يده التي يبطش بها و عينه التي يرى بها و رجله التي يمشي بها}, و أ ليس هو القائل : { عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشئ كن فيكون), و لا نعني بالنوافل ألعبادات ألتقليدية التي إعتاد عليها الناس بشكل ميكانيكي, بل نعني بالعبادات و النوافل تلك التي يتفاني الأنسان في سعيه لطلب المعرفة والعلوم لخدمة الناس و التعايش معهم بالمحبة و العشق و الأحترام.

إنك لو ألقيتَ نظرةً على مَنْ حولك من الناس .. و تأمّلت في وجوه من يُحيط بك من العاملين خصوصاً في المجال السياسي و آلأجتماعي, و بشكل أخصّ ألعلاقات الأجتماعية .. فأنّ أكثر الناس لا يرتبطون مع بعضهم من خلال ما بداخلهم, بل عادة ما يكون الأتصال شكلياً و لسانيّاً, و هذا لا يؤدي إلى تحقيق آلترابط الأنساني الصميمي, أيّ هناك إنفصال تامّ و إزدواجية بين حقيقة ذاته و ما يقوم به من عمل ظاهري من خلال العلاقات والروابط الأجتماعية و السياسية و العائلية .. حتى في الأزواج في هذا الوقت, فقد باتت علاقاتهم لا تتعدى في أحسن الحالات الرابطة الجنسية الماديّة .. هذا ناهيك عن العلاقات العامة الأخرى في المجتمع, كل هذا بسبب الأنانية آلتي من خلالها لا يرى إلا نفسه .. و هذا من شأنه أن يجعلهم يتّخذون مواقف و أقوال و تصريحات لا تنسجم أكثرها مع ما بداخلهم و بالتالي ما يسبب من ملابسات و مشاكل على صعيد الواقع, أي هناك إنفصال تامّ بين حقيقة ذاته و واقعه الخارجي, ممّا يُعرّض مصداقيتهم على الدوام للسؤآل و المحاكمة من قبل آلمحيطين أو المُتعلقين, أو الذين يتعامل معهم, و حتىّ مع أنفسهم حيث يُصاب بالأنفصام في الشخصية (ألشيزوفرينا) أو (ألأسسكوفرينا) و هي من الأمراض النفسية الخطيرة, كلّ ذلك بسبب حالة التناقض بين الفكر (الضمير الواعي) و بين (الضمير اللاواعي), و هذا الموضوع كثيراً ما يُسبب المشاكل و آلأضطرابات و في كلّ الاتجاهات .. و تكون نسبة التأثيرات و قوتها في المجتمع تبعاً لأهمية الإنسان و الموقع و المدار الذي هو فيه, و من هنا فأنّ معظم, إذا لم نقل كلّ السياسيين .. كثيراً ما يجهلون تبعات تصريحاتهم و مواقفهم التي يتخذونها, والتي أكثرها لا تنسجم مع حركة الواقع و مطالب الشعب والأمة لنيل حياة كريمة حرّة مفعمة بالخير و السعادة و الوفرة, و بالتالي تُصاب حركة الانسان في سيره نحو الكمال بعقبات قوية, بإعتبار فلسفة خلق الأنسان تنحصر كما أوردنا سابقاً في تحقيق التكامل في الوجود .. هذا الوجود الذي يُعتبر كلاً لا يتجزّأ, كل شئ فيه يرتبط ببعضه عبر نظام دقيق و معقد للغاية و نحن لا ندرك منه للأسف سوى القليل, و من الخطأ إعتبار كلام عارض و من أيّ كان, و مهما كان بسيطاً مجرّد كلام .. أو حتى موقف بسيط .. مسألة عابرة لا مردود أو إنعكاس لها في هذا الوجود, فكل شئ محسوب و مرتبط ببعضه كشبكة العنكبوت, و له أثر معين على كل تلك الشبكة, حتى النظرة و الرمشة مهما كانت تافهة أو صغيرة, فالتأريخ الذي يمثل نتاج الأنسان هو آلأهم في الوجود يتّجه لحظة بعد أخرى بحركةٍ تكامليةٍ شاملةٍ بقيادة الأنسان – آثاره و مواقفه - لتحقيق معنى الخلق و فلسفة الوجود, لذلك علينا أن نتأمل عميقاً, و ننتبه لكلّ شئ في وجودنا خصوصاً أنفسنا قبل كل شئ.

لذلك نرى الكثير ممن وُفقوا بمعونة الله تعالى و بسعيهم الجاد و كدحهم برغبةٍ خالصة و رؤية منفتحة و بوعي كامل لما يضمه هذا الوجود .. قد إكتملت أنسانيتهم, فتراهم منشغلين على الدوام بمراقبة أنفسهم آلأمارة بالسوء كي تكون خالصة في خدمة الله تعالى عن طريق خدمة الناس لأنّ الله غنيّ عن العالمين و لا يحتاج إلى خدمات, و هم يلاحظون بوضوح كلّ خفايا و اسرار و مكنونات هذا العالم, بعد ما حصلوا على ملكة خاصة بحيث يبصرون و يدركون من خلالها الأمور على حقيقتها أكثر من غيرهم, لأنهم ينظرون بعين الله و نوره, و كما أشرنا في حلقاتنا السابقة .. فأنّ دواخلنا هي التي تصنع خارجنا .. و إنّ أفكارنا و تصوراتنا التي كثيراً ما نتحسّسها هي المسؤولة و المُوَلّدة لتجاربنا و مواقفنا العملية على أرض الواقع, سواءاً عن وعي أو بغير وعي .. بإدراكٍ أو بغير إدراك .. و الفرق بين الحالتين هو : سيطرة الأول (صاحب الوعي)على الفعل و ردّ الفعل, أي معرفته و قدرته الخارقة بأحداث المستقبل و نتائج الأعمال و المواقف أوّل بأوّل, أما الثاني (ألغير الواعي) فأنه قلّما يستدرك آلأمور و آلأحداث على حقيقتها, بسبب جهله و أنفصاله عن ما موجود بداخله و بالتالي إنقطاعه عن الله, لذلك لا يستلذ بالحياة و معطياتها, و لا يستفيد كثيراً فيها إلا بقدر محدود لا يتعدى إشباع غرائزه الحيوانية عادةً .. لإصابته بحالة الأزدواجية في الفكر, فأحياناً يتحكم عقله الظاهر بمفرده في وجوده ليحُقق مع تلك الحالة بعضاً من الأعمال العقلانية في زمنٍ معين, و كثيراً ما يتحكم العقل الباطن بوجوده و لكن بلا قائد و دليل حقّ فنراه لا يتّجه سوى للغرائز و الشهوات ليتعدى على حقوق الآخرين, كون صاحبهُ لم يسعى لمدّ الخيوط و الجسور بينه – أي العقل الباطن - و بين العقل الظاهر لتعظيم قوته و تكامله في الطريق المشروع و المفيد, و قد يبقى الأنسان مُتذبذباً بين الأثنين لتساوي قوتها أو لنقل لعدم وجود تنسيق و إنسجام بين العقلين حتى آخر حياته, فتارة ينتصر العقل الظاهر فيتوفق صاحبه مرحلياً أو جزئياً و تارةً يسيطر العقل الباطن بمفرده ليبرز شهواته و عضلاته, ليفوز صاحبه ببعض المتاع والملذات مرحلياً و ضمن إطارات زمنية ومكانية محدودة .. فيبقى مثل هذا الأنسان – ألبشر – متحيّراً بين الأثنين لتتحقق آلأزدواجية في وجوده .. و إذا لم يحاول التخلص من تلك الحالة لأنقاذ نفسه ؛ إما بالطرق الشرعية و القانونية, أو بمراجعة أهل العلم والخبرة, فأن تلك الحالة تُضيُع حياة الأنسان و قد تدمره إلى الأبد.

بعد أن عرفنا الآن مما تقدم من الحقائق يُفترض بنا آلآن أنْ نكون قد تمكّنا من تغيير و ضبط أنفسنا, لأدراكنا حقّ اليقين بأنّنا لو أردنا أنْ نُغيّر دُنيانا و الأوضاع المحيطة بنا على الأقل, فما علينا إلاّ أنْ نُغيّير العلة المكنونة بداخلنا, و عبثاً يُحاول أكثر الناس بتغيّر حياتهم من الخارج بالمال أو بوسائل و وسائط بديلة .. إنّهم إنّما يهدرون طاقاتهم و أموالهم و طاقات الآخرين و إمكانياتهم بدون جدوى أو فائدة, لأنهم بكلّ بساطة لا يُدركون بأنّ ما أحاط بهم من المصاعب و المشاكل إنّما بسبب وجودهم و أنفسهم بالذات, و هذه المُعادلة تنطبق على جميع آلمجرمين و المُتسلطين بالقوة و الخديعة في العالم, و في مقدمتهم السياسيون و أصحاب المال و الشركات! حيث لا يُمكنهم ألتأقلم مع الأوضاع و السيطرة عليها أو التأثير فيها طويلاً مهما حاولوا آلتزوير و التلاعب بالحقائق و الحقوق والقوانين و آلأعلام, فالأفضل و الصحيح هو أن نُحقق التصالح و السلام و الوئام في داخل وجودنا و مع أنفسنا أولاً طبقاً للقواعد التي أشرنا إليها, و بعدها سنكون قادرين للتأثير إيجابياً في كلّ عملٍ و إتجاه. لأنّ إصلاح العلّة يُؤدي إلى إصلاح و تغيّر المعلول, و بهذا الأسلوب فقط يُمكننا السيطرة و التحكم بضميرنا اللاواعي بعد أنْ نُرمم و نصلح ما خَرِبَ منها, و في نفس الوقت تنظيف ما تصدّأ من أجزائه المتضررة لنحقّق المطلوب.

و جديرٌ بالذكر إنّ العرفاء و الصوفيّون مع إحترامنا و تقديرنا لمنهجهم و طريقتهم في التعامل مع المُعتقدات و الوجود .. إلاّ أنهم يرتكبون أخطاءاً كبيرة و مصيرية بحذفهم المُطلق أو تركهم للعقل الواعي على الرغم من أنهم حققوا بموازاة ذلك تهذيب بواطنهم و كبح جماح نفوسهم و توجيهها لله فقط بعد تحطيم الغرائز فيها! و لعل الكثير منّا سمع بمصطلح ؛ أهل القلوب و الذي يُقابلها أهل العقول, و قد أشرنا لهما في حلقات سابقة .. فلا أهل القلوب و لا أهل العقول بأمكانهم تحقيق الكمال على إنفراد حتى بعد معرفة أسرار الوجود على سبيل الفرض, لأنّ ألأثنان مُفرطان في مرامهما و سيرهما, و آلأنسان بما هو إنسان و كما خلقه الله لا يُمكنه أن يطير بجناح واحد أبداً مهما حاول التفنن في الطيران, و الطريق الصحيح المؤدي للفوز و الفلاح هو من إستطاع التوفيق بينهما طبقاً للمعادلات و الأساليب التي قدمنا لها عبرالتمسك بمنهج الثّقلين, فالتوافق من شأنه تحقيق الأتصال الجيد مع منبع الفيض الألهي ألذي بدونه لا يثمر وجود الانسان مهما إمتلك من المال والقوة والمكر, حيث لا يمكنه على أفضل تقدير أن يكون أذكى من الشيطان أو أقوى من الفراعنة!

و قد أشار القرآن الكريم في آياتٍ خالدة لتلك الحقيقة بالقول:
{من عمل صالحاً فلنفسه و من أساء فعليها}(فصلت 46).
{و من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}(ألنساء 110).
{و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا}(ألزمر 51).
{والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد}(فاطر 10).
{و بدا لهم سيئات ما عملوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزئون}(ألجاثية 33).
{و ما اصابكم من سيئة فمن نفسك}(ألنساء 79).
و قد أورد القرآن الكريم مئات الآيات التي تدور حول النفس و أهمية الحفاظ عليها لأنها هي التي تحدد مصير و مستقبل الأنسان, إنْ شرٌ أو خيرٌ.

نستنج من سفرنا هذا بأنّ الضميرالواعي (اليقظ) هو الجانب العقلي ألمسؤول المباشر للتدقيق في الأشياء والأحداث و الوقائع بمعونة الحواس والتجارب, و إنّ الضمير النصف الواعي (النصف اليقظ) هو الجانب ألغير ألعقلاني, لكنه يمتلك خاصية عجيبة تُحقّق في حالة إستقامته ألمعجزات بعد تَعَشّقهِ مع آلخالق ألذي هو المنبع الأصلي للفيض فيه, حيث يُعطيه قدرةً خارقة للتحكم في الحياة و الوجود يمكن أنْ تتساوى مع قدرة الخالق آلعظيم, بعدما يتحقق الحلول, والذي معه يكون الأنسان قد عرف كلّ آلأسرار في هذا الكون, ليكون كالربّ تعالى؛ (عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشئ كن فيكون ), و إعلم أخي الباحث بأن نيل هذه المرتبة ليست سهلة التحقيق .. فأنني أجهل للآن – و لا أنكر – إمكانية تحقيق هذا الأمر! حيث لا أدري كيف يُمكن لموجود ضعيف يكتنف السوء والفحشاء لنفسه آلأمارة بالسوء .. أنْ يحصل على تلك القدرة ليتحكم بكل هذا الوجود الذي لا حدّ و لا حدود له؟

إنّ العرفاء يُعبّرون أيضاً عن المُصطلحين الآنفين بـ (العقل المحض) كتعبير عن العقل الواعي, و بـ (القلب) كتعبير عن الضمير اللاواعي, أو ما هو متعارف عليه بين الناس بالوجدان, فعندما تهجم الظواهر السلبية على الأنسان كالخوف و آلجبن و آلأضطراب و آلطمع و آلتكبر فأنّ جميع الظواهر و الصفات السلبية تنطلق بحرية في فضاء وجوده, لتنعكس كأفعالٍ و مُمارسات في واقعه, و عند إصابة الأنسان بذلك يُمكنه التثبت و إتّخاذ الموقف الصارم بشجاعة قبال ذلك ليقول : لا لتلك الصيحات الشيطانية .. و الظواهر السلبية .. و آلأضطرابات والهوس الغير العقلاني, لأنها من و ساوس الشيطان ألذي أقسم أن يَغوينا عن طريق أفكارنا بإستغلاله لمواطن ضعفنا في باطننا و لتنعكس على جوارحنا, و في مثل هذا الوضع – عند إصابتنا - علينا بالصبر و الصلاة و التضرّع لله, لنقول بقوة و يقين لضميرنا اللاواعي في باطننا : إنك أيها الضمير المُضطرب ألمُتَقلّب تابعٌ لتصرفنا و لا يُمكنك آلتحكم بإختياراتنا .. لأنني لا أريد أنْ أُصاب بالأزدواجية الفكرية لأضل الطريق.
و لا خيار لنا سوى آللجوء إلى الله تعالى في كلّ الأحوال, فهو المبدأ و المقصد و إليه المصير, و هو خير رفيق و مُعين
و هو الحُب الحقيقي الذي تتلاشى أمامهُ كلّ آلأشياء و الأحياء, فعلينا أنْ نعرف قدرهُ و مداراتهُ و أصولهُ و أخلاقهُ, فَبِهِ وحدهُ تتحقّقُ معاني الأشياء و جمال آلمخلوقات و كنه وجودها, و بدونه لا معنى لهذا الوجود مطلقاً, و لا حول و لا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.

عزيز الخزرجي


http://www.alwaseelatv.com.au/ar/