القلبُ السَّليم
السَّيّد عَبْد الحُسَيْن دَسْتغيْب
ترجَمة
الشَّيْخ حُسَيْن كورَاني
الجُزْءُ الثاني
في الأخلاق
دار البلاغة
جميع حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الثانية: " 1410 هـ -
المقدمة
هل الإنسان موجود مادي, وبالموت ينعدم ويفنى, أم أن للبشر حياة خالدة؟
ما هو الهدف من خلق الإنسان؟ وبماذا يتحقق كماله وسعادته؟ وما هو طريق الوصول إلى كماله؟ هذه أسئلة علمت أجوبها من المطالب السابقة, وباختصار نقول:
الإنسان ابتداءاً مادي ومخلوق من التراب, وكان علقةً ومضغة, إلا أنه بعد إتمام بناء الجسد وجدت فيه, الروح, القلب, النفس, وما يتغير بالموت هو الجسد الترابي فقط, أما روحه وحقيقته فهي أبدية وباقية ولا يطويها الفناء.
وأما الهدف من خلقه فهو تكامله ليصل إلى أعلى درجات الكمال, أي القرب من خالق العالم جلّت عظمته والتنعم ببركات هذا القرب التي منها الحياة الطيبة التامة الإنسانية التي هي حياة لا موت فيها على الإطلاق, وسلطنة ونفوذ مشيئة لا عزل فيها, ودوام بهجة وسرور لا يعتريها حزن, وإدراك لا يشوبه جهل.
بناءاً عليه فإن واجب الإنسان في مدة الفعالية المادية, وتعلق الروح بالبدن, أن يسعى للتخلص من كل نوع قذارة وتلوث لا يناسب جوار الخالق سبحانه, والتخلص من كل شر, والتحلي بكل خير بمقدار طاقته ليحظى بالقرب الإلهي[1].
صراط التوحيد طريق القلب السليم:
الخلاصة هي أن من أعدّ في هذا العالم قلباً سليماً, سوف توصله بعد الموت جاذبية اللطف إلى مقام القرب من الخالق سبحانه, والشخص الذي يذهب بقلبٍ سقيم سيبعده القهر الإلهي عن مقام القرب ليستقر في المكان المناسب له بحسب العدل, والذي أعدّه هو لنفسه.
الصراط المستقيم والطريق القويم, الذي يحصل من طيه وقطع مسافته, القلب السليم, ويصل صاحبه في النتيجة إلى مقام القرب, هو صراط التوحيد بحيث أنه إذا وصل شخص في التوحيد الصفاتي والأفعالي بالتفصيل الذي تقدم, إلى درجة اليقين, واستقام في مقام العبودية, يطهر من كل رذيلة, ويزين بكل فضيلة, ويصبح لائقاً لمقام القرب.
مثلاً: من أيقن أن العزة لله[2] سوف لن يطلب أبداً العزة من مخلوق, ومن هنا فلن يرائي أمام الناس ولا يصبح مشركاً ولا يتملق للمخلوق ولا يتعلق طمعه به.
ومن أيقن أن القوة لله[3], سوف لن يرى أبداً أي سبب مستقلاً, ومن هنا يكون اعتماده على الله لا يخاف إلا من قهْره ولا يأمل إلا لطفه.
ومن علم أن الكبرياء والعظمة خاصتان بالله, فلن يصاب بالعجب والكبر, ومن أدرك أن جميع أموره هي بتقدير الله وتدبيره سوف لن يبتلى بالحسد أو الغلظة أو القسوة, لن يكون معجباً بنفسه سيء الظن بالآخرين, ولن يبخل بالإنفاق مما أعطاه الله.
اهتموا بتهذيب النفس:
وباختصار لو أن شخصاً أخذ بنظر الإعتبار, ما قيل في باب التوحيد والعبودية, والتزم به في سلوكه واستقام في العبودية حقاً وصدقاً سوف يرزق القلب السليم, ويحصل على هدفه الأصلي الذي هو القرب من الخالق سبحانه. وبناءاً عليه لا تبقى ضرورة لبيان سائر الأمراض النفسية, والرذائل الأخلاقية وعلاجها, إلا أنه لا بد من بيان بعضها المهم لسببين:
الأول: لأنها أمور اهتم بها الله والرسول ونهيا عنها, وقد ورد الوعد بالعذاب عليها وتحذير المسلمين منها وواجب كل مسلم أن يوصل الآخرين ما بيّنه الله ورسوله كما يقول سبحانه في القرآن الكريم: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ". البقرة 159.
الثاني: لأن أكثر المسلمين يظنون أن هذه الأمور هي فقط رذائل أخلاقية وإزالتها والتخلص منها ممدوح عقلاً ومستحسن عرفاً, غافلين عن أنها بالإضافة إلى حكم العقل هي مورد للحكم الشرعي, ويترتب عليها استحقاق الثواب والعقاب, وهي تؤدي بكل شخص وجدت فيه إلى دركات الجحيم كما أن كل من تخلص منها وتحلى بأضدادها التي هي الفضائل يفوز بدرجات الجنان العالية.
الذنوب التي محلها القلب, أليست حراماً؟
بعض أهل العلم عندما يقال له هذه الأمور حرام شرعاً وذنب يوجب العقاب يقول: ما دامت لم تصل إلى مرحلة العمل فلا عقاب عليها ومجرد كون هذه الأمور في القلب وما دام الإنسان لم يرتكب ذنباً بجوارحه فلا شيء عليه... غافلاً عن أن الذنب الذي لا يترتب عليه شيء ما لم يقترن بعمل خارجي هو خطور الذنب الذي هو من عمل الجوارح ( خطوره في الذهن ) كشرب الخمر والقمار والزنا, أما الأمور التي محلها أصلاً باطن الإنسان فقط, مثل سوء الظن, أو العجب أو الحقد, فإن مجرد كونها في القلب, واستمرار بقائها ذنب, ويجب على الإنسان في كل لحظة أن يبعدها عن قلبه.
وتكرار هذا المعنى سببه تأكيد أهمية الإهتمام بالذنوب القلبية التي هي الرذائل الأخلاقية, الواجب عقلاً وشرعاً التطهر منها, وهذه التزكية وهذا التهذيب هما هدف بعثة الأنبياء, كما قال تعالى في سورة الجمعة 2: " ويزكيهم " وفي سورة الشمس وبعد القسم ثمانية مرات يقول تعالى: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ".
القلب الملوث لا يتحقق منه قصد القربة:
ونقول أيضاً إن جميع العبادات الشرعية من واجبات ومستحبات شرط صحتها قصد القربة أي أن يأتي بها الإنسان بهدف الوصول إلى القرب الإلهي, وقد قلنا سابقاً إن هذه الرذائل والأدران لا تتناسب مع القرب من الله سبحانه, أي لا يصل الإنسان إلى مقام القرب ما دامت فيه, وسوف لن تنفعه عبادته, مثلاً: الشخص المبتلى بمرض العجب كل عبادة يؤديها بنية القربة إلى الله هي في الحقيقة تبعده عن الله وتقربه إلى نفسه لأنه ما دام لم يعرف نفسه فلن يعرف ربه, وما دام يرى نفسه فقط, فلن يمكنه أن يرى الله ( ببصيرته ), وكذلك
الشخص المرائي فإنه وإن كان عندما يأتي بعمل ينوي القربة, فإن عمله يقربه في الحقيقة إلى الخلق لا إلى الخالق, لأن هذا هدفه الحقيقي...
وكذلك الشخص البعيد عن الله سبحانه بُعد الأرض عن السماء بسبب مرض قسوة القلب, هل يرجى له ما دام على هذه الحال أن تقربه أعماله إلى الله أو الشخص الملوّث قلبه بالحقد أو الحسد أو الطافح قلبه بحب الدنيا وكل همه الإنتقام أو إذلال المحسود أو القرب من أهوائه والوصول إليها, فما دام هكذا هل تنفعه عبادته - التي يؤديها قربةً إلى الله - في مجال حصوله على القرب الحقيقي.
صحيح أنه يقول " قربةً إلى الله " أو يخطر ذلك بباله, ولكن هدفه الحقيقي شيء آخر والنية الصادقة غير متوفرة فيه, وتجد توضيح ذلك في مبحث الإخلاص من هذا الكتاب.
وخاتمة المطاف أن الأبحاث التي سترد في قسم الأخلاق يجب أن تقرأ بدقة ويعمل بها وأن لا ينظر إليها على أنها منفصلة عن الفقه بل في كلٍّ منها تكليف شرعي وحكم إلهي.
***
القسوة
من جملة الأمراض النفسية والذنوب القلبية التي يجب علاجها عقلاً وشرعاً مرض قسوة القلب الذي هو بالإضافة إلى كونه مرضاً خطيراً, سبب في أمراض أخرى سيأتي توضيحها, كما أنه سبب في انحراف الإنسان عن صراط العبودية المستقيم في أقواله وأفعاله وإليكم بعض الآيات المباركة لبيان شدة هذا المرض وخطورة هذا الذنب النفسي ونتائجه الوخيمة.
قال تعالى: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ". الزمر 22, وقد تقدم معنى شرح الصدر في قسم العقائد, ومن التأمل في جملة: " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " تتضح جيداً أهمية ذنب القسوة.
***
سبب للخروج عن الدين:
قال تعالى: " ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم
وكثير منهم فاسقون ". الحديد 16.
يدل قوله تعالى: " كثير منهم فاسقون " على أن هؤلاء فسقوا, خرجوا من الدين لقسوة قلوبهم.
افتح قلبك للإيمان, ولدى التأمل في هذه الآية يعلم جيداً أن من الواجب على كل مسلم أن يعالج مرض قسوة قلبه ويعمل جاهداً ليكون قلبه ليناً خاشعاً, وأن لا يكتفي بالإسلام بحدود شهادة الشهادتين وما يترتب على ذلك من طهارة الظاهر وسائر الأحكام, بل يتعدى هذا إلى صياغة قلبه وباطنه على أساس هذا المعتقد, أما إذا كان تأثير عقائد الإسلام وأحكامه مقتصراً على ظاهر الشخص, وكان قلبه خالياً من الله والآخرة لا يعرف قلبه الخوف من الله ولا رجاءه سبحانه, ولا الخوف من الآخرة, وليس في قلبه إلا حب الدنيا والتعلق بالأسباب وطلب الشهوات. شخص كهذا... لا يستفيد إلا من أحكام الإسلام الوضعية الظاهرية, كالزواج والإرث, وإذا مات على هذه الحال فلن يستفيد شيئاً في عالم ما بعد الموت وهو في هلاك أبدي.
الواجب أكثر من كل شيء إذن, السعي في إصلاح القلب وعلاج قسوته وغلظته وصعوبته, ليستقر فيه الإيمان, وإذا استقر الإيمان في القلب بأية نسبة كان ومات الإنسان على ذلك فهو من الناجين يقيناً وسيحصل على شيء وفائدة من درجات أهل الإيمان ومقاماتهم, وإذا أراد شخص أن يعرف هل استقر الإيمان قلبه أم لا, فهناك علامة وردت عن الإمام الباقر عليه السلام لأولى درجاته.
أولى علامات الإيمان:
قال عليه السلام: من ساءته سيئته وسرّته حسنته فهو مؤمن[4].
وقد نقل عن ابن مسعود أن المدة بين إسلام المسلمين ونزول الآية السابقة " ألم يأنِ للذين آمنوا " هي أربع سنوات أي بعد قبول المسلمين الإسلام والعمل بتعاليمه أمرهم الله بوجوب أن تكون قلوبهم خاشعة لذكر الله, وليس فقط أجسادهم, وأن يحذروا من مرض القسوة, ولكي لا ييأس المسلمون من علاج مرض القسوة, ويعلموا أن الله قادر على شفائهم من هذا المرض وإحياء قلوبهم الميتة, ويبدل القسوة بلين ورقّة يقول في الآية التالية:
" اعلموا أن الله يحيي الأرض ( في فصل الربيع ) بعد موتها ( في فصل الشتاء ) ".
ويحيي أرض القلوب الميتة بنور المعرفة, وكذلك يحيي الأرض التي ملئت ظلماً وجوراً وليس لأهلها حياة حقيقية - يحييها - بنور العدل بواسطة قائم آل محمد المهدي عجل الله فرجه.
" قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ". الحديد 17.
وقد وردت في كتب التفسير قصص عن أشخاص خشعت قلوبهم لله وتابوا لدى سماع هذه الآية.
توبة مالك بن دينار:
من ذلك ما في تفسير روح البيان, سئل مالك بن دينار عن سبب توبته وتوجهه إلى الله, قال: كنت في مستهل عمري جندياً سكيراً, اشتريت جارية وتعلقت بها كثيراً ومنَّ الله عليَّ منها بطفلة, وكان حبها يزداد في قلبي يوماً بعد يوم, وفي أول مشيها أحببتها حباً لا يوصف, وكانت هي كذلك شديدة التعلق والأنس بي, وكلما كنت أتناول كأس الخمر لأشربها كانت تأخذها مني وتريقها على ثيابي, وعندما بلغت الثانية من عمرها ماتت, فتأثرت
لموتها كثيراً, كانت غصة لا تحتمل ولم يعد يقر لي قرار, وفي ليلة جمعة من شعبان شربت الخمر ولم أصلِّ العشاء ونمت, فرأيت في النوم كأن أهل المقابر خرجوا جميعاً وهم في المحشر, وأنا معهم, وسمعت من خلفي صوتاً, نظرت فإذا بأفعى سوداء ضخمة لا يتصور أكبر منها, وهي فاغرة فاها مسرعة نحوي, وبرعب ودهشة شديدين فررت من أمامها, وإذا بها تطاردني بسرعة, والتقيت في الطريق برجل عجوز حسن الوجه والرائحة, سلمت عليه فردّ علي, قلت: أغثني واحمني, قال: أنا في مقابل هذه الأفعى عاجز, ولكن إذهب بسرعة, الأمل أن يهيء الله وسائل نجاتك, ومضيت هارباً مسرعاً حتى وصلت إلى منزل من منازل القيامة ( أي مرحلة من مراحلها ) فرأيت هناك طبقات جهنم وأهلها, وكدت لشدة خوفي من الأفعى أن أرمي بنفسي في جهنم فإذا بصوت يقول: إرجع لست من أهل هذا المكان, بعد هذا الصوت اطمأن قلبي ورجعت, فرأيت أن الأفعى أيضاً رجعت وهي تطاردني إلى أن وصلت إلى ذلك العجوز قلت: أيها العجوز قلت لك احمني فلم تغثني, فبكى العجوز وقال: أنا عاجز ولكن إذهب نحو هذا الجبل الذي فيه أمانات المسلمين فإذا كانت لك أمانة فستساعدك. نظرت إلى ذلك الجبل فرأيت فيه غرفاً أرخيت عليها ستائر, وأبواب تلك الغرف من الذهب الأحمر المرصع بالياقوت والدر, فركضت باتجاه ذلك الجبل والأفعى تطاردني, وعندما اقتربت صاح ملك: ارفعوا الستائر افتحوا الأبواب واخرجوا, لعل لهذا المسكين أمانة بينكم تحميه من شر العدو, وواصلت الركض, وإذا بأطفال وجوههم كالقمر الساطع قد خرجوا, واقتربت الأفعى مني فتحيرت صاح طفل تعالوا كلكم فقد اقترب منه العدو, وخرجوا فوجاً فوجاً, فجأة رأيت ابنتي التي كانت ماتت, وبمجرد أن رأتني بكت وقالت والله هذا أبي, ثم وضعت يدها اليسرى في يدي اليمنى وأشارت بيدها اليمنى إلى الأفعى فرجعت وهربت, ثم أجلستني ابنتي وجلست في حضني ووضعت يمناها على لحيتي
وقالت يا أبت:
" ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ".
بكيت وقلت: ابنتي أنت تقرأين القرآن.
قالت: يا أبتِ معرفتنا بالقرآن أفضل من معرفتكم به.
قلت: أخبريني ما هذه الأفعى قالت: هي عملك السيء الذي قويته وكان يريد إلقاءك في جهنم.
قلت: وذلك العجوز؟
قالت: أعمالك الصالحة التي ضعفتها بحيث لم تستطع أن تساعدك على أعمالك القبيحة.
قلت: ابنتي ماذا تفعلين أنت في هذا الجبل؟
قالت: نحن أطفال المسلمين الذين جئنا في طفولتنا من الدنيا إلى هنا وقد أسكننا الله هنا إلى القيامة ونحن ننتظر آباءنا وأمهاتنا ليأتوا إلينا فنشفع لهم.
واستيقظت مذعوراً وتركت شرب الخمر وسائر الذنوب نهائياً وتبت إلى الله, هذه سبب توبتي[5].
" أخرج رأسك من جيب الغفلة حتى لا تكون غداً نكساً من الخجل, الآن يجب الإستيقاظ أيها النائم عندما يكشف الموت باطنك ماذا سينفعك الندم, ماذا يحزنك من فَقْد طفل دفن في التراب فقد جاء طاهراً وعاد طاهراً أنت جئت طاهراً فاحذر وابقَ طاهراً فإن من العار أن ترجع إلى التراب متنجساً[6] ".
فوائد من هذه القصة:
تعلم من هذه القصة ثلاثة أمور تشهد الروايات والقصص بصحتها:
الأول: أن النفوس البشرية, التي تغادر الدنيا تمتلك من المعلومات في البرزخ ما لا يقاس بمعلوماتها في الدنيا, إلى حد أنهم ( الموتى ) يعرفون جميع اللغات ويفهمون القرآن بشكل أفضل, وكثير من الأمور التي هي سر بالنسبة لأهل الدنيا هي لهم علن " فبصرك اليوم حديد ". ق 22 أي ما لم تكن تراه في الدنيا وتعلمه هو اليوم ظاهر لك.
الثاني: مسألة تجسيم الأعمال أي أن أعمال الإنسان الحسنة والقبيحة تحضر أمام الإنسان يوم القيامة وتتصل به وتكون في صورة مناسبة لتلك الأعمال " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ". آل عمران 30.
ومن رأفته تعالى أنه يخبرنا ويحذرنا حتى لا نتلوث بالأعمال القبيحة ونعذب بسببها في النهاية.
الثالث: مسألة شفاعة أطفال المسلمين الذين ماتوا في طفولتهم لآبائهم وأمهاتهم وفي كتاب لآليء الأخبار روايات وبعض القصص حول ذلك فليراجع.
ما هو الخشوع وكيف يحصل:
لعل القاريء العزيز يحب بعد سماع وقراءة هذه الآية الشريفة أن يعرف معنى الخشوع لله, لذا تذكر حقيقة الخشوع باختصار.
عندما يدرك إنسان في إنسان آخر أمرين: أولاً: عظمته وقدرته واستطاعته, وثانياً: كرمه وإحسانه المتوالي, تحصل في قلبه عند الإلتفات
إلى عظمته هيبة لذلك الشخص العظيم كما تحصل من الإلتفات إلى إحسانه محبة له في قلبه... ويحصل من اجتماع الأمرين ( الهيبة والمحبة ) حالة في القلب يقال لها الخشوع.
إذن الخشوع تذلل وتصاغر في مقابل المنعم العظيم ممزوج بالمحبة.
عندما يقف غلام السلطان المقتدر الذي يدرك أن كل ما عنده من مال وجاه وعز فإنما هو من السلطان... عندما يقف أمام السلطان تحصل في قلبه من إدراك عظمته, هيبة, ومن إدراك نعمه محبة فيواجهه بقلب خاشع وبدن خاضع.
إذا اتضح ذلك فنقول:
صاحب المعرفة أي من عرف في نفسه الحقارة والعدم وعرف في ربه العظمة والوجود المطلقين بل انحصار القدرة والعظمة في عالم الخلق به وأدرك أن جميع أجزاء عالم الوجود عاجزة مقهورة له, تظهر إذن في قلبه هيبة الله, ومن ملاحظة نعم الخالق التي لا تحصى, عليه وعلى الآخرين, وملاحظة أنه لا منعم غيره تظهر في قلبه محبة الله سبحانه عندها ينصرف إلى إظهار عبوديته وأداء شكر إنعامه فيقف ويصلي ويخاطب المنعم العظيم الشأن ويناجيه ليحقق لنفسه الفلاح: " قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون ". المؤمنون 1 - 2.
مما تقدم يعلم أن من لا يزال يظن أن له أو لغيره عظمة وقدرة أو ينسب نعم الله التي لا تحصى إلى نفسه أو إلى مخلوق آخر فهو محروم من الوصول إلى مقام الخشوع لله عز وجل.
وبعبارة أخرى ما دام معجباً بنفسه معتقداً بشأن لها وعظمة واستطاعة, ويتخيّل أن النعم منه أو من مخلوق آخر على نحو الإستقلال فليس له من حقيقة
الإيمان وآثاره نصيب.
القلوب أشد قسوة من الصخر:
" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ( الصخور التي تسقط من الجبال من جراء الزلازل أو انفجار البراكين أو تساقط الأمطار أو ذوبان الثلوج التي تولدت داخلها في الشتاء ) وما الله بغافل عما تعملون ". البقرة 74.
وقوله تعالى: " من خشية الله " سببه أن جميع الأسباب الطبيعية تنتهي إلى الذات الإلهية, كما أن ملكوت جميع الأشياء يتصف بالشعور والإدراك وقد ثبت هذا في محله.
قال بعض المفسرين في شرح هذه الآية:
هذه القلوب أشد قسوة من الصخر الصلد, لا هي تقبل الحق ولا هي ذات حياة معنوية وكمال عقلي, لا تفور من داخلها عواطف الخير ولا تجد النصيحة والحكمة والعبرة من آذانها وعيونها سبيلاً إلى ضميرها ووجدانها الجاف والميّت, ولا تحني رأسها أمام العظمة والقدرة والآيات المحسوسة, مع أن صخور الجبال الشامخة تتساقط أمام قدرة الله وقهر آياته, والخلاصة إن سبب كون القلوب القاسية أشد قسوة من الصخر ثلاثة أمور:
لماذا هي أقسى من الصخر:
1 - كثيراً ما ينبع الماء والأنهار من باطن الصخور, إلا أن هذه القلوب القاسية لا ينبع منها شيء.
2 - يتشقق الصخر بسبب عوامل الخلقة, ويخرج منه الماء إلا أن قلوب هؤلاء لا تصلها المواعظ والعبر ولا يرشح منها الخير.
3 - تنحني الصخور أمام قهر الله, إلا أن قلوب هؤلاء لا تخضع أمام عظمة الحق وآياته وليس سبب قسوة قلب هؤلاء إلى هذا الحد هو طينتهم بل إن ذلك من آثار أعمالهم التي أفقدت قلوبهم القابلية التي كانت موجودة فيها وستكون نتائج أعمال أصحاب القلوب المتحجرة هؤلاء هي النيران وليس الله غافلاً عما يعملون.
لماذا لم يتضرعوا عند نزول العذاب:
" ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون* فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ". الأنعام 42 - 43.
قسوة القلب بمعنى تحجر القلب في مقابل لينه تتجسد في أن يكون الإنسان صعب القلب بحيث لا يتأثر عند رؤية المشاهد المؤثرة أو سماع الأحاديث المؤثرة عادة.
بناءاً عليه فإن معنى هاتين الآيتين كما يلي:
لقد أرسل الله أنبياء إلى الأمم السابقة فدعوا أممهم إلى توحيد الله والتضرع إليه والتوبة, وابتلاهم الله بأنواع الشدائد كالفقر والجدب وأنواع المشقات كالمرض وغلبة العدو, لعل قلوبهم تلين فيختارون ما فيه صلاحهم ويتضرعون إلى الله وينصرفون عن الإنخداع بتزيينات الشيطان التي تجعلهم يميلون إلى التعلق بالأسباب الظاهرية, إلا أن جهود الأنبياء لم تثمر, ولم يتضرع أولئك لله فالإنشغال بمال الدنيا جعل قلوبهم قاسية وزين لهم الشيطان عملهم القبيح ليسرق من قلوبهم ذكر الله.
وبعبارة أخرى: في هاتين الآيتين وآيتين بعدهما[7] يبيّن الله لنبيّه ما فعله سبحانه مع الأمم السابقة ويخبره أنّا أرسلنا إليهم أنبياء ولكي تلين قلوبهم وجعلها جاهزة لقبول دعوة الأنبياء في توحيد الله والتضرع إليه ابتليناهم بأنواع الشدائد والمحن والعذاب إلا أنهم حتى عند مواجهة المصائب والمنغصات والبليات لم يرجعوا إلى ربهم ولم يتذللوا له ولم تتأثر قلوبهم, وظلوا مشغولين بأعمالهم الشيطانية أي الأعمال التي كانت تحجبهم عن الله واعتمدوا على الأسباب الظاهرية متخيلين أن صلاح أمورهم جميعاً مرتبط بتلك الأسباب وعندما وصلوا إلى هذا الحد فتح الله عليهم أبواب النعم في كل المجالات ففرحوا بها وظنوا أنهم استغنوا عن الله, ثم ابتلاهم فجأة بالعذاب من حيث لا يحتسبون فانطفأوا وذلوا وقطع دابر الظالمين.
" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ". المائدة 13.
أي لأن بني إسرائيل نقضوا العهد الذي كنا قد أخذناه منهم بأن يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة, ويطيعوا الأنبياء عاقبناهم بالطرد من رحمتنا وجعل قلوبهم قاسية أي حجبنا عنهم الألطاف التي كانت قلوبهم تلين بسببها حتى رسخت قلوبهم في القسوة فلم يعودوا يتأثرون بأي من مشاهدة الآيات واستماع التخويفات.
روايات عن المعصومين عليهم السلام:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: لمتان لمة من الشيطان ولمة من الملك
فلمة الملك الرقة والفهم ولمة الشيطان السهو والقسوة[8].
قال الإمام الصادق عليه السلام: فيما ناجى الله عز وجل به موسى عليه السلام: يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاسي القلب مني بعيد[9].
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من الشقاء جمود العين وقسوة القلب والحرص في طلب الدنيا والإصرار على الذنب[10].
عن الإمام الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب قاسي[11].
عن الإمام الباقر عليه السلام: ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أبعد الناس من الله القاسي القلب[12].
عن الإمام السجاد عليه السلام: أنه قال في حديث طويل: والذنوب
التي تحبس غيث السماء جور الحكام في القضاء, إلى أن قال: وقساوة القلوب على أهل الفقر والفاقة[13].
عن الإمام الصادق عليه السلام: إن الله جعل الرحمة في قلوب رحماء خلقه فاطلبوا الحوائج منهم ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإن الله تعالى أحلّ غضبه بهم.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: من أعظم الشقاوة القساوة[14].
معنى القلب وقسوته:
رغم أن معرفة معنى القلب ليست ضرورية, والضروري هو معرفة صفاته وأنواع أمراضه والسعي في علاجه وإصلاحه, ولكن لعل القاريء العزيز يريد معرفة ذلك فنقول إن القلب يطلق على معنيين:
الأول: قطعة اللحم الصنوبرية الشكل الواقعة في وسط يسار الصدر وفي جوفها أربعة تجويفات تشكل جهاز تصفية ومنها يضخ الدم إلى سائر أجزاء البدن وفيه تتولد الروح البخارية وتضخ منه إلى سائر أجزاء البدن مع الدم, وتشترك البهائم فيها مع الإنسان.
الثاني: للقلب معنى آخر وهو اللطيفة الربانية والجوهرة الروحانية المتعلقة بهذا القلب الذي ذكر في المعنى الأول, وهذه اللطيفة تارة يقال لها النفس والروح والإنسان وهي العالمة والعارفة والمستطيعة وهي مورد التكليف الإلهي والثواب والعقاب لها. أما كيفية تعلقها بالقلب الجسماني فهو أمر تحير فيه العقلاء, هل هو تعلق من نوع تعلق الإنسان بالمكان الذي استقر فيه أم
من نوع آخر.
على كل حال فإن ما سمي في القرآن المجيد والروايات بالقلب هو ذلك المعنى الثاني.
ويرى بعض أهل المعرفة أن للقلب معنى ثالثاً هو المراد في كثير من الآيات والروايات وهو مرتبة من مراتب الروح الإنسانية التي تقع في الوسط وهي برزخ بين الروح والقلب الجسماني أي ليس القلب بهذا المعنى الثالث مثل الروح المجردة والشفافة المطلقة.
وليس كالقلب الجسماني وغير الشفاف بل هو صورة وشكل وهو باطن وغيب هذا القلب المادي. والأمور المعنوية كالإيمان تدخل فيه وتخرج منه وهو محل الحالات النفسية مثل الخوف, الرجاء, الحب, الحياء, الخجل, الغمّ والفرح... وتظهر آثار ذلك في هذا القلب الجسماني كاضطراب وخفقان القلب الجسماني عند حدوث الخوف الشديد في القلب المعنوي لأن بين القلب الجسمي والمعنوي ارتباطاً وتناسباً تاماً والظاهر أن هذا المعنى الثالث هو المراد من القلب في هذا الحديث: " عن أبي جعفر ( الإمام الباقر ) عليه السلام: إن القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك, وإن أدركه على إيمانه نجا, وقلب منكوس وهو قلب المشرك, وقلب مطبوع وهو قلب المنافق وقلب أزهر أجرد وهو قلب المؤمن فيه كهيئة السراج إن أعطاه الله شكر وإن ابتلاه صبر[15] ".
مكتوب من " المكاتيب ":
قال في المكتوب 263 من كتاب " المكاتيب " في معنى القلب: سألوا ما هي الروح؟ وما هو القلب؟ وما هي النسبة بينهما.
الجواب: يا روحي بك أملي,... ويا قلبي أقبل عطفك, الإتصاف بصفات القلب والروح جميل, أي نفع في سماع حكايتهما, بل لعل ذلك ضار, فلعل فكر السامع لا يبلغه فيكذبه " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " عندها لا يفلح أبداً, مع ذلك لا بد - امتثالاً لأمر أحبة الصدق - من قول كلمتين باختصار وليحسنوا الظن بتصديق ذلك وهو: إن حقيقة الإنسان واقعة بين عالمين أحدهما عالم الإتحاد وهو جميعه قرب في قرب ونور في نور ووصل في وصل ويقال له عالم الأمر " وما أمرنا إلا واحدة " وثانيهما: عالم الأغيار ( الغربة ) وهو جميعه بعد في ظلمة وهجران في هجران ويسمى عالم الخلق قال الله تعالى " ألا له الخلق والأمر " والروح ذكر من عالم الأمر أرفقت بالإنسان والنفس ذكر من عالم الخلق وقرنت به وكلاهما راجعان إلى مرجع إلهي إحداهما سر لطفه قائم بجماله والآخر سر قهره قائم بجلاله وما يرجع إلى الإنسان هو القلب الذي هو واقع بين إصبعي اللطف ومن هنا لم يرد ذكر اسم القلب بالنسبة لله أما عن الروح فقد ورد " ونفخت فيه من روحي " وعن النفس " ويحذركم الله نفسه " ولأن تركيب الإنسان يتفكك بالموت وكل من الروح والنفس - بحكم كل شيء يرجع إلى أصله - يعود إلى عالمه والقلب الذي هو حقيقة الإنسان يشايع ( يتبع ) ذلك الذي ألفه أثناء مصاحبته له وأنس به وأقبل عليه وطبع بطابعه ( وأخذ لونه ) إذا كان روحانياً يذهب مع الروح إلى عالم الوحدة ويفوز بنور القرب والسرور والوصل ( الوصال ) وتحصل الروح على لذة تبعاً له. أما بالذات فلا لأن اللذة لا تحصل من اللذة.
وإذا كان قد صار نفسانياً يقع مع النفس في عالم الكثرة ويبتلى بظلمة البعد وغصة الهجران وتتعرض النفس - تبعاً له - لألم أما بالذات فلا لأن الألم لا يحصل من الألم. إلى أن يقول: الذين تكون أرواحهم وقلوبهم في عالم الوحدة يأخذون نفوسهم وأبدانهم معهم لثبوت العلاقة وأرواح وأبدان الذين نفوسهم وقلوبهم في عالم الكثرة تلتحق بعالم الكثرة لثبوت العلاقة من موضع
العلاقة وذلك اليوم يصبح عالم الأمر دار السرور وجنات النعيم وعالم الخلق دار البوار والعذاب الأليم[16].
قال الحكيم سنائي:
" من أصبح ملكاً على الجسد فقلبه مطمئن له الملك والجنة " " ولا يسوء الجسد إلا لفساد القلب فظلم الجيش من ضعف الملك " " هكذا يملأ الخلل قلبك فتصبح أنت والوحش والغول بهذا القلب سواء " " سميت قطعة لحم بالقلب وأعرضت عن القلب الحقيقي ".
" هذا الذي سميته قلباً مجازاً اذهب وارمه إلى كلاب الحي ".
" ضحِّ بالجسد والنفس والعقل والروح واحصل في الطريق إليه ( الله ) على القلب " " مثل هذا القلب لا تجد فيه في المنعطفات إلا الله ".
" إن القلب منظر رباني فكيف تسمي بيت الغول قلباً ".
" من باب النفس إلى كعبة القلب ألف منزل ومنزل للعاشقين[17] ".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لله آنية في الأرض فأحبها إلى الله ما صفا منها ورقّ وهي القلوب ".
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أبي يقول ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله.
ما هي القسوة:
القسوة هي بمعنى الشدة والصلابة وهي نوع مرض وانحراف عن
الإستقامة يعرض على قلب الإنسان, عندها لا يقبل الحق ولا يخشع له أي أنه لا يذل وينقاد ويسلم له, ولا يوجد فيه الخشوع للحق الذي هو حقيقة الإيمان, وأيضاً لا يؤثر النصح والإنذار فيه, وأيضاً لا تؤثر فيه المشاهد التي توجد الرقة والحنان كشكاية المظلوم, وصرخة اليتيم, وبقاء المرضى بدون علاج, وحاجة واضطراب الفقراء... لا يحس بأي إحساس رحمة تجاه هؤلاء وأمثالهم وكأنه لم يسمعهم ولم يرهم, يمر بهم كالحيوان.
والتأمل الدقيق في آيات القرآن المجيد والروايات التي تقدمت يكشف بوضوح أن مرض القسوة ذنب كبير للقلب الإنساني وتجب فوراً التوبة منه والسعي في علاجه بالتفصيل الذي سيذكر خصوصاً مع ملاحظة أن قساوة القلب سبب عدم الإيمان والحرمان من الآثار العظيمة للخشوع للحق.
قسوة القلب منشأ كثير من الذنوب:
وهي أيضاً سبب عدم الخوف وعدم الإضطراب من سفر الآخرة وعدم الإعتناء بأهوال مواقف القيامة, وأيضاً سبب لكبائر من الذنوب لا تحصى كقطيعة الرحم وعدم مساعدة المسكين وحرمان الفقير وعدم رعاية اليتيم وعدم الخوف من القهر والعذاب الإلهيين والأمن من الإنتقامات الإلهية الخفية, وفي الحقيقة فإن التقوى ( وهي الخوف والحذر من الذنوب وكل ما هو خلاف العبودية والخوف مما هو موجب للعذاب الأخروي بحيث يصبح هذا الخوف وهذا الحذر عادة لا يمكن أن تزول ) لا يمكن حصولها مع قسوة القلب, إذن يجب من أجل الحصول على التقوى السعي في علاج هذا المرض.
ويجب أن يعلم أيضاً أن مرض القسوة ليس أمراً تكوينياً أي أن الإنسان لا يخلق قاسي القلب, بل هو أمر كسبي أي يبتلى به الإنسان من جراء أقواله وأفعاله القبيحة وستذكر هنا بعض الأمور التي تتسبب بهذا المرض, مما
وردت الإشارة إليه في الروايات:
القسوة ممكنة العلاج ولها مراتب:
يجب العلم أيضاً أن مرض القسوة يمكن علاجه كما سيذكر, وبعد العلاج والشفاء منه قد يرجع أيضاً ويبتلى به الإنسان مجدداً, والهدف من هذا التذكير أن لا يصيب القاريء الغرور ويظن أنه في أمان من هذا المرض فأولاً للقسوة مراتب ولعله الآن مبتلى ببعض هذه المراتب ثانياً: يجب أن يعتبر نفسه في معرض خطر الإبتلاء به لأن من الممكن أن تكون نتيجة عدم الحذر والإبتلاء ببعض أسباب القسوة هي الإبتلاء بهذا المرض ومن هنا أمرنا الأئمة عليهم السلام أن نراقب قلوبنا وأن نبادر إلى علاجها بمجرد أن نلاحظ فيها شيئاً من القسوة.
راقبوا حالات قلوبكم:
" عن الشحام ( أبي أسامة ) قال: زاملت أبا عبد الله ( الإمام الصادق ) عليه السلام ) فقال لي: إقرأ فافتتحت سورة من القرآن فقرأتهما فرقَّ وبكى ثم قال: يا أبا أسامة ارعوا قلوبكم بذكر الله تعالى ( أي احفظوا قلوبكم من وساوس الشيطان بذكر الله ) واحذروا النكت فإنه يأتي على القلب تارات أو ساعات الشك من صباح ( أحد الرواة ) ليس فيه إيمان ولا كفر شبه الخرقة البالية أو العظم النخر ( أي لا قيمة للقلب في مثل هذه الحالة كما أنه لا قيمة للخرقة البالية أو العظم النخر أو كما أن الخرقة البالية والعظم النخر يتناثران ويتلاشيان بأقل حركة فكذلك القلب في هذه الحالة ينتقل من الإيمان إلى الكفر لأقل وسوسة من الشيطان ) يا أبا أسامة أليس ربما تفقدت قلبك فلا تذكر به خيراً ولا شراً ولا تدري أين هو قال: قلت له: بلى إنه ليصيبني وأراه يصيب الناس قال: أجل ليس يعرى منه أحد قال: فإذا كان ذلك
فاذكروا الله تعالى واحذروا النكت فإنه إذا أراد بعبد خيراً نكت إيماناً وإذا أراد به غير ذلك فكنت غير ذلك قال قلت وما غير ذلك جعلت فداك ما هو قال إذا أراد كفراً نكت كفراً[18] ".
مع كلام المجلسي والفيض رحمهما الله:
قال المرحوم المجلسي في معنى ( نكت كفراً ) أي لأنه استحق أن يحجب الله عنه لطفه يصبح الشيطان مسلطاً على قلبه ويلقي فيه ما أراد وإسناد النكت إلى الله مجاز لأن منع اللطف من الله يصبح سبباً لوقوعه في شَرك الشيطان.
وقال المرحوم الفيض: النكث في الحديث بمعنى نقض عهد الإيمان بالشك وفي بعض النُّسخ النكت هو بمعنى ضرب الخشبة الصلبة بالأرض ليظهر أثر هذه الضربة وبناءاً عليه فمعنى احذروا النكت هو:
احذروا أن يستقر بعد هذه الحالة أثر الكفر في قلوبكم ويظهر[19].
الذين أعيروا الإيمان ( المعارون ):
في كتاب الإيمان والكفر من أصول الكافي في باب سهو القلب أربعة أحاديث مضمونها هو ما جاء في هذا الحديث الذي أورده في باب " المعارين " عن الإمام الصادق عليه السلام: إن العبد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين ثم قال: فلان منهم[20].
والظاهر أن فلان هو أبو الخطاب الذي كان من أصحابه عليه السلام ثم اغرف وأظهر البدع ولعنه الإمام.
ونقل أيضاً في هذا الباب عن الإمام الصادق عليه السلام: " إن الله جبل النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبداً وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبداً وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبداً ومنهم من أعير الإيمان عارية فإذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان[21] ".
علاقة بقاء الإيمان وزواله بعمل الإنسان:
قال المرحوم المجلسي في شرح فقرة فإذا هو دعا...: فيه حث على الدعاء لحسن العاقبة وعدم الزيغ كما كان دأب الصالحين قبلنا وفيه دلالة أيضاً على أن الإيمان والكفر والسلب ( سلب الإيمان ) مسببان عن فعل الإنسان لأنه يصير بذلك مستحقاً للتوفيق والخذلان.
وجملة القول في ذلك أن كل واحد من الإيمان والكفر قد يكون ثابتاً وقد يكون متزلزلاً يزول بحدوث ضده لأن القلب إذا اشتد ضياؤه وكمل صفاؤه استقر فيه الإيمان وكل ما هو حق, وإذا اشتدت ظلمته وكملت كدورته استقر فيه الكفر وكل ما هو باطل، وإذا كان القلب بين ذلك أي يختلط فيه الضياء والظلمة كان متردداً بين الإقبال والإدبار ومذبذباً بين الإيمان والكفر فإن غلب الأول ( الضياء ) دخل الإيمان فيه من غير استقرار وإن غلب الثاني ( الظلام ) دخل الكفر فيه كذلك ( من غير استقرار ) وربما يصير الغالب مغلوباً فيعود من الإيمان إلى الكفر ومن الكفر إلى الإيمان فلا بد للعبد من مراعاة قلبه فإن رآه مقبلاً إلى الله عز وجل شكره وبذل جهده وطلب منه الزيادة لئلا يستدبر وينقلب ويزيغ عن الحق كما ذكر سبحانه عن قوم صالحين:
" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ". آل عمران 8.
وإن رآه مدبراً زائغاً عن الحق تاب واستدرك ما فرّط فيه وتوكل على الله وتوسل إليه بالدعاء والتضرع لتدركه العناية الإلهية فتخرجه من الظلمات إلى النور وإن لم يفعل ربما سلط عليه عدوه الشيطان واستحق من ربه الخذلان فيموت مسلوب الإيمان كما قال سبحانه: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ". الصف 5.
أعاذنا الله من ذلك وسائر أهل الإيمان[22].
تنقل أحوال القلب:
" عن سلام بن المستنير قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء, فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرك - أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك - أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرّة تصعب ومرّة تسهل. ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا يا رسول الله نخاف علينا النفاق قال فقال: ولمَ تخافون ذلك قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء, أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر ( الله ) لهم. إن المؤمن مفتّن تواب أما سمعت قول الله عز وجل: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " وقال " استغفروا ربكم ثم توبوا إليه[23] ".
قال المجلسي رحمه الله في شرح هذا الحديث:
إن للروح الإنساني منازل في السير إلى الله أولها المحسوسات وثانيها المتخيلات وثالثها في الموهومات ورابعها المعقولات, وهو في هذا المنزل يمتاز عن سائر الحيوانات ويرى فيه ما هو خارج عن عالم الحس والخيال والوهم ويعلم روح الأشياء وحقائقها, وله ( لهذا المنزل ) عرض عريض أوله أول عالم الإنسان وآخره عالم الملائكة بل فوقه وهو معراج الإنسان وأعلى عليين له, كما أن الثلاثة الأول أسفل السافلين له, وأعظم أسباب معراجه قطع التعلق عن الدنيا والإعراض عنها بالكلية، ثم الدوام على هذه الحالة فإنه يوجب الوصول إلى حالة شريفة هي مرتبة عين اليقين وله في تلك المرتبة قدرة على أفعال غريبة وآثار عجيبة بإذن الله تعالى كمصافحة الملائكة والمشي على الماء والهواء وغيرها ومنه يعلم أن الكرامات غير منكرة من الأولياء كما زعمه بعض العلماء[24].
مع المحقق المازندراني:
ذكر المحقق الجليل الشيخ محمد صالح المازندراني المتوفى
عام 1081 ﻫ في شرح هذا الحديث مطالب قيّمة تذكر هنا خلاصتها:
عندما رأى حمران أن حالته في الخلوة لا تطابق حالته بين يدي الإمام عليه السلام خاف وتخيَّل أن هذا دليل على نفاقه وظن أن تلك الرقة وذلك الخشوع الذي يحصل له أثناء موعظة الإمام عليه السلام يجب أن ترافقه في كل مكان وفي جميع الحالات ليكون من أهل الصدق فأجابه الإمام بأن القلوب تارة تصعب على قبول الحق وتارة تسهل وليست دائماً على نسق واحد. فإذا صعبت أعرضت عن الحق ووصلت إلى حالة منحطة وإذا سهلت لانت وأقبلت على الحق ووصلت إلى حالة شريفة وسبب ذلك أن الطريقة الإلهية في خلق الإنسان هي أنه جعل عمله وسطاً بين عالم الملائكة وعالم الشياطين فقد خلق الله الملائكة بحيث لا يصدر منها إلا الخير ولا تغفل لحظة وهي تذكر الله دائماً وجعل الشياطين متمكنة من الشر بحيث لا تذكر الله لحظة وخلق الإنسان بحيث أنه متمكن من الخير والشر كليهما وهو حيناً غافل وحيناً ذاكر لله, نعم يستطيع بواسطة الكسب والمجاهدة أن يتمحض في الخير كالملائكة لا تعتريه غفلة أبداً وسؤال حمران هذا دليل على أن مجالسة أصحاب اليقين والصالحين ومصاحبتهم تقضي على الغفلة وتذكر بذكر الله والآخرة وتطرد خطرات النفس ووساوس الشيطان ومن هنا ورد التأكيد في الروايات على مصاحبة الصادقين والصالحين خصوصاً الأئمة عليهم السلام ( أشير إلى ذلك في بحث اليقين ) إلى أن يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله في جواب أصحابه كذلك فاختلاف حالاتكم ليست نفاقاً لأنكم حيناً بالإيمان تتذكرون وحيناً بوسوسة الشيطان تغفلون وتميلون إلى الدنيا.
وأما المنافق فهو عدم إيمان وغفلة دائمين وعلى نسق واحد ومن الواضح جداً التفاوت بين المؤمن الذي يغفل بتأثير وسوسة الشيطان ثم يعوض غفلته
بذكر الله وبين من لا يخرج من الغفلة أبداً ورغم أنه إذا استطاع الشخص الحصول على دوام الحضور وبقاء قلبه مع ربه في جميع الحالات على نسق واحد فسيصل إلى المقامات العالية التي ذكرت في الرواية ( مصافحة الملائكة, المشي على الماء ) إلا أن الذين تختلف حالاتهم ولا تتساوى ويعوضون غفلتهم بالذكر ومعصيتهم بالتوبة هم أيضاً جيدون بل تقتضي حكمة الله أن يكون أكثر الخلق كذلك لتظهر الغفارية والتوابية واللطف والرحمة والحكم الإلهية الآخرة ولهذا ومن أجل تسلية المذنبين وبشارة التوابين قال رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر الحديث: " ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون لخلق الله خلقاً حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم " ومن الجدير بالذكر أن الذنب والغفلة ليسا مطلوبين لله ولا مرضيين عنده بل المطلوب والمقصود هو التوبة والرجوع بعد الذنب فإن فيها حكماً لا تتناهى وأهمها قرب الخالق تعالى لأن القرب لا يتيسر إلا بالعجز والإنكسار والخشوع والإحتقار وبناءاً عليه فالعبادة التي تسبب للعابد رضاه عن نفسه والعجب والغرور هي عبادة تبعده عن ربه فراسخ, وإذا تسبب ذنب بانكسار المذنب وتنكيس رأسه وخجله والتضرع بخشية وبكاء إلى الله الغني فإن ذلك الذنب يصبح وسيلة قربه كآدم أبي البشر الذي بكى بعد صدور " ترك الأولى " ( منه ) عدة سنوات مستغيثاً مقبلاً على الله إلى أن أصبح مختار الباب الإلهي ووصل إلى مقام الإجتباء والنبوة.
والخلاصة: الواجب هو أن يسعى العبد في أن لا يصدر منه ذنب ولا تسيطر عليه الغفلة وإذا ابتلي بالذنب فلا يصبح سيء القلب ويطرق بواسطة التوبة والإنابة باب الرحمة لتفتح له أبواب الخزائن الإلهية ويصبح في النتيجة محبوب الله كما قال تعالى: " إن الله يحب التوابين ".
أسباب قسوة القلب
تذكر فيما يلي الأمور التي تسبب قسوة القلب والتي أشير إليها في الروايات:
1 - الذنب أكبر أسباب القسوة:
كل ذنب يصدر من الإنسان يزيد في قسوة قلبه وظلمته إلا إذا تاب منه بسرعة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب[25] ".
قال الإمام الباقر عليه السلام: " ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة ( أي نقطة ) بيضاء، فإذا أذنب خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله عز وجل: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون[26] ".
والظاهر أن المراد بالنقطة البيضاء في قلب كل عبد قبل التلوث بالذنب هو الفطرة الأولية المرافقة لتكوينه التي يكون بمقتضاها متذكراً لخالقه ولحياته الخالدة وعالم ما بعد الموت وقد أشير إليها في قسم العقائد من هذا الكتاب.
2 - الأماني تقسي القلب:
قول الأمل أي الأماني والرغبات الدنيوية والأهواء النفسانية التي تتولد للحصول عليها رغبات لا تتناهى... - كما أنه يلزمها وقت طويل لتحققها - هذه الأهواء والأماني حجب مظلمة تغطي قلب الإنسان بحيث لا هو يذكر ربه ولا يطلب قربه ولا يبحث عن رضاه ولا يتذكر آخرته ولا يسعى لتأمين راحته الأبدية وحياته الخالدة, يركض ويسعى ويتوثّب ولكن فقط للوصول إلى الأهواء النفسية وتأمين الحياة الفانية الدنيوية التي هي مشبوهة ولا أساس لها.
وبالتدقيق يعلم أنه لا شيء كالآمال الشهوانية والأهواء الشيطانية والهوس النفساني, يقسي القلب ويجعله مظلماً حالكاً[27].
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة[28].
3 - كثرة الأكل تورث قسوة القلب:
" كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ". الأعراف 31. أورد في كتاب الأطعمة من وسائل الشيعة اثنين وعشرين حديثاً في ذم كثرة الأكل والنهي عنها, وفي كتاب مستدرك الوسائل أورد سبعة وثلاثين حديثاً ورعاية
للإختصار يكتفى هنا بنقل عدة منها:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " أقرب ما يكون العبد من الله إذا خفّ بطنه وأبغض ما يكون العبد إلى الله إذا امتلأ بطنه ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل أنه قال له ليلة الإسراء: " يا أحمد أبغض الدنيا وأهل الدنيا وأحب الآخرة وأهلها قال يا رب ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة قال أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه.... ".
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: من تعود كثرة الطعام والشراب قسا قلبه.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إياكم والبطنة فإنها مقساة للقلب مكسلة عن الصلاة مفسدة للجسد. ويجب العلم بأن كثرة الأكل وإدخال الطعام على الطعام - أي الأكل على الشبع, والشرب رغم الإرتواء - إذا كان مضراً بالبدن فهو حرام وإن لم يكن مضراً فهو مكروه.
ميزان كثرة الأكل نسبي:
وليس لكثرة الأكل ميزان كلي بحيث يقال إن المقدار الفلاني من الطعام يجعل صاحبه كثير الأكل بل إن ذلك يختلف باختلاف الأبدان والأمزجة والحالات مثلاً المقدار الفلاني لشخص ما هو كثرة أكل, إلا أنه لشخص آخر ليس كذلك, بل هو متوسط, ولعل السبب في العلاقة بين كثرة الأكل وقسوة القلب هو أن الطعام الكثير الذي يدخل المعدة يتعب الجهاز الهضمي فلا
يقوم بوظيفته بشكل سليم وذلك يفسد الطعام أي لا يتحول إلى جزء من الجسد ولا يغذي, والدم الذي هو خلاصة ذلك الطعام الفاسد يستقر في القلب بكثافته وعدم صفائه ويتصاعد منه البخار الكثيف ( الذي هو الروح البخارية ) ويتأثر بذلك القلب المعنوي لأنه مرتبط تمام الإرتباط بهذا القلب الصنوبري والجسماني, متحد معه وقد تقدم أن القلب المعنوي يتصف أيضاً بالصعوبة والقسوة.
ولعل الحديث المنقول في " علل الشرائع " ناظر إلى ذلك والحديث هو: " فإن مالت به اليبوسة كان عزمه القسوة " لأن اليبوسة الزائدة سبب خلل الجهاز الهضمي وذلك يسبب فساد الدم وكثافته وذلك يسبب غلظة القلب المعنوي وقسوته, ولعل الحديث الوارد في دعوات الراوندي كذلك ناظر إلى هذا:
عن النبي صلى الله عليه وآله: أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة, ولا تناموا عليها فتقسو قلوبكم.
ومن الجدير بالذكر أن كثرة الأكل الموجبة للقسوة هي كثرة الأكل الحلال أما الأكل الحرام فإن لقمة منه تسبب القسوة.
وفي وسائل الشيعة كتاب الأطعمة باب كراهة الشبع أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لابنه الحسن عليه السلام: ألا أعلمك أربع خصال تستغني بها عن الطب قال بلى قال: لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع ولا تقم من الطعام إلا وأنت تشتهيه, وجوّد المضغ وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء وإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب.
4 - كثرة الكلام الحلال تورث قسوة القلب:
إذا كان الكلام حراماً كالكذب, الغيبة, التهمة, النميمة, إهانة
المؤمن وفضح سره, وكل كلام يسبب الفتنة والفساد, فإن الكلمة الواحدة منه تورث قسوة القلب, أما إذا لم يكن الكلام حراماً ولم يكن واجباً ولا مستحباً وليس فيه أي نفع فهو مباح إلا أن زيادته مكروهة وتورث القسوة.
قال الإمام الصادق عليه السلام: كان المسيح عليه السلام يقول لا تكثر الكلام في غير ذكر فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون[29].
ومرّ رسول الله صلى الله عليه وآله على امرأة وهي تبكي على ولدها وتقول الحمد لله مات شهيداً فقال صلى الله عليه وآله كيف أيتها المرأة فلعله كان يبخل بما لا يضره ويقول فيما لا يعنيه[30].
أي أن بخل الإنسان في إنفاق الزائد مما يملك وعدم حفظ لسانه عن الكلام الزائد واللغو أمران يترتب عليهما عدم وصول الإنسان إلى الدرجة العالية وعدم الوصول إلى النجاة التامة منذ ساعة الموت.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه.
5 - كثرة النوم:
لا بد لكل إنسان أن ينام مقداراً من اليوم والليلة للتخلص من التعب والإستعداد لمواصلة نشاطه فإذا نام أكثر مما ينبغي فسد دينه وقسى قلبه ( كما تقدم في كثرة الأكل ) روي عن الإمام الصادق عليه السلام: كثرة النوم تتولد من كثرة الشرب, وكثرة الشرب تتولد من كثرة الشبع وهما يثقلان النفس عن
الطاعة ويقسيان القلب عن الفكر[31] ( في الأمور الإلهية والأمور الأخروية ).
وقال عليه السلام: كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا[32].
وعنه عليه السلام: إن الله تعالى يبغض كثرة النوم وكثرة الفراغ[33].
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: كثرة الأكل والنوم يفسدان النفس ويجلبان المضرة[34].
لأنهما معاً تورثان الكسل والعجز عن الطاعات والعبادات والنشاط فيها وتسببان ضياع الأوقات والغفلة عن سفر الآخرة وهذا كافٍ في جلبهما المضرة إلى جانب وجود المضرة البدنية في كل منهما, وقد قال أساتذة الطب إن النوم الكثير يسبب ترهل الجسم وضعف قواه وبرودته ورطوبته ويزيد البلغم ويضعف الحرارة الغريزية وكل من ذلك يتسبب بوجود عدة أمراض.
مقدار النوم اللازم:
نقل المحدث الفيض في كتاب منهاج النجاة[35] أنه ينبغي النوم في اليوم والليلة ثلثهما أي ثمانية ساعات وقال بعض الأطباء ينبغي النوم بمقدار الربع أي ست ساعات وذلك كافٍ لأغلب الطبائع وإذا كانت السوداء غالبة يكتفي بأقل من ذلك... والحق أنه لا ميزان كلياً لذلك وهو يختلف باختلاف الأشخاص من حيث السن وكمية الجهد والفعالية, ينبغي أن يكون كل شخص طبيب نفسه فينام بمقار ما يرتاح من تعبه ويريح بدنه ولمعرفة آداب النوم والأمور
المتعلقة بذلك يراجع كتاب دار السلام للمحدث النوري ( عليه الرحمة والرضوان ).
6 - كثرة المال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " وإن كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلب " لأن من كان همه جمع المال وحراسته وزيادته سوف لن يكون بصدد تحصيل الإيمان والعمل الصالح وزيادة زاد سفر الآخرة ولن يؤدي حقوق الله من ثروته, وهكذا يفسد دينه.
وأما قسوة القلوب فلأن الإنسان عندما يتعلق بالمال ويصبح همه زيادة الثروة يقسو قلبه, فلا يعود يخشع لربه, أي لا يرى نفسه عبداً عاجزاً ومحتاجاً إليه ولا يفكر بالآخرة ولا يرحم الفقراء والمكروبين, والآيات والروايات كثيرة في ذم الذين تكون همتهم متعلقة بتكاثر الثروة ونقلها يوجب الإطالة والملل.
ويجب العلم بأن زيادة الثروة المذموم والموجب لقسوة القلب وشقائه هو الثراء مع البخل في الإنفاق أما إذا اجتمعت الثروة مع السخاء أي أن صاحب الثروة لا يحتكرها وإنما يأخذها بيد ويعطيها بيد أخرى فهذه الثروة ممدوحة وهي توجب زيادة رقة القلب والسعادة.
إذا كنت حاملاً للمال من أجل الدين ﻔ " نعم مال صالح " كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم[36].
7 - الغفلة:
قال الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي: إياك والغفلة ففيها تكون
قساوة القلب[37].
قال الله تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون ". الأعراف 179.
في هذه الآية الشريفة يوضح الله تعالى أن الغفلة سبب العمى والصمم وعدم الفهم والسقوط من مقام الإنسانية.
متى تجهزون الزاد:
في حديث أن أمير المؤمنين عليه السلام دخل سوق البصرة فنظر إلى الناس يبيعون ويشترون فبكى بكاءاً شديداً ثم قال: " يا عبيد الدنيا وعمال أهلها إذا كنتم بالنهار تحلفون وبالليل في فراشكم تنامون وفي خلال ذلك عن الآخرة غافلون فمتى تجهزون الزاد وتفكرون بالمعاد[38] ".
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال فإن كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري يقسي القلوب[39].
" يا من أمضيت العمر العزيز بالغفلة ما نفع ما عندك وماذا عملت وأين هو عملك ".
" ما هو زاد سفرك في هذا الطريق الطويل وقد جاءك بياض شعرك رسالة من الأجل ".
" يمكنك بالعلم والعمل أن تصبح ملاكاً لكنك لوضاعة همتك انسجمت مع الوحش والدواجن ".
" كيف ستصبح رفيق حور الجنان وأنت مشغول دائماً بالنظر إلى الماء والنبات كالأنعام ".
" اجهد أن لا تبقى محروماً من السعادة أصلح عملك فالمقام هنا ليس أكثر من يومين أو ثلاثة[40] ".
ما هي الغفلة:
الغفلة بمعنى عدم الإنتباه وعدم الذكر كما أن الذكر بمعنى الإلتفات والإنتباه ولأن الغفلة تقابل الذكر فيتم هنا إيضاح معنى ذكر الله والآخرة ليتضح معنى الغفلة عن الله والآخرة الذي يقابله.
ذكر الله يعني أن يدرك الإنسان بنور عقله أنه مخلوق لله العظيم العالم البصير والقادر الذي يتولى تربيته وهو وكل ما يتعلق به, منه, وكذلك جميع أجزاء عالم الخلقة, فهي كلها مخلوقة له وهو مربيها... وباختصار كل موجود منه, وهذا الإدراك هو الإيمان بالله كما أن الغفلة عن هذه المعاني هي الكفر الحقيقي بحيث أن هذه الغفلة إذا استمرت ومات صاحبها عليها, مات كافراً " كل من غفل عن الحق زماناً فهو عندها كافر إلا أن كفره خفي. وإذا كانت هذه الغفلة مستمرة فقد أقفل في وجهه باب الإسلام[41] " وباستمرار حالة الكفر هذه يقسو القلب ويصبح أعمى وأصمّ لا يفهم, بحيث أنه لن يفكر بذكر الله ولكي لا تستمر هذه الحالة كان من الواجب ذكر الله خمس مرات في اليوم أي صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ليتم ببركة ذلك التخلص من تأثير
الغفلات التي تصيب القلب بين هذه الصلوات - وتجعله قاسياً لكن يجب العلم أن هذه الصلوات علاج للغفلة وتمنع قسوة القلب إذا أُدّيت بانتباه وحضور قلب, ثم إنها في هذه الحال علاج للغفلة فقط, أما إذا تلوث الإنسان بين أوقات الصلوات هذه فإن الصلاة وحدها لا تخلصه من الذنب بل لا بد من تطهير نفسه من ذلك الذنب بالتوبة ليعالج بذلك تلوث قلبه... إذن ينبغي من أجل عدم التلوث وعدم القسوة أن يبقى الإنسان دائم الذكر وإذا كان في ساعة غافلاً فليكن في الساعة الأخرى ذاكراً.
ذكر الله على كل حال:
ومن أجل دوام الذكر يشار هنا إلى بعض التفاصيل: إذا جلس الإنسان وحيداً فليتذكر أن الله حاضرٌ معه, ليتذكر من خلقه من حفنة تراب, وهو الآن جالس على بساطه ( الأرض ), وإذا مشى فليتنبه أنه يمشي على بساط الله بقدرة الله التي أعطاه إياها. إذا تكلم مع أحد فليتنبه أنه يتكلم باللسان المخلوق لله وبقدرة الله يعبر عما في باطنه ويظهره, وليعلم أنه إذا كان مع شخص آخر فإن الله ثالثهما وإذا كان مع أربعة فإن الله خامسهم وهكذا[42] وليكن حديثه بدلاً عن مدح نفسه أو مخلوق آخر حول آيات الله وشواهد حكمته وبدلاً من شكوى عدم الوصول إلى بعض مآربه النفسانية ليكن حديثه حول نعم الله - التي لا تحصى - عليه وعلى الخلق[43] وإن كان في بيته مع الزوجة والولد
فلينتبه إلى أنهم جميعاً مخلوقون لله وأنهم نعمة عليه من الله ووسيلة لأنسه وصاحب ومعين... وإذا خرج من بيته في طلب الرزق وتحصيل المعاش فلينتبه أنه يسعى بقدرة الله وإمداده وامتثالاً لأمره للحصول على الرزق الذي قدره له, وإذا جلس إلى مائدة الطعام فليتنبه إلى الأطعمة والأشربة وكيفية خلقها وخواصها ومنافعها والتذاذ الإنسان بها, ثم إلى كيفية هضمها وتحولها إلى أجزاء من البدن وتقويتها له وليتذكر أنها كلها من الله الحكيم, وكل وقت يمر عليه وهو غافل فليجدد فوراً انتباه قلبه وتذكره بواسطة الذكر اللساني, أي يستغفر من غفلته التي مرت ويشكر نعمته أنه تنبه لذلك[44] مثلاً: إذا غفل عن الطعام وانتبه عندما أشرف على الإنتهاء منه فليقل: الحمد لله من أوله إلى آخره في الخبر أن الإمام الكاظم عليه السلام كان يسجد لله عند كل نعمة يذكرها وقال الإمام السجاد عليه السلام: ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة واجعلني ممن يديم ذكرك ولا ينقض عهدك ولا يغفل عن شكرك[45].
8 - 9 - اجتنب خمساً... وثلاثاً:
عن النبي صلى الله عليه وآله: خمس تقسي القلوب قيل وما هي يا رسول الله قال: ترادف الذنب على الذنب ومجاراة الأحمق وكثرة مناقشة النساء وطول ملازمة المنزل على سبيل الإنفراد والوحدة والجلوس مع الموتى قيل وما الموتى قال كل عبد مترف فهو ميت وكل من لا يعمل لآخرته فهو ميت[46].
" أحي قلبك ألا تعرف من هو الميت إنه من لا شغل له بالله[47] ".
وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام:
ثلاثة يقسين القلب استماع اللهو وطلب الصيد وإتيان باب السلطان[48].
10 - حب الراحة:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث تورث القسوة حب النوم وحب الراحة وحب الأكل[49].
11 - النظر إلى البخيل:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: النظر إلى البخيل يقسي القلب.
12 - الجزارة ( القصابة ):
قال الإمام الصادق عليه السلام: إن الجزار تسلب منه الرحمة.
ما لم تصل القسوة إلى الحرمة فهي مكروهة:
من الجدير بالذكر أن ما ذكر من أسباب القسوة, أكثره مكروهات وليس عليها عذاب أخروي إلا أن تتسبب بدرجة شديدة من القسوة.
توضيح ذلك هو أن لقسوة القلب مراتب وأنواع إلى أن تصل إلى مرتبتها الشديدة أي يصبح القلب قاسياً إلى حد أنه لا يقبل الإيمان بالله ويوم الجزاء ولا يخشع وتصبح الحجب المظلمة بحيث تغطي القلب فلا يرى الحق ولا تؤثر فيه أية موعظة ولا تهزه أكثر المناظر رقة وإثارة ولا تنبعث في قلبه الرحمة... ولهذه المرتبة الشديدة أيضاً مراتب إلى أن يصل القلب إلى مرحلة قلوب جنود
يزيد, الذي لم ترق قلوبهم حتى لمنظر طفل عطشان في شهره السادس وهو يضطرب على يدي أبيه, ولم تؤثر في قلوبهم كل تلك المواعظ النارية لسيد الشهداء عليه السلام ولأصحابه, وعندما هاجموا المدينة وأباحها لهم يزيد تناولوا طفلاً من مهده وضربوا به الحائط.
وكذلك مثل قسوة ابن زياد والحجاج وكثير من رؤساء بني أمية لعنهم الله.
والخلاصة: إن الأمور المذكورة وإن كانت تورث درجة من القسوة وسقوط ستار مظلم على القلب, إلا أنها ما دامت لم تورث المرتبة الشديدة فهي ليست حراماً ولا عقاب عليها وبمجرد أن تصبح مورثة لتلك المرتبة الشديدة المذكورة تصبح حراماً ويصبح تركها واجباً وكذلك فإن كل شخص ابتلي بالمرتبة الشديدة للقسوة يصبح علاجها واجباً عليه عقلاً وشرعاً بالتفصيل الذي يذكر.
بناءاً عليه من كان يحمل همّ الدين ويدرك أن كل سعادته في رقة القلب والإيمان والخشوع لله ويوم الجزاء وتأمين حياته الأبدية في جوار الله وأوليائه أي سيدنا محمد وآل محمد عليهم السلام فإن عليه أن يجتنب بمقدار استطاعته الأمور المذكورة ليحافظ على رقة قلبه وصفائه لأنه إذا تساهل الشخص وقال:
إن هذه ليست حراماً ولم يتورع عن ارتكابها تضعف رقة قلبه تدريجياً ويقسو ويظلم شيئاً فشيئاً إلى أن يبتلى - نعوذ بالله - بدرجة الشقاء والقسوة الشديدة التي ذكرت ويصبح علاجها في غاية الصعوبة, خاصة إذا تجاوز عمره الأربعين, وإذا فاجأه الموت على هذه الحالة ومات على غير إيمان فليس له أي أمل بالنجاة.
توضيح ذلك: إن الإنسان منذ بلوغه حد الإدراك والشعور تبدأ قواه النفسية وحالاته الباطنية - كقواه البدنية - تشتد وتنمو وتتكامل ويستمر ذلك إلى
حدود الأربعين بحيث أن التغيير فيها بعد الأربعين يكون في غاية الصعوبة كالشجرة, حين تكون غرسة ليس لها جذع صلب يمكن تقويم اعوجاجها بيسر, فإذا نمت معوجة واشتد جذعها وتصلب فإن الصعوبة في تقويمها واضحة ومن هنا يقول الإمام الصادق عليه السلام: إن العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة، فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عز وجل إلى ملكيه أني قد عمرت عبدي عمراً ( أي بمقدار ما يبلغ الكمال ) فغلِّظا وشددا وتحفظا عليه واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره[50].
قال السيد نعمة الله الجزائري لعل المراد من هذا التشديد أن العبد إذا أذنب قبل الأربعين يمهل سبع ساعات فإن لم يتب كتبت له سيئة, ولكنه بعد الأربعين لا يمهل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أبناء الأربعين زرع قد دنى حصاده. وروي: إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب مسح إبليس وجهه وقال: بأبي وجه لا يفلح[51].
وفي البحار نقلاً عن الخصال[52] والأمالي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت.
في هذا الحديث - كما تلاحظ - سيسأل عن نعمة الشباب, فاعرف قدر شبابك أيها الشاب العزيز وكما أنت حريص على حفظ عافيتك وسلامتك ولا تغفل عنه وتجتنب كثيراً من الأمور لأجله, يجب أن تكون كذلك حريصاً جداً في حفظ سلامة نفسك ولا تتساهل في مرض القسوة وسائر الأمراض التي تم التذكير بها في هذا الكتاب. ولا تقصر في ذلك واعلم أن علاجها بعد الشباب في غاية الصعوبة كما تقدم.
ومن الجدير بالذكر أن من أمضى شبابه بالغفلة, وتراكمت أمراضه النفسية حتى بلغ الأربعين يجب أن لا ييأس من العلاج وأن لا يتخلى عن محاولة العلاج أولاً: لأن علاج الأمراض النفسية بعد الأربعين رغم صعوبته وشدته إلا أنه ليس مستحيلاً, وثانياً: إن كل صعوبة وشدة هي بالنسبة إلى قدرة الله سهلة وهينة, فإذا التجأ العبد مضطراً إلى ربه وبثه شكواه وآلامه وطلب منه دواءها وكان في هذا الطلب جاداً وصادقاً وثابتاً فلا شك أن الله الكريم لن يحرمه.
" لم يأت هذا الباب معتذر ولم يغسل سيل الندامة ذنبه ".
علاج القسوة:
مما تقدم تعلم جيداً خطورة ذنب القسوة وصعوبة مرض غلظة القلب ووجوب السعي في علاجه, ويعلم أيضاً أن على كل إنسان عاقل أن تكون له وقفة مع قلبه, فإذا وجد فيه شيئاً من هذا المرض والإنحراف عن الفطرة الأولية عمل على علاجه فوراً بالطريقة التالية:
يسعى أولاً إلى ترك الأمور الإثني عشر التي مرّ ذكرها من الروايات ثم يعمل بما ورد في الروايات لعلاج القسوة.
أما بالنسبة لترك الأمور المذكورة فإنه إذا انتبه إلى آثارها السيئة
و... الآثار الحسنة لتركها فسيكون قادراً - إذا حاول بجد - أن يتركها بسهولة, إلا حجاب الآمال والأماني النفسانية فإن النجاة منه صعبة جداً, لأن صاحب هذا الحجاب شغلت الرغبات المادية والأمنيات النفسية قلبه منذ أن بدأ يشعر, وقد بذل كل جهده وهمه وسعيه للوصول إليها, ويوماً بعد يوم كان تعدادها يزداد, فكيف يمكنه الآن أن يفصلها عن قلبه لتستقر فيه بدلاً منها الرغبات الروحية وأمنيات الآخرة؟
لسنوات طوال ظلّ ولا أمنية له إلا تأمين الحياة المادية وتحصيل العيش واللذة الدنيويين والثراء والمنزلة والمقام على وجه الأرض فكيف يمكن استبدال ذلك بسهولة بحيث يصبح ولا أمنية له إلا تأمين الحياة الخالدة والثراء المعنوي والمقامات الروحية وعيش الآخرة[53] والطريق الوحيد للخلاص والنجاة من شر الآمال كثرة التفكير في فناء الدنيا وزوالها أي فناء الحياة المادية بحيث يصبح الإنسان بمجرد أن يقع بصره على شيء يلتفت إلى فنائه وزواله فوراً, وأيضاً يصبح يرى موته أقرب من كل شيء إلى الحد الذي بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: " والذي نفس محمد بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعت طرفي وظننت أني خافضه حتى أقبض، ولا تلقمت إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغصُّ بها من الموت...[54] "
وفي الوافي أن الإمام الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الموت الموت ( أي احذروه أو تذكروه ) ألا ولا بدّ من الموت، جاء الموت بما فيه جاء بالروح والراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم وجاء الموت بما فيه بالشقوة والندامة وبالكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم " وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا استحقت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العين وذهب الأمل وراء الظهر وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العين وذهب الأجل وراء الظهر ( أي لا يرى الموت ولا يذكره وليس له طلب إلا الوصول إلى مشتهياته النفسية والأمور التي ترتبط بالحياة الدنيا ) قال وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله: أي المؤمنين أكيس فقال: أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم له استعداداً[55].
مع كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر:
كتب الطبيب الروحاني والهادي الإنساني أمير المؤمنين علي عليه السلام في رسالة طويلة إلى محمد بن أبي بكر عندما كان والياً على مصر ليقرأه على أهل مصر:
احذروا يا عباد الله الموت وسكرته وأعدوا له عدته فإنه يفجأكم بأمر عظيم بخير لا يكون معه شرٌّ أبداً وشر لا يكون معه خير أبداً, إلى أن يقول: فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات, وكفى بالموت واعظاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات حائل بينكم وبين الشهوات, يا عباد الله ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت، القبر, فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته. إن
القبر يقول كل يوم أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب, أنا بيت الوحشة، والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار[56].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: " ذكر الموت يميت الشهوات, ويقطع منابت الغفلة ويقوي القلب بمواعد الله, ويرق الطبع...[57] ".
وإذا رجعت عزيزي القاريء إلى خطب أمير المؤمنين عليه السلام وكتبه في نهج البلاغة وغيره تدرك أنه أوصى في أكثرها بذكر الموت وعقبات عالم ما بعد الموت والتفكير في فناء الدنيا, وإذا أريد استقصاء آيات القرآن المجيد وروايات المعصومين عليهم السلام في هذا الموضوع فذلك في حدّ ذاته يبلغ كتاباً مستقلاً وكبيراً, لذا يصرف النظر عن نقلها ويكتفي فقط بالدعاء الأربعين من الصحيفة السجادية على أمل أن يكرر القاريء العزيز قراءته ويدقق في معناه ويدرك طريق سعادته ومسلكها ليبقى مصوناً من مرض القسوة.
وكان من دعائه عليه السلام إذا نعي إليه ميت أو ذكر الموت:
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد واكفنا طول الأمل وقصره عنا بصدق العمل، حتى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة، ولا استيفاء يوم بعد يوم، ولا اتصال نفس بنفس، ولا لحوق قدم بقدم وسلمنا من غروره، وآمنا من شروره, وانصب الموت بين أيدينا نصباً، ولا تجعل ذكرنا له غباً, واجعل لنا من صالح الأعمال عملاً نستبطيء معه المصير إليك، ونحرص له على وشك اللحاق بك، حتى يكون الموت مأنسنا الذي نأنس به، ومألفنا الذي نشتاق إليه، وحامتنا[58] التي نحب الدنوّ منها، فإذا أوردته علينا وأنزلته بنا فأسعدنا به
زائراً وآنسنا به قادماً، ولا تشقنا بضيافته, ولا تخزنا بزيارته، واجعله باباً من أبواب مغفرتك، ومفتاحاً من مفاتيح رحمتك, أمتنا مهتدين غير ضالين، طائعين غير مستكرهين، تائبين غير عاصين ولا مصرين، يا ضامن جزاء المحسنين، ومستصلح عمل المفسدين.
***
استعملوا دواء مرضكم:
من الجدير بالذكر كما أن الشخص المريض يتحمل منّة طبيب الجسد ويأخذ منه الوصفة الطبية, ويشرب ذلك الدواء المر المزعج بسرعة, بل وهو على استعداد للخضوع لعملية جراحية وقطع عضو من بدنه ويتحمل كل الآلام الناتجة عن ذلك للحصول على السلامة. فكذلك ينبغي أن يتحمل الإنسان العاقل منّة عظماء الدين ويتقبل دواء ذكر الموت وفناء الدنيا الذي علموه ويستعمل هذا الدواء, بالرغم من أن دواء ذكر الموت مر وثقيل على النفس, والإنسان يهرب منه ما استطاع إلى حد أنه يشغل نفسه بأنواع الملهيات ويختلق الكثير منها حتى لا يتذكر الموت, ولكن حيث أن سلامة نفسه وقلبه وسعادته مرتبطان بذلك فيجب استعمال ذلك الدواء وإذا قالت النفس بإغواء من الشيطان: " بناءاً على هذا يجب أن يكون الإنسان دائماً منتظراً لملك الموت وينصرف عن العمل والكسب, ولا يستفيد أبداً من نعم الدنيا ومفرحاتها, وفقط يجلس في زاوية ينتظر أن الموت سينزل به الآن أو في لحظة أخرى وهذا المسلك خلاف العقل والشرع " إذا قالت النفس ذلك فنقول في الجواب, حاشا وكلا أن يكون ذلك حال المؤمن بالله والقرآن ومحمد وآل محمد عليهم السلام وبيوم الجزاء بل إنه رغم كون الموت وفناء الدنيا دائماً نصب عينه يمضي في عمله وكسبه وطلب معاشه هو وعائلته, ولا يهدر لحظة واحدة من عمره بالبطالة إلا أن كل تحركه وفعاليته ينطلق من إطاعة أمر مولاه لا
من رغباته وميوله وحب الوصول إلى الأماني النفسية, كما يفعل من يعتقد أن الدنيا مقره ولم يخلق لحياة أخرى, وأيضاً يستثمر نعم هذا العالم ولذائذه لكن مع الإلتفات إلى أن هذه جميعها نماذج عن أصل النعمة وكمال اللذة التي أعدها الله الكريم لأهل الإيمان في عالم ما بعد الموت[59].
جواب الإمام الباقر لابن المنكدر:
يقول محمد بن المنكدر: " ... خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متكٍ على غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنه, فدنوت منه فسلمت عليه فسلم علي ببُهر[60] وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله, شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا, لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال، قال: فخلّى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني[61] ".
إن أسامة لطويل الأمل:
روي أن أسامة بن زيد اشترى جارية بمائة دينار, على أن يدفع ثمنها بعد شهر, وعندما علم رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك قال: " ألا تعجبون
من أسامة المشتري إلى شهر, إن أسامة لطويل الأمل....[62] ".
أي أن الإنسان العاقل لا ينبغي أن يطمئن إلى أنه سيكون حتماً بعد شهر في الدنيا, وسيدفع هذا المبلغ, وعليه فليجتنب مهما أمكن المعاملة أو الموعد إذا استتبعا مدة طويلة, وإذا أراد أن ينجز شيئاً من هذا فليحتمل حلول الموت قبل ذلك, وليعين طريقة أداء دينه - إذا مات - ولا ينسى أن يوصي به.
وقد روي أنه بلغ أمير المؤمنين علياً عليه السلام عصر ذات يوم وصول مبلغ من المال لبيت مال المسلمين فأمر بتقسيمه بين المسلمين, وعندما طلب منه تأجيل ذلك إلى اليوم التالي قال: أتضمنون بقائي حياً إلى غد؟ قالوا: يا أمير المؤمنين الأمر بيد الله, قال إذن قسموه الآن...[63] ".
كيف يتحقق الحياء من الله:
عن أبي ذر رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر أتحب أن تدخل الجنة قلت نعم فداك أبي وأمي قال فاقصر من الأمل واجعل الموت نصب عينيك واستح من الله حق الحياء قال: قلت: يا رسول الله كلنا نستحي من الله قال: ليس كذلك الحياء ولكن الحياء أن لا تنسى المقابر والبلى والجوف وما وعى ( أي تحفظ البطن والفرج من الحرام والشبهة ) والرأس وما حوى ( أي تحفظ عينك وأذنك ولسانك وخيالك من المعصية وتستعمل ذلك في الطاعة ) فمن أراد كرامة الآخرة فليدع زينة الدنيا فإذا كنت كذلك أصبت ولاية الله[64].
مواعظ:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا أبا ذر لو نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره, يا أبا ذر كن كأنك في الدنيا غريب أو كعابر سبيل, وعد نفسك من أصحاب القبور, يا أبا ذر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك[65] ".
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أن النبي داوود عليه السلام عندما صدر منه " ترك الأولى "[66] " ... بقي أربعين يوماً ساجداً يبكي ليله ونهاره، ولا يقوم إلا وقت الصلاة حتى انخرق جبينه وسال الدم من عينيه, فلما كان بعد أربعين يوماً نودي: يا داوود ما لك أجائع أنت فنشبعك، أظمآن فنسقيك، أم عريان فنكسوك، أم خائف فنؤمنك؟ فقال: يا رب كيف لا أخاف وقد عملت ما عملت, وأنت الحكم العدل الذي لا يجوزك ظلم ظالم فأوحى الله عز وجل إليه تب يا داوود ( ...... ) فخرج داوود يمشي على قدميه ويقرأ الزبور, وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى حجر ولا شجر ولا جبل ولا طائر ولا سبع إلا يجاوبه, حتى انتهى إلى جبل وعليه نبي عابد يقال له حزقيل, فلما سمع دوي الجبال, وصوت السباع, علم أنه داوود ( ... ) فقال داوود: يا حزقيل أتأذن لي أن أصعد إليك قال: لا فإنك مذنب ( ... ) فأوحى الله عز وجل إلى حزقيل: لا تعيّر داوود بخطيئته وسلني العافية ( فإن من وكلته إلى نفسه يخطيء ) فنزل حزقيل وأخذ بيد داوود وأصعده إليه فقال له داوود: يا حزقيل
هل هممت بخطيئة قط؟ قال: لا قال: فهل دخلك العجب مما أنت فيه من عبادة الله عز وجل؟ قال: لا قال: فهل ركنت إلى الدنيا فأحببت أن تأخذ من شهواتها ولذاتها؟ قال: بلى ربما عرض ذلك بقلبي. قال فما تصنع؟ قال: أدخل هذا الشعب[67] فأعتبر بما فيه، قال: فدخل داوود عليه السلام الشعب فإذا بسرير من حديد عليه جمجمة بالية، وعظام نخرة، وإذا لوح من حديد وفيه مكتوب، فقرأه داوود فإذا فيه: أنا أروى بن سلم ملكت ألف سنة وبنيت ألف مدينة وافتضضت ألف جارية، وكان آخر أمري أن صار التراب فراشي والحجارة وسادي، و الحيات والديدان جيراني، فمن يراني فلا يغتر بالدنيا[68] ".
الهدف من نقل هذا الحديث أن يتنبه الإنسان العاقل عند هيجان الشهوة والأهواء النفسية ويتحكم بها بواسطة تذكر الموت.
تقرير عن النار:
أورد في منازل الآخرة[69] بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله ( الصادق ) عليه السلام, قال: قلت له يا بن رسول الله خوفني فإن قلبي قسى, فقال: يا أبا محمد استعد للحياة الطويلة فإن جبرئيل جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو قاطب ( أي عابس ) وقد كان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل جئتني اليوم قاطباً, فقال: يا محمد قد وضعت منافخ النار, فقال وما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمد إن الله عز وجل أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى احمرت ثم نفخ عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة, لو أن
قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها ولو أن حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرها, ولو أن سربالاً من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهل الدنيا من ريحه, قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وبكى جبرئيل فبعث الله إليهما ملكاً فقال لهما: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول: قد أمنتكما أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه, فقال أبو عبد الله عليه السلام: فما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله جبرئيل مبتسماً بعد ذلك, ثم قال: إن أهل النار يعظمون النار وإن أهل الجنة يعظمون الجنة والنعيم، وإن جهنم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد وأعيدوا في دركها فهذه حالهم، وهو قول الله عز وجل : " كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " ثم تبدل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم. قال أبو عبد الله عليه السلام: حسبك؟ قلت: حسبي، حسبي[70].
والهدف من نقل هذا الحديث أن يراقب القاريء العزيز قلبه, فإذا لاحظ فيه قسوة رجع إلى الطبيب الروحاني وحيث أن هذا العصر عصر الغيبة الكبرى وصاحب الزمان غائب عن الأنظار ولا سبيل للوصول إليه ثم إن المؤمن الكامل الذي يستطيع تشخيص مرض القلب ويحدد الدواء هو كالكبريت الأحمر, إذن يجب الرجوع إلى القرآن المجيد وكلمات أهل بيت الوحي عليهم السلام, وهي بحمد الله في متناول الجميع, فيجب الرجوع إليها وطلب شفاء القلب منها.
بعض ما يلين القلب:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أنكر منكم قساوة قلبه فليدن يتيماً
فيلاطفه, وليمسح رأسه يلين قلبه بإذن الله عز وجل فإن لليتيم حقاً.
وروي أنه قال: يقعده على خوانه ( أي مائدته ) ويمسح رأسه يلين قلبه[71].
وفي مشكاة الأنوار للطبرسي أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قساوة قلبه, فقال " إذا أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم[72] ".
وفي مكارم الأخلاق عن النبي صلى الله عليه وآله: شكى نبي من الأنبياء إلى الله عز وجل قساوة قلوب قومه فأوحى الله إليه وهو في مصلاه أن مُر قومك أن يأكلوا العدس، فإنه يرق القلب ويدمع العين. والأخبار في هذا المعنى كثيرة ويظهر أن المراد بالعدس ( ... ) الحمص, والله العالم[73].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " من أحب أن يرق قلبه فليدمن من أكل البلس يعني التين[74] ".
وفي الروايات مدح كثير لأكل خبز الشعير والخل والعنب الأسود والزيتون والرمان وأن أكلها يورث نورانية القلب وفيها كذلك ذم الإكثار من أكل اللحم ولمزيد الإطلاع يراجع كتاب الأطعمة والأشربة من وسائل الشيعة.
وعن الإمام الباقر عليه السلام في وصيته لجابر الجعفي: " وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات[75] ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: " بياض القلب في أربع خصال: في عيادة المريض, واتباع الجنائز, وشراء أكفان الموتى ودفع القرض[76] ".
وفي الختام يتم التذكير بمثل مثله بعض الحكماء ليتأمل القاريء العزيز فيه جيداً ويبقى في ذهنه...
قال بلوهر: بلغنا أن رجلاً حمل عليه فيل مغتلم[77] فانطلق مولياً هارباً, وأتبعه الفيل حتى غشيه فاضطره إلى بئر فتدلى فيها وتعلق بغصنين نابتين على شفير البئر ووقعت قدماه على رؤوس حيات، فلما تبين له الغصنان فإذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين، أحدهما أبيض والآخر أسود، فلما نظر إلى تحت قدميه، فإذا رؤوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن فلما نظر إلى قعر البئر إذا بتنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه، فلما رفع رأسه إلى أعلا الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل فذاق ذلك العسل فألهته لذة طعمه عن كل شيء...
أما البئر فالدنيا مملوءة آفات وبلايا وشرور, وأما الغصنان فالعمر وأما الجرذان فالليل والنهار يسرعان في الأجل وأما الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة[78] التي هي السموم القاتلة من المرة والبلغم والريح والدم التي لا يدري صاحبها متى تهيج به وأما التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب وأما العسل الذي اغتر به المغرور فما ينال الناس من لذة الدنيا وشهواتها ونعيمها ودعتها من لذة المطعم والمشرب والشم واللمس والسمع
والبصر[79].
ذو القرنين والأمة العادلة:
جاء في بعض الآثار أن ذا القرنين بعد فتح المدن في الشرق والغرب انطلق أيضاً في المدن.. " فبينا هو يسير إذ وقع إلى الأمة العالمة الذين منهم قوم موسى الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة ( أي عادلة ) يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل ويتواسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلمتهم واحدة، وقلوبهم مؤتلفة، وطريقتهم مستقيمة، وسيرتهم جميلة، وقبور موتاهم في أفنيتهم وعلى أبواب دورهم، ليس لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة, وليس فيهم أغنياء, ولا ملوك ولا أشراف, ولا يتفاوتون ولا يتفاضلون، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يستبون ولا يقتتلون، ولا تصيبهم الآفات، فلما رأى ذلك من أمرهم مليء منهم عجباً فقال لهم: أيها القوم أخبروني خبركم، فإني قد درت في الأرض شرقها وغربها وبرها وبحرها, وسهلها وجبلها, ونورها وظلمتها, فلم أر مثلكم فأخبروني ما بال قبوركم على أبواب أفنيتكم؟ قالوا فعلنا ذلك عمداً لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا، قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا ليس فينا لص ولا خائن وليس فينا إلا أمين، قال فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا إنا لا نتظالم، قال : فما بالكم ليس عليكم حكام؟ ( قضاة ) قالوا: إنا لا نختصم قال فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لأنا لا نتكاثر، قال فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا: لأنا لا نتنافس، قال فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قبل أنّا ( أي لأنا ) متواسون, متراحمون، قال: فما بالكم لا تنازعون ولا تختصمون؟ قالوا: من قبل إلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا, قال: فما بالكم لا
تستبّون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم، وسنَنَّا أنفسنا بالحلم، قال فما بالكم كلمتكم واحدة, وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً قال فأخبروني لم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بالسوية قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا: من قبل الذل والتواضع، قال: فلم جعلكم الله أطول الناس أعماراً؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل، قال فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: من قبل أنا لا نغفل عن الاستغفار قال فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا من قبل أنا وطّنا أنفسنا على البلاء وحرصنا عليه فعزينا أنفسنا، قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل أنا لا نتوكل على غير الله، ولا نستمطر بالأنواء والنجوم....[80] ".
والهدف من نقل هذه القصة أن هؤلاء القوم السعداء كيف جعلوا قبور موتاهم على أبوابهم بيوتهم كي لا يغفلوا عن ذكر موتاهم عند الخروج من البيوت وعند الدخول إليها وبذلك تلين قلوبهم وتقل آمالهم ويوفقون لكل خير.
إنه ترابي وترابك هذا الذي يأخذه ريح الشمال يميناً وشمالاً[81].
ما لك في الخيمة مستلقياً قد نهض القوم وشدوا الرحال
وانقضى العمر حسرات فلا تصرفن باقيه على المحال.
وقد وعر المسلك يا ذا الفتن أفلح من هيأ زاد المآل
كفى ففي حضن اللحد يمر علي وعليك اليوم والليلة والشهر والسنة.
لا تك تغتر بمعمورة يعقبها الهدم أو الإنتقال
لو كان الإنسان كأس جم[82] فإن حجر الأجل يكسره كالفخار
لو كشف التربة عن بدرهم لم ترَ إلا كدقيق الهلال
كفى... فالممزق في هذا التراب وجوه الجيدين البديعة الجمال.
اندرس الرسم بطول الزمان وانتخر العظم بطول الليال
يا من أظلم باطنك بالذنب أخشى عليك أن لا تقبل المرآة الصقال ( الصقل ).
ما لك تعصي ومنادي القبول من قبل الحق ينادي تعال
" يا ذا القلب الحي ألا تعلم من هو الميت ذلك الذي ليس له بالله اشتغال ".
عزّ كريم أحد لا يزول جل قديم صمد لا يزال
وفي نهاية بحث القسوة, وبهدف تتميم البحث يتم التذكير باختصار بسائر الأمور التي عدت في الروايات من أسباب القسوة:
1 - هم الدنيا:
المبتلى بتجرع الغصص والحزين لأنه بدل أن يصل إلى آماله الدنيوية يواجه الصعوبات والمشاكل - إذا استقر هذا الحزن في قلبه وثبت فإنه يبتلى
بقسوة القلب يقول أمير المؤمنين عليه السلام: تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم فإنه من كانت الدنيا همّه قسى قلبه وكان فقره بين عينيه[83].
2 - كثرة هم القوت:
كثرة تجرع الغصة للرزق, كثرة الحزن على وسائل الحياة الدنيوية تورث القسوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام:
قال الصادق عليه السلام: " من اهتم لرزقه كتب عليه خطيئة[84] ". لأن غصته لذلك شاهد عدم قبوله الوعد الإلهي بإيصال الرزق إلى جميع المخلوقين.
3 - خفق النعال:
من كان له أتباع, وهو يسير أمامهم ويرضى باتباعهم له, سيبتلى بقسوة القلب, قال أمير المؤمنين عليه السلام: " ما أرى شيئاً أضر بقلوب الرجال من خفق النعال[85] " وقال الصادق عليه السلام: " فوالله ما خفقت النعال خلف الرجل إلا هلك وأهلك[86] ".
4 - الضحك:
كثرة الضحك تورث القسوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر, وفي حديث آخر أنها تميت القلب, وفي حديث آخر أنها تمحو الإيمان, وقال الإمام الباقر عليه السلام: إذا قهقهت فقل حين تفرغ: اللهم لا
تمقتني[87].
5 - إهالة التراب في قبر الرحم:
روي في الكافي والتهذيب عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله: أنهاكم أن تطرحوا التراب على ذوي أرحامكم فإن ذلك يورث القسوة في القلب ومن قسى قلبه بعد عن ربه[88].
6 - ترك مجالسة العلماء:
من ترك مجالس العالم الرباني التي تذكر رؤيته بالله والآخرة, ويزيد كلامه في إيمان جليسه وعمله, وترغب أفعاله بالعمل الصالح, فسيبتلى قهراً بالجهل والغفلة وذلك يقسي القلب, ويجعله مورداً للخذلان الإلهي[89] قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتى على المؤمن أربعون صباحاً, ولم يجالس العلماء قسى قلبه وجرؤ على الكبائر[90].
ولعلاج القسوة تأمل في هذه القصص القصيرة:
1 - يعظ نفسه بالمرض والموت...
جاء في سيرة أحد أهل المراقبة أنه كان يذهب كل يوم - وقبل الذهاب إلى
عمله - إلى ثلاثة أماكن:
الأول: يعود مريضاً أو يذهب إلى المستشفى ويخاطب نفسه: اسعي أن تعملي عمل خير قبل أن تصبحي مثل هذا المريض أسيرة سرير المرض ولا يعود باستطاعتك فعل شيء.
الثاني: كان يذهب إلى المقبرة أو يشترك في تشييع جنازة أو يزور قبر مؤمن ويقول لنفسه: ما دمت قادرة فافعلي شيئاً قبل العجز عن أي عمل.
الثالث: كان يذهب إلى مكان جمع فيه بعض الجناة والخونة أو سجنوا ويقول لنفسه: لو أن الله لم يمن عليك بعفة النفس ولم تتركي بتأييده الذنب كنت ابتليت بمثل هذا.
2 - بنار الدنيا يتذكر جهنم:
جاء في سيرة المرحوم الشيخ مهدي المازندراني أنه كان إذا أحس في نفسه بقسوة قلب, اصطحب ابنه وخادمه إلى صحراء ليس فيها أحد فيجمعون حطباً كثيراً وأشواكاً, ثم يشعلونها, ويقول لابنه: يجب أن لا تراعي حق الأبوة أبداً بل تمسك بنصف لحيتي ويمسك الخادم بنصفها الآخر وتسحباني نحو هذه النار كمجرم يستحق الإلقاء فيها, وتوصلاني إلى حيث تصلني حرارتها وأتذكر موقف الحساب في القيامة وطرد المذنبين وسحبهم إلى جهنم, ويعلمهما ما ينبغي أن يقولا له ومنه: هذه النار التي أشعلتها أنت بيدك.
3 - التمرين على القبر:
جاء في سيرة الربيع بن خيثم وغيره أنه حفر في بيته قبراً, وكان إذا أحس في نفسه قسوة نام فيه مردداً " ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما
تركت... ثم يبكي ويقول: يا ربيع ما لم يقل لك " كلا[91] " فانهض واستعد للآخرة[92] ".
4 - يا نفس ذوقي:
في أمالي الصدوق: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثم جعل يتمرغ في الرمضاء يكوي ظهره مرة, وبطنه مرة، وجبهته مرة، ويقول: يا نفس ذوقي فما عند الله عز وجل أعظم مما صنعت بك ورسول الله ينظر إلى ما يصنع, ثم إن الرجل لبس ثيابه ثم أقبل فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وآله بيده ودعاه فقال له: يا عبد الله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه فما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل حملني على ذلك مخافة الله عز وجل وقلت لنفسي: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم مما صنعت بك فقال النبي صلى الله عليه وآله: لقد خفت ربك حق مخافته فإن ربك ليباهي بك أهل السماء, ثم قال لأصحابه: يا معشر من حضر ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم فدنوا منه فدعا لهم وقال لهم: اللهم اجمع أمرنا على الهدى واجعل التقوى زادنا والجنة مآبنا[93].
***
2 و 3 الرياء والسمعة
من جملة الأمراض النفسية والذنوب القلبية الرياء, والتوبة منه وتطهير القلب من تلوثه واجب, وما لم يسلم القلب الإنساني من هذا المرض لا سبيل له إلى دار السلام ( الجنة )... إذن تجب معرفة معنى الرياء وحقيقته وطريقة علاجه.
في بحث الشرك من كتاب " الذنوب الكبيرة " ذكر معنى الرياء وحرمة العمل الواقع رياءاً وكون ذلك من الكبائر وسبباً لبطلان العمل, ويضاف هنا أن الرياء في حد ذاته وبقطع النظر عن العمل الصادر عنه هو مرض نفسي وذنب قلبي, ولأن الرياء القلبي حرام فإن العمل الريائي كذلك حرام, وبعبارة ثانية سبب حرمة العمل الريائي هو حرمة الرياء القلبي.
ولذلك يجب إيضاح حقيقة الرياء ثم إيضاح كونه مرضاً قلبياً وحرمته.
حقيقة الرياء:
إذا كان القصد الباطني لشخص هو أن يحصل بواسطة أداء عبادة من الواجبات أو المستحبات البدنية أو المالية, كالصلاة الصوم, الحج, الزكاة, الخمس, الإنفاق المستحب - على وجاهة واعتبار لدى الناس ليعتقد الناس أنه
سليم ومتدين, ويكون ذلك طريقة إلى مقاصده الدنيوية المشؤومة من زيادة الثروة, والمقام, والمنصب, فإن قصده وميله القلبي هذا رياء.
ورغم أن هذا المثال كافٍ لإيضاح الرياء, فنظراً لأن معرفته ضرورية جداً, تذكر عدة أمثلة لمزيد من الإيضاح: من كان هدفه الباطني الثروة والمنصب والرئاسة والشهوات الدنيوية... وهو يرى أن أداء العبادات وأعمال الخير في العلن وسيلة للوصول إلى أمنياته, هذا الشخص مبتلى بالرياء القلبي, وكل عبادة يؤديها فحيث أن المحرك والداعي لها هو ذلك الهدف النفساني فتلك العبادة عمل حرام وباطل وإن قال بلسانه أو أخطر في ذهنه أنه يأتي بها " قربة إلا الله ".
ابن زياد والحجاج أيضاً كان يصليان:
مثلاً ابن زياد الملعون الذي لم يكن له هدف غير الشهوة والرئاسة والتقرب إلى يزيد للوصول إلى أهدافه إلى حد أنه ارتكب أكبر جناية أي قتل ابن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأسر ذريته, ابن زياد هذا كان يؤم المصلين في هذا المسجد الجامع في الكوفة, ويوم الجمعة يصعد المنبر ويعظ الناس ويصلي صلاة الجمعة.
ولا شك في أن أعماله هذه كانت بهدف إظهار أنه مسلم وتثبيت حكمه على المسلمين... وأسوأ منه الحجاج الملعون الذي كان أيضاً يصلي في هذا المسجد ويلقي أيام الجمع خطباً نارية ويخوف الناس من العذاب الإلهي في حين كان في سجنه ثلاثون ألف بريئاً يواجهون أسوأ أساليب التنكيل وكان ذنب أكثرهم حب علي بن أبي طالب عليه السلام.
مثل هذا الملعون الذي كان يقول: لا لذة لدي تشبه لذة قتل إنسان أمامي وتخبطه بدمه, كانت أعماله الظاهرية رياءاً قلبياً, وكل عبادته لم تكن إلا مراءاة وإن قال بلسانه " قربة إلى الله " فهو في الحقيقة يريد أن يتقرب
إلى تلك الأهواء النفسية والآمال الشيطانية.
حب الشهرة سبب الرياء:
وكذلك من كان هدفه الباطني الشهرة, أي يريد أن يجري اسمه على الألسن, وتجري الأقلام بمدحه والثناء عليه, ويصرف - انطلاقاً من هذا الهدف - مالاً في العلن في مصرفه الواجب أو المستحب من الأمور الخيرية. شخص مثل هذا هو من أهل الرياء وإنفاقه مهما كان, حرام وباطل ورياء, وإن قال بلسانه أو استحضر في ذهنه " قربة إلى الله ".
إن إنفاقه هذا وسيلة تقربه من هواه النفسي الذي هو الشهرة, ولا يقربه من الله, أي أن عمله لا قيمة له عند الله. دافع الشهرة الذي يحمل صاحبه على جعل العبادات وفعل الخير وسيلة للوصول إلى الشهرة, هو في نفس الإنسان من القوة بحيث أن الإنسان يسعى إلى شهرته حتى بعد الموت, وللوصول إلى ذلك يبني مؤسسة " خيرية! " ويحفر اسمه عليها, أو يؤلف كتاباً ويدون اسمه. غافلاً عن أن الشهرة بعد الموت والثناء والمدح لا ينفعه لا دنيا ولا آخرة.
أما دنيا فلأنه ليس موجوداً في عالم المادة هذا, والبدن الذي هو مركبه ووسيلته أصبح في التراب وأما آخرة فلأن التعارفات والمدح والثناء المتبادل ليس له فائدة إلا التسلية المؤقتة بالموهوبات, وليس له أي أثر في عالم المعنى والحقيقة.
نعم إذا كان الشخص موقناً بالآخرة خائفاً حق الخوف من عقبات ما بعد الموت ويؤسس عملاً خيرياً ويسجل اسمه عليه أو يؤلف كتاباً ويكتب اسمه عليه على أمل أن يأتي بعده صاحب قلب ( حي ) فينتفع بذلك ويذكره ويطلب من الله تعالى نجاته بصدق وجد فذلك جيد جداً, إلا أن تحقق هذه النية صعب جداً وغالباً ما يشتبه الأمر أي أن القصد الحقيقي هو الشهرة وما يُقال ( من
الإخلاص ) ليس إلا شيئاً يقال أو يخطر بالبال تطميناً للوجدان فقط...
من هنا قال الإمام الصادق عليه السلام: إن الشرك أخفى من دبيب النمل[94].
بيتي, أم بيت الله:
يقال إن هارون الرشيد بنى مسجداً في بغداد ووضع اسمه عليه, وذات يوم ذهب لزيارة ذلك المسجد, فجاء " بهلول " وقال: ماذا بنيت؟ قال: بنيت بيت الله قال بهلول: مُرهم يمحوا اسمك ويكتبوا اسمي بدلاً منه فغضب الخليفة وقال أنا بنيته وأكتب عليه اسمك؟ قال بهلول: فلمَ تقول: بيت الله قل: بيتي.
أي البناء الذي بنيته لشهرتك الشخصية, من الخطأ أن تسميه بيت الله, لأن ليس لله.
وكذلك من كان قصده الباطني إظهار نفسه وكمال ترويجها والتظاهر وزيادة الأتباع والأنصار, وبهذا الدافع يتصدى لتدريس العلوم الدينية أو يرتقي المنبر أو ينصرف إلى التحقيق في المجالات الدينية, أو يؤلف كتاباً أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنه مراء والمرائي معذب وإن قال بلسانه أو خطر على قلبه أني أقوم بهذه الأعمال لله وتقرباً إليه وتحصيلاً لرضاه, ذلك لأن جميع هذه الأعمال التي هي في الظاهر عبادة وإطاعة لأمر الله, هي تقرب إلى الشيطان لأنه أداها بدافع هواه النفسي للحصول على رضا الخلق لا الخالق والعجيب أنه مسرور بهذا الرياء والمعصية الكبيرة.
" قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ". الكهف 104.
وعلامة رياء مثل هذا الشخص حالته عندما يقل أتباعه, أو ينصرفون
إلى شخص آخر ويشتركون في درس آخر ويصغون إلى مدرس آخر, ويمدحون غيره ويصبحون من المشتركين في مجلس درسه فإذا تألم فليعلم أن السبب هو أنه لم يحقق رغبته النفسانية وحرم من النتيجة التي كان يريدها عن طريق الرياء ولذا تألم.
مما تقدم علم أن حقيقة الرياء هي إرادة المنزلة والإعتبار والوجاهة لدى الناس بواسطة أداء عبادة, وبعبارة أخرى: الرياء طلب التقرب إلى الخلق بالعمل العبادي كما أن الخلوص ( الإخلاص ) طلب التقرب إلى الخالق وحسب.
المقدمات ليست اختيارية:
وعلم أيضاً أن النية في العبادة ليست أن يقول أحدنا باللسان أو يمر في خاطره أني أقوم بهذا العمل قربة إلى الله فقط, بل النية في العبادة هي أن يؤدي العمل للتقرب إلى الله.
توضيح ذلك: أن كل فعل اختياري يصدر من الإنسان فقبل كل شيء يستقر في قلبه الميل والرغبة والإرادة لذلك الشيء باعتبار المنفعة الحاصلة منه, ثم للوصول إلى تلك المنفعة يريد أن يأتي بذلك العمل, مثلاً العطشان يستقر في قلبه الميل إلى شرب الماء لأن منفعة زوال العطش تتحقق بشربة, وعندما يستقر في قلبه الميل إلى شرب الماء تتحقق فيه فوراً الإرادة لتناول إناء الماء, فيتناوله مباشرة ويشربه.
في مثل هذا المثال رفع العطش هو الغرض ( الهدف ) والداعي والمحرك للإرادة, وبعبارة أخرى: صدور الفعل الإختياري بدون ميل وإرادة محال, أي أن حركة البدن لأداء أي عمل تتوقف على الميل, لأن حصول الإرادة العملية بدون ميل ورغبة مستحيل أي يجب أن تتحقق في قلبه إرادة عمل ما لتتحقق فيه إرادة القيام بذلك العمل, وتحقق الإرادة والميل بدون إرادة
النفع أيضاً محال أي لا بد وأن يكون الشخص طالباً لنفع عمل ما, عندها تتحقق فيه إرادة القيام بهذا العمل ثم تتحقق فيه إرادة نهائية تتصل بالتنفيذ, هذه هي حقيقة النية.
والآن نقول: عندما يكون في قلب المؤمن ميل إلى القرب من الله تعالى أو الوصول إلى الثواب أو النجاة من العذاب في الآخرة أو الحصول على رضا الله أو إطاعة أمره ( مثلاً بذل المقدار الفلاني من ماله فيما أمر الله به ) - عندما يكون في قلب المؤمن ذلك - ثم أراد القيام بهذه العبادة وقام بها فهذه عبادة بقصد القربة وإخلاص.
أما إذا كان في قلبه ميل للشهرة ومدح الناس بحيث أنه أراد ذلك ورأى أن الوصول إليه يتم ببذل المبلغ والمقدار الفلاني من ماله في مورد خيري, ثم أراد وأنفق فهذا العمل ريائي وشيطاني حتى إذا خطر على قلبه حين الإنفاق ما مؤداه: أنفق من أجل رضا الله.
يعيد صلاة ثلاثين سنة:
صلى أحد العباد ثلاثين سنة جماعة في الصف الأول, وذات يوم لم يتمكن من الحضور مبكراً, وعندما وصل وجد أن شخصاً غيره يصلي في المكان الذي كان يقف فيه للصلاة, فاضطر للوقوف في آخر صفوف الصلاة, وعندما انتهى الناس من صلاتهم ورأوه, خجل وتألم لأن الناس يرونه واقفاً في آخر صف.
وهكذا أدرك أن صلاته طيلة ثلاثين سنة كانت ملوثة بالرياء, وقد كان هدفه الباطني هو أن يراه الناس دائماً في الصف الأول فيمدحونه على ذلك, فأعاد صلاة هذه الثلاثين سنة.
وحقاً, لقد أدركه لطف, فأدرك خراب عمله وفساده قبل الموت.
ومن الجدير بالذكر أن ما تقدم هو بيان لواقعية النية وحصولها, ويجب العلم أن النية لا تتحقق بالتصنع والتكلف لتحتاج في تحققها إلى مقدار من الزمان, بل قد تتحقق في أسرع من لمح البصر, أي يحصل الميل وتحصل الإرادة, فإذا كان هذا الميل رحمانياً فقد عبد, وإذا كان شيطانياً فقد عصى, والسبب في أن بعض الناس يبتلون بالوسوسة في النية هو فهمهم الخاطيء الذي يتصورون على أساسه أن النية تصنع أي يتم إنتاجها وإخراجها عبر الإستحضار في الذهن, وقد فهم مما تقدم أن الإخطار في الذهن والإحضار في الخاطر ليس نية وليس له أي أثر في صحة العمل وعدم صحته, إلى حد أنه إذا بدأ شخص بعمل بداعٍ إلهي ثم خطرت له في الأثناء خاطرة شيطانية مثل أن الناس سيرونني ويمدحونني فإن هذه الخاطرة إذا لم تؤثر في قلبه أي لم تتحول إلى داعٍ ومحرك ومرت بسرعة ولم تستقر, لا يترتب عليها أي ضرر, خصوصاً إذا تنفر من هذه الخاطرة وأدرك أنها شيطانية. نعم إذا تحولت إلى " داعٍ " يدعوه للقيام بهذا العمل فهي مبطلة للعمل.
لا بد من تصحيح النية:
الآن وقد اتضح أن صحة العمل وعدم صحته وجماله وقبحه مرتبط ارتباطاً تاماً بالنية, قد اتضح أن أهم الواجبات تصحيح النية بأن يسعى الإنسان لتكون ميوله ورغباته رحمانية والطريق إلى ذلك عبر تقوية الإيمان, وإذا وجدت في قلبه رغبة شيطانية فلا يتبعها وليتجاوزها بنور الإيمان حتى لا تتحقق منه إرادة العمل للوصول إليها.
ومن هنا قال تعالى في القرآن المجيد " ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ". الملك 2 ولم يقل أيكم أكثر عملاً لأن ميزان الثواب والدرجات حسن العمل من حيث توفر شرائط الصحة والقبول فيه لا مجرد الكثرة حتى مع الفساد.
الرياء هو مرض القلب:
ذكر في مقدمة الكتاب أن مرض الجسد هو أن عضواً منه خلق لخاصية يصبح بحيث لا تتحقق منه تلك الخاصية مثلاً: سلامة العين في رؤية الأشكال والألوان وتشخيصها إلى حدود معينة, ومرضها في عدم رؤية ذلك بمراتب مختلفة تصل إلى مرتبة العمى, كذلك القلب الإنساني الذي خلقه الله فإن من جملة خواصه رؤية الواقعيات وحقائق الأشياء, والتمييز بين الحق والباطل والميل إلى الحق, مثلاً: العين الظاهرية ( الحيوانية ) ترى ظواهر الحياة المادية وزينتها وبهارجها, عين القلب الإنساني ترى بسرعة زوال هذه الظواهر وعدم بقائها وتقلب حالاتها والآلام والمتاعب التي هي من لوازمها, كما ترى بطلان الحياة المادية وحقيقة وثبات الحياة الروحانية وعالم ما بعد الموت, وكذلك حقانية الخالق وأن جميع أجزاء عالم الخلقة مرتبطة به, إلى حد اليقين بأنه ما من ورقة شجرة تسقط بدون إذن الله وإرادته وإلى حد ثبوت بطلان المخلوقات إذ ليس لها من نفسها أي استقلال بحيث أنها وحدها لا تستطيع أن تخطو خطوة, أو تتلفظ بكلمة, أو ترد إليها طرفها.
مما تقدم يعلم جيداً مرض القلب المرائي, لأنه إذا كانت الرغبة القلبية لشخص هي الشهرة بين الناس ومدحهم له وثناؤهم عليه والوجاهة لديهم, فإن ذلك يكشف أن عين قلبه عمياء ولذلك لم يرَ عدم قيمة هذه الأمور ( الشهرة, ومدح الناس إلخ ) وعدم اعتبارها ولذلك أرادها, ولم يدرك كذلك ثبات وعظمة وقيمة الحياة الآخرة ولذلك فقد من قلبه الميل والأمنية والرغبة الأخروية, وكذلك لم ترَ عين قلبه أن المخلوق لا يستطيع فعل شيء, ولو أن كل الناس اجتمعوا لإعزاز شخص أو إنقاذه من شدة فمن المستحيل أن يتمكنوا من تحقيق أي شيء إذا لم يرد الله ذلك وإذا أرادوا إذلال أحد فإنهم لا يستطيعون ذلك ما لم يرده الله.
إن عين قلب مثل هذا الشخص لم ترَ بعد...
إنه أيضاً مثلك مسكين وعاجز:
هذا البشر الذي تؤدي عبادة للتقرب إليه, وتحتمل التعب والمشقة من أجل ذلك هو تلك القبضة من التراب التي جعلتها يد القدرة الإلهية عالماً, قادراً, بصيراً... وطبعاً على نحو العارية ( الإستعارة ) وبشكل مؤقت, وسرعان ما يرجع إلى حالته الأولى.
هل يرى القلب الإنساني السليم أن من المناسب الخضوع والذلة في مقابل بشر عاجز ذليل مثله ويؤدي عبادة بهدف الحصول على رضاه والوصول إلى الهدف الشيطاني والمنفعة الدنيوية الموهومة, ويبرم هذه المعاملة التي يجب أن يكون طرفها الآخر هو الله - مع مخلوق عاجز.
طبعاً - مثل هذا الشخص مبتلى بمرض القلب, وعمى عين البصيرة والإنحراف عن الفطرة الأولى.
إن من لا يرى الله تعالى حاضراً في كل مكان محيطاً بكل شيء وسيداً وسلطاناً مطلقاً, ويرى فقط المخلوق المقهور الذي تراه عين ظاهره, هو أعمى القلب الذي يقول عنه في القرآن المجيد " أفلم يسيروا في الأرض ( حتى يعرفوا الله من خلال رؤية دلائل القدرة والحكمة ويتعظوا بزوال الدنيا وفنائها ولا تطمئن قلوبهم بها, ويدركوا من خلال حالات الماضين ذلة البشر ومقهوريتهم لله ويخافوا الله وحده ويلجأوا إليه ) فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ". الحج 46.
أي أنهم إذا كانوا لا يرون آيات الله ولا يعتبرون بأحوال الماضين فليس السبب عمى عيونهم بل عمى عيون قلوبهم.
حرمة الرياء:
ذُكرت في كتاب الذنوب الكبيرة بعض الآيات والروايات حول كون ذنب الرياء من الكبائر ويشار هنا إلى قسم آخر منها قال تعالى في سورة البقرة: " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم ( إنفاقاتكم الحالية في سبيل الخير ) بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان ( حجر أملس ) عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ". البقرة 264 وخلاصة معنى المثل أن حال المرائي في العمل الريائي وحال جزائه مثل حال حجر أملس غطاه التراب وتساقط عليه مطر غزير, هذا المطر هو سبب خروج النبات, ولكن التراب على هذا الصخر يتفرق ويزول, والصخر لا يمكنه جذب الماء واحتضان البذرة, إذن التراب والماء وإن كانا من أسباب نمو النبات ولكن حيث أنهما وقعا على صخر أملس والمحل لا قابلية فيه فإنه لا ينتج النتيجة المطلوبة. حال المرائي أيضاً كذلك, والإنفاق وإن كان من أسباب الأجر والثواب ولكن عندما لا يكون هدف المنفق هو الله فلا ثواب على عمله لأنه لا استعداد له ولا قابلية فيه لذلك وقلبه ليس أهلاً للرحمة والكرامة, وبعبارة أخرى: إنه لم يقم بالعمل لله ليتوقع الثواب منه.
بعد التأمل في هذه الآية الشريفة يعلم جيداً أن العمل الريائي مبغوض لله وحرام وفاسد وباطل وإذا كان عملاً واجباً كالصلاة والصوم والحج والصدقات ( الواجبة ) فإن إعادته واجبة.
ثم إن الآية الشريفة صريحة في أن المرائي ليس مؤمناً بالله ويوم الجزاء, لأنه لو كان يرى أن الله حاضر وناظر ويعتقد بما وعد سبحانه من الثواب الكبير على الإنفاق في الدنيا الآخرة لكان بطبيعة الحال أنفق لله واختار
الثواب الأخروي, ولم يتملق ويرائي في الإنفاق ولعل المراد من جملة " ولا يؤمن بالله واليوم الآخر " هو أن المرائي حين يكون الرياء في قلبه فلا إيمان بالله واليوم الآخر في قلبه, بناءاً عليه من الممكن أن يكون في قلبه إخلاص عند القيام بعمل آخر كالصلاة وعندها يكون في قلبه حتماً إيمان بالله واليوم الآخر.
والخلاصة: لا شك في أن الرياء شرك خفي وكفر حقيقي.
من عمل للناس فثوابه على الناس:
قال الإمام الصادق عليه السلام لعبّاد بن كثير: ويلك يا عبّاد, إياك والرياء, فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له[95].
وقال أيضاً: كل رياء شرك, إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس, ومن عمل لله كان ثوابه على الله[96].
وقال أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به, فإذا صعد بحسناته يقول الله تعالى اجعلوها في سجين, إنه ليس إياي أراد بها[97].
علامات المرائي:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: ثلاث علامات للمرائي ينشط إذا رأى الناس ويكسل إذا كان وحده, ويحب أن يحمد في جميع أموره[98]. يجب العلم أن هذه العلامات الثلاث هي بناءاً على الغالب أي غالباً ما تكون هذه العلامات في المرائين ومن الممكن أن تكون إحدى هذه العلامات في الشخص ولا يكون مرائياً كما ذا كان في الوحدة لا يرغب في العبادة, فإذا دخل إلى محفل ورأى أن الجميع مشغلون بالعبادة والمناجاة فرغب العبادة حقيقةً وشارك
فيها, أو رأى أن جمعاً يشتركون في عمل خير فشارك فيه برغبة حقيقية... وشرط عدم كون عمله رياءاً أن يكون وجود الناس وعدمهم لديه سواء ولا يكون هدفه أن يمدحه الناس على تلك العبادة, وإلا كان عمله رياءاً.
وروي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام: يقول الله عز وجل أنا خير شريك, من أشرك معي غيري في عمل عمله, لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً[99].
ويقول عليه السلام أيضاً: من ظهر للناس ما يحب الله وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له[100].
وروي عنه عليه السلام كذلك: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويسر سيئاً، أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أن ذلك ليس كذلك والله عز وجل يقول " بل الإنسان على نفسه بصيرة " إن السريرة إذا صحت قويت العلانية[101].
وخلاصة معنى الحديث: ما يصنع أحدكم حين يؤدي في الظاهر عبادة وهو يبطن نية سيئة وقبيحة هلاّ رجع إلى وجدانه ليعلم أن عمله هذا ليس عبادة لله, فالله تعالى يقول: بل الإنسان على نفسه بصيرة, حقاً إذا صحت النية أي صارت إلهية صلح الظاهر وقوي ولا تبقى حاجة للتصنع والتظاهر, بل يصبح الظاهر في كمال الصلاح وترتاح إليه القلوب.
انتشار الرياء في آخر الزمان:
وروي عنه عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا لا يريدون به ما عند ربهم يكون دينهم رياء ولا يخالطهم خوف يعمهم الله بعقاب
فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم[102].
قال العلامة المجلسي رحمه الله: ولا يبعد أن يكون العقاب إشارة إلى غيبة الإمام ( المنتظر ) عليه السلام[103] وحقاً... فإن كل المصائب التي تحل بالشيعة بل بعموم المسلمين ناتجة عن عدم وجوده سلام الله عليه بين الناس.
السمعة:
في قسم من الروايات وكذلك في كلمات الفقهاء, ذكرت السمعة مع الرياء والمراد بالسمعة هو أن الشخص الذي يؤدي عملاً ما ونيته أن يسمع الناس, وبذلك صبح وجيهاً عندهم, وهذا من أنواع الرياء لأن من كان قصده التقرب إلى الخلق وإرضاءهم, ويؤدي بهذه النية عملاً, فهو مراءٍ, سواء أدى ذلك العمل أمام الناس ليروه أو يسمعوه, أو أخبر الناس به مباشرة أو بواسطة شخص آخر يقول تعالى في القرآن المجيد " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ". النجم 32 أي لا تمدحوا أنفسكم ولا يقولن أحدكم أنا منزه من كل ذنب ودنس, أنا صاحب فضيلة وتقوى, أنا من أهل العبادة, فعلت كذا وكذا, لم أرَ أحداً مثلي, لقد أديت عملاً عظيماً, أنا لا أعرف الحسد والبخل والتكبر, أنا أتحلى بالسخاء, الشجاعة, الإخلاص وغير ذلك من أشباه هذه الأراجيز والأكاذيب النفسية فالله تعالى يعرف أفضل من الجميع من هو المتقي ومن هو المخلص.
في تفسير الصافي عن الإمام الباقر عليه السلام: " لا يفخر أحدكم بكثرة
صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لأن الله عز وجل أعلم بمن اتقى ".
" الأفضل هو من إذا كان في باطنه جوهرة فهو يخفيها كما يخفي الصدف جواهره ".
" إن لم يكن لديك مسك خالص فلا تدَّعه وإذا كان لديك فإن عطره يتضوع ويفوح تلقائياً ".
" لا تضع ماء الذهب أيها العزيز في الفلس فإن الصراف الخبير لا يشتريه بشيء[104] ".
وروي أيضاً: سئل الإمام الصادق عليه السلام عن معنى هذه الآية " فلا تزكوا أنفسكم " فقال: قول الناس صليت البارحة وصمت أمس ونحو هذا، ثم قال عليه السلام: إن قوماً كانوا يصبحون فيقولون: صلينا البارحة وصمنا أمس فقال علي عليه السلام: لكني أنام الليل والنهار ولو أجد بينهما شيئاً لنمته[105].
لعل المراد بقوله عليه السلام: " لكني أنام الليل والنهار " أنه سلام الله عليه اعتبر عباداته في الليل والنهار في مقابل عظمة الله سبحانه واستحقاقه الذي ينبغي له ليس شيئاً يذكر وبمثابة النوم.
ذكر نعمة الله عند الضرورة, ليس تزكية:
ينبغي الإلتفات إلى أن ذكر الإنسان عند الضرورة لبعض الصفات الحسنة الموجودة فيه, أو لعمل صالح أداه, ليس ذنباً وليس تزكية, بل بيان للواقع ألجأته إليه الضرورة كقول يوسف عليه السلام: " إني حفيظ عليم " وصالح عليه السلام: " وأنا لكم ناصح أمين " وكحديث المتهم بالخيانة عن أمانته في
مقام الدفاع عن نفسه.
وكذلك إذا كان هدف الشخص حقيقةً من ذكر صفة حسنة منّ الله بها عليه ووفقه لها هو الشكر فيقول مثلاً: لقد منّ الله عليّ بالحلم, وفقني للصوم, شرط أن لا يكون قصده تزكية النفس وأحياناً يكون قصد الإنسان ذلك ( التزكية ) ولكن حيث أنه قبيح عند العقلاء يعمد إلى التعبير عنه بلباقة فيقول إذا أراد أن يفتخر بأنه مستجاب الدعوة: أنا لم أطلب شيئاً من الله إلا وتحقق فوراً.
نعم, إذا كان قصده واقعاً بيان نعمة الله وفضله, وقال: كلما طلبت من الله شيئاً منَّ علي وأعطانيه دون استحقاق مني - فذلك جيد.
" روي أن عابداً في بني إسرائيل سأل الله عز وجل فقال يا رب ما حالي عندك أخيرٌ فأزداد في خيري أو شر فأستعتب قبل الموت؟ فأتاه آت فقال له: ليس لك عند الله خير، قال: يا رب وأين عملي؟
قال: كنت إذا عملت خيراً أخبرت الناس به، فليس لك منه إلا الذي رضيت به لنفسك ( أي مدح الناس لك ) ....[106] ".
السمعة أيضاً شرك:
قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ". الكهف 110: " الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله, إنما يطلب تزكية الناس, يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه ثم قال: ما من عبد أسرّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهره الله له خيراً, وما من عبد يسر شراً فذهبت
الأيام حتى يظهر الله له شراً[107] ".
ويقول الإمام الرضا عليه السلام: اعملوا لغير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل وما عمل أحد عملاً إلا ردّاه[108] الله إن خيراً فخير, وإن شراً فشر[109].
يقول الإمام الصادق عليه السلام: من أراد الله عز وجل بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر مما أراد, ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله عز وجل إلا أن يقلله في عين من سمعه[110].
ويقول الإمام الباقر عليه السلام: الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال وما الإبقاء على العمل قال عليه السلام: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سراً ثم يذكرها فتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء[111].
الرياء بعد العمل ليس مبطلاً:
اتضح مما تقدم أن الرياء والسمعة عند بدء العمل أو في أثنائه - بحيث يكون بدؤه أو إتمامه مقترنين بالنية الريائية يجعلان العمل بلا ثواب, بل يصبح حراماً وموجباً للعقاب وباطلاً أيضاً, أي إذا كان العمل واجباً تجب إعادته بنية القربة إلى الله, أما إذا أدى المكلف, العمل بنية إلهية ولم يكن نظره إلى الناس أبداً, إلا أنه بعد الفراغ من العمل حدث الناس به تظاهراً وطلباً للوجاهة فإن ثواب العمل يقل, وإذا كرر ذلك يزول ثوابه نهائياً ويسجل له عملاً ريائياً
أي يصبح مستحقاً للعقاب.
وهل يوجب هذا الرياء - بعد العمل - بطلان العمل فتجب إعادته إذا كان واجباً؟
الأقوى عدم وجوب إعادته, ولكن لا شك في أن الإحتياط بالإعادة حسن.
ويمكن حمل الرواية المذكورة على الإحباط أي زوال الثواب ويشهد لذلك بالخصوص قول الإمام الباقر عليه السلام " فتُمحى " الظاهر في المحو بعد الإثبات وهو مطابق لمعنى الإحباط, ولعل المراد من قول الإمام عليه السلام: " فتكتب له علانية " هو أن صدقة الإنسان سراً تسقط بالحديث عنها عن درجة صدقة السر ( التي هي أكثر بكثير من صدقة العلانية ) ويكتب له عليها ثواب صدقة العلانية الذي هو أقل... وإذا ذكرها وتحدث بها ثانية يمحى من ديوان عمله ثواب صدقة العلن ولكن " فتكتب له رياءاً " تدل على أن العمل باطل أي إذا كان واجباً يجب الإتيان به ثانية, بل إن زوال الثواب أقرب إلى معنى هذه الجملة[112].
مجرد السرور بعمل ليس رياءاً ولا سمعة:
عن الإمام الباقر عليه السلام قال زرارة: سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك, فقال عليه السلام: " لا بأس ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك[113] ".
بناءاً على هذا الحديث فإذا قام الإنسان بعمل خير لله, واطلع الناس عليه دون أن يذكره هو وسَرّه اطلاع الناس على ذلك ومدحهم له, فهذا لا ضرر فيه.
إلا أن هنا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي: إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل الله[114].
وفي مجمع البيان: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به, فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يقل شيئاً فنزلت الآية " .... ولا يشرك بعبادة ربه أحداً "[115].
ومن هنا كان من المستحب لمن أراد أن يتصدق في سبيل الله أن لا يدفع الصدقة مباشرة, بل يدفعها إلى شخص أمين ليوصلها إلى المستحق لأنه إذا دفعها بنفسه إلى المستحق فقد يمدحه ويثني عليه فيتداخله السرور لذلك وهذا السرور بثناء الناس منافٍ للإخلاص.
الجمع بين الروايات:
يقول صاحب عدة الداعي في الجمع بين هذه الروايات, ورواية زرارة:
والتحقيق أن السرور باطلاع الناس على قسمين: محمود ومذموم والمحمود ثلاثة:
الأول: أن يكون قصده: إخفاء الطاعة إخلاصاً لله تعالى ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله تعالى أطلعهم عليه وأظهر له الجميل تكرماً وتفضلاً فإن
من صفاته تعالى أنه " أظهر الجميل وستر القبيح " فيكون فرحه بجميل صنع الله لا بحمد الناس وحصول المنزلة له في قلوبهم " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ".
الثاني: أن يستدل بإظهار الجميل وستر القبيح على أنه تعالى سيعامله كذلك في الآخرة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة.
الثالث: أن يحمده المطلعون على عبادته فتسره طاعتهم لله في ذلك وتسره محبتهم له لمحبتهم لطاعة الله وأنهم ليسوا ممن يزدري أهل الطاعة... هذه الأقسام من السرور والفرح باطلاع الناس ليست مذمومة.
وأما المذموم فهو أن يكون فرحه للمنزلة التي حصل عليها في قلوب الناس ليمدحوه ويعظموه ويقضوا له حاجاته ويقابلوه بالإكرام والتوقير فهذا رياء حقيقي، محبط للعمل ناقل له من كفة الحسنات إلى كفة السيئات ومن ميزان الرجحان إلى ميزان الخسران ومن درجات الجنان إلى دركات النيران[116].
الرياء مطلقاً مبطل للعمل:
مما تقدم علم حكم الرياء بعد العمل, وأما الرياء عند البدء بالعمل أو في أثنائه فهو - كما مر - مبطل للعمل وإذا كان واجباً تجب إعادته, سواء كان الرياء " تمام الداعي " كما إذا كان عند البدء بالعمل إنما حمله على الإتيان به التقرب إلى الخلق فقط أو أنه في أثناء العمل جاء شخص فأتمّ عمله بنية التقرب إلى هذا الشخص, أو كان الرياء " جزء الداعي " كما إذا كان هدفه التقرب إلى الله وإلى الخلق. سواء كان الرياء جزءاً استقلالياً أو تبعياً والإستقلالي يعني أنه لو
لم يكن السبب الذي حمله على الرياء موجوداً لما أدى ذلك العمل, والتبعي أنه لو لم يكن سبب الرياء موجوداً كان أدى ذلك العمل لله. وإذا راءى في جزء من أجزاء الواجب, فرغم أن أصل العمل باطل على الأقوى إذا كان كالصلاة لكن الإحتياط يقتضي إعادة ذلك الجزء قربة إلى الله ثم إعادة أصل الصلاة وإذا كان كقراءة القرآن أو الإقامة والأذان أعاد تلك الفقرة التي وقعت رياءاً.
وإذا كان يأتي بأصل الصلاة قربة إلى الله إلا أنه يرائي بالزمان أو المكان كأن يصلي في المسجد أو أول الوقت رياءاً فالصلاة أيضاً باطلة وإعادتها واجبة, وكذلك إذا راءى في أوصاف العمل كأن تكون صلاته لله إلا أنه يأتي بها جماعة رياءاً, أو يأتي بالقراءة والذكر بخشوع وتأنٍ رياءاً, هنا أيضاً الصلاة باطلة وإعادتها واجبة.
علاج الرياء:
يتم علاج الرياء بشكل عام كسائر الأمراض القلبية, بتقوية الإيمان والسعي للوصول إلى درجة اليقين كما اتضح في بحث اليقين. فإذا بلغ شخص درجة اليقين فإن نور اليقين يصلح ظلمات قلبه وتلوثاته وأمراضه ويضمن له سلامة قلبه من جميع الجهات. وهنا يتم التذكير بهذا المطلب بشكل خاص:
من أضاء في قلبه نور اليقين بحضور الله, فرأى أن الله حاضر وناظر في كل مكان وكل حال, بحيث أن ظاهر العبد وباطنه علن لديه, فكيف سيؤدي في حضوره عبادة للتقرب إلى مخلوق؟
مثلاً إذا جاء السلطان وخادمه وبادر شخص لتكريم السلطان إلا أن وجهه كان باتجاه الخادم هل هذا العمل عقلائي, وهل يقوم به عاقل؟ اللهم إلا
أن يكون حقيقةً لا يرى السلطان ولذلك يتقرب إلى خادمه. كذلك من المستحيل أن يكون شخص يرى أن الله حاضر ومع ذلك يتقرب في حضوره إلى عبده بأداء عبادة ما, لا يمكن أن يصدر منه ذلك إلا في حالة الغفلة وعدم اليقين بحضور الله تعالى.
إن من أضاء قلبه نور اليقين بالتوحيد الصفاتي والأفعالي بالتفصيل الذي تقدم وأدرك موقناً أنه لا استقلال لأي مخلوق وأن كل عمل يقوم به أي مخلوق لا يمكن أن يتحقق إلا بإذن الله وإرادته, بحيث لو أن جميع الناس أرادوا مجتمعين القيام بعمل ما فإنه لن يمكنهم ذلك إلا إذا طابق هذا إذن الله ورؤيته للمصلحة فيه. وعندما يدرك الشخص أن الله تعالى هو القادر المطلق والمخلوق هو العاجز المطلق فكيف يؤدي عبادة للتقرب إلى مخلوق والحصول على رضاه.
ليلة عبادة لكلب:
يقال إن شخصاً جاهلاً ذهب إلى مسجد ليمضي ليلته في خلوة منشغلاً بالعبادة والمناجاة حتى الصباح وعند منتصف الليل سمع صوتاً, فظن أن في المسجد شخصاً مثله منشغلاً بالعبادة, وحيث أن الظلام كان مخيماً فلم يره... بعد ذلك وبنتيجة هذا التصور تظاهر بالخشوع في العبادة وزاد من بكائه في المناجاة, وكان السرور يغمر قلبه أن هذا الشخص سيحدث الناس بحالاته في العبادة ويكسب بذلك الوجاهة بين الناس وعندما تنفس الصبح, وأضاء الجو وجد أن صاحب الصوت هو كلب وجد باب المسجد مفتوحاً فدخل ونام في زاوية من زواياه, فتنهد هذا الجاهل وأخذ يؤنب نفسه: أيها التعيس... لقد أتعبت نفسك بالسهر وحملتها على مشقة العبادة من أجل
كلب... يا ليت أنك كنت نمت في البيت ولم تأت إلى المسجد.
الندم حين الموت:
ليعلم القاريء العزيز أن حسرة المرائين بعد الموت مثل الحسرة الصباحية لهذا التعيس, أي عندما تزول ظلمات عالم الطبيعة عن وجه إدراك إنسان بواسطة الموت وتطلع شمس الحقيقة ويدرك أن القادر بحق هو الله والعاجز المطلق هو المخلوقات, عندها يدرك مدى الضرر الذي ألحقه بنفسه, وكيف كان يخضع ويتذلل للعاجزين, وكيف كان معرضاً عمن جميع القدرات له, وجميع الخلق في جميع الأحوال وفي جميع العوالم محتاجون إليه.
" مفتاح باب النار تلك الصلاة التي تطيلها أمام أعين الناس إذا كانت تنتهي بغير الحق " الله " جادتك فستفرش في النار سجادتك ".
يتمنى سرعة الذهاب إلى جهنم:
في الحديث أنه عند انكشاف الحقيقة في القيامة, يتمنى المذنبون من شدة الحسرة وصعوبة الندامة أن يذهبوا بسرعة إلى النار, حتى لا يتجرعوا المزيد من نار الخجل في موقف فحص الأعمال والحساب. ولأن أهل اليقين قد رفعت قبل الموت عن عيون قلوبهم أستار الجهالة والغفلة المظلمة, ورأوا أن جميع المخلوقين عاجزون, فإنهم لا يخضعون ولا يتذللون لمخلوق, وأيضاً حيث أن أهل اليقين أدركوا بطلان الدنيا وحقانية الآخرة فقد عرفوا زوال الحياة المادية ولا نهاية وعظمة الحياة بعد الموت وعلموا أن " الآخرة خير وأبقى " فإنهم لا يؤدون عبادة على الإطلاق بغية الحصول على هدف مادي أي الوصول إلى المال والجاه والشهرة وسائر الشهوات, إنهم عرفوا أن العبادة وسيلة للوصول إلى السعادة الأبدية والفوائد الروحية, فكيف يجعلونها وسيلة
للوصول إلى الملذات النفسية السريعة الزوال التي ليست إلا وهماً وخيالاً, ثم يبتلون من جرّاء ذلك بالهلاك والعقوبة الأبديين؟!!
إشراق اليقين, علاج قطعي:
مما ذكر يعلم أن العلاج القطعي الوحيد للرياء هو إشراق نور اليقين في القلب, وما لم يصل الإنسان إلى ذلك فهو في معرض خطر الرياء, وإن كان لا يعلم, كما أنه إذا صار من أهل اليقين يصبح يرى الرياء أسوأ من شرب الخمر وأسوأ من جميع الكبائر ويرى أن عقوبته أشد.
وإذا أراد شخص أن يعلم هل وصل إلى مقام اليقين ليكون محفوظاً من الرياء, فإذا كانت حاله بحيث أن البشر والجمل لديه سواء, أي سواءاً رأى عمله مائة إنسان أو مائة جمل فلا فرق لديه أبداً, يتضح أنه من أهل اليقين, إذ أنه كما أن رؤية الجمال لعمله لا تستتبع فرحاً كذلك رؤية الناس لعمله لا تستتبع فرحاً لأنه علم باليقين أن البشر أيضاً كالجمل لا استقلال لهم ولا يستطيعون وحدهم القيام بأي عمل إلا إذا شاء الله وأراد فالقلوب والإرادات كسائر جميع أجزاء الخلقة مسخرة له.
عبادة السر, والإخلاص:
من لم يصل بعد إلى مقام اليقين لكي لا يؤثر فيه مدح الناس وذمهم, ويتساوى عنده الإنسان والجمل فإن واجبه أن لا يؤدي من العبادات علناً إلا ما ورد الأمر بتأديته علناً كصلاة الجماعة والحج, والزكاة الواجبة والعبادات التي لا تؤدى إلا علناً كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجهيز الميت, أما سائر عباداته من الواجبات والمستحبات فيجب أن يؤديها سراً بحيث لا يراه أحد إلا الله وبعد العمل لا يخبر أحداً به, إلى أن يمن الله عليه نتيجة إخلاصه
المستمر بنور اليقين, بعد ذلك يصبح كل عمل يؤديه علناً محفوظاً من الرياء, وقد تقدم في بحث النفاق بيان أهمية عبادة السر وفضيلتها.
إن من أحكام الإسلام الضرورية والبديهية التي أجمع عليها جميع علماء الإسلام لزوم الإخلاص في العبادة بحيث أن شرط صحة وقبول أية عبادة الإخلاص في نيتها. بل تحقق العبادة متوقف على الإخلاص في النية والعبادة بدون إخلاص كجسد بلا روح ليس له خاصية إلا القذارة والعفونة وكذلك العبادة بلا إخلاص ليس لها أية خاصية إلا كونها حملاً ثقيلاً ومشقة وعقوبة لصاحبها والآيات والروايات كثيرة في لزوم الإخلاص في العبادة يكتفى بذكر بعضها:
" قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ". الأنعام 162 - 163.
في هذه الآية الشريفة يقول الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قل للناس " إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي - واختصت الصلاة بالذكر كمزيد العناية بها منه تعالى - ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وتروك ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة ( أي الأمور التي تقع بعد الموت ولكن منشأها الحياة واختيار الإنسان ) كما قال صلى الله عليه وآله: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحداً, فأنا عبد في جميع شؤوني في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه لا أقصد شيئاً ولا أتركه إلا له ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له فإنه رب العالمين يملك الكل ويدبر أمرهم, وقد أمرت بهذا النحو من العبودية، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله " إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤون العبادة والحياة والموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة...[117] ".
الأحكام التي تستفاد من هذه الآية:
في " كنز العرفان " أن هذه الآية الشريفة دليل على عدة أحكام:
1 - وجوب الإخلاص في عبادة الله, وعدم جواز جعل شريك لله في العبادة بشكل عام, سواء كان الشرك جلياً كعبادة الأصنام والنجوم ونظائرهما أو خفياً كالرياء بل أكثر من ذلك فإن قصد الثواب يتنافى مع الإخلاص[118].
2 - الإخلاص في العبادة من أحكام الإسلام المسلّمة التي هي في عهدة كل مسلم, وكل مسلم مأمور بالإخلاص حيث قال: " وأنا أول المسلمين ".
3 - صحة الصلاة وكل عبادة تتوقف على معرفة الله وتوحيده والإعتقاد بأنه الخالق المربي ولازم هذه المعرفة الإعتقاد بأنه قادر وعالم وحكيم, ومن هنا كانت عبادة الكافر باطلة بل عبادة من ليس له إيمان قلبي بما ذكر, باطلة وإن كان ظاهره ظاهر المسلمين.
4 - في هذه الآية إشارة إلى أن العبادة يجب أن تكون لشكر نعمة الإيجاد والتربية حيث قال: " " وأنا رب العالمين ".
5 - لا تجوز نسبة أي من هذه الأربعة التي ذكرت في هذه الآية إلى غير الله لا على نحو الإستقلال ولا على نحو الشراكة أي يجب أن تكون الصلاة والعبادات لله فقط, وكذلك الحياة والممات يجب الإعتقاد بأنهما من الله ودليل
هذا الحكم جملة " لا شريك له ".
6 - في هذه الآية إشعار بعظمة الله وجلاله, وأن الله هو الذي ينبغي أن يعبد وله أهلية ذلك.
قصد القربة يعني الإخلاص في العبادة:
" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ". البينة 5.
يقول في كنز العرفان: الإخلاص في هذه الآية هو قصد القربة الذي هو شرط صحة كل عبادة, وبصريح الآية الشريفة فإن أمر الله بالعبادة بإخلاص على سبيل الحصر إذن العبادة بدون إخلاص ليست مورداً للأمر فهي إذن باطلة.
" فاعبد الله مخلصاً ". الزمر 2 في هذه الآية أيضاً مورد الأمر هو العبادة بإخلاص.
" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ". الإسراء 23.
أي أوجب أن تعبدوه وحده وأن لا تعبدوا غيره, فعبادة الله وحده هي الواجبة ويكفي في إثبات لزوم الإخلاص في قبول العمل وصحته التأمل في آخر آية من سورة الكهف: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ". الكهف 110.
والظاهر أن الإعتقاد بوحدانية الله وغناه يتنافى مع عبادة غيره لأنه إذا كان الله واحداً فالمعبود إذن واحد.
الإخلاص في العمل أصعب من العمل:
وأما الروايات التي يعلم منها وجوب الإخلاص وأنه شرط قبول بل صحة
أية عبادة فهي فوق التواتر وأكثر من أن تحصى وقد أورد قسم منها في كتاب " الذنوب الكبيرة " ويكتفى هنا بإيراد رواية واحدة يقول الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا ". الملك 2: ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل, والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل ثم تلا قوله عز وجل: " قل كلٌّ يعمل على شاكلته ". الإسراء 84[119] ".
وخلاصة هذه الرواية أن ميزان فائدة العمل صحة نيته, وميزان صحة النية الإخلاص أي أن لا يكون للشخص هدف غير الله. وبناءاً عليه فالنية روح العمل.
ما هو الإخلاص في النية:
إذا تأمل القاريء العزيز في ما قيل في معنى الرياء, تتضح له حقيقة النية والإخلاص, ولكي يتضح ذلك أكثر تكرر هنا خلاصته:
النية هي العزم والإرادة, وقصد أداء عمل, مثلاً يمشي شخص قاصداً السوق, أو يتجه إلى المسجد قاصداً الذهاب إليه, يضع الماء على وجهه بقصد الوضوء, يتجه إلى القبلة بقصد الصلاة, يتناول الطعام سحراً بقصد الصوم وهكذا.
وحيث أن الإنسان العاقل الفطن يجب أن يهدف إلى هدف ونفع من أي عمل ليقصد الإتيان بذلك العمل للوصول إلى ذلك الهدف, وبعبارة أخرى:
بدون الهدف لا يتحقق قصد عمل ما إلا أن يكون الشخص سفيهاً وعابثاً, مثلاً:
الشخص العاقل لا يقصد الذهاب إلى السوق إلا إذا كان في هذا فائدة ما, ولا يقصد أكل شيء إلا إذا رأى فيه نفعاً ما, من هذا يعلم أن الهدف هو سبب النية, بحيث أنه بدونه لا تتحقق النية, وعليه يمكن القول, حقيقة النية هي ذلك الهدف الذي يحمل الشخص على الإتيان بالعمل[120] وما ورد في الروايات من أن النية يجب أن تكون صادقة وخالصة فالمراد به أن ذلك الهدف - أي الهدف والنفع الذي هو مراد القلب والذي يحمل الإنسان على العمل - يجب أن يكون صحيحاً أي مراداً للقلب حقيقةً وخالصاً من غير الله أي ينبغي أن يكون المنظور والمراد لقلبه من ذلك العمل هو الله ومعنى ما ورد عنهم عليهم السلام: إنما الأعمال بالنيات[121] أن الأعمال تابعة للمقاصد أي إذا كان الهدف من العمل هو الله فهو جيد وإلا فهو سيء.
وروي عنهم: " لكل امريءٍ ما نوى " أي إذا كان هدف الشخص واقعاً من العمل هو القرب من الله فإنه يقترب منه سبحانه, وإذا كان قصده الباطني من ذلك العمل القرب إلى الخلق بذلك فإنه يقترب من الخلق وإذا كان هدفه رغبات أخرى نفسانية أو شيطانية فإنه يقترب منها.
وروي أيضاً: " لا عمل إلا بالنية " أي العمل الصالح والمقبول متوقف على الهدف من ذلك العمل إذا أدي بهدف إلهي فهو صحيح ومقبول وإلا فهو
باطل وهباء.
وروي كذلك: " نية المؤمن خير من عمله[122] " ويمكن القول إن المراد بالنية في هذا الحديث كما نقل هو الهدف ولأن هدف المؤمن من العبادة التي يؤديها هو قرب الله والوصول إلى رضوانه, وطبعاً العبادة التي أداها يترتب عليها ثواب, إلا أنه يصل إلى هدفه الذي هو حقيقة نيته وهو قرب الله ورضاه, وهو قطعاً أفضل وأسمى من الثواب الذي يستحقه على عمله كما قال تعالى: " ورضوان من الله أكبر ( لا يمكن وصفه ) ذلك هو الفوز العظيم ". التوبة 72 الذي هو أكبر من فوز دخول الجنة.
النعم الروحية في الجنة:
وقد روي أن في الجنة ثلاث نعم روحية أكبر وأسمى من جميع نعم الجنة إحداها نعمة الخلود والثانية جوار محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثالثة: رضوان الله. وحقاً إن تلك الساعة التي تدخل روح المؤمن الجنة بقلب سليم ويعمر قلبه الرضا عن الله ويعلم أن الله أيضاً راضٍ عنه فإن هذا الفوز واللذة لا يمكن أن يوصفا.
ومما سلف يعلم أن المراد بالإخلاص في النية, الإخلاص في الهدف أي مراد القلب والغرض والداعي والسبب لإرادة الإنسان لعمل, ينبغي أن يكون هو الله وحده, إذن إذا كان هدف آخر غير الهدف الإلهي هو سبب الحركة نحو العمل العبادي فهو ليس خالصاً وهو باطل ومردود, ولإيضاح ذلك تذكر عدة أمثلة:
الأهداف الفاسدة تبطل العمل:
إذا كان شخص جنباً, والجو بارد, وأحب الدفء, فبادر بهدف رفع الجنابة وتدفئة البدن إلى صب الماء الحار على بدنه, هذا الغسل باطل, نعم إذا صب الماء في البداية على جسده طلباً للدفء, وبعد ذلك اغتسل لرفع حدث الجنابة فغسله صحيح.
أو إذا أتى بالتكبير أو ذكر آخر في الصلاة وهدفه الواقعي أنه مأمور به, إلا أنه أداه بصوت عالٍ لإخبار الغير, مثلاً التحق بصلاة الجماعة والإمام في الركوع منتظر وصوله, ولكي يعلم الإمام بأنه كبر يؤدي التكبير بصوت مرتفع, أو لأجل إلفات الإمام إلى سهوه, أو لإفهام أمر لشخص ما... وفي جميع الموارد التي يكون الإتيان بأصل الذكر إطاعة للأمر الإلهي ورفع الصوت فيه لهدف صحيح فلا ضرر في ذلك. إذا أدى شخص أعمال الحج وهدفه أداء الواجب الإلهي والسياحة أيضاً والنزهة والتفرج فحجه باطل.
إذا أنفق شخص زكاة, خمساً, كفارة, صدقة مستحبة, هدفه أي محركه لهذا الإنفاق شيئان: 1 - أداء التكليف وامتثال أمر الله. 2 - مدح الذي أخذ منه أو مدح الناس أو تعظيمهم وتكريمهم له, أو أن له حاجة يجب أن يقضيها له مستلم النفقة المالية أو غيره, ويجعل هذه النفقة وسيلة لقضاء حاجته, فهذا الإنفاق مردود وباطل.
وكذلك إذا كان له بضاعة فاسدة ويريد أن يتخلص من شرها, فيعمد إلى إنفاقها " في سبيل الله " لا شك في بطلان عمله..., ثم إن كل ما ذكر هو من الضمائم المباحة ( أي الأمور المباحة التي تضم إلى النية ) أما إذا كانت الضميمة للهدف والنية أمراً حراماً كالرياء بالتفصيل المتقدم فإن ذلك - بالإضافة إلى إبطاله العمل - حرام وسبب لاستحقاق العقوبة.
الضميمة المباحة التبعية ليست مفسدة:
ينبغي التأكيد على أن الضمائم المباحة المتقدمة, إنما تبطل العمل إذا كانت حقاً جزء الداعي ( الذي دعا إلى العمل ) ولكن إذا لم يكن جزء الداعي أبداً, وكان المحرك إلى العمل هو ذلك الهدف الإلهي فقط, والضميمة أمر تبعي محض, فهي لا تضر, وللتوضيح تذكر عدة أمثلة:
تريد أن تتوضأ, يدعوك إلى الوضوء الهدف الإلهي, فتقول لابنك: تعالَ تعلم الوضوء أو تريد أن تصلي, وقد حملك على الصلاة الأمر الإلهي, وهناك شخص لا يعرف الصلاة فتطلب منه أن يقف بجانبك ليتعلم الصلاة, أو تريد أن تصلي في المسجد وضمناً تريد أن ترى الشخص الفلاني هناك لأن لك حاجة إليه... والخلاصة: بشكل عام يجب أن يكون محرك الشخص للعبادة هو الهدف الإلهي فقط, أما إذا حركه هدف آخر فالعمل باطل, إلى حد أن الشيخ البهائي يقول: إذا كانت العادة هي محرك الشخص للعبادة فعبادته باطلة, أي إذا لم تحركه إطاعة أمر الله, وكان السبب الوحيد الذي حركه هو العادة التي اعتادها.
ولمعرفة العمل الخالص من غير الخالص ومعرفة أثره تأمل هذه القصة في إحياء العلوم:
تحطيم الأصنام للنفس أم لله:
" في الإسرائيليات أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً, فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى, فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها, فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة, قال: وما
أنت وذاك؟ تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير الله! فقال: إن هذا من عبادتي, قال: فإني لا أتركك تقطعها, فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره, فقال له إبليس: اطلقني حتى أكلمك فقام عنه, فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك! وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض, ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها, فقال العابد: لا بد لي من قطعها فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع؟ قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتى أقول لك, فأطلقه, فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كلّ على الناس يعولونك, ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك, وتواسي جيرانك, وتشبع وتستغني عن الناس, قال: نعم, قال: فارجع عن هذا الأمر ولك عليّ أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك, فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً, ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها, فتفكر العابد فيما قال, وقال: صدق الشيخ! لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها, وما ذكره أكثر منفعة, فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له, فرجع العابد إلى معبده فبات, فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما, وكذلك الغد.
ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم يرَ شيئاً, فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة, فقال كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها, قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة, فقال: هيهات! فأخذه إبليس
وصرعه فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهي عن هذا الأمر أو لأذبحنك! فنظر العابد فإذا لا طاقة له به, قال: يا هذا غلبتني فخلّ عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن؟ فقال: لأنك غضبت أول مرة لله, وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك ( أي نصرك عليّ ) وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك[123].
ضربة واحدة أفضل من عبادة الجن والإنس:
تأمل في هذه الرواية... يقول المحدث الجزائري في الأنوار النعمانية: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين إلى يوم القيامة, وهذا الحديث مستفيض بل قريب من حد التواتر وقال بعضهم: كيف يمكن أن تكون ضربة واحدة أفضل من كل عبادات الجن والإنس إلى يوم القيامة... وقال علماء الشيعة في الجواب:
لأنه عليه السلام كان مخلصاً في قتله ذلك الملعون ولم يكن له أي هدف إلا رضا الله, ول يكن يريد إثبات شجاعته ( لأن عمرواً كان شجاع عصره, وقد كانت مبارزته وغلبته مدعاة لفخر لا نظير له لأن ذلك الملعون كان يواجه ألف فارس شجاع فيغلبهم ) ولأنه عليه السلام لم يكن من هدفه الإفتخار بشجاعته, وكان هدفه الله فقط فصار إخلاصه سبب فضيلة هذه الضربة.
تعلم الإخلاص من علي:
ويؤيد ما تقدم - أي إخلاص أمير المؤمنين عليه السلام - أنه عندما ألقى عمرواً على الأرض وجلس على صدره, تروّى قليلاً فصرخ المسلمون: يا
رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قل لعلي يسرع في قتل عمرو فقال لهم الرسول أن يدعوا علياً وشأنه فهو أدرى بما يفعل, وعندما جاء علي برأس عمرو قال له رسول الله: يا علي ( عليه السلام ) لقد أبطأت في قتل عمرو ولم تعجل...
قال يا رسول الله عندما طرحته أفحش لي في القول فغضبت وخفت إذا قتلته على تلك الحال أن يكون قتلي له بسبب ما قاله لي فتريثت حتى سكن غضبي, وعندها قتلته لله.
قال بعض علماء العامة في بيان الحديث المذكور كان الإسلام آنذاك في المدينة فقط ولو أن عمرواً انتصر لقضي على أساس الإسلام وبديهي أن عبادة الجن والإنس إلى يوم القيامة فرع بقاء الإسلام وحيث أن أمير المؤمنين عليه السلام كان سبب بقاء الإسلام فعمله أصل والعبادات إلى يوم القيامة فرع ومن البديهي أن الأصل أشرف من الفرع.
1 - مراتب الإخلاص:
أولى مراتب الإخلاص هي أن يكون الهدف من إطاعة الأمر الإلهي الواجب أو المستحب هو الوصول إلى الثواب الذي وعد الله به المطيعين, وبعبارة أخرى يعبد ربه بإطاعة أمره على أمل أن يمن الله عليه بما وعد المطيعين, سواءاً كان طلبه ثواباً أخروياً كالجنة أو ثواباً دنيوياً كالتوسعة في الرزق التي تحصل من صلاة الليل, أو نزول المطر من صلاة الإستسقاء, أو تحقق حاجة من صلاة الحاجة, في جميع هذه الموارد... كلما صلى لإطاعة أمر الله - الذي بينه المعصوم فقال: إذا صليت كذا فلك كذا - فصلاته صحيحة طبعاً, رغم أن الداعي والهدف من إطاعة أمر الله الحصول على الثواب الذي أعطي على هذا العمل أو اجتناب العذاب المترتب على تركه والخلاصة
أن الشوق إلى الثوب أو الخوف ن العقاب إذا كان سبباً لحمل الإنسان على امتثال ما أمر الله به فعمله صحيح وليس منافياً للإخلاص.
إذا كان الهدف من العبادة خواصها:
صحة كل عبادة واجبة كانت أم مستحبة تتوقف على أن يكون المحرك للإتيان بها هو فقط طاعة الله أي يأتي بها لأن الله أمر بها, وإذا كان المحرك للإنسان نحو العمل أمراً دنيوياً ونفسانياً كالرياء والضمائم التي ذكرت فالعمل باطل.
إذن... إذا كان الداعي للعمل هو الإطاعة فقط فالعمل صحيح, وحيث أن لإطاعة أمر الله خواصّاً ومنافع أخبر بها الشرع, فكل واحدة من تلك الخواص والمنافع إذا أصبحت سبباً في إطاعة الإنسان لأمر الله ليحصل على تلك الخاصية, فالعمل صحيح ويحصل على ما أراد.
مثلاً: شخص فقير يحب سعة الرزق, يسمع أن الشرع أمر بصلاة أحد عشر ركعة في النصف الأخير من الليل إلى طلوع الفجر وقال: إن هذا سبب لسعة الرزق, فتوضأ وصلى تلك الصلاة وعبد ربه, طبعاً هذا العمل صحيح وسيحصل من الله تعالى على ما أراد.
وآخر ملأ الخوف كيانه من عقبات البرزخ والقيامة ومنازلها, وشدة عذاب النار والتفكير في هذه الحالات وأصبح يعيش الإضطراب والقلق وسمع أن الإمام عليه السلام قال: صلاة الليل نور في القبر والبرزخ والقيامة والصراط وجنة من النار, فينهض في ذلك الوقت من الليل ويصلي على أمل أن تنجيه هذه الصلاة, طبعاً صلاته صحيحة لأنه صلاها بقصد إطاعة أمر الله وسيصل إلى ما أمله من الله أي النجاة من شدائد الآخرة.
وثالث تذكر الجنة والثواب الأخروي والعفو الإلهي, فاشتاق إلى ذلك.
وسمع أنه إذا أطاع شخص أمر الله وصلى صلاة الليل فإن له من الثواب الإلهي كذا وكذا, وأصبح نتيجة ذلك مستعداً لإطاعة ذلك الأمر وعبادة الله فإن الله تعالى يعطيه ما أمل.
الأهداف في الطاعة متفاوتة:
اتضح من هذا العرض أن حالات الأشخاص في أهدافهم من إطاعة أمر الله مختلفة بل إن للشخص الواحد حالات مختلفة باختلاف الأوقات, كما أن للشوق إلى الثواب والخوف من العقاب مراتب أيضاً, مثلاً:
تارة يشتاق إلى الجنة بسبب النعم العجيبة التي وعد الله بها من المأكولات, المشروبات, المناظر الجميلة, المسموعات, القصور, الحور...
وتارة يشتاق إليها لأنها مضافة الله التي يكرم فيها أهل الجنة بقدرته, وكرمه اللامتناهيين...
وتارة يشتاق إليها باعتبارها مجمع الأخيار والأبرار والأنبياء وجميع الصالحين وفي طليعة هؤلاء جميعاً محمد وآله صلى الله عليه وآله...
وبالنسبة لجهنم تارة يخاف منها ويستوحش بسبب أنواع العذاب والإبتلاءات والمشقات.. وتارة بسبب أنها محل غضب الله وسخطه وتارة لأنها مجمع الكفار والفجار والأشرار والأشقياء وفي طليعتهم الشياطين وأعداء آل محمد وتارة يتحسر بسبب الحرمان فيها من الكرامات والألطاف الإلهية ومن جملتها لقاء الصالحين كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل:
فهبني يا إلهي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك.
الحصول على الثواب والخوف من العقاب هدفان صحيحان:
الهدف من إطالة الكلام في هذا المقام جواب الذين ظنوا أن العبادة إذا كانت بهدف الثواب أو الخوف من العقاب, فليست صحيحة. وقد علم بوضوح مما تقدم أن مناط صحة العبادة هو إطاعة أمر الله بهدف الوصول إلى النفع الذي وعد به[124].
وينبغي الإلتفات إلى أن الميل إلى الثواب إذا لم يصبح داعياً لإطاعة أمر الله, بل أصبح داعياً إلى نفس العمل فالعمل باطل ولن يحصل مؤديه على الهدف المترتب على إطاعة الأمر.
مثلاً: ميل شخص إلى سعة الرزق إذا أصبح داعياً له إلى صلاة الليل لا إلى إطاعة أمر الله بصلاة الليل أي يصلي هذه الصلاة لأنها تسبب سعة الرزق ولا يصليها إطاعة لأمر الله وتنتج عن هذه الإطاعة سعة الرزق, في هذه الحال يكون قد وضع صلاته في مرتبة معاملاته الدنيوية ولذا لن تكون لها أية نتيجة لأنه لم يطع أمر الله بل أطاع نفسه ولم يعبد الله بل عبد نفسه ولم يطلب رضا الله بل طلب رضا نفسه وفهم هذا يحتاج إلى مزيد من الدقة.
العمل بدون قصد الطاعة باطل:
ما نقل عن الشهيد الأول والعلامة الحلي وابن طاووس وجمع آخر من الفقهاء من أن العبادة إذا كانت فقط للحصول على الثواب أو الفرار من العقاب
فهي باطلة, فالظاهر أن مرادهم ما ذكر. مثلاً: الخوف من العذاب يحمل شخصاً على إعطاء مبلغ إلى الفقراء, أو الشوق إلى الجنة يحمله على دفع مبلغ للسادة أي يجري معاملة ما, يريد أن يشتري الجنة بهذا المبلغ... هذا طبعاً باطل, لأن الجنة للعابدين والمطيعين لأمر الله وهذا الشخص أدى عملاً امتثالاً لرغبته وإطاعة أمر قلبه. نعم إذا حمله الشوق إلى الجنة على إطاعة أمر ربه بالزكاة والخمس, فأخرج من ماله ذلك المقدار الذي حدده الله وأنفقه في الموارد التي أمر بها دون رياء وسمعة وهدف شيطاني ومرض نفساني فهو صحيح طبعاً ويكون قد أدى عبادة, وسيصل إلى الأمل الذي أمله من ربه من جراء تلك الطاعة والخلاصة: إذا كان الداعي والهدف هو الثواب المترتب على طاعة الله بحيث أن ذلك الهدف هو الذي حمله على الطاعة بالنحو الذي أمر به فعمله صحيح وهو مأجور, أما إذا كان الداعي حمله على أداء العمل لرغبته فيه - دون أن يدخل امتثال أمر الله في حسابه - فعمله باطل, وهو الذي أفتى الفقهاء الكبار ببطلانه.
2 - العبادة بداعي الشكر:
المرتبة الأولى للإخلاص التي هي العبادة شوقاً إلى الثواب أو خوفاً من العقاب, رغم أنها صحيحة وصاحبها مأجور بالشرح المتقدم, إلا أنه ينبغي للإنسان أن يخرج حب النفس ورؤية الذات ويتخلى عن الحظوظ النفسانية ( الرغبات الخاصة ) ويفكر في نعم ربه اللامتناهية فيتأمل في أجزاء البدن, والقوى الإدراكية وفوق ذلك كله نعمة العقل التي منّ الله بها عليه.
ما أجمل ما قاله سعدي الشيرازي: " كل نفَس ينزل ممد للحياة وعندما يرجع فهو مفرح للذات.
إذن في كل نفَس نعمتان وشكر كل منهما لازم.
يد ولسان مَن, يمكنهما الخروج من عهدة شكره العبد الأفضل هو الذي يعتذر إلى ساحته تعالى عن تقصيره وإلا فإن أحداً لا يمكنه أن يؤدي حق عبادته كما ينبغي له[125] ". ويلاحظ - الإنسان - أيضاً الرزق الذي يصله باستمرار والأجهزة العظيمة المسخرة له.
السحاب والريح والقمر والفلك في شغل ليصل إلى كفك خبز ولا تأكله وأنت غافل, كل هذه مسخرة لك ومطيعة لأجلك وليس من الإنصاف أن تكون أنت غير مطيع[126].
وليتأمل قليلاً في النعم المعنوية, كيف أنه لم يترك حيراناً ضائعاً, بل هداه الله وأرسل النبي وعرفه الإمام وقدم له التعاليم التي تضمن سعادته الأبدية.
وليلاحظ كذلك توفيقاته وتأييداته التي لا تحصى, وليتأمل في الستر والعفو والإمهال الإلهي على ذنوبه الكثيرة جداً, وحقاً... لو أراد كل إنسان أن يحصي النعم المتتالية عليه لما استطاع.
شكر النعمة بحكم العقل:
ثم يرجع إلى عقله ووجدانه ليرى هل من المناسب أن يستصغر كل هذه النعم التي لا تحصى ولا يقيم لها وزناً, وينسى المنعم عليه ولا يعبده ويخضع له ويخشع, في حين أن جميع أوامره لفائدة العبد نفسه وسعادته. لو أن بشراً مثله أعطاه واحداً على ألف بل واحداً من مليون من النعم التي أعطاه الله إياها, فكيف تكون معاملته له يا ترى؟
علماً بأن كل إحسان يصل إلى الشخص وبأي واسطة كان فإنما هو من الله
وقد أشير إلى ذلك في بحث التوحيد الأفعالي.
والواقع أنه حتى إذا لم يكن أي وجود للثواب والعقاب والجنة والنار فإن من الواجب عقلاً شكر مثل هذه النعم بإطاعة أوامره في مقابل إحسانه وإنعامه اللامتناهيين وبالإعتذار عن عدم الشكر والكفران الذي صدر عن تقصير أو قصور.
من هنا كرر القرآن المجيد التذكير بهذا الحكم العقلي:
" فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ". البقرة 147 " فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ". الأعراف 73.
وفي القرآن المجيد أكثر من سبعين آية حول شكر الله تعالى. وفي الحقيقة إذا أصبحت سعادة الشكر نهجاً لشخص, وجعل أساس عبادته وإطاعته لله على قاعدة الشكر وأداها بذلك الهدف فسينعم بفوائد عظيمة من المقامات العالية للقرب من الله وحبه والإخلاص والتسليم والرضا, وسيصونه ذلك من كل ذنب.
" وسنجزي الشاكرين ". آل عمران 145.
إن من كانت رغبته الباطنية وميله الداخلي وأمنيته القلبية هي شكر ربه تعالى, بحيث يصبح ذلك داعيه إلى العبادة, أي يحمله ذلك الميل القلبي على العبادة والطاعة, فسيكون له - بالإضافة إلى الثواب المترتب على عمله والذي سيعطاه بالنحو الأحسن - نصيب من الدرجة والمقام اللذين أعدهما الله للشاكرين.
3 - العبادة بداعي القرب من الله:
بمجرد أن يدرك العبد حقارة نفسه وعجزها وحاجته وخلو يده من كل
شيء, يدرك أنه بين يدي العظمة والقدرة المطلقتين وأن الإستغناء والجلالة والكرامة لله تعالى, وتنبعث في قلبه أمنية القرب إليه سبحانه, ليعالج ببركة هذا القرب أنواع عجزه ونقصه وحاجته, أي تتبدل كلها إلى قدرة وكمال وغنى. ثم إن أمنيته القلبية التي هي القرب من الله عز وجل تحمله على العبادة والإطاعة لأن الوسيلة الوحيدة للقرب من الله هي هذه العبادة والإطاعة.
ومن كان داعيه إلى العبادة هو القرب من الله, فبالإضافة إلى الثواب والأجر الذي سيعطى له على تلك العبادة سيحصل ببركات قرب الله التي لا يمكن أن توصف على فوائد كبيرة.
القرب بحسب المرتبة والكمال:
من أجل معرفة معنى قرب الله يتم إيضاح ما نقله العلامة المجلسي رحمه الله في عين الحياة:
القرب من الله ليس قرباً زمانياً ومكانياً لأن الله منزه عن الزمان والمكان, ولقرب الله معانٍ كثيرة يكتفى في هذه الرسالة ببيان معنيين منها.
الأول: القرب بحسب المرتبة والكمال, أي لأن واجب الوجود كامل من جميع الجهات ولا نقص في ذاته وصفاته, والممكن هو تمام النقص والعجز وعدم الكمال, من هنا كان التقابل والتباين بين الواجب والممكن متجلياً بأقصى الحدود, وكلما أزيل نقص من نقائص ممكن الوجود وأفيض عليه كمال من كمالات الفياض المطلق يحصل للممكن قرب في الجملة ( من الواجب ) كما لو كان شخصان متضادين ومتباينين في أخلاقهما, يقال عنهما: هذان بعيدان عن بعضهما جداً, فإذا اكتسب أحدهما خلقاً من أخلاق الآخر يقال: هذا اقترب من الآخر بعض الشيء, صحيح أن صفات
الواجب والممكن لا ارتباط بينهما وكمال الممكن مختلط ومشوب بمائة ألف نقص, أما - بلا تشبيه - يحصل للممكن نوع معرفة وارتباط بالواجب وهو الذي يعبر عنه بالقرب, لأن العبادات الظاهرة لطف في العبادات الباطنة وكل عبادة سبب كمال في النفس, فمن الممكن إذن أن يكون هدف الإنسان في العبادة تحصيل هذا الأمر, ودرجات ومراتب هذا القرب لا تتناهى, وتفصيل هذا المعنى موكول إلى مقام آخر إن شاء الله.
القرب بحسب الذكر والمحبة:
المعنى الآخر للقرب القرب بحسب الذكر والمحبة والمصاحبة المعنوية كما لو كان شخص في المشرق وله صديق في المغرب, وهذا الصديق دائماً يلهج بذكر محبوبه لا يغيب عن ذاكرته وهو يتحدث دائماً بمناقبه, منصرف دائماً إلى أعمال مرتبطة به... مثل هذا الصديق سيكون بحسب القرب المعنوي أقرب إليه من غريب عنه أو عدو جالس بجانبه وظاهر أن هذا المعنى يحصل من كثرة العبادة والذكر " لو كنت في اليمن فلأنك معي فأنت عندي ".
4 - العبادة حياءاً:
عندما يضيء قلب العبد بنور الإيمان ويدرك حسن العبادة والطاعة وقبح التمرد والمعصية ويصل في مقام المعرفة إلى درجة الكمال ويدرك أن الله - دائماً وفي كل مكان - حاضر وناظر, بحيث يعلم أن خفايا باطنه هي عند الله علن, يتجلى لقلبه الجلال والعظمة الإلهيين ولذا يكون في حياء دائم من ربه, وحياء حضور الحق تعالى هذا يمنعه من كل ذنب ويدعوه إلى كل طاعة إلى حد لو فرض أنه قيل له وعلم أنه لن يعذب وأنه من أهل الجنة قطعاً, فإن ذلك الحياء يمنعه أيضاً من التمرد وفعل القبيح وهذا الأمر في غاية الوضوح.
إن الإنسان دائماً يجتنب الأعمال القبيحة والمنافية في حضور عبد عاجز مثله فكيف لا يستحي في حضور الخالق من الأعمال القبيحة والعصيان. نعم في حال الغفلة عن حضور الحق ما أكثر العصيان وفعل القبيح وقلة الحياء التي تصدر من الإنسان. هنا وعلى هذه الغفلات ينبغي أن تسكب العبرات ينبغي العويل على قلة الحياء من الله الغفار الستار.
5 - العبادة حباً:
عندما تخرج من نفس الإنسان - نتيجة المجاهدات النفسية والتفكير الكثير في فناء الدنيا - محبة الشهوات الحيوانية والآمال النفسانية, ويتخلص من مرض الأنانية وعبادة الذات ويصبح مورداً للطف الله ومحبته وبسبب ذلك وبسبب بركة كثرة العبادة والسعي في الإخلاص عندها يجعل الله قلبه محلاً لإشراقة نور محبته ليصبح محبه ومحبوبه " يحبهم ويحبونه ". المائدة 54. ومقام المحبة أعلى درجات المقامات الإنسانية ونهاية آمال العارفين.
ولأن القلب سلطان البدن, وجميع حركات الجسد الإختيارية تتم بأمره وإرادته, فالقلب الذي ليس فيه حب آخر ورغبة أخرى, غير حب الله والرغبة فيه فإن حركات عينه وأذنه ولسانه ويده ورجله وكل عضو منه ستتحرك على قاعدة حب الله خصوصاً حركات عبادته أي أن من أصبح محباً لله فعبادته وخضوعه وخشوعه له سبحانه وإطاعته له إنه يحبه هو بالذات إلى حد يصبح ذكر الله لديه بالعبادة والإطاعة أحلى من العسل, وتصبح لذة قلبه وسروره واستقراره واطمئنانه في ذكر الله. ويكون حاله أثناء ذكر الله كحال السمكة في الماء كما تكون حالة غفلته كحال السمكة خارج الماء " يا مولاي بذكرك عاش قلبي وبمناجاتك برّدت ألم الخوف عني[127] ".
بذكر الله تطمئن القلوب:
" الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". الرعد 28.
إن كل من أصبح محباً لله, يحب أن لا يجري لسانه إلا بذكره وأن لا يطرق سمعه شيء غير ذكره وأن لا يقع بصره إلا على آياته, وأن لا تتحرك يده ورجله إلا في امتثال أوامره.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم يسر[128].
من استقر حب الله في قلبه وعشق العبودية, سوف لن يكون الثواب هدفه ويصل به الأمر إلى حيث لو فرض أنه تيقن أنه لا يدخل الجنة ولا يجزى على عمله فإنه لا يتخلى عن العبادة والطاعة. بل إذا أدخل النار فإن حب الله الذي أصبح جزء ذاته وحقيقته يبقى يرافقه كما يقول الإمام السجاد عليه السلام:
إلهي لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد وأمرت بي إلى النار, وحلت بيني وبين الأبرار ما قطعت رجائي منك ولا صرفت وجه تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبك من قلبي، أنا لا أنسى أياديك عندي، وسترك المرخى علي في دار الدنيا[129]. يا من
أذاق أحباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين[130].
وكما أن محب الله محب للعبادة والطاعة فهو يتألم من الغفلة والمعصية ويرى الذنب عدوه وهو لديه أمرّ من الحنظل بحيث لو فرض أنه لا يعذب على الذنب فمع ذلك ليس مستعداً أن يلوث نفسه بالذنب لأنه أدرك قبحه ووضاعته.
في الحقيقة إن محب الله شُفي قلبه من كل مرض وأصبح سالماً تماماً خصوصاً من جهة الذائقة أي تذوق حلاوة ذك الله والعيادة وأدرك مرارة الذنب, ومحبو الدنيا على العكس فقد انحرفت ذائقة قلوبهم عن الفطرة الإنسانية ولم يدركوا إلا اللذات الحيوانية الخسيسة وهم يرون الحلاوة في ذكر الدنيا والشهوات ويفتخرون بمشاركة الحيوانات ويهربون من ذكر الله والدار الآخرة, ويحملون أنفسهم على الغفلة عبر الإنشغال بملاهي الدنيا.
" وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ". الزمر 45.
علامات المحبين:
ما ذكر من أن محبّي الله يحبون العبادة ويرون الذنب عدوّاً فيتركونه, هو في حد ذاته علامة لهم يعرفون بها روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف يمكنني أن أعرف من أحببت ممن أبغضت قال تعالى: يا موسى إذا أحببت عبداً جعلت فيه علامتين قال موسى: يا رب وما هما؟ قال: يا موسى إذا أحببت عبداً ألهمته ذكري لكي أذكره في ملكوت السماء وعصمته ( عن )
محارمي لئلا يحل عليه عقابي وسخطي[131].
إذا وفق إنسان للعبادة بدافع المحبة لله فقد وفق لأشرف مراتب الإخلاص كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: العُباد ثلاثة قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء, وقوم عبدوا الله عز وجل حباً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة[132].
ومن الجدير بالذكر أن ما تقدم من أن طاعة محبي الله وعبادتهم ليس للوصول إلى الجنة والفرار من النار, ليس معناه أنهم يستصغرون الجنة ويحتقرون النار. الجنة التي خلقها الله ووصفها بأنها كبيرة " وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ". الإنسان 20 هل يمكن أن يستصغرها محبو الله... الجنة التي دعا الله عباده إليها فقال أسرعوا إليها " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ". آل عمران 133 أليس محبو الله مشتاقين إليها... ألا يريدونها... بالإضافة إلى أن الجنة دار الكرامة وتجليات أنوار الجمال الإلهي. وكذلك النار التي جعلها الله سجناً ودار قهاريته وحذر منها العباد: " ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ". الزمر 16.
الشوق إلى الجنة والخوف من النار هما اللذان أطلقا أنين محبي الله وأجريا دموعهم وأحرقا قلوبهم " ولولا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقر
أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب[133] ".
كل ما في الأمر أن صاحب المعرفة والمحبة الذي يزيد شوقه إلى الجنة عن غيره ليس سبب شوقه هذا المنافع والملذات النفسية, بل لأن الجنة محل كرامات رب العالمين وألطافه ومقام القرب منه والمخاطبة له. وكذلك خوفهم الشديد من النار الذي هو أكثر من خوف غيرهم ليس سببه فقط أنواع العذاب فيها بل من جهة أنها محل قهارية الله والبعد عنه وهجران أوليائه.
مثال ذلك:
ولإيضاح ذلك يذكر هذا المثال:
عندما يدعو السلطان جماعة على مائدته, ويحركهم الشوق ويحضرون, فإنهم على ثلاثة أقسام:
فئة تتصف بأوصاف المستجدي العابد لبطنه وشوق هذه الفئة إلى ملء بطونهم من هذه المائدة الكبيرة.
وفئة أخرى شوقها إلى أن في مائدة السلطان نعماً لا تحصل في مكان آخر, وفي قصره ضيافة ملكية.
وفئة ثالثة عاقلة الهمة شوقها فقط إلى نسبة هذه المائدة إلى السلطان حيث تنعم هناك بلذات القرب من السلطان وصحبته وملاطفته والحديث إليه[134].
وكذلك إذا أمر السلطان بإلقاء شخص عادي في السجن فإن ذلك الشخص يتألم فقط للمشقة التي هو فيها, أما إذا غضب السلطان على
شخص عاقل صاحب مقام كوزيره مثلاً وألقاه في السجن فإن المشقة التي يعيشها ذلك المسكين من سخط السلطان والبعد عنه وتنزل مقامه لا يقاس بمشقة السجن, بل إن جميع تألمه في السجن سببه غضب السلطان عليه.
أردت السلطنة فصرت لك عبداً:
بعد ملاحظة هذا المثال أقول: مع أن شوق أهل المعرفة والمحبة إلى الجنة وخوفهم من النار كثير - إلا أن داعيهم إلى عبادة الله وطاعته هو تلك المحبة بالتفصيل الذي تقدم. وقد عرفوا الله بحيث أصبحوا يفضلون العبودية له وامتثال أوامره بالطريقة المقبولة عنده على سلطنة العالم ويفتخرون بذلك ويرون عزتهم في ذلك كما يقول سيد الأولياء علي المرتضى عليه السلام: إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً, وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً, أنت كما أحب فاجعلني كما تحب.
" يا رب إذا قلت مرة واحدة: " عبدي " فإن صوت ضحكتي سيتجاوز العرش الأعظم[135] ".
6 - عبادة الكاملين في المحبة والمعرفة:
عندما يتجاوز العبد في معرفة رب العالمين مرحلة علم اليقين ويصل إلى حق اليقين ويعرف أسماء الله وصفاته وجماله وجلاله كما ينبغي ويصل في المحبة والإرتباط بالله إلى الدرجة الأعلى التي يعبَّر عنها بالعشق, عندها يعلم أن الله أهل للعبادة والطاعة, ولذا يكون دائماً جاهزاً للعبادة والإطاعة. وهذا مقام عظيم جداً بل العقول الجزئية عاجزة عن إدراكه واللسان والقلم عاجزان
عن بيانه, ولا يعرف أحد شيئاً عن هذا المقام إلا صاحب العقل الكلي كسيد العارفين أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو صاحب هذا المقام, وعلي فقط[136] هو الذي يمكنه أن يقول: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
وحيث أن لكلٍّ من هذه الدرجات الست للإخلاص مراتب لا تحصى فقد يصل بعض الصديقين إلى مرتبة من مراتب الدرجة الأخيرة.
نصيحة ضرورية:
اتضح جيداً مما تقدم في بحث النية والإخلاص أن سعادات حياة الآخرة كلها ترجع إلى صدق النية وإخلاصها, إلى حد أن حشر الخلائق في القيامة طبق نواياهم. والدخول إلى الجنة ودرجاتها التي لا تحصى يتم أيضاً باعتبار مراتب النية التي لا تحصى كما أن سبب الخلود في الجنة هو أيضاً النية.
بناءاً عليه يجب أن يقرأ القاريء العزيز هذا البحث بدقة مراراً ثم لا يقنع بمعرفة ذلك بل يسعى في تصحيح نيته ويعلم أهميتها.
صحة النية وحسنها وصدقها وكمال إخلاص النية كل ذلك يتحقق عندما يكون توجه القلب إلى الله كما يقول سبحانه: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ". البقرة 112.
ويقول أيضاً: " ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ". لقمان 22.
ويقول أيضاً: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما
أنا من المشركين". الأنعام 79. وآيات القرآن المجيد في أن وجه القلب يجب أن يكون لله كثيرة وفي ما نقل كفاية.
التوجه إلى الله, كيف؟
المهم معرفة المعنى وحقيقة توجه القلب إلى الله فنقول: القلب الإنساني كمرآة ذات وجه واحد ترى فيها الرسوم والأشكال والصور وليس في ظهرها أي منظر.
فإذا كان جميع وجه الإنسان إلى الدنيا فلن يوجد فيه غير الوساوس الشيطانية والهوس والأهواء النفسية والشهوات والحيوانية ويكون كل تحركه وسعيه للوصول إلى تلك الأشياء الكامنة في قلبه.
أما إذا كان كل توجه القلب إلى الله فلن يكون فيه شيء غير الرغبات الإلهية أي يكون كل أمله تحصيل رضا الله وقربه والعبودية له وتأمين الحياة الأبدية بالتفصيل الذي مرّ في مراتب الإخلاص.
والخلاصة أن توجه القلب هذا إلى الله هو معنى المحبة والإستقامة وخلوص النية ومن الطبيعي أن لتوجه القلب إلى الله كذلك مراتب لا تحصى ومرتبته الأعلى هي أن يكون كل وجه القلب في كل الأحوال نحو الله وهذا مقام المعصومين عليهم السلام والمراتب الأخرى بمقدار مواجهة القلب وزمان المواجهة إلى حيث قد يكون جزء من مائة من القلب مع الله ويكون في الباقي مواجهاً للدنيا, كما قد يتفق أن القلب لا يواجه الله في اليوم والليلة إلا عدة لحظات بينما هو في الباقي مواجه للدنيا.
رغبات القلب ميزان:
الميزان لمعرفة مقدار توجه القلب إلى الله تلك الرغبات القلبية إذا كانت
الرغبات رحمانية والآمال الأخروية فيه أكثر فصاحب ذلك القلب من أصحاب اليمين ويؤمل فيه الخير جداً, وإذا كانت الوساوس الشيطانية والهوس النفساني فيه أكثر فهو من أصحاب الشمال وأمره صعب, ويجب أن يصلح انحراف قلبه بتقليل الآمال والأماني الدنيوية كما تقدم في بحث القسوة إلى أن يستقيم ويواجه الحق. والواقع أن انشغال الإنسان بعيوبه ورؤيته لحاله كما هي خفي جداً ومشكل, لأن النفس والشيطان لا يريدان أن يدرك الإنسان المسكين عيبه ويبادر إلى إصلاحه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " إلا إذا جد إنسان واجتهد وتضرع إلى ربه طالباً منه البصيرة والهداية ليرى بنور هداية الله في بيت قلبه المظلم انحرافاته عن الصراط المستقيم ثم ينصرف إلى علاجها.
من أراد الله به خيراً:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أراد الله بعبد خيراً لها عن محاسنه وجعل مساويه بين عينيه ( حتى لا ينساها ويتداركها ) وكرهه مجالسة المعرضين عن ذكر الله[137].
ويجب الإنتباه إلى أن هذا النور يوفق له الإنسان إذا لم يكن مغروراً بنفسه, راضياً بذلك النقص الموجود فيه. أي أنه في كل مرتبة من مراتب الإخلاص ينظر إلى المراتب الأعلى حتى لا يرى نفسه من أهل الإخلاص ولا يسميها مخلصة. وعلى غرار أهل الدنيا الذين ينظرون دائماً إلى من فوقهم ولا يقنعون بأي مستوى يصلون إليه ولا يكتفون, كذلك محبّو الله ينظرون دائماً إلى المراتب العالية للإخلاص في العبادة والطاعة ويرون أنفسهم مقصرين في الإخلاص وإظهار المحبة, ولذلك يجدون أنفسهم بين يدي الله منكسي
الرؤوس خجلاً, عاصين, صفر الأيدي: " كيف أتخلص من الخجل من حبيبي إذا لم أتمكن من أن أقوم بخدمته كما ينبغي ".
لم نقدم العمر والمال فداءاً للحبيب لأن عشقنا يقصر عن ذلك[138] ".
وفي الحقيقة كل من رأى نفسه مخلصاً فقد استعظم عمله وكل من استعظم عمله فليس من أهل الإخلاص, وكما قيل وسيأتي في بحث العجب, قيمة الأعمال بمقدار مراتب الإخلاص في النية والصدق والمحبة.
مسائل في الإخلاص:
حيث أن الشرط الشرعي في صحة وقبول أية عبادة واجبة أو مستحبة, هو الإخلاص في نيته بالتفصيل المتقدم, فمن الواجب على كل شخص - قبل البدء بالعمل - اليقين بإخلاص نيته في أداء ذلك العمل كما أن شرط صحة الصلاة, الطهارة, إذن يجب على كل شخص قبل البدء بالصلاة أن يحصل على اليقين بالطهارة, ويصلي على ذلك اليقين, وإذا شك في طهارته ( بدون يقين بطهارة سابقة ) وصلى على تلك الحال من الشك فصلاته باطلة. كذلك إذا شك في إخلاصه وصلى على ذلك الشك أو أتى بعبادة أخرى فعمله باطل.
مثلاً إذا تيقن قبل الشروع في الصلاة, الحج, الإنفاق, أو أية عبادة أخرى أن محركه لهذه العبادة هو الله وحده, ورؤية الخلق وعدم رؤيتهم له على حد سواء, ومحبة الناس وثناؤهم على ذلك العمل ليس له أي تأثير في قلبه, فليؤدِّ تلك العبادة فهي صحيحة ومقبولة وإذا رأى بعد الرجوع إلى نفسه أنه بالإضافة إلى طاعة الله فإن رؤية الناس له جزء مراده الباطني لذلك العمل فإن
أداء تلك العبادة على هذه الحال حرام مهما كان ذلك العمل مستحباً, وإذا تحير وشك في مقصده ومراده الباطني هل تريد نفسه غير طاعة الأمر, أي أن يراه الناس, فمن الواجب أن يؤدي ذلك العمل سراً, أو يصبر حتى يزول شكه ويتيقن بإخلاصه.
وكذلك في الضمائم الأخرى غير الرياء فإن من الواجب أيضاً اليقين بإخلاص النية وسلامتها من تلك الضمائم. مثلاً إذا تيقن أثناء الوضوء أو الغسل بالماء الحار أنه لا هدف له غير إطاعة الأمر وأنه يتوضأ بالماء الحار لأن الماء البارد يؤذيه, أو لأنه لا ماء غير هذا الماء الحار فعمله صحيح, وإذا تيقن أنه بالإضافة إلى طاعة الأمر يريد تدفئة بدنه بحيث أن ذلك جزء مراده فعمله باطل كما تقدم وإذا شك فيجب أن يتوضأ بالماء البارد أو أن يصب الماء الحار على أعضاء وضوئه طلباً للدفء ثم يتوضأ.
يجب عدم الإعتناء بالوسوسة:
ينبغي التذكير بأن ما قيل من لزوم ترك العمل عند الشك في الإخلاص إنما هو فيما إذا شك الشخص واقعاً في نيته الحقيقية وهدفه الباطني, أما إذا كان ذلك من باب الوسوسة الشيطانية والخواطر النفسانية فلا ينبغي الإعتناء بها.
توضيح ذلك:
أحياناً يميل الإنسان إلى أداء العبادة الفلانية إطاعة لأمر الله ولا يكون له أي هدف باطني آخر واقعاً, لكن الشيطان - لحرمانه من ذلك العمل وعدم حصوله على ثوابه - يُخْطر بباله أن هدفك رؤية الخلق لك ومدحهم أو هدفك " الضميمة ", في هذه الصورة ينبغي أن لا يترك العمل بل يجب أن يرجع إلى باطنه ويحصل على الإطمئنان بأن لا هدف له ولا مراد إلا الله ووجود الضميمة وعدمها سواء, ورؤية الناس وعدمها سواء وينبغي أن يستعيذ أي يلجأ إلى الله من شر الشيطان ويسأل الله حفظ الإخلاص وزيادته ويؤدي العمل متكلاً عليه.
الخلاصة: لا ينبغي الإعراض عن إطاعة أمر الله بواسطة الوسوسة في الإخلاص فيسلط الشيطان على نفسه ويفرحه بامتثال أوامره, وليعلم أن ترك العمل نتيجة الوسوسة الشيطانية في الإخلاص هو في حد ذاته من أنواع كيد ذلك الملعون, كأن يخطر ببال إنسان: إذا أديت هذه العبادة اغتابك الناس وقالوا فلان مرائي, فيترك العمل حتى لا يقال عنه أنه مرائي.
وأيضاً مثل أن يُخطر بباله أنك إذا أتيت بهذا العمل فستصبح مشهوراً به وهذا الإشتهار بالطاعة في حد ذاته نقص في درجتك عند الله... وفي جميع هذه الموارد يكون هدف الشيطان الحرمان من عمل الخير, والإنسان العاقل الذي صحح نيته وتساوى عنده مدح الناس وذمهم لا ينبغي أن يعتني بهذه الوساوس وإنما أُمر بالإستعاذة قبل الشروع بأي عمل للحيلولة دون وساوس الشيطان.
نعم... إذا شك حقيقةً في أصل نيته ولم يعلم هل له - غير الداعي الإلهي - غرض نفساني آخر, في هذه الحال يجب ترك العمل والسعي في إخلاص النية ثم يأتي بالعمل كما في هذه القصة:
يترك الصلاة أول الوقت جماعة:
في مستدرك الوسائل أن المحقق المتقي الشيخ عبد الله التستري ذهب ذات يوم إلى الشيخ البهائي لزيارته. وعندما حان موعد صلاة الظهر وارتفع صوت المؤذن طلب منه الشيخ البهائي البقاء ليصلي الظهر مقتدياً به حرصاً على ثواب الصلاة جماعة, فتأمل الشيخ التستري قليلاً ثم رفض البقاء ومضى إلى بيته. وعندما سأله أحد المقربين منه عن سبب عدم بقائه رغم حرصه على الصلاة أول الوقت قال: رجعت إلى نفسي فرأيت أن اقتداء مثل الشيخ البهائي بي يترك أثراً في نفسي ويفرحني, ولست بحيث يكون ذلك وعدمه
لدي سواء[139].
إخلاص المقدس الأردبيلي:
وهذا الإهتمام بالإخلاص الذي تجلى في المحقق المذكور هو ببركات أستاذه المحقق الأردبيلي كما يدل عليه ما ينقله التنكابني في قصص العلماء حيث يقول:
كان الشيخ عبد الله إذا سأل المقدس الأردبيلي مسألة ويطلب منه التباحث فيها يسكت المقدس ويقول دعها لأراجعها, ثم يأخذ بيد الشيخ ويخرجان من النجف باتجاه وادي السلام وعندما لا يبقى معهما أحد يقول المقدس: أعد علي مسألتك ثم يتكلم في أطرافها ويشبعها بحثاً وتحقيقاً.
ويقول الشيخ عبد الله: لِمَ لم تذكر هذا التحقيق هناك فيقول الأردبيلي: كان هناك جماعة يسمعون حديثنا ومن الممكن أن يؤدي البحث إلى انتقاص أحدنا فيبادر مَن ظهر عجزه منا إلى إثبات علمه وطلب الغلبة على الآخر وهذا منافٍ للإخلاص وأما هنا فليس معنا إلا الله ونحن بمنأى عن الرياء[140].
لا يترك العمل عند الشك في الإخلاص:
اتضح جيداً مما تقدم أنه لا يصح البدء بالعمل مع الشك في الإخلاص ( لا الوسوسة ) بل يجب الإتيان بالعبادة سراً حيث يُطمأن بالإخلاص. فإذا أراد أن يأتي بها علناً, أو كانت عبادة لا تؤدى إلا علناً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إرشاد الجاهل, العمل المنبري, الموعظة, الصلاة جماعة, وأمثال ذلك فمن الواجب قبل البدء بالعمل, السعي في إخلاص النية بالتفصيل الذي
ذكر في بحث علاج الرياء, وأن لا يأتي بالعمل إلا بعد الإطمئنان إلى أن الذي يدعوه إلى هذا العمل هو داعٍ رحماني فقط لا شيطاني.
الخلاصة: لا ينبغي أن يكون الشك في الإخلاص وسيلة لترك العمل خصوصاً في الواجبات فتركها حرام بل السعي فيها للإخلاص في النية بمقدار الإستطاعة واجب, أي أنه إذا سعى بمقدار استطاعته قبل الإتيان بالعمل الواجب - كالأمر بالمعروف - للحصول على النية المخلصة وبقي متحيراً ولا يدري هل هناك داعٍ نفساني بالإضافة إلى الداعي الرحماني, هنا يجب أن يأتي بالعمل وهو صحيح, خصوصاً إذا كان يستاء واقعاً من الرياء. وفي مثل هذه الحال يكون ذلك الإستياء نفسه شاهداً على أن منشأ حيرته هو الوسوسة لا غير ولا ينبغي الإعتناء بها.
المسألة الثانية: لا ينبغي الرياء في كتمان المعصية أيضاً:
كما لا ينبغي الرياء في إظهار الطاعة فكذلك في كتمان المعصية, توضيح ذلك: إذا أدى شخص عبادة أو عملاً خيرياً سراً ثم أظهره بهدف طلب المنزلة والوجاهة لدى الناس كأن يقول: أعطيت المبلغ الفلاني إلى الفقير الفلاني, انشغلت الليلة الماضية بالصلاة والمناجاة وغير ذلك فهذا حرام بالتفصيل المتقدم. نعم إذا كان هدفه واقعاً من إظهار العمل هو فقط شكراً لله على التوفيق الذي تفضل به, أو حث شخص آخر وترغيبه للإشتراك في عمل الخير ذاك فلا ضرر في ذلك.
كذلك إذا أخفى شخص ذنبه عن الناس حفاظاً على منزلته بينهم وحرصاً على استمرار مدحهم وثنائهم فإنه بذلك يكون مرائياً لأنه طلب المنزلة لدى الناس بإخفاء ذنبه وبعبارة أخرى: أظهر نفسه بمظهر الورع والتقوى والخائف من الله عبر إخفاء ذنبه.
وكلما كان إخفاء الذنب ليس لإظهار طهارته وتقواه فليس رياءاً ولا حراماً بل إذا أخفى ذنبه عن الناس لأهداف صحيحة - سيأتي بيانها - فذلك حسن وفي بعض الموارد يكون واجباً.
الأهداف الصحيحة لإخفاء الذنب!
1 - لأنه علم أن الله ستار العيوب وهو يحب أن لا ينكشف ذنب أحد, فيخفي ذنبه لذلك, وشاهد الصدق على هذا عندما يكون الشخص يحب أن لا ينكشف ذنب أي مسلم كما يحب ذلك لنفسه. هذا يثبت أنه " لله " لا يحب أن يظهر ذنبه ولذلك أخفاه.
2 - لأنه يعلم أنه إذا ظهر ذنبه فسيقع الناس في غيبته وذمه, كما يوجب ذلك تشوشه بحيث لا يوفق لحضور القلب والتوجه في العبادة أو أن ذلك يحرمه من بعض الخيرات, أو أن الناس يؤذونه... من هنا لا يحب انكشاف ذنبه.
3 - لأنه يتصف بالصفة الكريمة ( الحياء ) ومن كانت هذه صفته يخجل من انكشاف ذنبه, ولكي يحول دون خجله من الناس فإنه يخفي ذنبه, وطبعاً صفة الحياء مرضية عقلاً وشرعاً.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " الحياء شعبة من الإيمان " و " إن الله يحب الحيي... ".
إلا أن مثل هذا الشخص ينبغي أن يكون أشد خجلاً من الإفتضاح أمام الله فلا يذنب من الأساس.
وعلى أي حال فإن الذين يخفون ذنوبهم عن الناس حياءاً هم يقيناً أفضل من الذين لا يستحون, ولا يتورعون عن إظهار ذنوبهم.
4 - لأنه علم أنه إذا اطلع آخر على ذنبه فستزول من نفسه ( الآخر )
خطورة الذنب, ويستصغر الذنب وسيبتلى هو أيضاً بالتلوث والمعصية. مثلاً: إذا اطلع أفراد الأسرة أن أباهم أو كبيرهم لا يصلي أو يفطر عامداً من غير عذر في شهر رمضان أو يشرب الخمر فإن ذلك يترك أثره فيهم, وقد يتلوثون هم بهذا الذنب. وكذلك الأمر في كل كبير بالنسبة إلى من تحت يده فإنه يجب على الكبير إذا كان مبتلى بذنب أن يخفيه عنه حتى لا يكون سباً في جرأته على الذنب.
المسألة الثالثة: الرياء في العبادة فقط هو الحرام:
ما ذكر من خطورة ذنب الرياء, المراد به الرياء في العبادة أي أن يجعل الشخص عبادة واجبة أو مستحبة وسيلة لطلب المنزلة عند الناس أما إذا لم يكن العمل عبادياً وجعله وسيلة للتقرب إلى الناس فرغم أن حرمته الشرعية ليست ثابتة لكن لا يخفى أنه إذا جعل شخص سيرته الرياء فقد سلك خلاف الصراط المستقيم للعبودية والتوحيد, وإذا استمر في ذلك فلن يكون بوسعه الوصول إلى مقام اليقين.
ثم إن من اعتمد الرياء في أفعاله غير العبادية فسيرائي في أفعاله العبادية وبناءاً عليه فطريق الإحتياط هو أن يجتنب أي نوع من أنواع الرياء.
وقد ذكرت أنواع الرياء في كتاب " الذنوب الكبيرة " ولأن الإطلاع عليها ضروي, ولعل القاريء لم يقتن ذلك الكتاب فيشار إليها هنا تتميماً لبحث الرياء.
الأمور التي يراءى بها:
قال بعض أهل التحقيق[141] في معرض تحديد الأمور التي يمكن أن يقع
الرياء فيها, ما يلي:
" والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام ( .... ) البدن, والزي, والقول, والعمل, والأتباع والأشياء الخارجية " وكلٌّ منها إما أن يرائي به أهل الدنيا, أو المدّعون أنهم من أهل الآخرة وهذا إيضاح ذلك.
1 - " الرياء في الدين بالبدن ":
" وذلك بإظهار النحول والصفار ( إصفرار الوجه ) ليوهم بذلك شدة الإجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة, وليدل بالنحول على قلة الأكل, وبالصفار على سهر الليل وكثرة الإجتهاد وعظم الحزن على الدين وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر ".
" إنه عرف أن الناس يستدلون بهذا على ذاك من هنا تظاهر بهذه الأمور ".
" فأما أهل الدنيا فيراؤون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها ".
2 - الرياء بالهيئة والزي:
وأما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف و ( .... ) وترك تنظيف الثوب... كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه من أهل العلم والزهد والعبادة... مع أنه لا حظّ له من العلم والدين ويبلغ به الرسوخ في الرياء بهذه الأمور حداً بحيث إذا أرادوا تغيير زيه فكأنهم يريدون قتله لأنه يخشى أن يقول الناس عنه أصبح من أهل الدنيا... وترك طريقة أهل
العلم و " أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والسكن وأثاث البيت " وواسطة النقل ليجذب انتباه الناس إليه ويمدحوه ويعظموه.
3 - الرياء بالقول:
وذلك بأن يعظ الناس ويحذرهم من شدة أمر الآخرة ويشوقهم إلى الجنة في حين لا وجود في قلبه لشيء اسمه الخوف من الله والآخرة ولا أثر فيه للشوق إلى الجنة وكذلك أن يقرأ الآيات والروايات ويحفظ معانيها ليظهر فضيلته أثناء الحديث أو أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حين أنه تارك للمعروف وفاعل للمنكر, أو أن يشغل لسانه في حضور المخلوق بذكر الله في حين أن قلبه غافل عن ذكر الله, يقرأ القرآن بحزن ليعرف أنه من أهل الخوف والحزن, يظهر الغضب من المنكرات ليشتهر بالتعصب للدين, يتحسر على قلة الدين بين الناس وتفشي المعصية وأنه لا أحد يفكر بآخرته وأمثال ذلك أو أن يدّعي لنفسه الأمور التي يمكن أن تشد الأنظار إليه وتكسبه احترام الناس فيقول مثلاً: أحفظ من القرآن والحديث المقدار الفلاني وأعرف معانيها الغامضة, خدمت العالم والأستاذ الفلاني المشهور واستفدت من علومه كثيراً, فلان العالم لم يعرف المسألة الفلانية وعرفتها أنا, يجادل في البحث لإظهار كثرة علمه واطلاعه... والرياء بالقول في الدين كثير وأنواعه لا تنحصر.
وأما الرياء بالقول في المجال الدنيوي فهو كأن يحفظ الكثير من تاريخ الدول وجغرافيتها وأحوال الأمم السالفة والأشعار والأمثال ليستعمل ذلك في تزيين حديثه ومجلسه ويشبع بذلك نزعة حب الظهور في نفسه أو يظهر التودد إلى الناس ليستهوي القلوب ويشتري ثناء الناس ومدحهم أو يتصدى لمدح شخص بهدف أن يبادله بالمثل... والواقع أن أنواع الرياء بالقول في الأمور الدنيوية أيضاً كثيرة.
4 - الرياء بالعمل:
كمراءاة المصلين بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الإلتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وإطعام الطعام وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى أن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا اطلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس, فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يحتج إلى التغيير ويظن أنه بذلك يتخلص من الرياء والواقع أن رياءه قد تضاعف فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً لأنه إنما يحسِّن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه.
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والإختيال وتحريك اليدين أو إنفاق المال الكثير في الضيافات والموارد التي تلفت الأنظار ليُعرف بين الناس بالثراء والكرم.
5 - الرياء بالأتباع وأمثالهم:
كالمراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يبذل جهده ليزوره عالم من العلماء ليقال إن فلاناً زار فلاناً, أو عابد من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه, أو يحرص أن يكون له طلاب ليقدم نفسه للناس على أنه عظيم وملجأ وملاذ, وليس لهذا النوع من الرياء حد بحيث لا يعود يقنع بالشهرة والأتباع في المدينة التي هو فيها ويريد أن يشد إليه أنظار الناس في المدن بل في الدول الأخرى.
ومن الرياء بالأتباع أن يكثر من الخدم والمستخدمين ويكون معه منهم عدد في ذهابه وإيابه ليعظمه الناس, أو يشكل مجموعة أو حزباً ليكون له أعوان وأتباع, أو يصادق أصحاب المناصب الحكومية ويتردد إليهم ليعرف بين الناس بالنفوذ فيرجعون إليه في مشاكلهم ويتملقون له ومن الضروري الإلتفات إلى أن ما ذكر مما يراءى به للدنيا قد يكون عبادة ومن شؤون الآخرة, وذلك فيما إذا استعملها المؤمن بالمقدار الذي حدده الشرع وبهدف أمر الله, مثلاً: إذا كان هدفه إطاعة أمر الشارع بنظافة البدن واللباس وتنظف على هذا الأساس لا بهدف التزين للناس, فقد أدى عبادة, وكذلك إذا كان هدفه امتثال أمر الشارع بإظهار نعمة الله وحفظ ماء وجهه لذلك أعد البيت والأثاث المناسبين لشأنه لا بهدف التظاهر للناس, فذلك أيضاً عبادة وكذا في الموارد الأخرى.
***
4 - العجب
معنى العجب والإدلال:
من جملة الذنوب القلبية والأمراض الباطنية, العجب... وحقيقة العجب هي أن الشخص يرى نفسه خالية من أي عيب ونقص, ويرى نفسه عظيماً لأنه في كمال ونعمة, شرط أن يكون يعتبر هذا الكمال من نفسه لا من الله ويعتمد على ذلك ويفرح به بحيث لا يخطر بباله زوال تلك النعمة ليخاف.
العجب في العبادة أن يعتبر الشخص أن العبادة التي أداها إنما هي منه لا من توفيق الله, ويرى نفسه نتيجة أدائها عظيماً لأنه قام بعمل عظيم كما يتخيل ويفرح بتلك العبادة ولا يعود يرى نفسه ( بسبب هذه العبادة ) مقصراً تجاه الله تعالى.
والإدلال هو أن الشخص بالإضافة إلى إكبار نفسه بسب العمل الذي أداه يرى نفسه صاحب حق ومقرباً إلى الساحة الإلهية بحيث أنه - بزعمه هو - في الآخرة يجب أن تكون الجنة مكانه حتماً, وفي الدنيا كلما دعا فيجب أن يستجاب دعاؤه فوراً ولا يصيبه أي بلاء.
مثال ذلك من أعطى مالاً لآخر أو أسدى إليه خدمة فاستعظم ذلك ورأى نفسه صاحب حق وتوقع من الآخذ الجزاء وامتثال أوامره.
مع المجلسي والشيخ البهائي رحمهما الله:
قال العلامة المجلسي في معنى العجب: والعجب استعظام العمل الصالح واستكثاره، والإبتهاج له والإدلال به وأن يرى نفسه خارجاً عن حد التقصير, وأما السرور به مع التواضع له تعالى والشكر له على التوفيق لذلك وطلب الإستزادة منه فهو حسن ممدوح, قال الشيخ البهائي قدس الله روحه ( في معنى العجب في العبادة ): لا ريب أن من عمل أعمالاً صالحة من صيام الأيام وقيام الليالي وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج، فإن كان من حيث كونها عطية من الله له ونعمة منه تعالى عليه، وكان مع ذلك خائفاً من نقصها مشفقاً من زوالها، طالباً من الله الإزدياد فليس ذلك الإبتهاج عجباً, وإن كان - الإبتهاج - من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه فاستعظمها وركن إليها ورأى نفسه خارجاً عن حد التقصير وصار كأنه يمنّ على الله سبحانه بسببها فذلك هو العجب[142].
وبعبارة أسهل: العجب هو أن يرى الشخص نفسه عظيماً ويفتخر بنفسه أني كيت وكيت وكذا وكذا, أديت عملاً عظيماً, أنا لا عيب فيَّ ولا نقص, في حين أنه لا وجود لذرة من العظمة الإلهية في قلبه ولا ذرة من الخوف من عقوبته, فليس خائفاً من عدم قبول أعماله التي يراها خيراً.
العجب مرض القلب:
تقدم في قسم العقائد من هذا الكتاب أن من الأمراض القاتلة للنفس
الإنسانية الجهل المركب وعلاجه في الحقيقة في غاية الصعوبة وليس له غير الفضل الإلهي أيّ علاج كما سيذكر والجهل المركب هو أن لا يعرف الإنسان الحقيقة ولا يعرف بجهله هذا بل - رغم جهله - يعتبر نفسه عالماً وبعبارة أخرى: " أن يجهل أنه يجهل ".
العجب هو الجهل المركب بحقيقة الأمر لأن الشخص المعجب لم يعرف حقيقة أمره وإلا لما وجد فيه العجب وهو أيضاً لم يدرك هذا الجهل.
كل ما لديه من الله ولكنه لا يعلم:
توضيح المطلب أن الحقيقة الإنسانية ليست شيئاً آخر غير العدم الذاتي والوجود العرضي والحاجة الشاملة من كل الجهات, وكما أن الإنسان لم يكن شيئاً منذ البدء فهو الآن ليس شيئاً وليس له من نفسه شيء ولا يملك أي استقلال وأصل وجوده وآثار وجوده معاً مرتبطان بالله.
أو هل كان أوله شيئاً غير قبضة تراب في الأرض وبعد ذلك قطرة ماء في الرحم؟
هذا الجهاز العظيم والمعمل المحير, البدن, من الإنسان؟! هذه القوى الإدراكية كالبصر والسمع وسائر الإدراكات هو أوجدها في نفسه؟
هذا العلم وهذه القدرة هل هما منه؟ الكمال الذي يظنه في نفسه عن أي طريق وصل إليه؟ هل وصله عن طريق آخر غير القوى الإدراكية ومنها العقل وكلها من الله.
العبادة التي أداها هل أداها بغير البدن الذي صنعه الله وبأمر الله سخر لإرادته؟
المال الذي أنفقه هل هو سوى مخلوق وملك حقيقي لله, والشخص
هو مجرى خير لا أكثر أي أن الله أوصل المال إلى آخر بواسطته ( وقد ذكر توضيح ذلك في باب التوحيد الأفعالي ) والخلاصة أن الإنسان وعلاقاته وأعماله كل ذلك ملك الله " ولله ما في السموات والأرض " هذه حقيقة الأمر وهذا هو الواقع[143].
إذن ذلك الإنسان - الذي لم يدرك هذه الحقيقة وبمجرد أن ظن في نفسه كمالاً أو أتى بعمل خير, رأى أن ذلك الكمال وتلك النعمة منه فرح بها واعتبر نفسه عظيماً وجهل جهله بالحقيقة - هو في الحقيقة مبتلى بأصعب الأمراض النفسية لأن أذن قلبه صُمَّت عن سماع الحق وأصبح قلبه أقسى من الحجر وأقفل على قلبه وختم عليه بحيث لا يدخله حق وخسر الحقيقة التي هي خاصية القلب الإنساني السليم إنه ذلك الأحمق الذي يعجز الأطباء الإلهيون عن علاجه ويوَلون منه فراراً.
الذين يخافون من التزكية:
في مقابل هؤلاء الجهلة غير العقلاء فئة من عباد الله قلوبهم سليمة أمنوا مرض الجهل وزالت عن أعينهم أستار الغفلة, لا يمدحون أنفسهم ولا ينظرون إلى أعمالهم بفرح ولا يدِلّون بها ولا يقيمون لنهجهم أي وزن ويخافون من كل منصب ومقام ولا يرضون بمدح الناس لهم كما يقول أمير عليه السلام في أوصاف المتقين:
وإذا زكي أحدهم خاف مما يقال له ويقول: " أنا أعلم بنفسي من
غيري وربي أعلم مني بنفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أحسن مما يظنون ".
العجب ذنب قلبي وحرام شرعي:
اتضح مما تقدم في معنى العجب أن العجب حالة نفسانية وعارضة معنوية باطنة, أي أن مكان العجب هو باطن الإنسان وليس بدنه وحركات أعضاء البدن - خصوصاً اللسان - تظهر ذلك أي يعلم من كلامه ومن حركات عينه ويده ورجله أنه في باطنه عجباً.
والأدلة على حرمته الشرعية من الآيات والروايات كثيرة يشار إلى بعضها.
فلا تزكوا أنفسكم:
في سورة النجم الآية 32 يقول تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم ".
تزكية النفس تعني أن يرى الإنسان نفسه طاهراً منزهاً من العيب ويمدح نفسه بالطهارة وهو العجب الذي نهى عنه الله تعالى.
ويجب العلم بأن عيوب النفس لا تحصى وإذا أدرك شخص بعض عيوبه فإن ما لم يدركه يقيناً - أكثر. إن الإنسان يحب نفسه وهذا الحب يمنع من رؤيته لعيوبه.
وإذا شمل الفضل الإلهي حال شخص وأدرك بعض عيوبه فالطهارة من أدرانها هي يقيناً خارج حدود استطاعته. ولا يمكن لأي إنسان أن يطهر نفسه من ظلمات الباطن إن الله فقط هو القادر على تطهير عبد كما في الآية الآتية, بناءاً عليه فمن يزكي نفسه كاذب أولاً: لأنه ليس متصفاً في الواقع بأي نوع من أنواع الطهارة وهو يدعي الطهارة والتزكية ويمدح نفسه كذباً.
ثانياً: إذا كان واقعاً قد أصلح قسماً من عيوبه واتصف بالطهارة منها فالله
هو الذي طهره وهو أعجز من أن يستطيع تطهير نفسه, إذا تصورُ أنه هو سبب الطهارة والإفتخار بها والإدلال ليس شيئاً غير الكذب ومن هنا نهى في القرآن المجيد عن تزكية النفس في عدة مواضع ثم إن تزكية النفس مرتبة من الشرك كما سيأتي.
بل الله يزكي من يشاء:
في سورة النساء يقول تعالى: " ألم ترَ إلى الذين يزكون أنفسهم, بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً* انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً ". النساء 49 - 50.
إن الإنسان لا يملك نفعه ولا ضره ولا حياته ولا موته, وليس مستقلاً ليمكنه التخلص من النقص الذي يواجهه والتحلي بالفضائل وهو وجميع شؤونه والخير الذي يظن أنه موجود فيه وجميع أسباب ذلك كله ملك الله تعالى.
من هنا يعلم أن من يزكي نفسه هو في الحقيقة يدعي الإستقلال والإستغناء عن الله ويجعل نفسه شريكاً له, وبعبارة أخرى: إن جميع أجزاء عالم الوجود هي من الله والكمالات الإنسانية هي أيضاً من مراتب الوجود, إذن كل كمال وفضيلة في أي إنسان عطاء إلهي, وكل صاحب فضيلة إذا لم يكن أعمى القلب يجب أن يفتخر بالله لا بنفسه ويمدحه ولا يمدح نفسه... وهكذا يتضح أن الشخص المعجب في عداد المشركين.
تزكية الله بحسب الإستعداد:
ويجب العلم بأن تزكية الله لمن يشاء تتم بملاحظة الإستحقاقات والإستعدادات ( القابليات ) والرغبات الحقيقية للعباد, أي أن الله يزكي كل شخص بمقدار المرتبة التي يريدها من التزكية وجاهزيته لها, وهذا مقتضى
العدل الإلهي كما قال سبحانه: " ولا يظلمون فتيلاً[144] ".
والواقع أن الإنسان المعجب بنفسه الذي يزكي نفسه ويمدحها ويرتكب بذلك ذنباً كبيراً هو الكذب والشرك يقول تعالى: " انظر كيف يفترون على الله الكذب ( إذ قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه... ) وكفى به إثماً مبيناً " لأنهم أولاً كذبوا على الله وزعموا أنهم من أوليائه والله لم يجلهم كذلك وثانياً: ولنفترض أنهم أولياء الله فتزكيتهم لأنفسهم بسبب ذلك كذب وجعل لأنفسهم بديلاً عن الله لأن كل كمال فضيلة هو عطاء الله فقط.
والخلاصة إن تزكية الإنسان نفسه كذب على الله لأن التزكية هي لله فقط.
التزكية المطلوبة:
وينبغي الإلتفات إلى أن التزكية المنهي عنها التي تتحدث عنها هاتان الآيتان هي أن يمدح الإنسان نفسه ويفتخر بها بالتفصيل المتقدم, وأما التزكية الممدوحة المذكورة في سورة الشمس[145] وغيرها فالمراد بها جهاد النفس ومصارعة أهوائها ورغباتها بترك المحرمات والمكروهات وفعل الواجبات والمستحبات ليصبح بذلك جاهزاً للتزكية الإلهية, أي يجعل الله قلبه سالماً ويطهره من كل عيب معنوي, ويخلصه من كل نقص ليوصله إلى الكمال ويجعله من أصحاب الفضائل.
الإعتماد على النفس شرك:
يقول في تفسير الميزان: الإعتماد على النفس الذي جعله بعض كتابنا -
تقليداً للغربيين - من الفضائل الإنسانية لا وجود له في قاموس الدين, القرآن لا يعرف إلا الإعتماد على الله والإعتزاز به سبحانه ويقول:
" الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ". آل عمران 173.
أي لم يخافوا ولم يعتمدوا على قوتهم واستقووا بقدرة الله تعالى.
ويقول أيضاً: " إن القوة لله جميعاً ". البقرة 165, " إن العزة لله جميعاً ". يونس 65.
الإعتماد بالنفس يعني أن يعتبر الإنسان نفسه عالماً قادراً ويعتمد على قدرته وعزته وإرادته وذلك خلاف توحيد الله الذي هو أساس الإسلام وبالرجوع إلى ما تقدم في بحث الشرك والتوحيد من هذا الكتاب يتضح هذا جيداً. ويعلم أيضاً أن الإعتماد على النفس خلاف حكم العقل أي الإعتماد على الذات دليل عدم العقل ودليل الجهل بالحقيقة والواقع, إن الإنسان الذي أصل وجوده من الله وهو مخلوق لله, هل يمكن أن تكون آثاره وخواصه منه هو لا من الله؟ هل يقبل العقل أن يكون الفرع زائداً على الأصل, هل الإنسان بدايةً أكثر من حفنة تراب؟
إذن هذا الوجود العارية ( الإعارة ) وخواصه وعوارضه في الأثناء - بين البداية والنهاية - إذا غرت الإنسان فظن لنفسه شأناً واستقلالاً واعتمد على هذا الوجود غير الثابت هل ذلك شيء غير عدم العقل؟
وحيث أن هذا الأمر تم إيضاحه في هذا الكتاب ببيانات مختلفة فيكتفى بهذا المقدار.
العجب كفر:
في سورة الكهف الآيات 32 - 44 يذكر تعالى قصة حوار شخصين وإليك الآيات أولاً ثم بعض الإستفادات منها:
" واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا* كلتا الجنّتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهرا* وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا* ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا* وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا* قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا* لكنّا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا* ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترَنِ أنا أقل منك مالاً وولدا* فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقا* أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلبا* وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا* ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا* هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقبا ".
مع هذه القصة:
يريد الله تعالى بهذه الآيات أن يتنبه المسلمون إلى مرض العجب وأن لا ينسوا الله أبداً وأن لا يعتبروا أنفسهم مستقلين وفي غنى عنه سبحانه ولا يفتخروا ويتباهوا بما منحهم ولا يتكبروا على الآخرين وأن عليهم أن يتأملوا في حال من أنعم الله عليه نعمة وافرة فنسي هذا الشقي ربه ورأى أنه هو مصدر هذه النعم
فتباهى بها ولم يدرك فناءها وزوالها وكونها عارية ( استعارة ), وظن أن الموت والقيامة من البعد بحيث أنها محض خيال لا يمكن أن يتحقق, ورأى كذلك أنه صاحب شرف وكرامة فقال: إذا كان هناك عالم آخر غير الدنيا " لأجدنّ خيراً منها " وقد بلغت غفلته هذا الحد الذي لم يقل معه إن الله بفضله سيعطيني بل قال سأجد خيراً مما وجدت في الدنيا وبلغ غروه وعجبه بهذه النعمة أن تكبّر على صاحبه فصوَّر نفسه أفضل منه وأعظم ولم يصغ إلى نصحه وفي نهاية المطاف حل به البلاء الإلهي وقضى على جميع ثروته, عندها أدرك أن الأسباب الظاهرة ليست شيئاً وأن الحق هو قدرة الله وعزته سبحانه. ولم تكن لتعطيه أية فائدة سوى الحسرة والندامة على عجبه وكبره وشركه وكفره وهذه الندامة هي لكل المعجبين والمتكبرين, بعد الموت وعندما تنكشف الحقيقة.
ولمعرفة خطورة ذنب العجب تأمل في هذه الجمل من الآيات الشريفة:
المعجب يظلم نفسه:
1 - " وهو ظالم لنفسه " الظلم هو وضع الشيء في غير محله المناسب كما أن العدل وضع الشيء في محله المناسب, بناءاً عليه فالإنسان الذي هو مخلوق وفقير ذاتاً, وشأنه العبودية أي العجز والحاجة والخضوع والخشوع, إذا ادعى الربوبية أي جعل نفسه مستقلاً وغير محتاج ومالكاً فقد جعل نفسه في مكان ليس من شأنه.
بعبارة أخرى: الإنسان عبد والله مولى فإذا اعتبر الإنسان نفسه مولى فقد ألحق بنفسه أكبر ظلم لأن مظالمه الأخرى من هذا تبدأ.
يظن أنه خالد:
2 - " ما أظن أن تبيد هذه " المعجب بنفسه الذي يرى أنه هو وثروته لا
يمكن أن يزولا يرى أن موته وقيامته أبعد مما يظن, إنه في الحقيقة لا يؤمن بالمعاد وإن أقرّ بلسانه أو خطر على باله أحياناً.
الكفر والحسرة:
3 - " أكفرت بالذي خلقك " يتضح جيداً من التأمل في هذه الآية بدقة أن حال المعجب هي الكفر بالله, لأنه عندما يرى نفسه مستقلاً وغير محتاج ويرى ثروته منه فهو يقول بلسان الحال: ليس لي رب, ليس لي خالق ومدبر ومنعم حتى إذا قال بلسان ( القال ) " الله ربي " وصلى أو أدى عبادة أخرى.
4 - " يا ليتني لم أشرك... " تندم ذلك الشقي بعد زوال ثروته وقال " يا ليتني لم أشرك " يا ليتني لم أعتبر الأسباب الظاهرية ذات أثر بدون الشرط ( إذن الله ). إجمالاً الشخص المعجب نفى عن الله المالكية والربوبية والمدبرية ووضع نفسه بديلاً عنه سبحانه مالكاً وربّاً ومدبراً.
اتضح إذن من هذه الآيات جيداً أن حال المعجب هي الكفر بالله والشرك به.
وحيث أن إيراد الآيات الأخرى حول العجب يستدعي الإطالة فيكتفى بهذا المقدار. وهذه إشارة إلى روايات من أصول الكافي.
الذنب خير للمؤمن:
يقول الإمام الصادق عليه السلام: إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً[146].
أي لأن العجب ذنب القلب وهو أسوأ من الذنب البدني فعندما يريد
المؤمن أن يرتكب ذنباً بدنياً فإن الله تعالى لا يحول بينه وبين ذنبه ويكله إلى نفسه - لأنه إذا حال بينه وبين ذنبه سيبتلى بالعجب والغرور ويرى نفسه ( في ترك الذنب ) طاهراً مطهراً وقد مرّ أن العجب في حد الكفر والشرك.
وروي عنه عليه السلام: من دخله العجب هلك[147].
ويقول أيضاً: إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك, فيتراخى عن حاله تلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه[148].
والخلاصة أن حالة الندم بعد الذنب هي في حد ذاتها عبادة ومحبوبة لله لأن الله يحب التوابين وحالة العجب بعد العبادة معصية ويبغضها الله تعالى.
قال عبد الرحمن بن الحجاج: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثم يعمل شيئاً من البر فيدخله شبه العجب به؟ فقال: هو في حاله الأولى وهو خائف أحسن حالاً منه في حال عجبه[149] ".
مثلي يسأل عن صلاته:
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " أتى عالم عابداً فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته؟ وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي فقال له العالم: فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مُدِلّ, إن المُدِلّ لا يصعد من عمله شيء[150] ".
وعن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما السلام: " دخل رجلان
المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق, والعابد فاسق, وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلاً بعبادته يدل بها فتكون فكرته في ذلك, وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عز وجل مما صنع من الذنوب[151] ".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن موسى عليه السلام قال للشيطان: " أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه[152] ".
أنذر الصديقين:
قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: " قال الله عز وجل لداوود عليه السلام: يا داوود بشر المذنبين وأنذر الصديقين, قال: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟! قال: يا داود بشّر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك[153].
أي أنه يصبح مستحقاً للعذاب لأن شرائط صحة العبادة وقبولها كثيرة, وأكثر الناس لا يأتون بها. ثم إنه إذا تمت المقابلة بين العبادات والنعم فمن البديهي أنها لا تفي بشكر نعمة واحدة.
فأضربه بالنعاس:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " قال الله تعالى إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده ولذيذ وساده فيجتهد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظراً مني إليه وإبقاءاً عليه فينام
حتى يصبح فيقوم وهو ماقت ( لها ) زاريء عليها ولو أخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله ورضاه عن نفسه، حتى يظن أنه يتقرب إلي[154] ".
العجب مهلك:
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: ثلاث موبقات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه[155].
وفي نهج البلاغة: سيئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك.
وفي الصحيفة السجادية يقول الإمام عليه السلام:
" نعوذ بك أن ( ... ) نعجب بأعمالنا[156] ".
ويقول عليه السلام أيضاً: " وعَبِّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب[157] ".
بين عيسى عليه السلام ومعجب:
في أصول الكافي, باب الحسد, " عن داوود الرقي قال: سمعت أبا
عبد الله عليه السلام يقول: اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً, إن عيسى ابن مريم كان من شرايعه السَّيْحُ في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير وكان كثير اللزوم لعيسى عليه السلام فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: " بسم الله " بصحة يقين منه فمشى على ظهر الماء فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه السلام جازه: " بسم الله " بصحة يقين منه فمشى على الماء ولحق بعيسى عليه السلام, فدخله العجب بنفسه، فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فما فضله علي؟ قال: فرمس في الماء فاستغاث بعيسى فتناوله من الماء فأخرجه ثم قال له: ما قلت يا قصير؟ قال: قلت: هذا روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فدخلني من ذلك عجب فقال له عيسى: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه, فمقتك الله على ما قلت, فتب إلى الله عز وجل مما قلت قال: فتاب الرجل وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها، فاتقوا الله ولا يحسدن بعضكم بعضاً ".
ويدل ربط الإمام بين هذه القصة والحسد على أن ذلك الرجل القصير قد ابتلي - حين العجب - بالحسد أيضاً, أي عندما رأى نفسه مثل عيسى حسده على مقام النبوة وتمناه لنفسه, كما يدل قول عيسى عليه السلام لذلك الرجل " يا قصير " أن مناداة الأشخاص ببعض صفاتهم الظاهرة إذا لم يكن استهزاءاً فلا إشكال فيه... ويحتمل أن يكون قوله " يا قصير " إنما هو لتأديبه, وقد أشار المجلسي عليه الرحمة إلى ذلك في شرح الكافي[158].
سفعة من الشيطان:
روي أن رجلاً ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وآله, فأقبل ذات يوم
فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الذي ذكرناه لك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان, فسلم ووقف على النبي وأصحابه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك فقال: اللهم نعم[159] ".
يعلم من هذا الحديث جيداً أن العجب أو الكبر الباطني ذنب كبير جداً رأته عين النبوة وأخبرت به.
العجب حالة ثابتة:
بعد التدقيق في الآيات والروايات المتقدمة يعلم أن العجب حرام شرعي بل صريح الروايات أن العجب باعتباره ذنباً قلبياً فهو أعظم من سائر الذنوب التي ترتكب بالجوارح والأعضاء.
وتسأل: إن العجب من خطرات القلب والعفو عنها مسلّم وقطعي, ثم إن قصد الذنب وحده لا يؤاخذ الإنسان عليه فأكثر الفقهاء يقولون: ما لم يصل الذنب إلى مرحلة العمل فإنه لا يتصف بالحرمة وحيث أن العجب أمر باطني فالمكلف لم يقم بعمل حتى يقال ارتكب حراماً.
والجواب: ليس العجب خاطرة قلبية سريعة الزوال ليتنافى دليل العفو عنها ( الخاطرة السريعة ) مع أدلة حرمة العجب بل العجب حالة نفسية ثابتة كما تقدم في بيان معناها.
أما مسألة العفو عن الذنب فأولاً: سنقول إن شاء الله في بحث العزم على الذنب أن العزم على الذنب هو في حد ذاته ذنب, وثانياً: العجب ليس عزماً على الذنب بل هو ذنب بالأدلة المتقدمة ومراد الفقهاء من أن الذنب ما لم يتحقق
فليس ذنباً ومجرد القصد ليس حراماً - مرادهم - ذنوب الجوارح أي أعضاء البدن كالزنا والقمار وشرب الخمر وغيره من الذنوب التي تتحقق بالبدن.
أما العجب الذي هو أمر معنوي باطني فمحله القلب والباطن ولا معنى للعزم والإرادة بالنسبة إليه وسبب وجوده هو الغفلة والجهالة فقط بالتفصيل الذي مر.
والخلاصة: العجب ذنب محله الباطن والداخل فإذا وجد سببه وجد هو وإلا لم يوجد.
وأما لذنب الذي محله ظاهر الإنسان فهو متوقف على العزم والإرادة ولذلك يقال فيه إن مجرد العزم على الذنب ليس حراماً والحرام هو العمل الذي يؤدى بالبدن.
هل العجب غير اختياري:
يقول في مصباح الفقيه: ليس العجب فعلاً اختيارياً مسبوقاً بإرادة الإنسان ليتصف بالحرمة الشرعية ويستلزم العقوبة ويقول لتوضيح عدم كون العجب اختيارياً: الشخص العالم الذي أدرك فضيلة العلم يجد نفسه قهراً في مقابل الجاهل صاحب منزلة وشأن عند الله, والشخص الذي علم فضيلة الصلاة أول الوقت فكلما أدى صلاته أول الوقت سيرى نفسه قهراً صاحب مقام, والشخص الذي أدى عمله الواجب يرى نفسه قهراً مطيعاً وعبداً غير مقصّر تجاه الله ويرى نفسه أيضاً أفضل من العبد العاصي.
إزالة سبب العجب اختيارية:
الجواب: ليس الإختيار في الأفعال التوليدية بأن يكون الإنسان قادراً على نفس العمل بل إذا كانت أسباب الفعل مقدورة فذلك الفعل اختياري مثلاً
تحطيم الصخر وجعله أملس ليس مقدوراً ولكن حيث أن الحديد في متناولنا ويمكن تحقيق ذلك الفعل بواسطته فتحطيم الصخر اختياري والتكليف به صحيح.
والعجب من هذا القبيل أي رغم أن وجود حالة العجب خارجة عن الإختيار والإرادة ولكن حيث أن إزالة أسبابها التي هي الغفلة والجهل والغرور هي في حدود الإختيار والإستطاعة فيصبح وجود حالة العجب وإزالتها معاً اختياريين, والتكليف بإزالتها والمؤاخذة عليها كلاهما صحيح, مثلاً: الشخص الذي يتعلم المصطلحات الكلامية, الفلسفية, الأصولية, الفقهية, ومصطلحات التفسير, ويعتبر نفسه صاحب فضيلة ومنزلة ويعجب بنفسه قهراً... ألا يحتمل - هذا الشخص - أن المراد بالعالم الذي تتحدث الروايات والآيات أنه صاحب فضيلة ومنزلة ليس هو " العالم بالمصطلحات " ولعل المراد هو من وصل في الأمور الإعتقادية إلى مرحلة اليقين وأصبح صاحب بصيرة في طريقة عبوديته وسلوكه الديني.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله[160]: يا أبا ذر من أوتي من العلم ما لا يبكيه لحقيق أن يكون قد أوتي علماً لا ينفعه، إن الله نعت العلماء فقال: " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجدا* ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا* ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ". الإسراء 107 - 109.
يعلم من هذا الحديث بوضوح أن كل علم لا يزيد الخوف من الآخرة وخشية الله ولا يبكي صاحبه ويثير نحيبه فليس لهذا العلم نفع باق وليس علماً إلهياً ولا مورداً لرضا الله تعالى بناءاً عليه إذا أعجب عالم بعلمه فليعلم أنه ليس
ذلك العالم الإلهي الذي جاء مدحه كثيراً في القرآن والروايات والذي جعل رديفاً للأنبياء.
العمل بالعلم:
هل رأى هذا " العالم " ما ورد في فضيلة العلم, ولم ير ما ورد في شرائط العالم التي منها العمل بعلمه؟
ألم يسمع أنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً ولا يغفر للعالم ذنب واحد؟
ألم يطلع على قصة بلعم بن باعوراء التي وردت في القرآن الكريم؟
والأهم من ذلك كله ألم يعلم أن العلم كسائر الكمالات نعمة وعطاء من الله وشكرها واجب, لا أن يراها منه ويفتخر بها ويدل, أي عالم هذا الذي لم يدرك بعد نفسه وربه ولم يدرك الحقيقة؟
الهدف من إطالة الكلام بيان كون عجب العالم اختيارياً لأن السبب الذي يؤدي إليه وهو الجهالة والغفلة أو التغافل هو اختياري ويمكنه أن يصبح عالماً بالله مبصراً للحقيقة حتى لا يحصل له العجب.
احترام العلماء:
من الواضح أن ما قيل في موضوع عجب العالم بيان لواجب العالم, أنه يجب أن لا يكون معجباً مغروراً راضياً عن نفسه غافلاً عن الله ويجب أن يرى نفسه أقل من الآخرين.
أما واجب الناس تجاه العالم الديني الذي لم يظهر منه فسق فهو كمال الإحترام والتأدب والتواضع له لأنه ينسب إلى الدين فإكرامه احترام لصاحب الشرع وإهانته إهانة لرسول الله صلى الله عليه وآله كما ورد في الخبر وفي هذا المجال روايات كثيرة.
عجب أهل العبادة:
وكذلك المؤمن الذي يستيقظ ليلاً ويصلي صلاة الليل ثم يفتخر بنفسه أنه أدى عملاً عظيماً ويرى نفسه صاحب منزلة عند الله وصاحب حق, بحيث أنه يعتبر نفسه صالحاً والآخرين هلكى, ويرى أن حصوله على فضائل صلاة الليل حتمي, ويدخله العجب لهذا السبب.
لم يطرق سمعه أن هذه الفضائل ( الثواب وما شابه ) هي لمن كانت صلاته مستوفية لشرائط الصحة وشرائط القبول ومن جملة تلك الشرائط حضور القلب والخشوع والإخلاص في النية وحالة العجب تتنافى مع ذلك.
الخلاصة: من أين علم أن هذه الفضائل هي لصلاة أمثاله لتكون سبب عجبه, وفي الحقيقة إن هذه الفضائل التي ذكرت للعبادات هي بشكل عام لزيادة الرجاء لا العجب والغرور.
أي أن الإنسان العاقل عندما يسمع ما يترتب على عبادة ما من ثواب وسائر الآثار يزداد أمله ويؤدي عملاً ما متشوقاً للوصول إلى مرتبة من الثواب والفضل الإلهيين في حين أنه يعلم أن الله إذا عامله بعدله فلن يعطيه شيئاً وهو لذلك خائف, يرى نفسه مقصراً خجلاً تجاه الساحة الإلهية المقدسة.
لماذا رأى أنه مطيع:
أما القول بأن كل من رأى نفسه مطيعاً فسيعجب بنفسه قهراً فالجواب عليه: إنه " ارتكب حماقة إذ رأى نفسه مطيعاً " فكان ذلك باعثاً له على العجب.
أي إنسان عاقل يجرؤ أن يدعي هذا الإدعاء والحال أن كل إنسان مهما بلغت إطاعاته فمخالفاته يقيناً أكثر, مهما بلغ شكره فالنعم التي لم يشكرها
هي حتماً أكثر, ومهما التزم بالعبودية فلا شك أنه لم يعبد الله كما ينبغي أن يعبد سبحانه.
وهكذا يتضح أن العجب أمر اختياري وذنب قلبي وحرام شرعي وحيث قد تقدمت الإشارة في مقدمة الكتاب لذلك وسيأتي مزيد توضيح له فيكتفى بهذا المقدار.
هل العجب مبطل للعمل؟
أكثر الفقهاء الذين قالوا بحرمة العجب لا يرون أنه مبطل للعمل ومفسد له بحيث تجب إعادته وقضاؤه إذا كان واجباً وحملوا الروايات التي تدل على أن العجب للعمل على إبطال الثواب المترتب على هذا العمل لو لم يخالطه العجب, أي أن حرمة العجب توجب الحرمان من الثواب ولا تبطل العمل, وأن العبادة مع العجب لا توجب قرباً من الله ولا تستتبع ثواباً لكنها مع ذلك إذا كانت كالصلاة الواجبة فإنها تسقط عن المكلف الذي أداها معجباً بنفسه ولا تجب الإعادة ولا القضاء.
وهناك قسم آخر من الفقهاء يرون أن العجب بالإضافة إلى أنه حرام فهو مفسد لأصل العمل أي أنهم قالوا بوجوب الإعادة أو القضاء.
الحق في المسألة أن للعجب درجات ومراتب بعضها حرام ومفسد وبعضها الآخر حرام فقط وفي الحرمة بعض التأمل... بناءاً عليه يتم التذكير بمراتب العجب وحكم كل منها.
1 - العجب بالعقائد الباطلة:
أي يظن الباطل حقاً ويعتقد به, ثم يرى نفسه طاهر المعتقد محقاً ويرضى عن نفسه ويعجب بها, في حين أنه لو فكر وأنصف لأدرك أن ما
اعتقد به ليس صحيحاً ومثال ذلك: أنواع الكفر, والشرك والأديان المصطنعة والخرافية, وسوء الظن بالمسلم وإحلال عداوته في القلب والتصدي لإيذائه والفرح بهذا العمل ظناً منه أنه اعتقد عقيدة صحيحة وقام بعمل صالح في حين أنه لو فكر وعاد إلى نفسه لأدرك قبح عمله.
ومثل ذلك الذنوب التي يزينها الشيطان للإنسان الشقي فيظنها حسنة صحيحة, وعندما يؤديها يرضى عن نفسه ويفتخر بذلك. وكذلك الجاهل الذي يؤدي عبادات باطلة لا تتوفر فيها شرائط الصحة, ويعتمد عليها ويعجب بنفسه إلى حد أنه يدعي: " إن كل أعمالي وأفعالي صحيحة ولست مقصراً تجاه ربي ".
الخلاصة: كل شخص اعتقد بأمر باطل أو عمل عملاً منافياً ورأى أن تلك العقيدة أو ذلك العمل حق فدخله الغرور والعجب, فهو مبتلى بأشد أنواع العجب, ولا شك في حرمة عمله وفساده. وإلى هذه المرتبة من العجب يشير قوله تعالى في سورة فاطر:
" أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ". فاطر 8.
أي أنه نتيجة عدم التدبر والتعقل ونتيجة اتباع الهوى والهوس اعتبر عمله القبيح حسناً وأتى به وفرح به, هل هذا الشخص كمن رأى بنور العقل الحسن والقبح الواقعيين فاعتقد بالحسن الواقعي واجتنب القبيح الحقيقي كلا, ليس هذا كهذا.
وقد أشير إلى هذه المرتبة من العجب في سورة الكهف يقول تعالى:
" الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ". الكهف 104.
أي لأنهم معجبون بأعمالهم الباطلة فهم لا يدركون قبحهاً أبداً حتى يبادروا إلى إصلاح عملهم ويقبلون على الصلاح والسداد ومن هنا كانوا الأخسرين أعمالاً, وأكثر الجهلة كذلك لأن الأعمال التي يعملونها هي في نظر العقل والشرع غير صحيحة بل قبيحة وهم يعملونها باستمرار ويظنون ذلك كمالاً ويفتخرون بها ويُدِلّون أنْ فعَلنا كذا كذا...
2 - الإطاعة مع المن:
المرتبة الثانية الإطاعة مع المن أي يقبل الشخص العقائد الحقة ويفعل الفعل الحسن لكنه يرى نفسه مستقلاً أي لا يرى أن ذلك بسبب التوفيق الإلهي بل يراه من نفسه ويظن ذلك العمل عظيماً وقيماً جداً والعمل الذي هو في الحقيقة حبة هو في نظره قبة ويرى أنه صاحب حق ومنّة على الله ويعتقد أن قربه ومنزلته قطعيان بحيث إذا كانت له حاجة في الدنيا وطلبها من الله فيجب أن يطاع فوراً وتعطى له, وفي الآخرة يجب أن يحل في الدرجات العلى.
شخص كهذا مثل مريض مبتلى بأنواع الأمراض القاتلة ويتصدى طبيب حاذق حنون لعلاجه ويتولى بنفسه شراء ما يحتاجه من غذاء ودواء ليتعافى وليس على المريض إلا أن يستمع إلى الطبيب في تناول ما ينصحه به والإجتناب عما ينهاه عنه ومع ذلك فهو يمن على الطبيب أنه استمع إلى إرشاداته وعمل بها. والواقع أن حال العابد الذي يمنّ على الله هو أسوأ - بمراتب - من حال هذا المريض.
ولا شك في أن هذه المرتبة من العجب هي بالإضافة إلى الحرمة مفسدة للعمل, أي إذا كان العمل واجباً كالصلاة, والصوم, الحج, والزكاة والخمس وأداه بهذه الحالة فهو باطل وتجب إعادته أو قضاؤه.
العجب ينافي قصد القربة:
لأن شرط صحتها أن تؤدى بداعي إطاعة الأمر الإلهي كما تقدم في بحث الرياء مفصلاً, ومن أدى عبادته بمنة فليس محركه للعبادة إطاعة الله وامتثال أمره, إنه رأى نفسه مستقلاً وسمع أنه إذا عمل العمل الفلاني فسيجزيه الله عليه الجزاء الفلاني إذن يأتي بهذا العمل بهدف المعاملة والمبادلة مع الله ولأنه يرى عمله قيماً جداً وكأنه أسمى من الثواب الإلهي وأعلى, فهو يرى نفسه صاحب منة. وفي الحقيقة إنه لا يرى لله حق العبادة وحق امتثال الأمر, بل هو منكر لمالكية الله وربوبيته ولكونه المنعم, ولا يرى وجوب شكره.
إن كل ما يملكه العبد فهو بحكم العقل والشرع من الله, ومهما أطاع العبد وشكر فلن يؤدي حق الله فإذا أعرض العبد عن ذلك وتصور نفسه - بسبب العمل الصالح الذي أداه - صاحب حق على الله ومنََّ عليه, فهل بالإمكان القول إن هذا العمل صحيح وأن العبد امتثل وشكر الله وعمل بتكليفه؟
أين الإدلال من الحاجة؟:
ونقول أيضاً: حقيقة العبادة ضد حالة المنة لأن العبادة تذلل بين يدي الله تعالى أي يظهر العبد ذلته وفقره, ويظهر عزة الله وعظمته وغناه.
وحالة المنة تعزز أي أنه يرى فقط نفسه وعظمة عمله ويظهر في مقابل الله عزته وعدم احتياجه " العظماء لم ينظروا إلى ذواتهم فلا تطلب رؤية الله من خلال رؤية الذات[161] ".
إن العبادة حاجة والمنة إدلال, وأين الإدلال من الحاجة.
وفي الجملة: لا شك في بطلان العبادة مع المنة, وقد أشير إلى هذه المرتبة من العجب وبطلان العمل معها في عدة مواضع من القرآن المجيد.
يمنون عليك أن أسلموا:
في سورة الحجرات يقول تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ". الحجرات 17.
أي إن مجرد قبول عقائد الإسلام وأحكامه ليس عملاً كبيراً عظيماً لتمنوا به على النبي لأن فائدته محدودة بالدنيا, وما هو عظيم وتترتب عليه فائدة خالدة هو الإيمان الذي هو عبارة عن خشوع القلب لله والإعتقاد به وامتثال أوامره بكل رغبة وشوق وإذا ادعيتم أنكم مؤمنون وكنتم صادقين في ذلك بأن كان نور الإيمان في قلوبكم حقيقةً فذلك عظيم, إلا أنكم ليس لكم الحق في الإدلال بذلك والمنة به لأن نور الإيمان عطاء الله وهو يمن عليكم أن أعطاكم مثل هذا العطاء.
لا تبطلوا أعمالكم:
وفي سورة البقرة يقول تعالى: " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن ". البقرة 264.
ويقول تعالى: " ولا تمنن تستكثر ". المدثر 6.
وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: المن يهدم الصنيعة[162].
وفي الأمالي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " قال الله عز وجل
حرمت الجنة على المنان والبخيل والقتات[163] ".
وفي الخصال عنه صلى الله عليه وآله: ثلاثة لا يكلمهم الله: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا بمنة والمسبل إزاره ( أي المتكبر ) والمنفق سلعته بالحلف الفاجر[164].
وروايات حرمة المنة وبطلان العمل بها - خصوصاً في الصدقات - كثيرة.
والعجب في هذه المرتبة كالمرتبة الأولى يوجب فساد العمل ولزوم الإعادة أو القضاء ولا شك في هذا الحكم.
" اشكر الله أنك وُفِّقت للخير فمن إنعامه وفضله أنه لم يتركك معطلاً.
لا تمنّ أنك دائماً في خدمة السلطان بل اعرف منته عليك حيثُ استعملك في خدمته[165] ".
إن منة المخلوق على الله قبيحة وحرام لأنها باطل وكذب, وكذلك منة المخلوق على المخلوق الآخر لأنها أولاً ادعاء باطل واقعاً لأن أصل النعمة من الله, وثانياً لأنها من باب القمع والتقريع, أما منة الخالق على المخلوق فهي حسنة جداً لأنها أولاً حق ومطابقة للواقع وثانياً: ليست من باب القمع والتقريع بل من باب تذكير العبد بالنعمة.
3 - العجب بكثرة العمل:
أي يرى العمل الذي أتى به عظيماً ولا يرى التوفيق وسائر النعم الإلهية,
وكذلك ينسى ذنوبه ومعاصيه وكذلك لا ينظر إلى حقارة نفسه وعمله بالنسبة إلى إله عالم الوجود ولذلك فهو لا يعتبر نفسه مقصراً تجاه الله تعالى, بل يفتخر ويُدل.
لا شك في أن هذه المرتبة من العجب ذنب كبير وحرام وأكثر الآيات والروايات التي تذكر حرمة العجب ناظرة إلى هذه المرتبة أما المرتبة الأولى والثانية فحرمتها بديهية لأنهما في حد الكفر والشرك بالله بالتفصيل الذي مرّ.
مصدر الذنوب:
العبد الذي يعبد الله ويرى شكره واجباً بحكم العقل ويعلم بحكم الوجدان أنه عاجز عن عبادته وشكره كما ينبغي له, يجب عليه أن يسعى في العبادة والعبودية والشكر بمقدار جهده مع الإعتراف بالتقصير, فإذا تصرف بشكل مغاير للحقيقة أي لم يعتبر نفسه مقصراً واغتر بعمله الضئيل وأعجب به فقد كذب وارتكب ذنباً هو مصدر ذنوب كثيرة وقد أرشدت الروايات إلى هذا الحكم العقلي.
قال الإمام الكاظم عليه السلام لبعض ولده: يا بني عليك بالجد ولا تخرجنّ نفسك من حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته فإن الله لا يعبد حق عبادته[166].
وقال الإمام الباقر عليه السلام لجابر: يا جابر لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير[167].
وعن أبي الحسن عليه السلام: إن رجلاً في بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة ثم قرب قرباناً فلم يقبل منه فقال لنفسه: ما أتيت إلا منك وما الذنب إلا لك قال فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: ذمك لنفسك أفضل من عبادتك أربعين سنة[168].
هل يفسد العمل:
يرى أكثر الفقهاء أن المستفاد من أدلة حرمة العجب كونه مهلكاً وعدم قبول العمل والحرمان من الثواب, أما كونه سبباً لوجوب الإعادة والقضاء فلا يستفاد من الأدلة المذكورة ويرى بعض آخر أنه يستفاد من ظاهر الأدلة أن العمل فاسد وعليه فلا ينبغي ترك الإحتياط أي إذا وجدت هذه المرتبة من العجب في عبادة واجبة فليؤت بها ثانية سواء كان العجب قبل البدء بالعمل أو في الأثناء.
المعارون:
يقول الفضل بن يونس قال لي أبو الحسن عليه السلام: أكثر من أن تقول: اللهم لا تجعلني من المعارين, ولا تخرجني من التقصير قلت: أما المعارون فقد عرفت أن الرجل يعار الدين ثم يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير فقال: كل عمل تريد به الله عز وجل فكن فيه مقصراً عند نفسك فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون إلا من عصمه الله عز وجل[169].
روايات في العجب:
عن أبي الحسن عليه السلام: لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل
الذنب[170].
وعنه عليه السلام: قال إبليس إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال بما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله ونسي ذنوبه ودخله العجب[171].
ويقول الإمام السجاد عليه السلام: اللهم إني أعوذ بك من ( ..... ) واستصغار المعصية واستكبار الطاعة[172].
ويقول عليه السلام: وألبسني زينة المتقين في ( ........ ) واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قلّ من قولي وفعلي[173].
خليل الرحمن حقاً:
عن الإمام الصادق عليه السلام: " إن إبراهيم عليه السلام كان أبا أضياف فكان إذا لم يكونوا عنده خرج يطلبهم وأغلق بابه وأخذ المفاتيح يطلب الأضياف وأنه رجع إلى داره فإذا هو برجل أو شبه رجل في الدار فقال له يا عبد الله بإذن من دخلت هذه الدار قال دخلتها بإذن ربها يردد ذلك ثلاث مرات فعرف إبراهيم عليه السلام أنه جبرائيل عليه السلام فحمد ربه ثم قال: أرسلني ربك إلى عبد من عبيده يتخذه خليلاً، قال إبراهيم عليه السلام فأعلمني من هو أخدمه حتى أموت فقال فأنت هو قال ولم ذلك قال لأنك لم تسأل أحداً شيئاً قط ولم تُسأل شيئاً قط فقلت لا[174] ".
لا يقيم لنفسه وزناً:
الهدف من هذه القصة التأمل في حال إبراهيم عليه السلام عندما قال له
جبرائيل أنه يحمل بشارة مقام الخلة من الله إلى عبد من عباده, ومع أن إبراهيم كان يومذاك الإنسان الوحيد الموحد والعبد الخاص لله, ولكن حيث أنه يرى نفسه مقابل عظمة الحق تعالى صغيراً ولا يليق بالخلة لم يحتمل أن يكون هو المراد, فسأل: من هو أخدمه حتى أموت... وعندما أخبر جبرائيل بأنه هو تعجب وسأل: لمَ ذلك, ما هو السبب حتى شملته عناية الله تعالى... إنه لا يرى أنه يعمل عملاً مناسباً يستحق الإهتمام هذا هو طريق الأنبياء, وهذه هي سيرتهم.
4 - استكثار العمل بالنسبة لآخر:
إذا كان الشخص لا يرى عمله في حد ذاته كبيراً ولا يرى نفسه خارجاً من حد التقصير ولكنه إذا قارن بينه وبين شخص آخر رأى أنه أفضل منه ويتداخله العجب كما إذا رأى عالم أنه أعلم من عالم آخر أو رأى عابد أنه أكثر عبادة من شخص آخر أو تبرع شخص بألف تومان ورأى أن غيره تبرع بتومان, فكبر إنفاقه وافتخر وأدلَّ وظن أنه ذو همّة عالية وسخي.
هذه المرتبة من العجب كالمرتبة الثالثة ذنب قلبي وحرام تشملها أدلة حرمة العجب المتقدمة من الآيات والروايات لأن من رأى أن عبادته أو عمل الخير الذي عمله هو بالنسبة إلى آخر أفضل وأعظم وافتخر بذلك فقد رأى عمله عظيماً وطاهراً واعتمد عليه, ومهما قال بلسانه: إني مقصر تجاه ربي فإنه بلسان الحال وفي باطنه يرى نفسه مستحقاً للأجر والمقام, وهو العجب الحرام.
يأمن مكر الله:
ونقول أيضاً: من جملة الذنوب الكبيرة الأمن من المكر الإلهي بالتفصيل
المذكور في كتاب " الذنوب الكبيرة " ومثل هذا الشخص المعجب بعمله لا خوف لديه من القهر الإلهي الباطني أي لا يحتمل أن يؤاخذه الله ببعض ذنوبه أو يكله إلى نفسه فيقع في الذنب فيمحى أثر ذلك العمل, والأسوأ من ذلك كله أن يموت على غير الإيمان لأن الشرط القطعي للثواب على الأعمال هو الموت على الإيمان ومن كانت هذه صفاته فهو يأمن مكر الله. والخلاصة إن عدم الإلتفات إلى الذنب وعدم الخوف من القهر الإلهي والفرح بعمل الخير, أمن من مكر الله وكونه من الكبائر مسلم.
من الواجب على مثل هذا الشخص أن يتوب من العجب ويبعد هذه الحالة عنه ويقول لنفسه لعل ذلك الشخص الذي عمله أقل من عملك, أقرب إلى القبول الإلهي منك بسبب قلة ذنوبه, ورغم أن عمله من حيث الكمية أقل فلعله من حيث الكيفية ومراتب الإخلاص أكثر ويتقبله الله تعالى, في حين أن عملك الذي هو من وجهة نظرك كبيراً جداً قد يكون ضئيلاً مردوداً.
لقد أنفق الإمام علي والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام لثلاث ليالي أثناء الإفطار خمسة أرغفة من خبز الشعير في سبيل الله, ورغم أنه بحسب الظاهر إنفاق قليل ولكن حيث أنه كان في الدرجة العليا من الإخلاص تقبله الله وأنزل فيه سورة هل أتى.
الخلاصة: لا ينبغي أن يرى المؤمن نفسه أفضل من غيره ولا ينبغي أن يرى عمله أكثر وأعظم.
حذيفة بن اليمان:
في جامع السعادات " أن حذيفة صلى بقوم فلما سلم قال: لتلتمسنّ إماماً غيري أو لتصلّنّ وحداناً, فإني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل
مني[175] ".
أي أن من أعجب بنفسه ورأى أنه أفضل من الآخرين في حين أنه قد يكون على العكس من ذلك عند الله فعمله ليس صحيحاً, وقد تقدم في الروايات ذكر خبر رفيق عيسى عليه السلام الذي استحق العقاب الإلهي بسبب استعظام نفسه فسقط في الماء.
هل يعجب النبي؟
مما تقدم تتضح جيداً حرمة هذه المرتبة من العجب وما ذكره المحدث البحراني في الدرة النجفية[176] - من أن الظاهر أن العجب بهذه المرتبة ليس حراماً لما ورد في الروايات من أن ملكاً من الملائكة وبعض الأنبياء كداوود وموسى حدثت فيهم هذه المرتبة أي تصوروا أنفسهم أسمى وأعلم من جميع المخلوقات, وحيث أن النبي معصوم من الوقوع في الذنب, فهذه المرتبة من العجب ليست حراماً - فجوابه أن العجب المنسوب في الروايات إلى الأنبياء ليس حالة نفسية ثابتة بل هو من قبيل الوسوسة والخطرات التي ليس عليها شيء.
ثم إن العجب مورد البحث والذي ثبتت حرمته هو ذلك الذي يحصل للشخص بسبب رؤية عمله أو حاله ومقامه أعظم وأفضل من غيره بالإضافة إلى أن يرى أن ذلك العمل وذلك الكمال منه لا من الله وتوجد في نفسه حالة فرح واستغناء وركون إلى ذلك العمل, وهذا المعنى لا يتصور في أنبياء الله على الإطلاق, بل كل ما صدر منهم تصور أنه ليس هناك عبد لله أعلم منهم كما في الروايات المذكورة. ومثل هذا التصور وإن لم يكن عجباً حراماً ولكن
حيث أنه يتنافى مع مقامهم فقد أدبهم الله تعالى كما في قصة أيوب إذ خطرت على باله عظمة عبادته فقال: " يا رب كيف ابتليتني بهذا البلاء الذي لم تبتل به أحداً فوعزتك إنك تعلم أنه ما عرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا عملت بأشدهما على بدني فنودي: ومن فعل ذلك بك يا أيوب ( أي من أقدرك على العبادة ) فأخذ التراب فوضعه على رأسه ثم قال: أنت يا رب[177] ".
إن الله امتحنهم ليعلموا أن علمهم بالنسبة إلى علم الحق تعالى اللامتناهي ليس شيئاً يذكر كقصة داوود وإرسال موسى إلى الخضر ونقل ذلك يستوجب الإطالة وبيانه في محل آخر أكثر مناسبة.
أما فساد العبادة بهذه المرتبة من العجب ولزوم الإعادة والقضاء فهو كالمرتبة السابقة موافق للإحتياط.
5 - العجب في غير العبادات:
العجب بالأمور الدنيوية والعلائق المادية بالتفصيل الآتي رغم أن الفقهاء لم يقولوا بحرمته وحملوا أدلة المقام على العجب في العبادات الذي قالوا أنه حرام وذنب, لكن التحقيق أنه لا تفاوت بين هذه المرتبة والمراتب السابقة في الحكم بالحرمة, والعجب في الأمور الدنيوية كالعجب في الأمور الأخروية حرام.
إن حقيقة العجب كما تقدم في أول البحث حالة نفسية تحصل من رؤية الشخص نفسه عظيماً ومنزهاً عن العيب والنقص بسبب إكبار عمله وثروته ورؤية نفسه غنياً ومستقلاً في أعماله وعلاقاته, أي أن كل ما يعمله يتصور أنه بقوته لا بقوة الله, وكل ما لديه فهو قد حصل عليه بجهده, وليس نعمة من الله
منحها له وبناءاً على هذا فلا فرق في حقيقة العجب بين أن يكون في عمل عبادي ونعمة أخروية أم في عمل غير عبادي ونعمة دنيوية.
هذا الإهتمام القرآني:
ولأن حالة العجب القذرة ذنب كبير جداً وقريب من الكفر والشرك بل هي عين الكفر والشرك فقد تصدت مئات الآيات في القرآن المجيد لتذكير الإنسان بأن المالك المطلق هو الله وأن جميع أجزاء عالم الوجود ملك له سبحانه وجميع النعم الدنيوية والأخروية هي من الله.
أيها الإنسان أنت وما تملك وأعمالك أيضاً, الجميع ملك الله ومخلوقات له وبشكل عام القوة والقدرة والغنى والعزة لله تعالى وفقط.
إن على المؤمن بالله وكتابه أن يفهم هذا المعنى ويتيقن به حتى لا يصيبه العجب والغرور, وإذا لم يطع المكلف هذا الحكم العقلي ( أي العلم بأن كل شيء من الله ) ونسي الله وأصابه العجب والغرور بأعماله ( الدنيوية والأخروية ) والنعم التي حصل عليها ( الدنيوية والأخروية أيضاً ) فسيبتلى بهذا الذنب الخطير وسيحل عليه غضب الله سبحانه...... وبناءاً عليه فإن من لم يترك هذا الإعتقاد ( الذي سبب له العجب ) وأصابه العجب فقد عصى.
هل يستلزم ذلك العسر والحرج:
وتقول: بناءاً على ما ذكر فمن الواجب على الإنسان في كل عمل يؤديه أن يلتفت إلى أنه يؤديه بقدرة الله وعند كل نعمة أن ينتبه إلى أنها من الله وهذا موجب للعسر والحرج لكثرة الغفلة البشرية, وليس في الإسلام حكم حرجي.
والجواب: إن الإعتقاد الإجمالي - مع استمراره الحكمي - يكفي نظير
وجوب النية في أجزاء الصلاة فحيث أنها حرج فإن النية الكلية في أول الصلاة تكفي بحيث إذا وقعت بعض أجزاء الصلاة بدون الإلتفات إلى النية وبدون حضور قلب فهي صحيحة لكن بشرط استمرار النية الحكمي والمراد بالإستمرار الحكمي هو أن لا ينوي نية مغايرة, وكذلك في الصوم حيث تكفي النية الإجمالية لصوم يوم من طلوع الفجر بحيث أنه إذا غفل أثناء النهار عن نيته نهائياً فصومه صحيح بشرط أنه إذا التفت إلى نيته لا ينوي نية مغايرة لها أي لا ينوي قطع صومه, كذلك الأمر في المسألة الإعتقادية المذكورة ( أي الإعتقاد بأن كل شيء من الله تعالى ) فإن الإعتقاد الكلي بها كاف بشرط أن لا ينوي نية مغايرة ويؤدي عملاً على أساس هذه النية المغايرة, ويرى نفسه مستقلاً عن الله, وإذا كان لا يستطيع أداء واجب الشكر التفصيلي عند كل نعمة فإن الشكر الكلي كافٍ, والمراد بالشكر الكلي هو الإعتقاد بأن ما بنا من نعمة فمن الله, إن هذا يكفي ولكن بشرط أن لا يصدر منه كفران لنعمة بمعنى أن يراها منه لا من الله ويعجب بها ( لأن هذا الكفران يلغي الإستمرار الحكمي للشكر الكلي ).
الآيات والروايات أعم:
تقدم أن العجب الذي يحصل في الأمور الدنيوية لا فرق بينه وبين العجب الذي يحصل في العبادات وهذا يكفي لإثبات حرمته ويضاف إلى ذلك أن أدلة حرمة العجب من الآيات والروايات التي ذكر بعضها أكثرها أعم من العجب في العبادة وفي غير العبادة, وبعضها خاص بالعجب في الأمور غير العبادية وحيث أن تحقيق هذا بالتفصيل يستوجب الإطالة والخروج عن هدف الكتاب الذي هو الفائدة العامة فليترك ذلك إلى محل آخر.
خلاصة المطلب أن العجب في غير العبادة وإن لم يقل الفقهاء بحرمته, إلا أن الإحتياط بناءاً على التحقيق المتقدم يستدعي اجتنابه.
والعجب في غير العبادة بناءاً على ما ذكره بعض أهل التحقيق عبارة عن العجب بالبدن, القوة, العقل, النسب الشريف وغير الشريف, الأولاد والأتباع, المال, الرأي, بالتفصيل التالي:
1 - العجب بالبدن:
يتحقق العجب بالبدن بأن يرى تناسب أعضاء بدنه وجمالها وعذوبة صوته وسلامة قواه البدنية ولا يعتبرها نعمة من الله وينسى عدم قيمتها وأنها معرضة للزوال, عندها يستبد به العجب ويتباهى, ولو أنه عاد إلى رشده وأدرك أنها مخلوقات لله ومصنوعات له ونعم منه ورأى فناءها وزوالها وعدم قيمتها ولم يبعد عن ذهنه عاقبة أمره في القبر حيث يتلاشى, وأنه قد يحشر في القيامة - بسبب قبح أعماله - في أقبح صورة ويبتلى بأنواع الذل, لتمَلَّكه الخوف ولما تداخله العجب على الإطلاق.
لا تغتر بمالك وجمالك فذاك يأخذونه منك في ليلة وهذا بحمى واحدة [178].
2 - العجب بالقوة:
يكون العجب بالقوة بأن يرى نفسه قوياً وبهلواناً وأن لا يدرك أن قوته مستعارة من الله ولا يخطر بباله أنها زائلة, عندها يعجب بقدرته ويتباهى بنفسه, ويعتمد في مواطن الخطر على قوته ويمضي دون أي خوف ولو أنه ثاب إلى رشده لأدرك أن قوته نعمة الله وهي مستعارة ولا قيمة لها, لأن بالإمكان أن تضعف بحمى واحدة لمدة يوم ويتمدد على فراش المرض إلى حد أنه لا يستطيع أن يحرك يده.. وفي النهاية يلف الكفن هذه اليد..
وبالإمكان أيضاً أن ينازل شخصاً يعتقد أنه أقوى منه فإذا بذلك الشخص يغلبه..
والخلاصة لو أنه فكر بمثل هذه الأمور لما تداخله العجب أبداً ولما كان اعتمد إلا على الله تعالى.
3 - العجب بالعقل:
يكون العجب بالعقل بأن يعتبر الشخص نفسه صاحب فهم وعلم وذكاء وبعد نظر, وأنه في تشخيص دقائق الأمور من المصالح الدينية والدنيوية ذو رأي صائب وسليم, وأي شخص أبدى رأياً يخالف رأيه فهو جاهل وضعيف الشعور كما يرى أنه ليس بحاجة إلى التشاور مع أحد وباختصار أن لا يرى أحداً أعلم منه, ويتباهى بفهمه.
ولو أن مثل هذا الشخص تنبه لأدرك أنه إذا كان يمتلك فهماً فهو عطاء الله واستعارة ولا قيمة له, إذ أنه قد يزول بحادثة تصيب دماغه فيفقد عقله نهائياً, ثم ما أكثر الأمور الواضحة التي أدركها الآخرون ولكن الله لم يشأ له أن يفهمها, وكذلك فإن فهمه هو بالنسبة إلى ما لم يفهمه كالمتناهي بالنسبة إلى اللامتناهي.
والخلاصة: لو تنبه لمثل هذه الأمور لما دخله العجب ولما اعتمد على فهمه, ولكان أمله في فهم أي شيء متعلقاً بالله تعالى.
4 - العجب بالنسب الشريف:
كما قد يحدث لشخص من سلالة السادات الجليلة إذا لاحظ سيد أن نسبه ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولاحظ الروايات في فضائل السادة التي من جملتها وعد الشفاعة لذريته صلى الله عليه وآله وسلم فقد يفتخر ويأمن من مكر الله
في مقابل ذنوبه.. أي يبتلى بمرض العجب المهلك..
ولو أنه تأمل سيرة أجداده - وكيف كانوا يخافون الله تعالى ويطول بكاؤهم ويتعالى نشيجهم من هول الآخرة وعقباتها, وكيف كانوا يجتهدون في الورع والعبادة وأنهم تحلوا بالأخلاق الفاضلة - لو أنه تأمل في ذلك - لكان سيطر عليه الخجل بدلاً من العجب ولبكى من خراب باطنه وظاهره لأنه عندها يجد حاله مغايراً لحالهم, وسيرته منافية لسيرتهم, ويدرك كم هو بعيد عنهم خاصة إذا تأمل كلام الإمام السجاد عليه السلام: خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً, وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً[179].
وقال عليه السلام: " للمحسن منا أجران وللمسيء منا عقابان ".
الإحتمالات التي توجب الخوف:
وأما الغرور بالشفاعة بحيث تصبح سبباً للجرأة على الذنب فهو كجرأة المريض الذي يترك الحمية ويأكل ما يضره معتمداً على وجود الدواء في متناوله, ألا يحتمل هذا المجتريء على الذنب اعتماداً على الشفاعة أنه قد يطيل بذلك وقوفه في عقبات الآخرة مئات السنين قبل أن يصل إلى موقف الشفاعة.
قال بعض العلماء: المستفاد من الروايات أن موقف الشفاعة هو آخر مواقف يوم القيامة, ثم ألا يحتمل المعتمد على الشفاعة أن تكون ذنوبه لا تشملها الشفاعة, والأسوأ من ذلك كله أن يموت على غير الإيمان وعندها ليس له أي أمل بالفوز أبداً.
والخلاصة: إذا كان السيد عاقلاً بصيراً في أمر دينه يعمل بما تقدم فلن
يتداخله العجب بل يبقى بين الخوف والرجاء الذي هو لازم الإيمان.
5 - العجب بسائر الأنساب:
العجب بالأنساب الأخرى مثاله أن يعجب بأنه من سلالة رجال عظماء ويعتمد على هذه النسبة ويفرح ويتباهى ويُدِلّ, في حين لو أنه لاحظ ظلمهم وتجاوزاتهم, ولو رأى صورهم البرزخية وفي مواقف القيامة خصوصاً في عقبة المظالم, وكيف أن أعداداً لا تحصى من الخلق تحيط بهم تطلب منهم حقوقها.
لو لاحظ ذلك فبدلاً من أن يعجب بانتسابه إليهم سيسيطر عليه الخجل ويتمنى لو أنه لم يكن ينتسب إليهم.
6 - العجب بكثرة العدد:
في معرض توبيخه للمسلمين الذين أعجبوا بكثرة العدد يقول تعالى: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ( وفي النتيجة انصرفتم عن الإعتماد على الله واعتمدتم على حولكم وقوتكم واطمأننتم أنكم مع هذه الكثرة لا تهزمون والحال أن كثرة الأفراد ليست إلا سبباً ظاهراً, ثم إن سببيتها متوقفة على إذن الله, ولأنكم رأيتم الكثرة سبباً مستقلاً واعتمدتم عليها ونسيتم الله أفهمكم الله أن كثرتكم لا تنفع ) فلم تغنِ عنكم شيئاً فضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ". التوبة 25.
ومع أنكم بسبب هذا العجب بكثرتكم وبسبب فراركم من ساحة المعركة استحقيتم العقوبة الشديدة إلا أن الله برحمته نصركم وأنزل الملائكة ومنّ عليكم بالظفر والفتح.
ويكون العجب بكثرة العدد بأن يعجب الشخص بكثرة عدد أولاده وخدمه
وعشيرته ومتعلقيه, فيعتمد عليهم ويفرح بهم ويرى نفسه كبيراً, ولو أنه فكر في أنهم جميعاً عبيد الله عاجزون ولا يمكنهم بدون إذن الله أن يقوموا بأي عمل, وقد يبتلون بنوع من أنواع المرض أو البلاء فلا يستطيعون أن يتخلصوا منه, ثم إنهم عما قريب يتركونه وحيداً في قبره ويرجعون, وهناك لا مغيث إلا الله, لو أنه فكر هكذا لما اغترّ بهم ولا أعجب.
7 - العجب بالمال:
وذلك بأن يحصل على أموال طائلة فيطمئن قلبه بها ويفرح ويرى نفسه غنياً وكبيراً, ولو أنه فكر في آفات المال وأنه قد يخسره لحادثة بسيطة تواجهه وأن من الممكن أن يصاب بمرض يضطر أن ينفق كل ثروته في علاجه ثم لا يشفى, ولو أن كذلك فكر في موقفه في الحساب يوم القيامة حيث يسأل: من أين له ذلك؟ وفيم أنفقه؟ ولِمَ لم تنفقه حيث أمرت, وكذلك حيرته وذلته أثناء مطالبة أصحاب الحقوق له بحقوقهم هناك, لو أنه فكر بذلك لما أعجب بثروته أبداً بل كان يظل دائماً خائفاً من آفات ماله والعقبات التي ستواجهه يوم القيامة ويعوذ بالله من شر ماله ويطلب منه العون في أداء الحقوق والقيام بواجباته التي أمر بها سبحانه.
8 - العجب بالرأي الباطل:
وذلك بأن يرى نفسه صاحب فهم سليم, ثم يعتقد بعقيدة فاسدة ورأي باطل ويعجب به, فيبتلى نتيجة ذلك بالهلاك الأبدي, ولو أنه منذ البداية لم يعتمد على فهمه ولم يتخلَّ عن الميزان الحقيقي لتشخيص الحق من الباطل الذي هو القرآن وأهل البيت عليهم السلام, ولو أنه عرض رأيه على هذا الميزان ورجع إلى أهل العلم بذلك لما هلك.
السرور بالنعمة ليس عجباً:
قد تسأل: الفرح بالنعمة سواء كانت دنيوية أم أخروية هي من الأمور غير الإختيارية, مثلاً: إذا أدى المؤمن عبادة أو قام بعمل خير, فإنه قهراً يفرح بهذا التوفيق, وكذلك إذا وصله مال, أو ولد له ولد أو شفي من مرض وأمثال ذلك, فإنه يفرح قهراً, فهل هذا الفرح والسرور هو ذلك العجب الحرام.
والجواب: هذا الفرح ليس عجباً بل الفرح بالنعمة الأخروية من لوازم الإيمان كما أن الفرح بالنعمة الدنيوية من لوازم البشرية.
الفرح الذي هو عجب وحرام في النعم الأخروية يتحقق بأن لا يراها توفيقات إلهية, بل يراها من عنده ويستعظمها ويفرح بها ويصرف النظر عن ذنوبه واستحقاقاته ولا يرى نفسه مقصراً أبداً بل يرى أنه يستحق مقاماً عالياً.
وفي النعم الأخروية يكون بأن لا يرى أن هذه النعم من الله ولا يخاف من الإستدراج الإلهي وبسبب ذلك يرى نفسه غنياً غير محتاج وتكون هذه النعم هي مصدر اطمئنان.
بناءاً على هذا فإذا كان سبب الفرح بنعم الآخرة الباقية أنها توفيقات إلهية, والإعتماد على الفضل الإلهي ووعده سبحانه بالأجر والثواب والإفتخار بالله وتوفيقه لا بالنفس هذا ليس عجباً بل قد أمرنا به " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ". يونس 58.
وكذلك إذا كان سبب الفرح بنعم الدنيا أنها من الله لا من النفس أو سبب آخر على نحو الإستقلال فلا مانع منه بشرط أن لا يعتمد عليه أي لا يراه منجياً ومغنياً ولا يتباهى به وعلامة ذلك أنه إذا سلبت منه بعض هذه النعم لا يستبد به
اليأس بل ينتظر فرج ربه لأن مصدر قوة قلبه واطمئنانه هو المنعم ( الله ) لا النعمة.
إذا فرح الإنسان بالنعمة باعتبار أنها عطاء الله وعلامة التفاته وفضله ورحمته لعبده فذلك الفرح شاهد حسن حاله وصدق إيمانه وعلامة ذلك زيادة خشوع القلب عند النعمة المستجدة والخوف من أن تسلب منه هذه النعمة بسبب كفرانها أو أي ذنب آخر.
خلاصة القول أن مجرد الفرح بالنعمة لا ضرر فيه أما إذا اقترن بحالة العجب فهو ذنب وما يمكن إيضاحه بالكتابة من الفرق بين هاتين الحالتين قد كتب وعلى القاريء العزيز أن يراقب قلبه حتى لا يبتلى بالعجب.
لا تنسب الفعل إلى نفسك فقط:
مثال إسناد الفعل إلى النفس أن يقول الشخص: فعلت كذا أو أفعل كذا أو سأفعل وكلما تكون هذه النسبة على وجه الإستقلال أي بدون حاجة إلى قدرة الله وإرادته فهي شرك ومعصية وأما إذا قال: إن شاء الله ولو لم يجرها على لسانه وإنما قاله في الباطن ولسان الحال فذلك لا إشكال فيه والتمييز بين هاتين الحالتين أي هل ينسب الأفعال إلى نفسه على نحو الإستقلال أو يعلقها على مشيئة الله متروك للمكلف ليراقب حال قلبه حتى لا توجد فيه حالة الشرك.
آفات العجب:
العجب بالإضافة إلى أنه ذنب قلبي كبير هو سبب لذنوب أخرى فإذا لم يتخلص المعجب من عجبه ابتلي بذنوب منها التكبر لأن من رأى نفسه كبيراً بسبب استكبار عمله وثروته ونسيان الله عندما يواجه آخر ليس له عمله وثروة يتكبر, أي يرى نفسه أكبر منه ويفتخر عليه ويتوقع منه أن يعظمه إلى حد أنه
يتوقع منه امتثال أوامره.
ومنها نسيان الذنوب أي أن المعجب لا يرى ذنوبه حتى يتوب منها.
ومنها أيضاً استصغار الذنب لأن من لوازم رؤية الإنسان عمله كبيراً والفرح به أن يرى ذنبه - إذا رآه - صغيراً ولا يستحق المؤاخذة عليه.
وقد ذُكر في كتاب " الذنوب الكبيرة " أن من جملة ما يصيِّر الذنوب الصغيرة كبيرة هو نفس استصغارها.
ومنها الأمن من المكر الإلهي لأن المعجب بعمله لن يعرف الخوف من أنه بسبب ذنوبه سيحل عليه غضب القهار بالتفصيل المذكور في كتاب " الذنوب الكبيرة ".
ومنها: خراب عمله فالمعجب لا يحتمل عدم صحة عمله ليسعى للحصول على شرائط صحته وقبوله لأن من يسعى في إصلاح عمله هو الذي يحتمل خرابه وعدم قبوله ولو أن المعجب يحتمل ذلك لما دخله العجب.
الحرمان من الحق:
ومن الذنوب التي يبتلى بها المعجب الحرمان من الوصول إلى الحق والصواب, في العقائد والأعمال, والركون إلى الباطل والخطأ, لأن المعجب لا يحتمل الخطأ في سلوكه وطريقته كي يبحث عن الصواب وأهل المعرفة, ويذهب إلى عالم عامل ويسأله عن صحة تصرفاته وإذا وعظه عالم فإنه لا يصغي إلى أقواله بل يهزأ منه ويقول: أتَنصح مثلي؟! أنا عاقل الدهر وأستاذ الآخرين... وحقاً إن هذا بلاء تنشأ منه مئات الإبتلاءات ومرض تنتج عنه مئات الأمراض, وعلاجه في غاية الصعوبة وهو ذلك " الجهل المركب " الذي تقدم ذكره في الأبحاث السابقة إنه أشد الأمراض النفسية فتكاً,
خصوصاً إذا كان المجال الذي أعجب بنفسه فيه من الأمور الأخروية والأمور الإعتقادية منها بشكل خاص.
عدم الجد في اكتساب الحسنات:
ومنها - الذنوب المتفرعة على العجب - عدم الجد في اكتساب الحسنات مثال ذلك الثري الذي ينفق مبلغاً من المال يراه كبيراً في عمل يراه خيراً ويستعظم ذلك ويعتمد عليه بحيث يتخيل أنه أمَّن زاد آخرته ولن تواجهه أية مشكلة في عقبات المحشر, والجنةُ حتمية له, والحال أنه ما أكثر الحقوق الواجبة التي يجب أن يخرجها من ماله ويوصلها إلى أصحابها من الأرحام والفقراء... إن ثرياً معجباً كهذا مبتلي بعذاب ترك الواجبات, محروم من ثواب درجات الإنفاقات المستحبة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفح منه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه وعمل فيه خيراً[180].
أي لم يدخر ماله أو ينفقه في مجال شر وإنما أنفقه في كل مجال خيرٍ أتيح له, ولم يكتف بالإنفاق في بعض الموارد.
إن من فرح بوضعه وعمله واطمأن بذلك, سوف لن ينشط للإزدياد من المعرفة واكتساب الفضائل والخيرات, ولن يضطرب من احتمال سرعة حلول الأجل قبل تهيئة زاد آخرته, ولا يستوحش لقلة حسناته في كفة ميزان أعماله, ومن ثم فلا يوجد ما يدفعه إلى الجد في اكتساب الحسنات, وشخص من هذا النوع لا يكون سلوكه سلوك المؤمن بالله ويوم الجزاء.
المؤمن يتهم نفسه:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: واعلموا عباد الله أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها[181].
فالمؤمن ليس معجباً بنفسه بل هو يتهم نفسه دائماً بالتقصير في العبادة والطاعة, إنه يرى نفسه وعمله في مقابل عظمة الله تعالى من الحقارة بحيث لا يستحق الذكر, وكل طاعة وعبادة تصدر منه, فهو لا يذكرها ليعدها صغيرة أو كبيرة.
علاج العجب:
رغم أنه قد سبقت الإشارة بشكل أو آخر إلى علاج العجب ولكن حيث أنه واقعاً ذنب كبير ومرض قاتل, يشار هنا إلى علاجه الإجمالي ليدخله القاريء في حسابه ويصون نفس - عن هذا الطريق - من هذا المرض الخطير.
ذكر في أول البحث أن سبب العجب هو الجهل بالحقيقة والواقع, وعليه فالحيلولة دون العجب وعلاجه يتحققان بالعلم بالواقع: أن يعرف واقعه وواقع الله ويفهمهما جيداً ويوقن بذلك بالتفصيل الآتي ثم يوفق بين مسلكه وبين هذين العلمين ( العلم بواقعه والعلم بواقع الله تعالى ) حتى تصبح المطابقة بينهما ملكة له, عندها يكون بمأمن من مرض العجب والكبر.
معرفة الله:
يجب أن يعلم بنور العقل والتفكر في آيات القرآن المجيد والتدبر فيها أن المالك الحقيقي والربوبية المطلقة والعزة الواقعية هي لله تعالى, وأن جميع أجزاء عالم الخلقة مملوكة لله وتحت تصرفه, والكل مخلوق له وموجود
منه[182] ويعلم كذلك أنه وجميع أجزاء العالم مربوبون له سبحانه أي أنهم جميعاً تحت تصرف الله وتربيته, والله فقط هو الذي يوصل جميع المخلوقات إلى كمالها الذي يناسبها, والرزق المناسب لكل مخلوق إنما يصله من الله, أي أن يفهم معنى " رب العالمين " ويؤمن به ويعلم أنه وجميع المخلوقات مقهورون خاضعون له[183].
ولمعرفة هذه الحقائق ينبغي أن يتأمل في حالته الأولى والحالة الأولى لجميع أجزاء عالم الوجود إذ لم يكن شيء من ذلك إلا قبضة تراب - هي أيضاً مخلوقة لله - ثم أظهر الله قدرته وحكمته وخلق هذه الظواهر المدهشة والمصنوعات المحيّرة في حين أنه لم يكن لأي من هذه المخلوقات اطلاع على خلقه أو خلق غيره, أي أنه لم يصنع نفسه ولا غيره, بناءاً عليه فالجميع مملوكون حقيقيون لله.
كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له:
وعندما يتدبر في أحواله وأحوال جميع أجزاء العالم يجد أن كلاًّ من ذلك, من الجمادات والنباتات والحيوانات يسير نحو كماله المناسب له بدون إرادته ومشيئته. مثلاً: النطفة في الرحم تصبح علقة ومضغة ثم تكون بدناً يخرج من الرحم ويظل بناء البدن ينمو ولا تطرأ عليه لحظة توقف وكذلك القوى التي زود بها تظل تنمو وتسير باتجاه الكمال والإشتداد.
كذلك البذر الذي يستقر في باطن الأرض وإلى أن يخرج رأسه منها ثم تظهر فيه الأغصان والأوراق والثمار...
وبعد التأمل بدقة في التربية المستمرة لأجزاء عالم الخلقة وأنه لا شيء منها هو مربي نفسه بل لا علم له بها يوقن أنه والجميع مربوبون ورب الجميع هو الله تعالى.
ثم إنه لدى التدقيق في عاقبة أمره وعاقبة أمر سائر الموجودات يرى أن كلاًّ من ذلك بعد وصوله إلى كماله يسير قهراً وجبراً نحو الزوال والفناء ويرجع إلى حالته الأولى كما يرى ذلك في حالات الإنسان والحيوان حيث أنهما بعد الوصول إلى حد معين من العمر كيف تبدأ القوى - دون اختيار منها - تضعف وتضمحل وتشيب, حتى ينتهي ذلك بالموت. وهكذا يستطيع أن يدرك قاهرية الله ويعلم موقناً أن العزة والقدرة والبقاء لله فقط وأن جميع المخلوقات أذلاء عاجزون فانون محتاجون إليه[184].
معرفة النفس:
عندما يلاحظ الإنسان حالاته منذ كان في رحم الأم وإلى الآن, يرى أن حقيقته بدن مصنوع من عدة معامل لم يكن له أي علم بها أو اطلاع عليها, وقد أودعت فيه قوى, وجميع أجزاء بدنه وجميع قواه تتحرك دون اختياره واطلاعه وتسير نحو كمالها وقد عرضت عليها حالات وتَعْرُض ليس له فيها أي اختيار كالنوم واليقظة, الجوع والشبع, العطش والري, السلامة والمرض, الحزن والسرور, التذكر والنسيان, القدرة والعجز, إلى حد أنه يريد أن يتذكر شيئاً فلا يستطيع يريد أن يبعد عن خاطره حادثة محزنة فلا يستطيع يريد تركيز حواسه ليفهم فكرة, أو يريد أن يبقى متيقظاً فيغلبه النوم أو يحب أن ينام فيستبد به الأرق أو يريد أن يستيقظ في وقت معين فلا يستيقظ والخلاصة يرى أنه عاجز عن إيصال أصغر نفع إلى نفسه كما أنه لا يستطيع أن يدفع عنها أقل ضرر
قال تعالى:
" قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ".
ويرى كذلك أنه بعد مدة لا تطول يبدأ بدنه وتبدأ قواه بالنقص والزوال, إلى أن يرجع هذا البدن في القبر تراباً كما كان في حالته الأولى, وتستقر روحه في البرزخ الذي هو غيب عالم المادة, وجميع هذه الحالات كحالاته السابقة تتحقق بدون ميله وإرادته.
وهل يبقى مجال للعجب؟
هل يشكل عاقل بعد رؤية هذه الحقائق في ذلته ووضاعته وعجزه وحاجته؟
هل يبقى لديه بعد الإطلاع على تقارير نفسه أدنى تردد في مملوكيته ومقهوريته ومربوبيته؟
هل يمكنه بعد أن يعرف أنه ليس شيئاً أن يعتبر أعماله شيئاً, أو أنها تستحق الذكر. كلا... بل أن لسان حاله ومقاله بعد هذا العلم هو " وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين " نعم إن الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجعل الإنسان جاهلاً ويمنعه عن رؤية الحقيقة هو الأسباب الظاهرية وإرادته واختياره.
العجب بالأسباب الظاهرية:
مثلاً يرى بذرة تختفي في التراب ويوصل إليها الماء, فتنبت وتخضرّ وتثمر, نطفة تستقر في الرحم ثم تصبح ولداً, يأكل خبزاً وطعاماً فيشبع, يشرب ماءاً فيرتوي, يركض خلف المال فيصبح ثرياً وهكذا يستغني, يسعى للحصول على مقام فيصبح صاحب مقام وهكذا يصبح عزيزاً, وكذلك سائر
الأسباب الظاهرية التي يرى آثارها ثم يتصور أنها مستقلة في التأثير, ولكنه إذا تأمل يدرك: كما أن أصل وجود الأسباب من الله فإن خاصيتها وسببيتها أيضاً من الله, وكذلك تأثيرها أي طهور خاصيتها مثلاً: الخبز كما أن أصل وجود الحنطة من الله فخاصيته التي هي رفع الجوع هي من الله أي أن الله أعطاها هنا هذا الأثر كما أن قابلية الخبز للتفتت والهضم والتحول إلى دم وجزء من البدن كل ذلك من الله تعالى, أو مثلاً النبات الفلاني أصل وجوده من الله وعلاج المرض الفلاني به أيضاً من الله وقد ثبت بوضوح في بحث التوحيد الأفعالي من هذا الكتاب أن وجود الأسباب وتأثيراتها كل ذلك من الله والجميع مسخر لمشيئة خالق العالم سبحانه.
قد لا تترتب الآثار على الأسباب:
لمزيد من إيضاح هذه الحقيقة لاحظ الموارد التي لا تقترن فيها الآثار بالأسباب لاحظ مثلاً: ما أكثر الأشخاص الذين يبذلون جهوداً دؤوبة للوصول إلى الثراء أو المقام ولكنهم لا يصلون, ما أكثر الأدوية التي هي لدى الطبيب الحاذق علاج قطعي للمرض الفلاني ولكنها بعد أن تستعمل لا يترتب عليها أي أثر بل قد تتسبب بآثار مضادة.
" قد يجعل القضاء شراب الخل اللذين سببا في زيادة الصفراء وزيت اللوز سبباً في الجفاف ".
" وقد يؤثر الإهليلج اليبوسة ويقدم الماء لنا النار كما في النفط[185] ".
وبشكل عام ما أكثر الأهداف التي يسعى الإنسان للوصول إليها عن طريق الأسباب التي يراها قطعية ولكنه لا يحصل على نتيجة, وكذلك العكس,
ما أكثر الأمور التي لا يحتمل أنها مؤثرة ولكنه يصل عن طريقها إلى النتيجة التي يريد.
" يخفي في الخرابات الكنوز وفي الورد الشوك وفي الأجسام الروح ".
" يجعل الظانَّ موقناً ويبعث العواطف من أسباب الحقد ".
" يربي في النار إبراهيم ويجعل الخوف أمان الروح ".
" تسبيبه الأسباب يحملني على جنون العشق وتعطيله الأسباب يجعلني سفسطائياً ".
" أصبحت تائهاً في تسبيبه الأسباب ومتحيراً في تعطيله الأسباب[186] ".
ومن هنا فإن كل من يحبه الله ويريد هدايته غالباً ما يجعل الأسباب بالنسبة له بلا أثر ويرزقه من حيث لا يحتسب ويعطيه ما أراد[187] ليرى أن الأسباب جميعها مقهورة ومسخرة للغيب ويقول بيقين:
" فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ". يس 83.
أي أن جميع أجزاء عالم الوجود في تصرفه وتدبيره.
هل يعتمد عاقل على الأسباب الظاهرية بعد إدراك هذه الحقيقة ويفرح بها ويرى نفسه غنياً بامتلاكه, ويغفل عن الله ويتباهى بها وباختصار يتداخله العجب. أم هل يسيطر عليه اليأس وضعف الهمة والمسكنة لعدم توفر الأسباب... كلا... فإن هاتين الحالتين معاً خلاف الإيمان بالله بل هما عين الكفر بالله وسيأتي بيان ذلك في بحث اليأس.
العجب في الأفعال الإختيارية:
وأما الأفعال الإختيارية والإرادية التي يغتر بها الإنسان الجاهل فيتصور نفسه مستقلاً وغير محتاج في التأثير والتدبير لأنه يرى أنه يصل إلى كل ما اشتهى وأراد, يشتهي الطعام مثلاً فيحصل عليه ويأكله, ويشتهي الثراء فيعمل ويصبح ثرياً, يتمنى مقاماً فيصل إليه وكذلك كل حركة وسكون أراد فإنه قادر على فعلهما, يذهب إلى المسجد للصلاة أو إلى السينما للهو, يتصدق أو يقرض قرضاً حسناً أو يأخذ الربا, يظلم أو يعدل ويحسن...
باختصار: لأن الإنسان يرى أن الأمور التي أرادها استطاع تحقيقها - لذلك يرى نفسه مؤثراً وفاعلاً ولو أنه تأمل بدقة لفهم أن ما أتى به وحققه فهو أولاً قد رآه بالعين التي هي عطاء الله, وسَمِعَه ومال إليه بالأذن التي هي عطاء ولأن الله جعله صاحب إرادة فقد أراده وتابع تحقيق ذلك حتى النهاية باليدين والرجلين وذلك عطاء الله.
الأفعال الإختيارية أيضاً من الله:
مثلاً: الشخص الذي أصبح عالماً, فقد طالع مسائل ذلك العلم بالعين التي هي عطاء الله وسمع ذلك العلم من الأستاذ بالأذن التي هي عطاء إلهي وفهمه بالذكاء الذي هو عطاء إلهي وحفظه بقوة الحافظة التي هي عطاء إلهي حتى صار من أهل ذلك العلم. وكذلك سائر الكمالات النفسية, مثلاً: الشخص الكريم إنما يتكرر منه الإنفاق من المال الذي أعطاه إياه الله وبالذكاء والرغبة اللتين أعطاهما الله له وبواسطة اليد التي سخرها له سبحانه وبذلك يصبح متصفاً بالسخاء والكرم, والكمالات الأخرى كذلك... فمن أصبح عابداً فهو إنما سمع العبادة ووعاها من الشرع المقدس بالفطنة التي منحها له الله
تعالى ومال إليها بالشوق الذي منحه إياه الله وأداها بالبدن الذي هو من صنع الله وإعداده, ومن نافلة القول: لو أن واحدة من عطايا الله تعالى المذكورة فقدت فإن ذلك العمل المرتبط بها لا يمكن أن يتحقق أي إذا لم يكن في الإنسان الإحساس أو الشوق أو القدر فإنه لا يستطيع القيام بأي عمل وهذا في غاية الوضوح فهل يجهل عاقل ويغتر بعد معرفة هذه الحقيقة, ويرى أن الفعل الذي أتى به هو منه فقط ويعتبره كبيراً ويُدلُّ به؟ وإذا دخله العجب والغرور, ألن يخجل من كذبه في محضر ربه؟
هل سيصاب عالم بالعجب بعلمه بعد إدراك هذه الحقيقة؟
وهل سيتباهى عابد بعبادته بعد معرفة هذا الواقع ويعتبر نفسه صاحب حق؟
هل سيرى منفق بعد هذه المعرفة أية قيمة لإنفاقه؟
وقفة مع العظماء:
من الأمور التي تمنع الإبتلاء بالعجب أن يتأمل في أحوال عظماء الدين والذين هم أسمى منه وأفضل علماً وعملاً فإذا كان عالماً مثلاً يطالع سيرة العلماء الكبار وعلى رأسهم آل محمد عليهم السلام. فمع أنهم كانوا معدن العلم, كيف كان خوفهم من العظمة الإلهية وأهوال القيامة وعقبات الآخرة, لأن كل من كان أعلم فينبغي أن يكون أكثر خوفاً[188].
وإذا كان من أهل العبادة فليتأمل أحوال العبّاد وسيدهم زين العابدين عليه السلام, وكيف أنه رغم عباداته التي ليست في مقدور الآخرين يشكو قلة طاعته ويرسل الزفرات والإستغاثات والنشيج والأنين.
وإذا كان من أهل الإنفاق فليتذكر أحوال المنفقين والمؤثرين كيف كانوا يعيشون الإضطراب خوف أن لا يقبل إنفاقهم وفي القرآن المجيد حولهم " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ". المؤمنون 60.
وحيث أن ذكر الشواهد على ذلك تستوجب الإطالة فيكتفى ببعضها.
بين الإمام السجاد عليه السلام وجابر:
روي أن فاطمة بنت علي بن أبي طالب عليهم السلام أتت إلى جابر بن عبد الله فقالت له: " يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إن لنا عليكم حقوقاً ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه أذاب نفسه في العبادة فأتى جابر إلى بابه واستأذن فلما دخل عليه وجده في محرابه قد أنضته العبادة فنهض علي فسأله عن حاله سؤالاً حفياً ثم أجلسه بجنبه ثم أقبل جابر يقول: يا ابن رسول الله أما علمت أن الله إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟
فقال له علي بن الحسين: يا صاحب رسول الله: أما علمت أن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الإجتهاد له وتعبد - بأبي هو وأمي - حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، فلما نظر إليه جابر وليس يغني فيه قول قال: يا ابن رسول الله البقيا على نفسك فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء، وبهم تُستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء فقال: يا جابر لا أزال على منهاج أبوي مؤتسياً بهما حتى ألقاهما.
فأقبل جابر على من حضر فقال لهم ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف[189] ".
من يقوى على عبادة علي:
يصف الإمام الصادق عبادة جده الإمام السجاد عليهما السلام فيقول " ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه وقد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود وقد ورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة فقال أبو جعفر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له فإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي ابن أبي طالب عليه السلام فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام[190] ".
لاحظ قيمة العمل:
من الأمور التي تمنع الإنسان من العجب التفكير في قيمة عمله, مثلاً إذا سهر ليلة حتى الصباح مشتغلاً بالعبادة, وأراد أن يعرف قيمة هذه العبادة يجب أن يلاحظ كم هي أجرة الحرس والشرطة المتجولين في الليل الذين يسهرون الليل كله, لعله في مثل زماننا ليس أكثر من عشرين توماناً. ومن يصلي ساعة في اليوم فليلاحظ كم هي أجرة العامل الذي يعمل من الصباح
حتى الغروب ويحدد قيمة صلاة ساعة على هذا الأساس.
والشخص الذي ينفق مقداراً من ماله في سبيل الله ليلاحظ أنه إذا تعامل مع الناس بهذا المبلغ فكم هي قيمة السلعة التي يعطونها له إزاءه وكذلك الأعمال الأخرى.
عندها يرجع إلى نفسه ليرى هل يحق له توقع الثواب الباقي والجنة الإلهية على هذا العمل ذي القيمة القليلة ولولا الفضل والكرم الإلهيين هل كان هذا التوقع شيئاً غير توقع أحمق.
وما أنا وما عملي:
العطاء الإلهي في مقابل طاعة عباده سبحانه وعبادتهم, أشبه ما يكون بفقير يقدم هدية في حدود استطاعته إلى سلطان كريم والسلطان يعطيه أيضاً في حدود سلطنته واستطاعته فيغنيه ويجعله لا يحتاج إلى أحد, إذن, إذا حمل الفقير وردة ذابلة تالفة وجاء إلى حديقة السلطنة وقدم وردته إلى السلطان وهو معجب بنفسه لأنه قدم هدية عظيمة إلى السلطان, ورغم أنه كان يجب أن يسجن لما صدر منه تجاه السلطان من قبل, يتوقع الآن أنه في مقابل هذه الهدية العظيمة أصبح يستحق العفو بل بالإضافة إلى ذلك يجب أن يجعله السلطان ثرياً ومن خواصه ومقربي بلاطه. أليس مثل هذا الفقير أحمق, ألا يستحق الطرد والصدّ, خاصة إذا كان السلطان مطلعاً على حالة عجبه؟
الخلاصة أن الإنسان إذا أدرك وضاعته وحقارة عمله وعلم أنه ليس له ولا لعمله قيمة بين يدي الله تعالى فلن يبتلى بالعجب أبداً, وكذلك إذا قارن بين طاعته وعبادته ونعم الله التي لا تحصى, وعلم أن قيمة كل واحدة من هذه النعم هي بحيث لا يمكن حسابها.
قيمة المُلك:
دخل واعظ يوماً على هارون الرشيد فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين أتراك لو منعت شربة من ماء عند عطشك بمَ كنت تشتريها قال: بنصف ملكي.
فقال: يا أمير المؤمنين أتراها لو حبست عنك عند خروجها بم كنت تشتريها؟ قال: بالنصف الباقي قال: فلا يغرّنك ملك قيمته شربة ماء[191].
***
5 و 6 الكبر والتواضع
من جملة الذنوب القلبية والأمراض النفسية, والطبائع القبيحة الحيوانية, الكبر.
والإنسان الملوث بهذا الذنب المبتلى قلبه بهذا المرض لا سبيل له إلى الجنة التي هي دار السلام ومحل السالمين, وإذا مات على الإيمان فيجب أن يبقى سنين في البرزخ وعقبات المحشر أو في النار ليطهر من هذه القذارة وتوجد فيه قابلية دخول الجنة.
معنى الكبر:
الكبر خلق نفساني وحالة باطنية توجد في الإنسان بواسطة رؤية نفسه أفضل وأسمى مرتبةً من شخص آخر بحيث يعتمد على هذا الإعتقاد الخاطيء فيرى نفسه مهماً وعزيزاً وعظيماً ويفرح بعظمته الموهومة. ويرى غيره ذليلاً ولا قيمة له وهكذا يتضح الفرق بين العجب والكبر لأن العجب هو الرضا عن النفس وإكبار الإنسان نفسه وعمله دون ملاحظة آخر, أي أنه فقط يرى نفسه وعمله ويكبرهما ويتباهى بهما, لا أنه يرى نفسه أكبر من آخر, وعليه فقد يكون الشخص معجباً ولا يكون فيه كبر.
ومنشأ الكبر في الحقيقة ثلاثة اعتقادات:
اعتقاد الشخص بمرتبة لنفسه, واعتقاده بمرتبة لغيره, واعتقاده بترجيح مرتبته على مرتبة غيره والإعتماد على هذا الترجيح بحيث يرى نفسه عزيزاً وعظيماً وطاهراً.
إذن مجرد الإعتقاد بالتفوق على آخر دون وجود حالة الإحساس بالعظمة والعزة ليس كبراً, مثلاً إذا اعتقد شخص بأنه درس أكثر من فلان, أو أنه في الصناعة الفلانية يمتلك مهارة خاصة لا يمتلكها زميله أو أن فهمه أكثر, أو أن عمله الخيري الفلاني من حيث المقدار أكثر من عمل غيره... إن مجرد هذا دون أن تنشأ منه حالة الإحساس بالعظمة والتعالي ليس كبراً ولا ضرر فيه لأن مثل هذا الإعتقاد ليس اختيارياً. ولكن وجود حالة الكبر اختياري كما سيأتي.
التكبر استعمال الكبر:
أي أن المتكبر يظهر بأقواله وأفعاله كبره الباطني... أما في الأقوال فمثاله أن يزكي نفسه ويتباهى بأنه أفضل من فلان وأن أعماله صحيحة وأنه لا نقص فيه ولا عيب كما تقدم في بحث العجب أو يتباهى بأمور هي من وجهة نظره كمال ويفتخر بها على الآخرين فيقول: إن فيّ من الكمالات ما لا يوجد منه شيء في فلان, لا أحد يعادلني في الفهم, أو يفتخر بحسبه ونسبه وثروته " والله لا يحب كل مختال فخور ". الحديد 23.
روي عن عقبة بن بشير قال " قلت لأبي جعفر عليه السلام أنا عقبة بن بشير الأسدي وأنا في الحسب الضخم من قومي, فقال: ما تمنّ علينا بحسبك, إن الله رفع بالإيمان من كان الناس يسمونه وضيعاً إذا كان مؤمناً, ووضع بالكفر من كان الناس يسمونه شريفاً إذا كان كافراً فليس لأحد فضل على
أحد إلا بالتقوى[192] ".
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أما إنك عاشرهم في النار[193].
قال المجلسي رحمة الله عليه في شرح هذا الحديث: أي أن آباءك كانوا كفاراً وهم في النار فما معنى افتخارك بهم وأنت أيضاً مثلهم في الكفر, باطناً إن كان منافقاً, وظاهراً إن كان كافراً فلا وجه لافتخارك أصلاً.
والخلاصة أن عمدة أسباب الفخر بل أشهرها الفخر بالآباء وهو باطل لأنهم إذا كانوا كفاراً وظلمة فهم في النار ويجب التنفر فيهم وإذا كانوا أثرياء فالثروة ليست كمالاً. وإذا كانوا من أهل الكمال واقعاً فذلك لهم والعاقل لا يفتخر بكمال غيره " إذا كنت تفتخر بآبائك الأشراف, فصواباً تقول ولكن بئس ما ولدوا[194] ".
ومن الكبر في الأقوال أيضاً توقع إصغاء المستمع وقبول كلامه بحيث إذا لم يصغ إليه ولم يقبل كلامه أو اعترض عليه فإنه رغم علمه بصحة ما قاله يستبد به الغضب ويقول: وتعترض على مثلي؟! أنت وأمثالك أصغر من أن تعترضوا عليّ... أو إذا وعظه أحد يقول مثلي تنصح؟! وأنا المطهر من كل عيب إن فيك مئات العيوب. وما ذكر نماذج من ذلك وللكبر في القول مصاديق كثيرة.
الكبر في الأفعال:
وأما الكبر في الأفعال فمثاله أن يمشي الإنسان مشية تكبر مع أن القرآن
يصرح " ولا تمش في الأرض مرحاً " أو يخرج خادمه وأتباعه في أثره, يضع نفسه في مقدمة الأقران, يجلس في صدر المجلس متعاظماً بذلك, يتباعد عن الجالس بقربه, لا يؤاكل أحداً, يجتنب مجالسة الفقراء والأكل معهم, لا يزور أرحامه الفقراء, يتوقع أن يبدأه غيره بالسلام ويتوقع قيام الناس إجلالاً له, إلى حد أنه يصبح يريد أن يجلس هو ويقف الآخرون بين يديه, وإذا كان له طلاب يقسو عليهم, ويمن ويتوقع أن يخدموه, وإذا قصروا في ذلك وبخهم إلى حد أنه يصبح ينظر إلى الآخرين على أنهم حمقى... وكأنه هو الإنسان, والناس حيوانات, وللكبر في الأفعال أيضاً مصاديق كثيرة وما ذكر نماذج منها.
وقد أشير في الروايات إلى كل هذه الأفعال المنافية وذمها, وإيراد الروايات يستدعي الإطالة لذلك يكتفى ببعضها:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أحب أن يتمثل له الناس أو الرجال ( أي يقفون بين يديه ) فليتبوأ مقعده من النار[195].
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن يحب أن يقف الناس له عند دخوله إجلالاً له.
قال الشهيد: هذا محمول على ما إذا أراد الشخص تكبراً أن يقف الناس له أو يقفوا بين يديه ونهْيُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوقوف له تواضعٌ منه صلى الله عليه وآله لله تعالى أي أنه يحب أن تظهر دائماً عظمة الله لا عظمته هو وبناءاً عليه فإذا لم يكن الشخص متكبراً وكان عدم وقوف الناس له بحسب المتعارف في زمانه إهانة له وأحب أن لا يهان فلا ضرر في ذلك وعلى الناس أن يقفوا له حتى لا يكونوا قد أذلوه[196].
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من مشى على الأرض اختيالاً لعنته الأرض من تحتها ومن فوقها[197].
وقال صلى الله عليه وآله: إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم[198].
أي أنه يرى نفسه مبرءاً من العيوب فيهلك لعجبه وتكبره.
نموذج لتكبر الغني:
يقول الإمام الصادق عليه السلام: جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله نقي الثوب فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه فقال له رسوله الله صلى الله عليه وآله: أخِفتَ أن يمسك من فقره شيء قال: لا قال: فخفت أن يصيبه من غناك شيء قال: لا قال: فخفت أن يوسخ ثيابك قال: لا قال فما حملك على ما صنعت فقال: يا رسول الله إن لي قريناً يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن وقد جعلت له نصف مالي فقال رسول الله للمعسر أتقبل؟ قال: لا فقال له الرجل ولمَ؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك[199].
وستأتي بعض الروايات الأخرى...
حرمة الكبر:
مما تقدم يتضح جيداً معنى الكبر والتكبر, أما حرمة التكبر فقد ثبت في
كتاب " الذنوب الكبيرة " أنه حرام ومن الكبائر كما ذكرت بالتفصيل الآيات والروايات في عقوبته وذمه وبيان درجاته وكيفية علاجه وتكرار ذلك هنا ليس مناسباً, لأن موضوع البحث في هذا الكتاب هو الذنب القلبي فقط الذي هو الكبر أي أن من الواجب على كل مكلف أن لا يفسح للكبر مجالاً في قلبه, فإذا فسح له مجالاً فيجب عليه أن يطهر قلبه منه. ودليل هذا الحكم:
أولاً: جميع أدلة حرمة العجب فهي أدلة على حرمة الكبر أيضاً لأن حالة العجب والكبر - كما تقدم - هي ذلك الإعتقاد بالعظمة والخلوِّ من العيب والنقص والحاجة ويعبر عن هذه الحالة أيضاً بالطغيان والأنانية والغرور وهناك تفاوت بين العجب والكبر وهو أنه إذا كان سبب وجود هذه الحالة هو ترجيح الشخص نفسه على آخر فهي كبر وإلا فهي عجب وبناءاً عليه فالآيات والروايات الدالة على حرمة العجب تشمل حالة الكبر أيضاً.
ثانياً: لا يبعد إمكان الإدعاء بأن جميع الأدلة التي ذكرت في كتاب " الذنوب الكبيرة " في بيان حرمة استعمال الكبر تدل كذلك على حرمة الكبر لأن الأعمال التي تتحقق عن كبر هي حرام بسبب حالة الكبر المقترنة بها بحيث أن هذه الأعمال لو لم تكن عن كبر لما كانت حراماً, مثلاً: الجلوس في صدر المجلس أو التقدم على الآخرين في المسير إذا كان كل منهما عن كبر فهو حرام أما إذا أجلسه صاحب المنزل في صدر المجلس أو لم يوجد متسع إلا في صدر المجلس أو قدمه الآخرون أو حصل تقدمه عليهم قهراً فليس ذلك حراماً.
وكذلك تزكية النفس فهي حرام إذا كانت من منطلق كبرياء وإلا فليست حراماً كما تقدم في بحث العجب...
والخلاصة حيث أن الكبر ذنب قلبي فالقول أو الفعل الذي يصدر عن كبر
حرام ومعصية, ويتضح هذا جيداً لدى التأمل في الأدلة.
آيات الكبر:
ثالثاً: ذكر في الآيات والروايات عنوان الكبر القلبي ويشار إلى بعضها:
1 - " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ". غافر 35.
وبناءاً على قراءة قلب بالتنوين يكون المعنى إن الله يغضب على كل قلب متكبر فيختمه بحيث لا يمكن أن يوجد فيه بعد ذلك نور الإيمان والإخلاص والخشوع.
2 - " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ( أي السبب الوحيد لجدالهم في الحق الكبر الباطني ولذلك يريدون طمس الحق وإظهار الباطل ولا يستطيعون ذلك لأن الله سيظهر الحق ) فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ". غافر 56. كما استعاذ موسى عليه السلام.
" وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ". غافر 27.
3 - " وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ". الجاثية 27.
إذن, إذا وجدت حالة الكبر في المخلوق الذي هو مملوك وذليل محتاج إلى الله واعتبر نفسه غنياً وعظيماً ويستحق التعظيم فقد جعل نفسه شريكاً لله في صفته الخاصة به وفي الحقيقة يكون قد أنكر الربوبية الإلهية.
ويستفاد من هذه الآية الشريفة أن الكبرياء خاصة بالله وهي حرام على
المخلوق كما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: العز رداء الله والكبر إزاره فمن تناول شيئاً منه أكبه الله في جهنم[200].
والمراد بمن تناول منه شيئاً من اعتبر نفسه عزيزاً وكبيراً.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: الكبر رداء الله فمن نازع الله شيئاً من ذلك أكبه الله في النار[201].
العزيز والكبير المطلق:
السبب في أن العزة والكبرياء خاصتان بالله هو أن الله تعالى عين الوجود وكل الكمال وعالم الوجود بجواهره وأعراضه كله منه سبحانه, وحيث أنه لا سبيل لأي احتياج إليه فهو إذن العزيز المطلق والكبير بحق وكل ما سواه وأي مخلوق هو فقير مطلق ومحتاج بحق " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ". فاطر 15. بناءاً عليه فإذا صدر عن جاهل ما يدل على أنه لا يعتبر نفسه عبداً ولم يأبه بنسبة مملوكيته ومربوبيته ومقهوريته إلى الله فاعتبر نفسه غير محتاج وذا مرتبة عالية وعظيمة فقد جعل نفسه في الحقيقة نداً لله وسواء علم أم لا فإنه ادعى الربوبية ومثال ادعاء الربوبية عن علم فرعون حيث قال للمصريين " أنا ربكم الأعلى ". النازعات 24.
ومثال ادعائها دون العلم بذلك سائر أفراد البشر الذي توجد فيهم أحياناً حالة الكبر حتى إذا كانوا من الأشخاص الذين يقرون بالله فإنهم بالكبر ينازعون الله حق الربوبية.
الكبر منشأ الصفات السيئة:
إذا تأملت أدركت أن منشأ جميع الصفات السيئة والطبائع القبيحة
الحيوانية والشيطانية التي تظهر في الإنسان هو ادعاؤه لربوبيته وبعبارة أخرى إن حالة الكبر هي منشأ جميع الطبائع القبيحة.
مثلاً: الحسد الذي يوجد فيه, سببه أنه لا يريد أن يكون شخص آخر أفضل منه في أمر الدين أو الدنيا.
والحقد الذي هو إخفاء الغضب في الباطن من هنا ينشأ, والعجب الذي هو رؤية نفسه كاملاً, أيضاً ينشأ من ادعاء الربوبية هذا, والرياء سببه أنه يريد مدح الناس وثناءهم وهو من اللوازم العادية للربوبية, الغضب الذي يسيطر على الإنسان سببه حب السيطرة والإعتقاد بعلو مرتبته وذلك لازم الربوبية وكذلك سائر الطباع غير الحميدة. بناءاً عليه يجب لأجل الحيلولة دون كل طبع قبيح الحيلولة دون وجود حالة الكبر وطريق ذلك هو الإعتقاد ( بالعبودية ) دائماً. أي يجب أن تكون نصب عين الإنسان دائماً نسبة مملوكيته ومربوبيته إلى الله حتى يصبح ذلك ملكة له وعادة. فلا يوجد فيه ادعاء الربوبية أبداً ومن هنا تكرر الأمر في القرآن الكريم بكثرة ذكر الله:
" واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ". الجمعة 10.
ودوام ملاحظة الإنسان نسبته إلى الله التي هي المملوكية والمربوبية مانع قطعي من ظهور حالة الكبر فيه وادعائه للربوبية.
لا يريدون علواً في الأرض:
في سورة القصص الآية 83 يقول تعالى: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ".
ينبغي التأمل بدقة في موردين من هذه الآية الشريفة الأول: " لا يريدون " والثاني: " علواً ".
أما المورد الأول " لا يريدون " فهو بمعنى إرادة القلب أي أنهم يجب أن يكونوا في قلوبهم لا يريدون العلو والتفضيل وهو حالة الكبر المذكورة, بناءاً عليه إذا كان في قلب أحد كبر فهو ملوث بذنب يمنع من دخول الجنة حتى إذا لم يظهر الكبر في أقواله وأفعاله ولا يستطيع أن يظهره لأنه لو كان المراد العمل الكبريائي الظاهري لقال تعالى " لا يعلون " وحيث أنه قال: " لا يريدون " فيعلم أن حالة الكبر الباطنية ذنب وتمنع من الحصول على السعادة.
وأما " العلو " وهو بمعنى التجبر والتكبر على عباد الله فهو بأن يكون الشخص في أي مرتبة كان, يطلب العلو على الآخرين في تلك المرتبة التي هو فيها, مثلاً: إذا كان يعمل في مجال الكسب والتجارة يريد أن تكون سلعته مقبولةً ومرغوبةً أكثر من سلع الآخرين, أن يكون زبائنه أكثر, وأن يكون هو الممدوح من قبل الناس وحسب...
وإذا كان ثرياً يريد أن يكون في الثروة و ( المكنة ) فوق الجميع, وإذا كان صناعياً ومخترعاً يريد أن يكون هو فقط محط الأنظار والذي تلهج الألسنة بذكره ويعظمه الناس...
وإذا كان طبيباً يريد أن يكون أستاذ الجميع ولا يرجع الناس إلا إليه, وإذا كان في مسار العلم الديني يريد أن يكون أعلم من الجميع, مقدماً عليهم, ويعرف الناس ذلك ولا يمدحون غيره ولا يطيعون إلا أمره.
والخلاصة: يجب على كل شخص أن يجتنب العلو في أي مجال كان.
علي عليه السلام في سوق الكوفة:
في مجمع البيان: وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يمشي في الأسواق وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح
عليه القرآن ويقرأ " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً " ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وعنه عليه السلام أنه قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية[202].
أي أن من يريد العلو على غيره بواسطة ما يملك حتى إذا كان ذلك شراك نعله ويتباهى بذلك فإن حالته هذه تحول بينه وبين سعادته لأنه من الذين يريدون علواً في الأرض.
وبعد معرفة معنى إرادة العلو في الأرض وكونه ذنباً نقول: من أنصف وبحث في أحوال نفسه علم أنه قل يوم يمر على الإنسان ولا توجد فيه هذه الحالة ولا أقل من إرادة العلو بالنسبة للزوجة والولد والعائلة والتلميذ ومن هم تحت يده وكذلك أقرانه ونظرائه من هنا فقد أثارت هذه الآية زفرات العظماء وتحرقهم ونحيبهم...
ذهبت الأماني:
في تفسير القمي عن حفص بن غياث أن الإمام الصادق عليه السلام " تلا قوله: " تلك الدار الآخرة " الآية وجعل يبكي ويقول: ذهبت والله الأماني عند هذه الآية ثم قال: فاز والله الأبرار أتدري من هم؟ هم الذين لا يؤذون الذر كفى بخشية الله علماً, وكفى بالإغترار بالله جهلاً[203] ".
وفي كشف الأسرار: " إن سكان مقعد صدق والمقربين إلى حضرة
الجبروت غداً هم الذين لا يطلبون في الدنيا التفضيل والإستعلاء, والذين يرون أنهم دون أي شخص وأقل منه ولا ينظرون إلى أنفسهم بعين الرضا كما قال فتى الطريقة الذي كان عائداً من موقف عرفات فسئل: كيف رأيت أهل الموقف قال: رأيت قوماً لولا أني كنت فيهم لرجوت أن يغفر الله لهم.
فيا أيها الفتى لا تنظر إلى نفسك بعين الرضا ولا تكن في طريق " أنا " فلم يستفد أحد من " أنا " شيئاً أبداً وما حل بإبليس سببه " أنا " إذ قال: " أنا خير ".
رأى أحد عظماء الدين إبليس فقال له عظني قال: لا تقل " أنا " فتصبح مثلي[204] ".
يقول سعدي:
" الكبير الذي يعتبر نفسه من الصغار يكون كبيراً في الدنيا والآخرة " " تصبح عزيزاً عند الناس عندما لا تقيم لنفسك أي وزن ".
وحقاً لو لم يكن باب التوبة مفتوحاً وبعض العبادات كالصلاة والحج إذا أديت بشرائطها وآدابها فهي تطهر من الذنوب, لولا ذلك لكان الإنسان ييأس من نفسه عند قراءة هذه الآية ولكانت نار الغصة تهلكه, لكن الشكر لله الكريم الذي يقبل التوبة ويمحو أدران عبده.
المأمول من كرمه أن يمن بالتوبة بعد حصول حالة الكبر " إنه هو التواب الرحيم ".
كيف يمنع الكبر من دخول الجنة:
وتسأل: كيف تمنع إرادة العلو من دخول الجنة؟
والجواب: من أراد العلو فهو في حرب مع الله ونزاع[205]. بالبيان المتقدم ومن كان في نزاع مع الله فكيف يستحق الجنة, اللهم إلا أن يقلع عن هذا النزاع ويتوب من كبره ليصبح مهيئاً للجنة.
ونقول أيضاً: من أراد العلو فهو جاهل حقيقي لم يتحلَّ بعد بالفهم الإنساني ليميز الحق من الباطل والباقي من الفاني.
تتحقق منه إرادة الحق والباقي ويجتنب الباطل والفاني, إنه لم يدرك بعد عدم اعتبار الحياة المادية وعدم ثباتها وضآلة قيمتها ليتعلق قلبه بها وجاهل كهذا لا يستحق القرب من الله تعالى إلا إذا أصبح عالماً وتاب من جهالته.
وقد تسأل أيضاً: إن إرادة العلو أمر قلبي وليس اختيارياً...
والجواب: ما هو غير اختياري هو الخطرات والوساوس ولا مؤاخذة عليها أما إرادة العلو فهي حالة ثابتة للإنسان لأنه يستطيع بواسطة التفكير فيما تقدم ذكره أن لا يدع هذه الحالة توجد فيه, وإذا وجدت فباستطاعته أن يزيلها وقد تقدم ذلك في بحث العجب.
الدين لا يمنع التقدم المادي:
وتسأل كذلك: إذا كانت إرادة العلو ذنباً يمنع السعادة فما يقوله الملحدون والمغرضون صحيح إذن... إنهم يقولون إن الدين يمنع الرقي والتقدم في الصناعات والإختراعات والوصول إلى حياة أفضل.
والجواب: هذه مغالطة شيطانية لأن الدين لم ينه عن الرقي والتقدم في الحياة المادية البشرية بل أمر بهما كما هو الأمر في مجالات الزراعة والتجارة والصناعة والطب وعلم النبات وأمثال ذلك, كما أوصى الإسلام بالتوسعة على
العيال وتأمين الحياة الأفضل لهم وما نهى الدين عنه هو التباهي وحب الظهور والأماني العريضة والكبرياء فهي أمور تتسبب بالحسد والعداوة ومئات الفتن وأنواع الفساد.
مثلاً: نهى الإسلام عن طلب زيادة الثروة بهدف التعالي والتسلط والسيطرة ولكنه أمر بطلب الثروة بهدف إيصال الخير إلى الآخرين قِس سائر الموارد على هذا... وعلى كل حال فقد قدم الإسلام تعليمات للحياة الأفضل وقال بشكل عام " خير الناس من نفع الناس ".
وأما الروايات التي ورد فيها عنوان الكبر والنهي عنه فقد تقدم بعضها ويشار هنا إلى بعضها الآخر:
أدنى درجات الإلحاد:
عن " حكيم " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أدنى الإلحاد فقال عليه السلام: إن الكبر أدناه[206].
والإلحاد بمعنى الميل عن الحق أي الرجوع والإعراض عن الحق وهو على قسمين: إنكار لله وإثبات الشريك له, والكبر - كما ذكر - حالة توجد في باطن الإنسان فتجعله أحياناً يرى نفسه أكبر من آخر وأنه بحسب المرتبة أعلى منه وما في الرواية من أن الإمام عليه السلام اعتبر الكبر إلحاداً فسببه أن لازم الكبر إنكار الله أو إثبات الشريك له حتى إذا لم ينتبه المتكبر إلى ذلك.
إن الكبرياء خاصٌ بمن هو بحسب الذات والصفات والأفعال كامل مطلق وليس فيه أي نقص واحتياج ولا يتصف بذلك غير الله تعالى فالمخلوقات ناقصة ومحتاجة في الأمور الثلاثة ( الذات والصفات والأفعال ) بالتفصيل المتقدم.
بناءاً عليه فالكبرياء صفة إلهية خاصة والشخص المتكبر إذن جعل نفسه - دون أن يعلم - شريكاً له وأيضاً أنكر الله الواحد الذي لا شريك له ولأن هذا الإنكار أو هذا الشرك غير صحيح وهو من لوازم الكبر قال الإمام عليه السلام إنه أدنى الإلحاد.
المتكبر لا يدخل الجنة:
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: قالا: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر[207].
وقد ذكر العلماء وجوهاً في شرح هذا الحديث:
1 - أن المراد من الكبر الذي تمنع الذرة منه دخول الجنة هو الكبر مع إنكار الربوبية الإلهية وهو أعلى مراتب الإلحاد, لأن أدنى الإلحاد المذكور في الحديث السابق هو الكبر مع جهالة وغفلة عن ربوبية الله ومالكيته وأن الكبرياء خاص بالله وهو بعدُ جعل الإنسان نفسه شريكاً لله دون أن يعلم.
والكبر مع الإنكار هو أن يرى نفسه مستقلاً وغير محتاج ولا يعتقد بأن له خالقاً يتولى تربية أموره وتدبيرها وهو مرتبط به, وإذا مات الإنسان على هذه الحالة فقد مات كافراً والجنة حرام على الكافر وشاهد صحة هذا الشرح والتوجيه هو الحديث الآتي.
2 - أن من مات وفي قلبه ذرة كبر وإن مات مؤمناً فلن يدخل الجنة ما دامت هذه القذارة فيه فإما أن يطهر في البرزخ أو عقبات المحشر أو يطهر بالنار ثم يدخل الجنة قال الشهيد عليه الرحمة الكبر معصية ثم أشار إلى الوجهين المذكورين[208].
3 - قال بعض المحققين: " وإنما صار ( الكبر ) حجاباً عن الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة والكبر وعز النفس تغلق تلك الأبواب كلها[209] " لأن من لوازم الكبر الحسد والحقد والحرمان من التواضع والشجاعة والجود والرفق والحلم والإخلاص والمحبة والصبر والشكر والرضا وأمثال ذلك.
4 - المراد من الكبر الذي لا يدخل صاحبه الجنة بل لا يشم ريح الجنة كما في رواية أخرى هو الكبر الذاتي لا العرضي توضيح ذلك أن كل ذنب قلبي أو بدني يرتكبه الإنسان على قسمين:
ذاتي بمعنى أنه مراد ذات الشخص وحقيقته, ومن منطلق عدم التورع والطغيان وعدم الإعتناء بالله وغضبه وانتقامه وعقوبات الآخرة وباختصار من منطلق اعتبار المؤاخذة الإلهية وهماً.
وإما عرضي بمعنى أن الذنب ليس مراد ذاته, وحيث أن في قلبه إيماناً بالله ويوم الجزاء فهو من الأصل لا يريد الذنب إلا أنه يذنب نتيجة الغفلة أو ضعف المقاومة للشيطان ومشتهيات النفس فيغلبه الهوى والشيطان.
وعلامة كون الذنب ذاتياً أو عرضياً حالته بعد ارتكاب الذنب عندما ينتبه هو أو ينبهه غيره ويخوفه فإذا وجدت فيه حالة الندامة والحسرة والخجل من ربه علم أن ذنبه عرضي, أما إذا لم توجد فيه هذه الحالة بل بالعكس اطمأن إلى ذنبه وفرح به وسخر بمن يعظه فيعلم أن ذنبه ذاتي وإذا مات على هذه الحال فذنبه لا يغتفر.
وبعد أن اتضح هذا نقول: من مات على كبر ذاتي لا يدخل الجنة أبداً, ومن مات على كبر عرضي ولم يتب فإن كان قد اجتنب جميع الكبائر, أو أدى بعض العبادات التي تطهر من الكبر فكبره هذا لا يمنع من دخول الجنة وإلا فإنه بعد أن يعذب على ذلك الكبر سيكون من أهل الجنة طبعاً, والأمل بالشفاعة وفضل الله ورحمته قوي بطبيعة الحال.
التوبة قبل الموت:
ما ذكر من أن الكبر الذاتي ذنب لا يغتفر, وأن الكبر العرضي يمكن أن يغتفر, يتضح جيداً لدى التأمل في هاتين الآيتين:
1 - " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون عن قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً ". النساء 17.
أي يعصون نتيجة غلبة النفس والشيطان لا من منطلق العناد والطغيان بدليل أنهم يتوبون مباشرةً ويندمون ولو كان عصيانهم عناداً وطغياناً لما ندموا ولما تابوا, والله بعلمه يعلم إيمانهم وإخلاصهم الذاتيين وبحكمته يقبل توبتهم لأنه يعلم حال مخلوقه جيداً وأن ذنبه عرضي وسببه العجز في مقابل النفس والشيطان.
2 - " وليست التوبة للذين يعملون السيئات ( ولا يتوبون ) حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ". النساء 18.
والخلاصة إن من يعصي عناداً وتمرداً ولا يندم على ذلك حتى يحضره الموت, عندها حيث لا مناص له وحيث أنه شاهد آثار أعماله القبيحة يقول بلسانه " تبت " لا قيمة لتوبته هذه لأن التوبة الصحيحة التي يمكن أن تقبل
هي أن يندم الشخص على تمرده على الله تعالى من كل قلبه ويصبح حاضراً للإطاعة حقيقة, وما لم تكن التوبة كذلك فهي ككلام أهل النار " وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ". فاطر 37.
بعبارة ثانية: التوبة الصحيحة هي وجود حالة العبودية والطاعة, والندم حين الموت وحين مشاهدة الحقائق البرزخية وآثار القبائح, أو الندم في النار ليس حالة عبودية أي أن حاله هي بحيث لو أنه ردّ إلى الدنيا - وفرض المستحيل ليس مستحيلاً - لعاد إلى طغيانه وتمرده وعصيانه تماماً كالمريض الذي ينهاه طبيب حاذق حنون عن أمور معينة ويأمره بالحمية ويخبره بأنه إذا لم يلتزم فسيبتلى بمرض خطير كالسرطان مثلاً... ولا يأبه المريض بأوامر الطبيب ويرى تعليماته غير ذات معنى ويهزأ بها... وعندما يبتلى بمرض السرطان ويعاني من ويلات آلامه ويتهدده الموت يندم لعدم التزامه بما قاله الطبيب... فما نفع هذا الندم خاصة وأنه ما يزال غير منقاد للطبيب ولا يعتبر إطاعته ضرورية بحيث أنه على فرض المحال - لو أراد الطبيب علاجه ( وكان باستطاعته ذلك ) فإنه ليس مستعداً للإلتزام بما يقوله الطبيب له مجدداً.
الكبر المساوي لإنكار الحق:
عن محمد بن مسلم عن أحد الصادقين عليهما السلام:
" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر قال فاسترجعت فقال ما لك تسترجع قلت لما سمعت منك فقال: ليس حيث تذهب إنما أعني الجحود[210] ".
وعن الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق قال قلت وما غمص الخلق وسفه الحق قال: يجهل الحق ويطعن على أهله فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل رداءه[211].
وعنه عليه السلام: " الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس ( أي ليس الكبر محصوراً بالأثرياء والمعروفين بل قد يكون الإنسان متكبراً وإن كان فقيراً ) والكبر رداء الله فمن نازع الله عز وجل رداءه لم يزده الله إلا سفالاً إن رسول الله صلى الله عليه وآله مر في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين ( الزبل ) فقيل لها: تنحي عن طريق رسول الله فقالت إن الطريق لمعرض فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله دعوها فإنها جبارة[212] " أي لأنها متكبرة فإذا أثيرت فقد تقول كلاماً منافياً وتتسبب بما لا يناسب.
التكبر من ذلة النفس:
قال الإمام الصادق عليه السلام: ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه[213].
يقول المجلسي عليه الرحمة في شرح هذا الحديث: " ويمكن أن يقال في الفرق بينهما ( التكبر والتجبر ) أن التجبر يدل على جبر الغير وقهره على ما أراد بخلاف التكبر فإنه جعل نفسه أكبر وأعظم من غيره وإن كانا متلازمين غالباً " ثم نقل وجوهاً في معنى " إلا من ذلة وجدها في نفسه " وهي كما يلي:
الأول: أن يكون المراد أن التكبر ينشأ من دناءة النفس وخستها ورداءتها
الثاني: أن يكون المعنى أن التكبر إنما يكون غالباً في من كان ذليلاً فعزّ وأما من نشأ في العزة فلا يتكبر غالباً بل شأنه التواضع.
الثالث: أن التكبر إنما يكون في من ليس له كمال واقعي فيتكبر لإظهار الكمال.
الرابع: أن يكون المراد المذلة عند الله أي من كان عزيزاً ذا قدر ومنزلة عند الله لا يتكبر.
الخامس: ما قيل من أن اللام لام العاقبة أي يصير ذليلاً بسبب التكبر وهو أبعد الوجوه[214].
الكبر ونقص العقل:
قال الإمام الباقر عليه السلام: ما دخل قلب امريءٍ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك قلّ ذلك أو كثر[215].
أي بمقدار ما يكون الكبر الذي استقر في القلب يكون نقص عقل المتكبر وحقاً إن في كل متكبر نقصاً في عقله وهو نقص الإيمان لأن العقل بمعنى إدراك الحقائق ومن كان فيه تكبر فهو لم يعرف الله بالعظمة والرفعة ونفسه بالحقارة والدناءة ولم يدرك ذلك وكلما كان الكبر في القلب أكثر كان هذا الإدراك أقل ومن هنا كان المتكبر مجنوناً حقيقياً.
الجنون الحقيقي:
يقول جابر بن عبد الله, مر رسول الله صلى الله عليه وآله برجل مصروع وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه فقال صلى الله عليه وآله على ما اجتمع
هؤلاء فقيل له: على مجنون يصرع فقال ما هذا بمجنون ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون قالوا بلى يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ( صلى الله عليه وآله ): إن المجنون حق المجنون المتبختر في مشيه الناظر في عطفيه المحرك جنبيه بمنكبيه فذاك المجنون وهذا المبتلى[216].
مراتب الكبر:
للكبر درجات ومراتب أشدها أمران: أحدهما كبر الجحود أي إنكار الحق والثاني تحقير الخلق وفي الروايات المتقدمة تصريح بأنهما معاً أكبر درجات الكبر, كذلك فإن العقوبات الشديدة التي ذكرت في الروايات للكبر ترتبط بهاتين المرتبتين, وعليه فينبغي معرفة حقيقة هاتين المرتبتين ليأمن الإنسان من التلوث بهما.
أما إنكار الحق فله أيضاً مراتب أشدها إنكار الحقائق الدينية والأمور الإعتقادية وهي كذلك درجات أشدها عدم الإعتقاد بالله وعدم اعتبار الشخص نفسه مملوكاً ومربوباً ومقهوراً وعدم الخشوع لله والتسليم له والتمرد على أوامره, ككبر إبليس.
يأتي بعده إنكار المعاد عن كبر, وذلك بأن يرى نفسه أكبر من أن يُسأل في عالم ما بعد الموت عن عقائده وأقواله وأعماله ويؤاخذ على ذلك ويعذب ويحمل المسؤولية ويذلّ. ولا يكون مستعداً لقبول هذه الحقيقة والإنقياد لها والخضوع أمامها.
بعد ذلك يأتي إنكار الأنبياء والأئمة بحق, وذلك بأن يراهم بشراً مثله ويرى أنه أكبر من أن يستسلم لهم ويخضع, وأكبر من أن يعتبرهم فوقه يطيع أوامرهم مع أن حقانيتهم واضحة له.
فرق بين القاصر والمعاند:
وقد نقول عندما يكون إنكار هذه الحقائق ناتجاً عن عدم وضوح الحق له فليس ذلك مذموماً.
والجواب: تقدم في قسم العقائد أن الجاهل بهذه العقائد الذي يعيش الشك فيها إذا كان مقصراً أي يستطيع الخروج من حالة الشك إلى الإطمئنان ولا يفعل ذلك فهو مذموم قطعاً ومعذب, وإذا كان قاصراً أي أنه واقعاً لا يستطيع تحصيل الإيمان واليقين بتلك المرتبة فإنه وإن لم يكن مذموماً ومعذباً لكن ليس له حق الإنكار والإستكبار والعناد - وفي الواقع إن الشخص الذي لا يعلم شيئاً ولا يعرفه إذا أنكره وعانده فليس من سبب يحمله على ذلك إلا الكبر و... أما إذا أنكر الحق بعد معرفته فكبره أوضح.
ومن مراتب كبر إنكار الحق إنكار الشخص للمؤمن الذي يعلم سلامته وصدقه في العقائد والسلوك أو على الأقل لم يثبت له عدم سلامته إلا أن حسن ظاهره يدل على ذلك.
إن إنكار الشخص لمؤمن من هذا القبيل ونصب العداء له بحيث يستقر في قلبه بغضه وحسده ويتصدى باللسان إلى الطعن فيه وغيبته, وهو أيضاً من مراتب إنكار الحق الذي هو من أعظم مراتب الكبر ويستتبع عقوبات شديدة.
ومن مراتب إنكار الحق أن يسمع كلاماً صحيحاً أو يرى عملاً سليماً من شخص, ثم لا يقبله نتيجة الكبر الباطني بل يرفضه, وهذا النوع من إنكار الحق شائع بين الناس وكثير, وتجب الإستعاذة بالله من التلوث بهذا الذنب وسائر الذنوب.
ومن الجدير بالذكر أن مراتب إنكار الحق المتقدمة بالإضافة إلى كونها من موارد الكبر وحرام قطعي هي أيضاً من موارد الظلم والبغي وحرمتها بديهية. وهي أيضاً من الموارد القطعية لعدم الإنصاف يقول الإمام الصادق عليه السلام: ألا أخبركم بأشد ما فرض الله على خلقه فذكر ثلاثة أشياء أولها إنصاف الناس من نفسك[217].
تحقير الخلق:
تحقير الخلق يزيد على الكبر, أي بالإضافة إلى أنه يرى نفسه كبيراً وذا مرتبة سامية, فهو يرى الآخر ذليلاً وحقيراً ولا قيمة له ومن هنا كان تحقير الخلق أعظم مراتب التكبر.
وللتحقير الذي هو بمعنى استصغار الآخر ورؤيته تافهاً مراتب تصل أحياناً إلى حد رؤية الآخر مستحقاً للإذلال والشتم والقدح, ثم يعمل بما رآه أهلاً له.
وكما أن للتحقير مراتب فإن لخلق الله ( الذين قد يحقرون بفتح القاف ) مراتب أيضاً بحسب مراتب الكفر والإسلام والإيمان والتقوى... إلى أن يصل الأمر إلى تحقير ولي الله ( الذي يحبه سبحانه ) بحكم الحرب على الله[218].
والخلاصة: أن كل مراتب الكبر والتحقير حرام ولكن كلما كان التحقير أشدّ كانت حرمته أشد, كما أن الشخص المحقر ( بالفتح ) كلما كانت مرتبته
أعلى كانت حرمة تحقيره أشد.
إحذر هذا الخطأ:
قد نقول: إن غير المؤمن المتقي من الناس لا حرمة له فكيف يكون تحقيره حراماً بل أمر الشرع بتحقير الكافر والفاسق ونهى عن التواضع لهما.
ونقول في الجواب: حرمة التواضع للكافر والفاسق ووجوب تحقيرهما, لأجل النهي عن المنكر وبناءاً عليه, تجب مراعاة اجتماع شرائط النهي عن المنكر وتجب مراعاة مراتب ذلك أيضاً أي كلما كان التواضع لكافر أو فاسق سبباً في جرأته في الكفر أو الفسق والظلم فهو حرام, كما أنه إذا كان تحقيرهما سبباً ليقظتهما وتوبتهما من الكفر والذنب فهو واجب. أما إذا كان العكس هو الصحيح أي إذا كان التواضع لكافر أو فاسق سبب يقظته وتوبته فيصبح هذا التواضع واجباً كما أنه إذا كان تحقيرهما سبباً في زيادة الكفر والفسق فيصبح هذا التحقير حرام. ثانياً: جواز تحقير الكافر أو الفاسق ووجوبه في المورد المذكور إنما هو فيما إذا كان سببه فقط إطاعة أمر الشارع والنهي عن المنكر, أي يحقره بهدف أن يقلع عن كفره أو فسقه, ولكن إذا كان سبب هذا التحقير هو الكبر وهوى النفس فهو حرام. أي أن المكلف إذا نسي عظمة الله تعالى وأثبت العظمة لنفسه ورأى نفسه في مقابل كافر أو فاسق عظيم المرتبة عالي الشأن ورآهما في مقابله وبالنسبة إليه تافهين حقيرين فحقرهما فإن هذا التحقير حرام لأنه ناشيء عن الكبرياء النفسي. وقد تقدم مراراً أن الكبرياء خاص بالله وكل بني البشر مملوكون له سبحانه ولأنهم بحسب الخلق متساوون فلا يحق لأحد أن يتكبر على أحد.
درس من النبي موسى عليه السلام:
إن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام: إذا جئت للمناجاة
فاصحب معك من تكون خيراً منه فجعل موسى لا يتعرض أحداً إلا وهو لا يجسر أن يقول:
إني خير منه فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتى مرّ بكلب أجرب فقال: أصحب هذا, فجعل في عنقه حبلاً ثم مرّ به فلما كان في بعض الطريق شَمَرَ الكلبَ من الحبل وأرسله فلما جاء إلى مناجاة الرب سبحانه قال: يا موسى أين ما أمرتك به قال: يا رب لم أجده فقال: وعزتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة[219].
وبناءاً على صحة الرواية نقول: كان الأمر المذكور اختبارياً. وقوله تعالى " لمحوتك من ديوان النبوة " سببه أن موسى لو كان يرى نفسه أفضل من مخلوق آخر فذلك دليل بقاء جهله بحقيقة حاله والجاهل لا يستحق النبوة لأن جميع مخلوقات الله في الواقع متساوون في كونهم مخلوقين لله ومملوكين ومقهورين له تعالى وليس لهم من أنفسهم أي شيء, وإذا كان لإنسان شرف علم أو تقوى ليصل إلى مقام النبوة فذاك ليس من ذاته وإنما هو عطاء إلهي وإذا اعتبر ذلك منه وتباهى به ورأى نفسه ذاتاً ( واستقلالاً ) أفضل من مخلوق آخر فهو جاهل بحقيقة حاله وجعل نفسه من حيث لا يعلم شريكاً لله بالتفصيل المتقدم.
عطاء الله ليس سبباً للكبر:
وأما حيثية الإيمان والتقوى التي هي سبب الشرف والمزية, فحيث أنها عطاء إلهي فلا يحق للمؤمن أن يتكبر بها بل إن من لوازمها زيادة الخشوع
والتواضع لأن الله تعالى أعطاه هو من بين عباده بدون استحقاق[220] وتكرم عليه.
ومن لوازم ذلك أيضاً الخوف من زوال النعمة بسبب كفرانها, عندها يموت بدون إيمان ويتساوى مع الكافر.
وأما بالنسبة إلى الفاسق فقد يموت الفاسق تائباً من ذنبه, ويموت هذا المذنب ( المتكبر ) بدون توبة, وقد يكون الفاسق أتى بأعمال خير قبِلها الله تعالى وتكون هي سبب توفيقه للتوبة فيكون في النتيجة أكثر وجاهة عند الله من هذا الشخص ( المتكبر ) بناءاً عليه كيف يمكن التكبر على الكافر أو الفاسق وقد ذكر مزيد إيضاح لهذه الشبهة في كتاب " الذنوب الكبيرة ".
والخلاصة إن التحقير من منطلق الكبر النفسي في مقابل أي فرد من أفراد البشر حرام بالمراتب المذكورة, والتحقير بداعي النهي عن المنكر في مقابل الكافر والفاسق جائز بل واجب مع اجتماع الشرائط كما تقدم.
حرمة تحقير الناس:
لأن تحقير الناس أشد مراتب الكبر كما علم فإن جميع أدلة حرمة الكبر التي ذكرت تكفي في إثبات حرمته وبالإضافة إلى ذلك فالروايات في حرمته بالخصوص كثيرة ويشار إلى بعضها.
قال الإمام الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي[221].
وقد أورد في الكافي عدة روايات بهذا المضمون, والمراد بولي الله من رأى نفسه مملوكاً لله وهو مستعد في مجال عبودية الله وإطاعة أوامره أن يقوم بما يجب عليه من صميم قلبه في السر والعلن, وبالإضافة إلى ذلك صرف قلبه عن كل شخص وكل مكان وانقطع إلى ربه فقط وتعلق قلبه به وحده. وكل من أهان مثل هذا الشخص يكون قد أعلن الحرب على الله, لأن الإعتداء على التابع للسلطان اعتداء على السلطان, ومن أهان مثل هذا الشخص يكون قد أذل من أعزه الله ووضع من رفعه الله.
ولأن ولي الله مشغول بمحبوبه أوكل كل شيء إليه, فمولاه ومحبوبه إذن سينصره وسيغضب له ومن استحق قهر رب العالمين وانتقامه فواضح كيف ستكون حاله.
بناءاً عليه فأخطر الذنوب هو تحقير ولي الله, ولأن ولي الله ليس له عنوان وقد يتزيّ بأي زي ويمارس أي عمل فالواجب إذن اجتناب تحقير جميع المؤمنين صغيرهم وكبيرهم الثري والفقير, القادر والعاجز كما روى الصدوق عليه الرحمة عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن الله أخفى وليَّه في عباده فلا تستصغرنّ عبداً من عباده فربما يكون وليه وأنت لا تعلم[222].
وقال الصادق عليه السلام: من حقر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين لم يزل الله عز وجل حاقراً له ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه[223].
ويجب العلم أن لإظهار التحقير مراتب لأنه إما أن يكون باللسان فقط أو بالإستهزاء والسخرية أو بالسب أو بالطعن أو بالضرب أو بترك القول أو الفعل المستلزم لللإذلال.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: من استذل مؤمناً واستحقره لقلة ذات يده ولفقره شهره الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد[224].
صاعقة تقتل من حقر مؤمناً:
عن محمد بن سنان قال: كنت عند الرضا صلوات الله عليه فقال لي: يا محمد إنه كان في زمن بني إسرائيل أربعة نفر من المؤمنين فأتى واحد منهم الثلاثة وهم مجتمعون في منزل أحدهم في مناظرة بينهم فقرع الباب فخرج إليه الغلام فقال: أين مولاك فقال: ليس هو في البيت فرجع الرجل ودخل الغلام إلى مولاه فقال له من كان الذي قرع الباب قال كان فلان فقلت له لست في المنزل فسكت ولم يكترث ولم يلم غلامه ولا اغتم أحد منهم لرجوعه عن الباب وأقبلوا في حديثهم فلما كان من الغد بكر إليهم الرجل فأصابهم وقد خرجوا يريدون ضيعة لبعضهم فسلم عليهم وقال: أنا معكم فقالوا له نعم ولم يعتذروا إليه وكان الرجل محتاجاً ضعيف الحال فلما كانوا في بعض الطريق إذا غمامة قد أظلتهم فظنوا أنه مطر فبادروا فلما استوت الغمامة على رؤوسهم إذا منادٍ ينادي من جوف الغمامة أيتها النار خذيهم وأنا جبرائيل رسول الله فإذا نار من جوف الغمامة قد اختطفت الثلاثة النفر وبقي الرجل مرعوباً يعجب مما نزل بالقوم ولا يدري ما السبب, فرجع إلى المدينة فلقي يوشع بن نون عليه السلام فأخبره الخبر وما رأى وما سمع، فقال يوشع بن نون عليه السلام أما علمت أن الله سخط عليهم بعد أن كان عنهم راضياً وذلك بفعلهم بك فقال: وما فعلهم بي؟ فحدثه يوشع فقال الرجل: فأنا أجعلهم في حل وأعفو عنهم قال: لو كان هذا قبل لنفعهم فأما الساعة فلا وعسى أن ينفعهم من بعد[225].
والروايات في هذا المجال كثيرة وفي ما ذكر كفاية.
العلم والقدرة, والكبر:
الأمور التي يمكن أن يوجد في الإنسان الكبر بسببها هي بشكل عام أمران: العلم والقدرة.
أما العلم فإن الإنسان إذا علم شيئاً وفهمه تولد فيه حالة الكبر نتيجة الغفلة عن آلاف احتياجاته الأخرى والغفلة عمن هم فوقه وأعلم منه, إنه يصبح يرى نفسه أعلم من الذي لا يعلم ذلك الشيء الذي تعلمه هو ويتكبر عليه مثلاً من كان في المرحلة الثانوية من الدراسة يتكبر على من هو في المتوسطة ومن هو في مرحلة " الليسانس " أو " الدكتوراه " يتكبر على من لم يصل إلى المرحلة الجامعية... ومن كان أستاذاً في فن يتكبر على من لا يجيد ذلك الفن... وأصعب من الجميع العلوم الدينية كعلم الكلام والتفسير والفقه والأصول إلى حد أنه قد يرى جاهل نفسه كبيراً بسبب تعلمه لمسألة دينية واحدة ويتكبر على غيره لأنه لا يعرفها ويتوقع أن يعظمه الآخرون بل وأن يخدموه ويعتبر نفسه من العلماء والخواص والآخرين من الجهال والعوام... ويصل به الأمر إلى أن يتخيل نفسه عزيزاً عند الله وصاحب مقام ويرى الآخرين محتاجين لشفاعته لهم.
فإن قال له أحد: إنك لم تفهم هذه المسألة جيداً والحق في هذه المسألة كذا سوف لن يقبل منه حتى إذا علم بأن ما يقوله صحيح بل يطيل الجدال والصراخ خاصة إذا كان في المجلس أفراد آخرون... فإن نخوته وكبره يمنعانه في هذا الحال من قبول الحق.
العلم كالطعام:
حقيقة الأمر أن علم أي شيء كمالٌ نفسي وظهور لخاصية الإنسانية,
وبعبارة أخرى العلم غذاء الروح وسبب تقويتها وكما أن الغذاء المقوي يقوي الإنسان الذي يأكله إذا كان صحيح المزاج وتناول من الغذاء كماً وكيفاً ما يناسب وفي الوقت المناسب أما إذا لم يكن مزاجه صحيحاً سالماً بل كان مريضاً أو تناول الطعام في غير موقعه المناسب فإن ذلك الطعام المقوي يزيد في ضعف البدن واضطرابه وعجزه.
كذلك العلم الذي هو غذاء الروح كلما كان قلب الشخص سالماً وكان في طريق التواضع بالتفصيل الآتي فذلك العلم سبب قوة العقل وشدة تواضعه, أما إذا كان قلبه مريضاً وكان - من جراء الجهل بالحقيقة - في طريق الكبر يصيح ذلك العلم سبباً لضعف العقل وظهور حالة الكبر.
إعرف نفسك أولاً:
بناءاً عليه يجب على كل إنسان قبل العلم بأي شيء أن يعرف نفسه ويعلم الحقيقة ويبني سيره ومسلكه على التواضع حتى لا تكون المعارف سبباً لزيادة مرضه وحتى لا يبتلى بالنخوة والكبر.
وأما معرفة النفس فقد تكرر ذكرها في هذا الكتاب وسيذكر السبيل إلى التواضع.
وأما معرفة الحقيقة فلا شك في حسن العلم وكونه كمالاً للإنسان كما لا شك بشكل عام في أن العلم بأي شيء أفضل من الجهل به ولكن يجب أن نرى هل هذه العلوم شيء يمكن أن يعتبر الإنسان نفسه بسببه عظيماً وغير محتاج وأعلى من غيره فيتباهى بنفسه ويفتخر على الآخرين.
فائدة العلم المادي المؤقتة:
سندرك بعد التدقيق أن جميع هذه العلوم ترتبط بالحياة الإنسانية المادية
( أي من الساعة التي يخرج فيها من الرحم إلى الساعة التي يخرج فيها الروح من الجسد ) ونتيجة هذه العلوم وثمرتها في دائرة هذه الحياة المادية.
إذا كان الشخص طبيباً فقد فهم تشريح البدن وأمراضه وعلاجها, وإذا كان مهندساً فقد حصل على العلم بالصناعات والبناء, وإذا كان قد تعلم شيئاً في مجال الجيولوجيا والنبات والحيوان والنجوم وريادة الفضاء وأنواع الإختراعات والإكتشافات فكل ذلك مرتبط بأوضاع عالم المادة والطبيعة, بل إن العلوم الدينية الكسبية هي أيضاً ترتبط بهذا العالم ( مثلاً علم الفقه هو معرفة الوظائف العملية الدينية لكل إنسان في مدة حياته الدنيوية ) سواء كان هذا العلم عن اجتهاد ( كعلوم الدراية والرجال والبيان, والتفسير والقواعد الفقهية والأصولية ) وما كان مقدمة لذلك كالمنطق والصرف والنحو والمعاني والبيان, أم كان عن تقليد أي يريد الشخص أن يعرف تكليفه الشرعي في العبادات والمعاملات عن تقليد.
هذه الحياة لا قيمة لها:
بعد أن اتضح ما تقدم نقول أولاً: ما هي الحياة المادية للإنسان حتى تكون العلوم المرتبطة بها سبباً للعظمة والنخوة والكبرياء؟ إنها حياة مزعجة ملوثة بالمشقات والصعوبة والخيبات لكل شخص, وفي كل يوم يواجه بلاءاً ومحنة... والأسوأ من ذلك أن الموت يتهدده في كل لحظة.
فهل يصح أن يغتر الإنسان ويتكبر بعلوم مثل هذه الحياة التي لا قيمة لها والحافلة بالمنغصات؟
ثانياً: حالة الإنسان بعد الموت بالنسبة إلى علومه هذه كحالة يقظته من الأحلام التي رآها, كما أنه بعد الإستيقاظ يعلم أنه رأى في المنام كيت وكيت ويعلم كذلك أن ما رآه في نومه لا ينفعه في حالة يقظته بمقدار ذرة وبعد مدة
ينسى هذا الذي كان قد رآه.
كذلك كل عالم يدرك بعد الموت قيمة إدراكاته الدنيوية ويعلم أنها جميعاً كانت للحياة المادية ولا تنفعه في حياته الخالدة بمقدار ذرة ولن يكون فرحاً مبتهجاً بإدراكاته تلك, وبعد مدة من بقائه في البرزخ ينساها جميعاً كما قال بعض الحكماء... وينطبق هذا على العلوم الدينية أيضاً بالتفصيل الآتي.
ويل للعالم غير العاقل:
من اكتسب العلوم الدينية للوصول إلى الثراء وزيادة الشهرة والرئاسة فليس له بعد الموت شيء غير الحسرة والندامة, بل ستكون حاله أسوأ من سائر العلماء الدنيويين لأن هؤلاء سوف لن يعذبوا بسبب علومهم ولن يعانوا منها, بل إذا كان هدف أحدهم في اكتسابها إلهياً فقد أدى عبادة وسيستفيد من ذلك الثواب لا من العلوم نفسها.
أما العالم الديني الذي كان يعبد الدنيا فسيرى نفسه كحمار حمل أسفاراً ( كتباً ) وهو يعاني من ثقلها, وما أشد الآلام التي يواجهها والعذاب الذي يحل به نتيجة جعله العلم وسيلة دنياه وإهانته له وعدم العمل بما علم.
طبعاً: إذا كان قد اكتسب العلوم الدينية " لله " وعمل بها فحيث أن اكتساب العلم هذا هو في حد ذاته عبادة فسينعم بعد موته بنور عبادته العلمية والعملية وثواب ذلك, إلا أن نفس إدراكاته لا تنفعه بشيء لأن تلك الإدراكات ترتبط بالحياة الدنيوية.
هذه العلوم مدعاة للفرح:
الإدراك الحقيقي الذي يرافق الإنسان دائماً ولا ينفصل عنه في أي عالم, ويبقى الإنسان مسروراً مبتهجاً به هو العلم بالله وأسمائه وصفاته الجمالية
والجلالية, والعلم بمقام النبي والإمام ومعرفة الإنسان معاده...
وبعبارة أخرى: الإيمان بالحقائق والمعارف والعقائد الدينية, وكلما كان هذا العلم أكثر وأعلى بحسب مراتب الإيمان فالبهجة والسرور أكثر.
ومن نافلة القول أن الآثار الحتمية لليقين بالله زيادة التواضع لأن من عرف الله تعالى بالعظمة والكبرياء وعرف المخلوقين بالحقارة والمملوكية ( بالنسبة إلى الله ) فلا يعقل أبداً أن توجد فيه حالة الكبر. إن اليقين بالله والكبر كالريح والبعوض أي بمجرد أن يحصل اليقين تزول الذاتية والأنانية ومن هنا يقول سبحانه: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
والخشية بمعنى التذلل أو الخوف من العظمة وهي من آثار العلم بعظمة الحق.
الخلاصة هي أن صاحب العلم إذا كان علمه باقياً وذاتياً وكان شيئاً بهجته أبدية هو اليقين بالمعارف الإلهية فإن أثر هذا العلم - كما تقدم - هو التواضع لله لا الكبر.
وعلى هذا الأساس فإذا وجد الكبر في الإنسان بسبب عمله بشيء فيعلم أنه لم يكتسب ذلك العلم لله بل لهدف نفسي, وكل علم يكتسبه الإنسان بهدف نفسي فنتيجته محدودة بحدود هذه الحياة الدنيوية ولا نفع له في الآخرة, وقد تقدم أنه ما قيمة الحياة الدنيا لتكون قيمة للعلم الذي تنحصر نتيجته بالحياة المادية؟
ومن تكبر بعلم من هذا النوع يثبت أنه لم يفهم بعد فناء هذه الحياة الدنيوية وعدم قيمتها وعدم اعتبارها وهي أمور واضحة لا تخفى على عاقل.
بناءاً على ما تقدم فإن الكبر بالعلم بشكل عام خلاف حكم العقل وقد
ذكرت حقيقة العلم بالتفصيل ليتأمل فيها القاريء العزيز بدقة ويدرك الحقيقة ولا يبتلي بالكبر بسبب العلم فإن العلم أعظم أسباب الكبر ولا ينجو من خطره أحد.
الكبر بالقدرة:
حيث أن الإنسان ليس له بالذات إلا العدم والعجز والحاجة, ومع ذلك فقد يتصور لنفسه نوعاً من القدرة بسبب القيام بأعمال يراها كبيرة كالعبادة واجتناب الحرام أو بسبب النسب والعلائق التي كانت له أو حصل عليها كالنسب والحسب والجمال الصوري والمال والأولاد والأتباع, وتوجد فيه من جراء ذلك حالة الكبر ولذلك يتم إيضاح كل من هذه الأمور مع ذكر طرق الحيلولة دون الكبر بها على سبيل الإختصار.
1 - الكبر بالعبادة:
من الممكن أن يرى الإنسان عمله مهماً نتيجة المواظبة على الطاعات والعبادات واجتناب المحرمات ويؤدي به ذلك إلى أن يرى أنه عظيم وأسمى مرتبة من الآخرين ويتوقع منهم أن يعظموه بل يخدموه وينظر إليهم نظرة احتقار بل يراهم هلكى... ويستصغر كذلك عبادات غيره وطاعاته ويرى أنها تافهة ويرى أنه ينبغي أن يتقدم على الجميع أثناء المشي إلى مكان, وأن يتصدر المجالس وإذا واجهه أحد بإساءة أدب يقول: لمثلي يقول ذلك؟! ثم يبقى منتظراً أن يهلكه الله, في حين أنه هو يسيء الأدب إلى الآخرين أكثر منه ولا ينتظر حلول غضب الله عليه, بل يرى نفسه أعظم من أن يؤاخذه الله وينتقم منه.
وإذا وعظه أحد أو ذكره بخطأه غضب وقال: أنت أصغر من أن تعظ مثلي.
وأحياناً يقول: فلان ضعيف النفس لم يصبح مثلي بعد بحيث يستطيع السيطرة على هواه وترك الذنب, أنا اشتغلت برياضة نفسي عدة سنوات, تحملت مشقات ومشقات! وأحياناً يقول: لولا دعائي وتوجهي لكان حدث كذا وكذا! وأشباه تلك الحالات والكمالات التي هي جميعاً شواهد الكبر الباطني.
وللحيلولة دون ذلك يجب الرجوع إلى ما تقدم في بحث العجب من هذا الكتاب والتدقيق فيه ليعلم أن العجب والكبر يقضيان على أصل الطاعة والعبادة, وعندما يعلم الشخص أن عبادته بسبب كبره هباء, فلن توجد فيه بعدها حالة الكبر بل يتوب إلى ربه ويندم على ماضيه بكل عجز وانكسار ويسعى بمقدار استطاعته لإعادة ما مضى وإصلاح حاله في ما يأتي.
2 - الكبر بالنسب:
والمراد بالنسب هنا النسب الشريف واقعاً كسلالة السادات الجليلة فإذا افتخر سيد بنسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتيجة اطلاعه على أخبار فضائل السادات ورأى أن على الآخرين أن يتواضعوا ويخضعوا له, فهو عظيم وأعلى من الآخرين, الذين هم وضيعون وبمنزلة عبيد له رغم أنهم قد يكونون علماً وعملاً أفضل منه يتصور ذلك غافلاً عن أن هؤلاء الآخرين بسبب خضوعهم وتواضعهم ومحبتهم له إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وآله قد ينالون في القيامة القرب من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون هذا السيد المحترم محروماً من درجات المتواضعين ومقاماتهم.
ثم إن السادات وإن كانوا من أهل النجاة بشفاعة جدهم ولكن هل يحصلون على ثواب الأعمال الحسنة التي قصروا فيها ولو يؤدوها؟ هل ينعمون بمقامات ودرجات أهل اليقين رغم أنهم لم يبذلوا جهداً في هذا المجال لنستمع إلى الجواب من الإمام الرضا عليه السلام.
زيد النار:
زيد النار هو أخ الإمام الرضا عليه السلام وقد خرج في البصرة وأحرق دور بني العباس فلقب بزيد النار وعندما ألقي القبض عليه وأرسل إلى المأمون في خراسان وهبه للإمام الرضا عليه السلام.
عن الحسن ( .... ) البغدادي قال:
كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا عليه السلام في مجلسه وزيد بن موسى حاضر قد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن وأبو الحسن عليه السلام مقبل على قوم يحدثهم فسمع مقالة زيد فالتفت إليه فقال:
يا زيد أغرك قول ناقلي الكوفة أن فاطمة عليها السلام أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار فو الله ما ذاك إلا للحسن والحسين وولد بطنها خاصة فأما أن يكون موسى بن جعفر عليهما السلام يطيع الله ويصوم نهاره ويقوم ليله وتعصيه أنت ثم تجيئان يوم القيامة سواء, لأنت ( إذن ) أعز على الله عز وجل منه. إن علي بن الحسين عليه السلام كان يقول: لِمُحْسننا كفلان ( ضعفان ) من الأجر ولمسيئنا ضعفان من العذاب.
ثم التفت إلي فقال لي: يا حسن كيف تقرأون هذه الآية " قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " فقلت من الناس من يقرأ إنه عملَ غير صالح ومنهم من يقرأ إنه عملٌ غير صالح فمن قرأ إنه عملٌ غير صالح فقد نفاه عن أبيه فقال عليه السلام: كلا لقد كان ابنه ولكن لما عصى الله عز وجل نفاه عن أبيه كذا من كان منا لم يطع الله عز وجل فليس منا وأنت إذا أطعت الله عز
وجل فأنت منا أهل البيت[226].
النسب الشريف ظاهراً:
أما الكبر بالنسب الشريف ظاهراً, فإذا كان الشريف واقعاً لا يحق له أن يتكبر بذلك كما مر فالشرافة الصورية الدنيوية التي ليست شيئاً غير الوهم أولى بأنه لا يحق لصاحبها أن يتكبر بها.
ومن كان يفتخر بنسب شريف ظاهراً, لو لاحظ حالة أجساد آبائه تحت التراب وابتلاءات نفوسهم في البرزخ وذلّ موقفهم في الحساب لما افتخر بعظمتهم الموهومة التي كانت لهم لبضعة أيام في دنياهم.
3 - الكبر بالجمال الصوري:
من كان يتمتع بجمال صوري: إذا كان يرى جماله مهماً, فقد وجدت فيه حالة الكبر, وهو ينظر إلى الآخرين باحتقار, والكبر بالجمال تزيد نسبته بين النساء حيث أن قوة العاقلة فيهم ضعيفة[227] إلى حد أن إحداهن
قد تتكبر على زوجها وترى نفسها أعظم من أن تكون في بيته فتنفصل عنه وتبتلى بأنواع القذارات والأوساخ وتمضي بضعة أيام من عمرها بالفجائع, وأحياناً تصل في النتيجة إلى الهلاك الأبدي. ولو أنها فكرت من الأول في بدء أمرها ومنتهاه لرأت أن جمالها استعارة لا قيمة له ولأدركت باطن بدنها المليء بالأوساخ والأهم من ذلك كانت تدرك قبح نفسها التي أصبح لها نتيجة سوء أخلاقها أقبح الصور... لو أنها أدركت ذلك لما تكبرت بجمالها.
4 - الكبر بالقوة والشجاعة:
من كان بهلواناً وقوياً, إذا نسي الله واهب القوة وغفل عن حالته الأولى والآخرة قد توجد فيه حالة الكبر ويرى نفسه صاحب شخصية ومرتبة عالية بالنسبة إلى من هم دونه أو هم عاجزون... ولو أنه أدرك أن قوته مستعارة ولا قيمة لها بحيث أن أقل مرض يفقده هذه القدرة لما كان يتكبر. ثم إن القوة ليست كمالاً للإنسان ليرى نفسه كبيراً ويستصغر الآخرين بل هي كمال حيواني ومهما كان الإنسان قوياً فهناك حيوانات أقوى منه.
5 - الكبر بالأتباع:
المراد بالأتباع كالأولاد والأرحام والعشيرة أو الخدم والطلاب والمساعدين أو الإنتساب إلى السلاطين والحكام... والكبر بذلك أن يرى نفسه أكبر من الآخرين ويفتخر على الناس بهذه العلائق ويتباهى بها, ولو أنه فكر بفناء هذه العلائق وعدم اعتبارها وكيف أن من الممكن أن يبتلى بمرض أو بلاء آخر فيعجزون جميعاً عن تقديم أية مساعدة له, والأهم من ذلك حلول ساعة الموت التي لا تستطيع قدرة تأخيرها ولو أنه فكر أيضاً بأن هذه العلائق هي جميعاً خارج ذاته أي أنه بسببها لا يوجد كمال ذاتي فيه, لو أنه فكر بذلك لما رأى نفسه كبيراً ولما تكبر على الآخرين.
6 - الكبر بالثروة:
من كان في رفاهية من حيث المسكن والثياب ووسائل الحياة, وكانت له ثروة طائلة ودخْل وافر إذا نسي الله الذي رزقه الثروة ونسي فناء هذه الثروة وزوالها ورأى نفسه كبيراً بالنسبة إلى الفقراء وغنياً وعالي الشأن والمقام, في هذه الحال يمكن أن يوجد فيه الكبر الذي هو إغماء وسكر حقيقيان كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: السكر أربع سكرات: سكر الشراب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك[228] فيصبح يرى الفقراء أذلاء فلا يجالسهم, ويعرض عن صلاة الجماعة لأن أهلها غالباً من الفقراء, خاصة إذا كان من قبل فقيراً ثم استغنى فإن كبره يكون أشد وأصعب فيتباهى بثروته ويفتخر بها. يقول مثلاً: فلان وفلان مستعطيان ( شحاذان ) ما يصرفه فلان في سنة يصرف في بيتي في يوم واحد, أنا أشتري فلاناً وأعتقه, جميع ثروة فلان لا تعادل ما عندي من سجاد في البيت.
ولو أن هذا المسكين أفاق من سكره وعلم أن ثروته ليست كمالاً ذاتياً للإنسان بل هي مجرد نسبة بين الإنسان وما هو خارج وجوده, وسرعان ما ينسب إلى آخر وأنه لا اعتماد على بقاء الثروة, فما أكثر الأشخاص الذين كانوا في الليل أثرياء وصاروا مع الصباح في عداد الفقراء, لو أنه أدرك ذلك لما تكبر أبداً.
وحيث أنه تم بيان هذه الأمور الموجبة للكبر في كتاب " الذنوب الكبيرة " وبحث العجب بالتفصيل فيكتفى هنا بهذا المقدار.
الكبر بغير ما تقدم:
ينبغي أن يضاف أيضاً أن بعض الأغبياء قد يتكبرون بغير العناوين
المتقدمة إلى حد أنهم قد يرون النقمة نعمة وأفعالهم القبيحة أفعالاً حسنة ويرون أنفسهم بها عظماء وفوق الآخرين فيقول قائلهم: إنني أشرب من الخمر أضعاف ما يشربه فلان أنا أستاذ في القمار, وأنا في الزنا كيت وكيت, مهارتي في السرقة لا تبارى... حقاً إن هذا الأحمق أسوأ من عامل مجارير يفتخر على زملائه فيقول: كان عندي الليلة من المجارير والمراحيض أكثر منكم جميعاً وقد نظفت ذلك كله وفعلت كذا وكذا وأنا متفوق عليكم جميعاً.
يجب استئصال الكبر:
ضمن بيان أنواع الكبر وأسبابه, تقدمت الإشارة إلى علاج كلٍّ من مراتبه, إلا أن ما قيل إذا عمل به فهو نافع إلى حد ما في الحيلولة من حصول الكبر ولكن قد تتجدد حالة الكبر هذه, أو يبتلى الإنسان بمرتبة أخرى من نفس السبب أو من سبب آخر وفي الحقيقة فإن العمل بما تقدم هو كاستعمال الأقراص المسكنة التي تسكن الألم في حدود, ولكن حيث أن أصل المرض باقٍ فإن الألم سيتجدد, والحل هو علاج أصل المرض واستئصال جذوره كذلك مرض الكبر الذي يهدد كل إنسان ولا يوجد أحد بمأمن منه, فمن الواجب اقتلاع أصله وجذوره من القلب, والعلاج الوحيد الذي يستأصله هو ملكة التواضع.
ومعنى " الملكة " الطبع والعادة, أي يجب أن يبني سلوكه وتصرفاته مع الله والخلق دائماً على أساس التواضع بالإيضاح الآتي, ليمكنه بعد مدة أن يصبح التواضع خلقاً له لا يمكن أن يزول.
يجب أن يصبح التواضع ملكة:
التواضع بمعنى التنازل وانكسار النفس وحقيقته حالة في باطن الإنسان تنشأ من التفكير الدقيق في حالته الأولى حيث كان نطفة, وحالته الأخيرة التي هي قبضة تراب, ومن التدبر في أجزاء بدنه وقواه والتفكير في نفسه وقواها
الإدراكية والحالات العارضة عليها وكذلك احتياجاته التي لا تحصى... إنه عندما يفكر في ذلك كله يدرك أنه محتاج إلى ربه سبحانه في كل لحظة مئات الإحتياجات ويدرك أيضاً نعم الله عليه التي لا تحصى كما يزن نسبته إلى عالم الخلقة العظيم فإذا استقرت هذه المعارف في القلب أي تجاوزت الحواس الظاهرية واحتلت مكانها في القلب فإنه في النتيجة يرى نفسه صغيراً وتافهاً غريق الحاجة وعبداً مملوكاً, وثمرة هذه المعرفة ظهور حالة الخضوع والخشوع والمحبة والخوف والرجاء والتسليم والإنقياد إلى ربه في سره وإعلانه والعطف والتصاغر وأداء الحقوق في مقابل المخلوقين. وحالة التواضع هذه التي هي ضد الكبر وهي العلاج القطعي له هناك آيات وروايات كثيرة في مدحها ويشار إلى بعضها.
وما هو ضروري هو معرفة كيفية التواضع مع الله والخلق ويتم التذكير بها هنا على أساس الآيات والروايات ليعرفها القاريء العزيز ويطبق سلوكه معها ويتخلص في النتيجة من مرض الكبر وينعم بملكة التواضع الفاضلة, ويصبح من عباد الله المرضيين والمحمودين.
التواضع مع الله:
بمقدار ما يرى الإنسان في نفسه من الحقارة والذلة والعجز والحاجة, يجب أن يرى في الله تعالى من العزة والرفعة والكبرياء والقدرة وعدم الحاجة ( الغنى ) والربوبية والإحاطة ولهذه المعرفة لوازم يشار إلى كلياتها:
1 - أن لا يرى لنفسه حقاً على الله, إذن لا يستصغر نعمه وعطاياه ولا يقول: أعطى الله فلاناً كذا وكذا ولم يعطني شيئاً.
2 - أن يكون راضياً ومسلماً في مقابل ما أراده الله له وأجراه عليه سواءاً كان ملائماً لرغبته وميله أو مخالفاً... ولا يكون في قلبه وعلى لسانه أي إنكار لذلك.
3 - أن يحب من كل قلبه وروحه خالقه ومربيه والمنعم عليه ولا يتعلق قلبه إلا به ولا يكون له أمل - في الوصول إلى كل خير - سواه فهو وحده أمله ومصدر قوة قلبه ومعتمده, وأن لا يضعف أمام أي خطر يواجهه أو حادثة تحل به ولا يرى نفسه وحيداً ولا يغيب عن قلبه انتظار المدد والعون منه سبحانه.
4 - أن يكون دائماً بصدد إظهار عظمة ربه وجلاله ونعمه اللامتناهية, وبناءاً عليه يجتنب الرياء والتظاهر في الأعمال العبادية بالتفصيل المتقدم في بحث الرياء وأن لا يكون أبداً في معرض طلب الكبر وإظهار نفسه وأن يحذر من التركيز على نفسه وتزكيتها وأن يتصرف في جميع الحالات: الجلوس والقيام والمشي والحديث تصرف العبد " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ". الفرقان 63.
نماذج من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله:
" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد وأجلس كما يجلس العبيد وما أكل متكئاً منذ بعثه الله عز وجل نبياً حتى قبضه الله إليه متواضعاً لله[229] ".
وعن الإمام الصادق عليه السلام:
مرت امرأة بذية برسول الله صلى الله عليه وآله, وهو يأكل وهو جالس على الحضيض فقالت يا محمد والله إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحك أي عبد أعبد مني قالت ناولني لقمة من طعامك فناولها فقالت لا والله إلا التي في فمك فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله اللقمة من
فمه فناولها فأكلتها قال أبو عبد الله عليه السلام فما أصابها داء حتى فارقت الدنيا روحها[230].
وكان صلى الله عليه وآله: لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه فإن أبى قال تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد[231] وخرج صلى عليه وآله يريد حاجة فإذا بالفضل بن العباس فقال احملوا هذا الغلام خلفي قال فاعتنق رسول الله صلى الله عليه وآله بيده من خلفه الغلام ثم قال يا غلام خف الله تجده أمامك يا غلام خف الله يكفك ما سواه وذكر المؤرخون أن الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وآله ثلاثة وثلاثون[232].
وكان صلى الله عليه وآله في بيته في مهنة أهله ويقطع اللحم ويجلس على الطعام محقراً وكان يلطع أصابعه ولم يتجشأ قط يحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويقم البيت ويعقل البعير ويعلف ناضحه ويطحن مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق ويضع طهوره بالليل بيده ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده[233].
قال الإمام الصادق عليه السلام: أفطر رسول الله صلى الله عليه وآله عشية خميس في مسجد قبا فقال هل من شراب فأتاه آوس بن خولي الأنصاري بعس مخيض بعسل فلما وضعه على فيه نحاه ثم قال: شرابان يكتفى بأحدهما من صاحبه لا أشربه ولا أحرمه ولكن أتواضع لله فإن من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله ومن اقتصد في معيشته رزقه الله ومن بذر حرمه الله ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله[234].
لماذا لم يشرب صلى الله عليه وآله المخيض بعسل؟
السبب في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرب المخيض بالعسل تواضعاً هو أن الحظوظ النفسية ( الرغبات ) واللذات الحيوانية حتى إذا كانت حلالاً ولم يسرف الإنسان فيها فإنها تقلل قهراً من التواضع والإنكسار إلى حد أنها غالباً توجب زيادة طغيان النفس وتمردها الأمر الذي يزيل حالة العبودية التي هي أعلى المقامات. ومن هنا كان الأنبياء وعظماء الدين يجتنبون بشدة الرفاهية والدعة واللذائذ الحيوانية وأنواع التنعم بالماديات من المسكن واللباس والطعام حتى لا يؤثر ذلك على مقام العبودية لله الذي هو التواضع لله تعالى.
( النشأة المترفة الناعمة لا تجعل الطريق في متناول الصديق ).
إحذر استماع التملق:
من أراد الحصول على ملكة التواضع لله, فكما يجتنب تزكية نفسه بالتفصيل الذي تقدم في بحث العجب, فيجب أن يجتنب أيضاً استماع مدحه وثنائه على ألسنة المتملقين والمداحين وأن لا يفرح بذلك. أي إذا مدحه شخص وقال له أنت كيت وكيت, أنت صاحب كمالات, يجب أن لا يرضى بذلك ولا يفرح وإذا أمكنه فيجب أن يقطع حديثه لأن الموحد يعلم أنه ليس له من نفسه أي شيء وإذا كان فيه كمال ما فهو كأصله من الله. وكما ينصرف الجهلة والمتكبرون إلى مدح أنفسهم أو مخلوق مثلهم فينبغي أن ينصرف العالمون وعباد الله والمتواضعون إلى مدح الله. وعندما يلتقون يعددون نعم الله وإحسانه ويحركون ألسنتهم بحمد الله وثنائه وإذا مدحهم أحد أو مدح نفسه أمامهم فينبغي أن ينزعجوا من ذلك بشدة. وفي الحقيقة إذا رضي الإنسان بمدح غيره له وثنائه عليه وفرح بذلك فإنه يستحق غضب الله رغم أن الله
تعالى بحلمه يعفو عنه لأنه في تلك الحالة تماماً كغلام السلطان الذي مهما أعطى ولأي شخص كان فإن ذلك كله من خزينة السلطان وبإذن السلطان. فإذا جاءه شخص وهو بين يدي السلطان ولم يأبه بالسلطان بل التفت إلى الغلام وأخذ في مدحه والثناء عليه وقال له: أنت صاحب الثروة الطائلة, أنت بحر الكرم, أنت حررتني من الفقر كما حررت غيري... فإن الغلام إذا فرح بهذه المدائح يستحق غضب السلطان حتماً حتى إذا لم يرَ المادح السلطان ولم يعرفه... ولا شك أنه إذا كان الغلام عالماً فإنه لشدة خجله من السلطان يتمنى أن تنشق الأرض فتبتلعه.
ولإثبات هذه الحقيقة وفهم آداب العبودية والتواضع تذكر بعض الروايات:
احثوا في وجه المداحين التراب:
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن المدح وقال احثوا في وجه المداحين التراب[235]. وقد قيل في معنى هذا الحديث إن من كانت عادتهم مدح الناس يتكسبون بذلك فلا تعطوهم شيئاً واحرموهم ليتركوا عادتهم ويحتمل أن يكون المراد: رد المادح وقطع كلامه بأن لا يعطى شيئاً ليذهب قال أمير المؤمنين عليه السلام: اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه وليس بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه[236].
وفي وصية الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن جندب: ولا تغتر بقول الجاهل ولا بمدحه فتتكبر وتتجبر وتعجب بعملك فإن أفضل العمل العبادة والتواضع[237].
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: أتى النبي - صلى الله عليه وآله - أعرابي فقال له: ألست خيرنا أباً وأماً وأكثر منا عقباً ورئيساً في الجاهلية والإسلام فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا أعرابي كم دون لسانك من حجاب! قال اثنان شفتان وأسنان فقال صلى الله عليه وآله أما كان في أحد هذين ما يرد عنا غرب لسانك هذا ( أي حد لسانك ) أما إنه لم يعطَ أحد في دنياه شيئاً هو أضر له في آخرته من طلاقه لسانه، يا علي قم فاقطع لسانه فظن الناس أنه يقطع لسانه فأعطاه دراهم[238].
وقال رجل للرضا عليه السلام[239]: والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً فقال: التقوى شرفهم وطاعة الله أحظتهم فقال له آخر: أنت والله خير الناس فقال له: لا تحلف يا هذا خير مني من كان أتقى لله تعالى وأطوع له, والله ما نسخت هذه الآية " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". الحجرات 13.
بين الشكر والتملق:
يجب الإلتفات إلى أن مدح الناس لبعضهم إن لم يكن على وجه الإستقلال, أي إذا لوحظ في المدح أن أصل الكمال من الله, وما في كل إنسان منه فهو عطاؤه سبحانه, ولم يكن المدح عن تملق وتزلف وطمع ولم يكن سبباً للعجب والكبر في السامع, فلا ضرر فيه, خاصة إذا كان بهدف شكر المخلوق على إيصال نعمة الله, فذلك قد ورد الأمر به بالتفصيل الذي تقدم في باب الشرك في الأفعال.
7 - شكر النعمة وقصة النجاشي:
من سلك طريق العبودية لله, إذا استجدت له نعمة من الله فهو لا يستصغرها بل يكبرها لأنها عطاء الله وتزيد في خشوعه وتواضعه ويؤدي شكرها بأعلى درجات التواضع التي هي وضع الجبهة على التراب.
قال الإمام الصادق عليه السلام: أرسل النجاشي ( ملك الحبشة ) إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه ( وكانوا قد هاجروا من مكة بسبب أذى قريش ) فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب وعليه خلقان الثياب قال: فقال جعفر عليه السلام فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فلما رأى منا تغيُّر وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمداً وأقر عينه ألا أبشركم فقلت بلى أيها الملك فقال إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهلك عدوه وأسر فلان وفلان وفلان التقوا بوادٍ يقال بدر كثير الأراك ( شجر ) لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك وهو رجل من بني ضمرة فقال له جعفر: أيها الملك ما لي أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان فقال له: يا جعفر إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله عز وجل نعمة بمحمد صلى الله عليه وآله أحدثت لله هذا التواضع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله قال لأصحابه إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرفعكم الله وإن العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفوا يعزكم الله[240].
السجود عند النعمة المحدثة:
وردت روايات كثيرة في استحباب سجدة الشكر عند النعمة المحدثة أو تذكر نعمة سابقة[241] من ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في سفر يسير على ناقة له إذ نزل فسجد خمس سجدات فلما ركب قالوا: يا رسول الله إنا رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه فقال: نعم استقبلني جبرائيل فبشرني ببشارات من الله عز وجل فسجدت شكراً لله لكل بشرى سجدة.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إذا ذكر أحدكم نعمة الله عز وجل فليضع خده على التراب شكراً لله، وإن كان راكباً فلينزل فليضع خده على التراب وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خده على قربوسه فان لم يكن يقدر فليضع خده على كفه ثم ليحمد الله على ما أنعم عليه.
وقال الإمام الباقر عليه السلام: إن أبي علي بن الحسين ما ذكر لله عز وجل نعمة عليه إلا سجد ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل فيها سجود ( واجب أو مستحب ) إلا سجد ولا دفع الله عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمي السجاد لذلك[242].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا موسى إني قلبت عبادي ظهراً
لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذل لي نفساً منك يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدك على التراب أو قال على الأرض[243].
8 - كثرة الدعاء:
الإنسان العاقل الذي يرى احتياجاته التي لا تحصى ليس فقط لحياته الأبدية بعد موته بل هو في كل لحظة يرى نفسه محتاجاً في النشأتين ( الدنيا والآخرة ) من جهات عديدة ويعلم أيضاً أنه ما من أحد غير الله تعالى يمكنه أن يسد احتياجاته, لا بد وأن يكون - هذا الإنسان العاقل - متوجهاً إلى الله في كل حال يدعوه ويطلب منه احتياجاته تماماً كما كان في سن الطفولة لا يعرف أحداً غير أمه, وكان يدعوها في كل حال إذا عطش أو جاع ناداها, وإذا تعب أو عجز عن شيء أو كان مريضاً أو آلمه شيء أو خاف من شيء ألقى بنفسه في حضنها, وإذا أساء إليه أحد شكى إلى أمه, وإذا أحسن إليه أحد أخبر أمه ولسان حاله يطلب من أمه أن تشكر من أحسن إليه, إلى حد أنه لم يكن وقت النوم يرضى أن يكون بعيداً عنها.
فكذلك ينبغي - بعد أن يكبر ويصل إلى الرشد العقلي ومعرفة الله عز وجل - أن يكون مع ربه أكثر مما كان مع أمه بعدة أضعاف, يطلب منه أي شيء احتاجه وفي أية حال, ويكون اتباعه لأي سبب لرفع احتياجه بداعي إطاعة أمره تعالى ويطلب منه سبحانه تأثير أي سبب مثلاً: إذا كان مريضاً فيطلب الشفاء من الله ويطلب منه أيضاً نفع الطبيب والدواء وإذا كان معافى فيطلب دوام ذلك من الله, إذا كان فقيراً يطلب الثروة من الله أو كان ثرياً فيطلب دوام ذلك والتوفيق في أداء الحقوق منه سبحانه إذا رأى من أحد أذية وإزعاجاً فليشتك إلى الله وإذا أراد الإقتصاص فليكن ذلك امتثالاً لأمره تعالى وإذا أحسن إليه أحد
فليطلب من الله تعالى تعويض ذلك.
إلى حد يصبح ينام ويستيقظ ذاكراً لله مؤملاً له وحقاً إن من لم يكن حاله مع الله كذلك أي أنه لا يتذكر الله تعالى عند احتياجاته ولا يطلب منه ولا يكون أمله إلا في نفسه والأسباب, فهو معجب بنفسه مغرور بها متكبر على ربه.
" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ".
أفضل العبادة, الدعاء:
عن سدير قال قلت لأبي جعفر عليه السلام: أي العبادة أفضل؟ فقال عليه السلام: ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يُسأل ويطلب مما عنده, وما أحد أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحب ذلك لنفسه إن الله عز وجل يحب أن يسأل ويطلب ما عنده. وقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ولكنه يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسمِّ حاجتك[244].
9 - التواضع لدين الله:
الدين الإلهي أي أوامر الله ونواهيه التي أبلغها الخلق بواسطة النبي والإمام وهي على قسمين:
أحدهما ما هو راجع إلى الأمور القلبية التي منها العقائد والثاني الوظائف العملية, فمجموع العقائد والوظائف العملية هو دين الله, ومن عرف عظمة
الله وكبرياءه فيجب أيضاً أن يرى دينه عظيماً وعزيزاً ويهتم به بحيث أنه إذا فقد كل شيء ولكن سلم له دينه فلا يحزنه ذلك, وإذا بقي له كل شيء ونقص دينه فيجب أن يعلم أنه لم يبق له شيء وينبغي أن يحزنه ذلك جداً.
عندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: " كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك ".
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني فقال صلى الله عليه وآله: في سلامة من دينك[245] ".
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ذلك " من مواطن البشرى والشكر[246] ".
وكما أن دين الله عظيم فكل أمر من أوامره كذلك فيجب تقديمه على كل شيء, ويجب أن يكون المكلف أثناء أدائه خائفاً من أن يكون لا يؤديه كما ينبغي أو أن لا يقبله منه الله تعالى.
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه[247].
وقد ورد في سيرة الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجاد عليهم السلام أنهم كانت تتغير ألوانهم عندما تحين الصلاة وترتجف أبدانهم وعندما سئلوا عن ذلك قالوا: أريد أن أؤدي الصلاة التي هي أمانة الله[248].
والخلاصة إن أمر الله عظيم بنفس نسبة عظمة الله تعالى.
الإعتراض ينافي العبودية:
ويجب أيضاً كامل الإنقياد والتسليم في مقابل الأوامر الإلهية, أي إذا لم يدرك العقل الناقص حكمة بعض الأوامر ومصلحتها فلا يصح أن يكون الإنسان فضولياً بحيث يتساهل في أداء تلك الأوامر ويجب أن يعلم أن الله أعلم بمصالحه وإذا أطاع فسيتضح له ذلك.
والخلاصة إن الإعتراض في الدين الإلهي كبر على الله وضد العبودية.
نعم.. معرفة بعض حكَم أوامر الله أو السؤال عنها بقصد زيادة البصيرة ليس مضراً بشرط أن يعلم أن حكم أوامر الله أكبر وأسمى من إدراك عقول البشر الجزئية.
عبادة الله, لله فقط:
ويجب أن لا يكون للإنسان هدف في امتثاله للأوامر الإلهية غير الإمتثال فلا يكون نظره إلى الفوائد والمنافع الدنيوية والثواب الأخروي, أي يكون حاله بحيث إذا فرض أنه لا يعطى أي ثواب وليس له أي نفع من امتثاله للأوامر الإلهية فإنه رغم ذلك يطيع أمر الله أي يعتبر أن الله أهل للإطاعة والعبادة ولا يرى لامتثاله لأوامره أي حق وقيمة ولا يرى نفسه مستحقاً للجزاء والثواب ويعلم موقناً أن ما يعطيه الله له فهو من باب التفضيل وإنجاز الوعد الإلهي وقد تقدم بيان ذلك في بحث النية.
التواضع للنبي والإمام:
بنفس النسبة التي يعرف فيها الله تعالى بالعظمة والكبرياء يجب أن يعرف
أن ممثلي الله والمقربين إلى ساحته الذين هم وسائط إيصال أوامره, هم أيضاً عظماء فيخضع ويتواضع لهم كما لو أن سلطاناً اختار أحد عبيده وشمله بألطافه الخاصة ثم جعله واسطة إيصال أوامره إلى سائر العبيد وأوجب إطاعته على الجميع, فلو أن أحد العبيد في مثل هذه الحال حسد هذا العبد وتكبر ورأى أنه يساويه فهو مستحق لغضب السلطان.
ومن الواضح أن التواضع لممثلي الله تواضع لله كما أن التكبر عليهم تكبر على الله وبالإضافة إلى حكم العقل بلزوم التواضع للنبي والإمام فإن الآيات والروايات في ذلك كثيرة ونقلها يستدعي الإطالة فيكتفى فقط برواية واحدة.
نموذج من تواضع الشيعة:
قيل للصادق عليه السلام: إن عماراً الدهني شهد اليوم عند ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بشهادة فقال له القاضي: قم يا عمار فقد عرفناك لا تقبل شهادتك لأنك رافضي فقام عمار وقد ارتعدت فرائصه واستفرغه البكاء فقال له ابن أبي ليلى: أنت رجل من أهل العلم والحديث إن كان يسوؤك أن يقال لك رافضي فتبرأ من الرفض فأنت من إخواننا فقال له عمار يا هذا ما ذهبتُ والله حيث ذهبتَ ولكن بكيت علي وعليك، أما بكائي على نفسي, فإنك نسبتني إلى رتبة شريفة, لست من أهلها, زعمت أني رافضي, ويحك لقد حدثني الصادق عليه السلام, أن أول من سمي الرفضة السحرة الذين لما شاهدوا آية موسى في عصاه آمنوا به واتبعوه، ورفضوا أمر فرعون واستسلموا لكل ما نزل بهم فسماهم فرعون الرافضة لما رفضوا دينه، فالرافض كل من رفض جميع ما كره الله، وفعل كل ما أمره الله، فأين في هذا الزمان مثل هذا؟ وإن ما بكيت على نفسي خشيت أن يطلع الله عز وجل على قلبي وقد تلقبت هذا الإسم الشريف على نفسي فيعاتبني ربي عز وجل ويقول يا عمار أكنت رافضاً للأباطيل عاملاً بالطاعات كما قال لك فيكون ذلك بي مقصراً في الدرجات إن سامحني وموجباً
لشديد العقاب إن ناقشني إلا أن يتداركني مواليَّ بشفاعتهم.
وأما بكائي عليك فلعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله أن صرفت أشرف الأسماء إلي وإن جعلته من أرذلها كيف يصبر بدنك على عذاب كلمتك هذه.
فقال الصادق عليه السلام: لو أن على عمار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرض لمحيت عنه بهذه الكلمات وإنها لتزيد في حسناته عند ربه عز وجل حتى يجعل كل خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرة[249].
ومن أجل مزيد من البصيرة تنقل هنا قصة من دار السلام للنوري.
العشار يتشيّع:
كان أحد زوار أمير المؤمنين عليه السلام ماراً في منطقة الرِّماحية في طريقه إلى النجف فاعترضه " عشار " ( جمركي ) وأهانه وآذاه كثيراً وضربه ضرباً مبرحاً بحيث يأس من الحياة وقال للعشار: أذهب إلى النجف, وأشكوك إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال العشار: قل له ما تريد فإن ذلك لا يخيفني.
وعندما وصل الزائر إلى النجف وزار حرم أمير المؤمنين عليه السلام بكى, وشكى إليه ما صنع به العشار وكان مما قاله: أنا زائرك وحق على المزور أن يحمي زائره وعلى المسؤول إجابة سائله والمشتكى له أن يأخذ حق المشتكي إليه وأنا أشكو إليك من ظلمني وهو فلان بن فلان العشار في الرماحية فخذ حقي منه الساعة يا سيدي ثم قال: إلهي فانتقم لي ممن ظلمني بحق صاحب هذا القبر، فلما فرغ من دعائه أمّن من كان معه من الزوار وكان الرجل
من الصلحاء وكان هذا صباحاً فلما كان وقت الظهر جاء إلى الروضة المقدسة وقال مثل مقالته صباحاً وأمّن الزوار على دعائه، وكرر ذلك أيضاً عند المساء وفي تلك الليلة رأى في المنام شخصاً على فرس بيضاء, ووجهه كالقمر ليلة البدر, وقد أشرقت الأرض بنور وجهه, فناداه الفارس باسمه وكنيته كما يناديه من هو من أهل بيته, فقال الزائر: من أنت يا سيدي فقال: أنت زائري وسائلي والمشتكي إلى الله وإلي ولن تعرفني حتى أعرفك بنفسي... أنا علي بن أبي طالب, أنا صاحب الكمالات، أنا كاشف الكربات أنا صاحب الآيات والمعجزات أنا الذي أذهبت وكشفت الكرب عن وجه ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا وصيه وناصره وقاضي دينه فهممت أن أقبل يده ورجله فقال: قف مكانك فوقفت متحيراً ولم أكن أستطيع أن أقترب منه فقال: تشكو فلاناً العشار فقلت نعم يا سيدي لقد آذاني لمحبتي إياك فلست أعفو عنه وأرجو من حضرتك أن تأخذ حقي منه فقال تجاوز عنه لأجلنا فقلت لا أعفو عنه وكرر ذلك ثلاثاً, فلم أقبل منه, ثم لم أعد أراه, واستيقظت فقصصت رؤياي على الزوار فبكوا وألحوا علي أن أطيع أمر مولاي وكنت أقول لهم: لا أعفو عنه, فذهبت إلى الروضة الشريفة وكررت شكايتي, كما فعلت بالأمس وعندما نمت رأيت نفس ما رأيته في الليلة السابقة وكررت كذلك ما فعلته في الحرم في اليومين السابقين ثم رأيته عليه السلام في الليلة الثالثة فقال لي: اعف عنه فإني أريد أن أكافئه على حسنة صدرت منه فقلت يا سيدي ماذا صدر منه؟ فقال مر على مشهدي ( مزاري ) فنزل عن فرسه وتواضع لي من بين سائر قومه وأريد أن أجازيه بالعفو عنه فاعف عنه فعما قريب يصبح من موالينا ثم أخبرني بالشهر الذي تواضع له فيه واليوم والساعة وأنهم كانوا في طريقهم إلى بغداد ثم قال عليه السلام: اعف عنه فإني أضمن لك في القيامة عوضاً عن أذيته لك. فلما انتبهت سجدت شكراً لله .... وعندما مررت به في طريق العودة قال لي:
شكوتني إلى مولاك فلم يقبل شكواك فقلت له لم يقضِ بيننا ولكنه عفى عنك لحسنة صدرت منك في الشهر الفلاني واليوم والساعة كذا عندما كنت مع جماعة من العسكر متوجهين إلى بغداد من السماوة فلما نظرت إلى قبته من بعيد نزلت عن فرسك ومشيت حافياً إلى أن غابت القبة عن نظرك فلك أجر هذا العمل وثوابه وقال عليه السلام: إنك فلان بن فلان إلى أن بلغ أحد أجدادك وقال عليه السلام هو من كبار أصحابنا فلما سمع العشار ذلك أطرق ملياً فتبيّن له صحة ما أخبرته به ومع ذلك نظر في نسب أجداده وكان معه فكان كما قال عليه السلام من غير زيادة ونقصان فقام وقبل يدي ورجلي ورأسي وقال: ما قاله عليه السلام حق وصواب وليس فيه أي شك ثم تبرأ من دينه الباطل واستضاف جميع الزوار ثلاثة أيام ثم مشى مع الزوار إلى المشهد الغروي وزار وصلى ودعا وقسم على الزوار ألف دينار فسطعت من القبة أنوار وظهرت وانتشرت كأنها أمطار حتى رآها جميع أهل البلد والحمد لله رب العالمين[250].
والهدف من نقل هذه القصة بيان أثر التواضع للنبي والإمام عليهما السلام حتى إذا كان بهذا المقدار القليل وأنه سبب في النتيجة لتوفيق الشخص للتوبة وحسن العاقبة.
10 - التواضع للخلق:
من لوازم التواضع لله عدم التكبر على مخلوقاته ويجب أن يرى الإنسان نفسه والجميع في المملوكية لله سواء أي أن أفراد الحيوان والإنسان والمؤمن والكافر والفاسق أو العادل كلهم سواسية في المخلوقية والمربوبية وليس لأي فرد حق التكبر على آخر لما تقدم في أول بحث الكبر من أن الكبرياء خاصة بالله وإذا جعل أحد نفسه أكبر وأسمى من آخر فهو كغلام السلطان الذي يلبس ثياب
السلطنة ويفتخر بها على سائر الغلمان.
بناءاً عليه ليس للإنسان حق أن يرى نفسه أعظم من حيوان وأكبر ويتكبر عليه لأن الإثنين معاً ليس لهما من ذاتهما شيء على الإطلاق وأصل وجودهما معاً من الله وإذا كان الإنسان قد حصل على فرية وشرافة وكمال فذلك عطاء إلهي وليس من ذاته ليتكبر به[251] وكذلك ليس للمؤمن الحق في أن يتكبر على الكافر لأنهما معاً مخلوقان لله والإيمان الذي يتحلى به المؤمن موهبة من الله ولازمها التواضع لا التكبر بالتفصيل الذي مر.
والخلاصة لا يجوز الكبر في مقابل أي مخلوق بل هو حرام أما التواضع للمخلوقين فكما يلي:
لا ينبغي التواضع للمتكبر:
كل من تكبر على الله عز وجل وخالف أوامره وتمرد على طاعته فلا يجوز التواضع له. إنه كغلام خالف أمر السلطان واعتبر نفسه مستقلاً بل ادعى السلطنة والولاية, فلا ينبغي لعبيد السلطان الآخرين أن يحبوه ويتصاغروا أمامه, وفي الحقيقة فإن التواضع له هو عين التكبر على السلطان والخروج عن طاعته. بناءاً عليه فكل كافر ينكر ألوهية خالق العالم وربوبيته تكبراً, أو كل مسلم في الظاهر إلا أنه يتكبر على الله وقد مزق ستار الحياء وتمرد على الأمر
الإلهي ويعصي الله جهاراً ولا يجوز التواضع له.
وكذلك كل متكبر يكون التواضع له سبباً في ازدياد كبره ونخوته, فإن التواضع له لا يجوز.
كما لا يجوز أيضاً التواضع في مقابل المال والجاه لأنه في الحقيقة عبادة للمال والجاه وهو شرك بالله, نعم لا مانع من التواضع للمؤمن الثري أو صاحب الموقع الإجتماعي لإيمانهما.
إذا لم يترتب ضرر:
من الجدير بالذكر أن الموارد التي تقدم أن التواضع فيها لا يجوز, إنما يختص ذلك بما إذا لم يترتب على ترك التواضع ضرر مالي أو بدني أو حقوقي وإلا فالتواضع جائز بل في بعض الموارد يصبح واجباً كما إذا كان المتكبر صاحب سلطة وإذا لم يتواضع له شخص ما آذاه وأضرَّ به.
وباختصار فإن التواضع جائز لكل مسلم غير متكبر وغير متجاهر بالفسق وفي كل مورد يكون ترك التواضع سبباً للإهانة والإذلال والإساءة يصبح التواضع واجباً كالتواضع في مقابل القائد الديني والأب والأم والأستاذ وكل كبير من الأرحام أو غيرهم ممن يعتبر عدم التواضع لهم إهانة... ومن الطبيعي أن تحديد الموارد يعود إلى العرف. إذن كل مورد يرى العرف أن ترك التواضع فيه تحقير وإهانة يكون التواضع فيه واجباً وإذا لم يكن تحقيراً وإهانة ويصبح التواضع مستحباً مع مراعاة موارده ومراتبه التي ذكرت بالتفصيل في كتاب الذنوب الكبيرة.
ما ينبغي مراعاته:
للحصول على صفة " التواضع مع الناس " الحميدة تجب مراعاة عدة أمور:
1 - الإبتداء بالسلام:
ينبغي أن يسلم الإنسان على كل من يلقاه غنياً وفقيراً, كبيراً أو صغيراً, شريفاً أو وضيعاً ولا يفرق في السلام بين أحد وغيره قال الإمام الصادق عليه السلام: من التواضع أن تسلم على من لقيت[252].
وقال عليه السلام: إن الله عز وجل قال: إن البخيل من يبخل بالسلام[253].
وقال الإمام الباقر عليه السلام: إن الله يحب إفشاء السلام[254].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: السلام تطوع والرد فريضة[255].
وفي وصية النبي لعلي: يا علي ثلاث كفارات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام[256].
وقال صلى الله عليه وآله: خمس لا أدعهنّ حتى الممات الأكل على الحضيض ( الأرض من غير خوان ( سفرة )) وركوبي الحمار موكفاً ( عليه الجل ) وحلبي العنز بيدي ولبس الصوف والتسليم على الصبيان[257].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: من لقي فقيراً فسلم عليه بخلاف سلامه على الغني لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان[258].
وقد ورد في عدة روايات عن الإمام الصادق عليه السلام أن يبدأ الصغير بالسلام الكبير والمار يبدأ الجالس والراكب يبدأ الماشي والجماعة القليلة تبدأ الجماعة الكثيرة وكذلك الداخل إلى المجلس يبدأ أهل المجلس بالسلام.
2 - أن يكون خادماً لا مخدوماً:
من الأمور التي تنجي الشخص من مرض الكبر وتجعله متواضعاً أن لا
يصدر الأوامر إلى غيره في قضاء حوائجه الشخصية وأن لا يتوقع من غيره أن يخدمه وأن يقضي هو حوائج نفسه... وأيضاً يسعى في تعامله مع أهل بيته وكل من يعاشرهم أن يتحمل مشقاتهم ويقضي حوائجهم ويكون خادماً لهم. وإذا كان له خادم فلا يطلب منه شيئاً بلهجة الآمر, بل يطلب منه ذلك بلهجة المحتاج إلى خدمته. وإذا خالف سلوك الشخص ما ذكر فإنه مبتلى حتماً بالكبر القلبي بل سيصبح متكبراً ولكي نعرف طريقة عظماء الدين يشار إلى بعض الروايات:
المصطفى مع خادمه:
عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين بالمدينة وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن يكون عليه فما قال لي: أف فيها قط وما قال لي: لمَ فعلتَ هذا وإلا فعلت هذا[259].
وقال أنس أيضاً: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله شربة يفطر عليها وشربة للسحر و ربما كانت واحدة وربما كانت لبناً وربما كانت الشربة خبزاً يماث فهيأتها له صلى الله عليه وآله ذات ليلة فاحتبس النبي صلى الله عليه وآله ( أي تأخر ) فظننت أن بعض أصحابه دعاه فشربتها حين احتبس فجاء صلى الله عليه وآله بعد الصلاة بساعة فسألت بعض من كان معه هل كان النبي صلى الله عليه وآله أفطر في مكان أو دعاه أحد فقال لا فبتّ بليلة لا يعلمها إلا الله من غم أن يطلبها مني النبي صلى الله عليه وآله ولا يجدها فيبيت جائعاً فأصبح صائماً وما سألني عنها ولا ذكرها حتى الساعة[260].
يكره الإمتياز:
وكان صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأمر بإصلاح شاة فقال رجل يا رسول الله علي ذبحها وقال آخر عليّ سلخها وقال آخر علي طبخها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: عليَّ جمع الحطب فقالوا يا رسول الله نحن نكفيك فقال قد علمت أنكم تكفوني لكني أكره أن أتميز عنكم فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه فقام فجمع الحطب[261].
وروي أنه خرج صلى الله عليه وآله إلى بئر فاغتسل فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول الله صلى الله عليه وآله وستره به حتى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل فتناول رسول الله صلى الله عليه وآله الثوب وقام يستر حذيفة فأبى حذيفة فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل وقال ما اصطحب اثنان قط إلا وكان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه[262] ورأى جارية تخاف أن تذهب إلى بيتها لأنهم أرسلوها في حاجة فأبطأت عليهم فمضى صلى الله عليه وآله معها إلى البيت ليصفح مولاها عنها فأعتقها إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وآله[263].
مع الأطفال...
وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له صلى الله عليه وآله ويسميه فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله فربما بال الصبي على ثيابه فيصيح بعض من رآه
فيقول صلى الله عليه وآله لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته فيبلغ سرور أهله فيه ولا يرون أن يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه[264].
وكان خدم المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها وربما كان ذلك في الغداة الباردة يريدون به التبرك[265] والروايات في تواضع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كثيرة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلا أعطاه الله مثل عددهم خداماً في الجنة[266].
تواضع أمير المؤمنين عليه السلام:
ذكر الكوفيون أن سعيد بن قيس الهمداني رآه يوماً ( في شدة الحر ) في فناء حائط فقال يا أمير المؤمنين: بهذه الساعة؟ قال: ما خرجت إلا لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها لا تدري أين تأخذ من الدنيا حتى وقفت عليه فقالت: يا أمير المؤمنين: ظلمني زوجي وتعدى علي وحلف ليضربني فاذهب معي إليه فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع ( غير مكره فيتعتع أي يتردد في الكلام ) وأين منزلك قالت في موضع كذا وكذا فانطلق معها حتى انتهت إلى
منزلها ( ... ) قال فسلم فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال عليه السلام اتق الله فقد أخفت زوجتك فقال وما أنت وذاك والله لأحرقنها بالنار لكلامك قال وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرة بيده والسيف معلق تحت يده فمن حل عليه حكم بالدرة ضربه ومن حل عليه حكم بالسيف عاجله فلم يعلم الشاب إلا وقد أصلت السيف وقال له آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وترد المعروف؟ تب وإلا قتلتك قال وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين حتى وقفوا عليه ( فعرفه الشاب حينئذٍ ) فأسقط في يده وقال يا أمير المؤمنين اعف عني عفا الله عنك والله لأكوننّ لها أرضاً تطأني فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " الحمد لله الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها[267].
التواضع للأيتام والأرامل:
ونظر علي عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها فقالت بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك علي صبياناً يتامى وليس عندي شيء فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس فانصرف وبات ليلته قلقاً فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام فقال بعضهم أعطني حتى احمله عنك فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة فأتى وقرع الباب فقالت من هذا قال أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة فافتحي فإن معي شيئاً للصبيان فقالت: رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب فدخل وقال إني أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين ( كذا ) الصبيان لأخبز أنا فقالت أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ولكن شأنك والصبيان فعللهم حتى أفرغ من الخبز قال
فعمدت إلى الدقيق فعجنته وعمد علي إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما مر في أمرك فلما اختمر العجين قالت: يا عبد الله سجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: ذق يا علي هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحك هذا أمير المؤمنين قالت فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا أمير المؤمنين فقال: بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك[268].
الإمام السجاد يخدم المسافرين معه:
قال الإمام الصادق عليه السلام: كان علي بن الحسين عليهما السلام لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدام الرفقة فيما يحتاجون إليه فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه فقال لهم أتدرون من هذا قالوا لا قال هذا علي بن الحسين عليه السلام فوثبوا إليه فقبلوا يديه ورجليه فقالوا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله أردت أن تصلينا نار جهنم لو بدرت منا إليك يد أو لسان أما كنا هلكنا آخر الدهر فما الذي حملك على هذا فقال عليه السلام: إني كنت سافرت مرة مع قوم فأعطوني برسول الله ما لا أستحق فأخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحب إلي[269].
وسلوكه عليه السلام مع أهل بيته وغلمانه وجواريه مدونة تفاصيله في الجزء السادس من البحار وذكرها يستدعي الإطالة.
3 - اجتناب صدر المجلس:
أي أن لا يريد الشخص - في أي مجلس دخل إليه - أن يجلس في أعلى
مكان منه أو حيث يكون أعلى من غيره, إلا إذا لم يكن متسع آخر غير ذلك المكان, أو أن يجلسه صاحب المنزل هناك والروايات في هذا المجال كثيرة يشار إلى بعضها:
قال الإمام الصادق عليه لسلام: من رضي بدون الشرف ( المكان العالي ) من المجلس لم يزل الله وملائكته يصلون عليه[270].
وقال عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل[271].
وقال أيضاً: من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس[272].
وقال: من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه[273].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيثما انتهى مجلسه[274].
وقيل للإمام الصادق عليه السلام: أترى هذا الخلق كلهم من الناس قال عليه السلام: إلق منهم التارك للسواك المتربع في موضع الضيق[275].
حسن المعاشرة:
وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام تعاليم في آداب المعاشرة ومن الضروري لطالب النجاة والسعادة معرفتها والعمل بها وليراجع للإطلاع عليها كتاب الحج من وسائل الشيعة, أحكام العشرة في
السفر والحضر حيث أورد ضمن 166 باباً آداب المعاشرة المروية عن الأئمة عليهم السلام ويكتفى هنا بإيراد عدة روايات في خصوص التواضع مع الخلق.
قال الإمام الرضا عليه السلام قال: التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه ( أي تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك ).
وفي حديث آخر قال: قلت ما حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً فقال: التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه إن رأى سيئة درأها بالحسنة كاظم الغيظ عاف عن الناس والله يحب المحسنين[276].
ادفع بالتي هي أحسن:
تأمل أيها القاريء العزيز في جملة " إن رأى سيئة درأها " من كلام الإمام عليه السلام, وانظر هل فعلت ذلك طيلة عمرك, أي يسيء إليك شخص فتحسن إليه, مع أن القرآن المجيد يأمر بهذا الخُلق ومن كانت فيه هذه الخصلة فقد حظي بنصيب وافر من مقام الإنسانية والعلم والإيمان " ويدرأون بالحسنة السيئة ". الرعد 22 " ادفع بالتي هي أحسن السيئة ". المؤمنون 96.
أي أحسن لأن العفو حسن والإحسان أحسن ويقول تعالى: " لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم* وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ". فصلت 34 - 35.
أي سكِّن الغضب بالحلم والذنب بالعفو واللغو بالتغافل والحديث الباطل بحديث الحق.
أربعة من التواضع:
قال الإمام الصادق عليه السلام: من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس وأن تسلم على من تلقى وأن تترك المراء وإن كنت محقاً وأن لا تحب أن تحمد على التقوى[277].
وفي هذا الحديث يعتبر الإمام أن من التواضع أربعة أمور عدم حب الجلوس في صدر المجلس والإبتداء بالسلام وترك المراء ( الجدل ) وعدم حب المدح وقد تقدم شرح هذه الأمور ما عدا المراء ولأن معرفته ضرورية لأنه سبب للشقاء الدنيوي والأخروي وتركه سبب لسعادة الدارين, لذلك يتم بيان المراء باختصار.
المراء, النقاش والجدل:
المراء هو الإشكال على كلام آخر والإعتراض عليه والطعن فيه وتارة يكون المراء منصباً على لفظ ذلك الكلام وطوراً يكون منصباً على معناه, بهدف إذلال المتكلم والإستخفاف به وإظهار علم المماري وفطنته. ثم إنه - بسبب الكبر الموجود فيه - يعتمد اللجاجة في اعتراضه ولا يرجع عن رأيه ويحاول عن أي طريق أن يثبت صحته سواء كان ذلك في مسألة علمية دينية أو غير دينية أو خبراً عن الوقائع العادية والموضوعات الجزئية كأن يقول قائل: المسافة بين شيراز وأصفهان ثمانون فرسخاً فيتصدى له شخص لإظهار معلوماته هو وتحقير الطرف الآخر وإظهار جهله فيقول: كلا, ليس الأمر كما قلت بل المسافة تسعون فرسخاً أو يقول قائل: عدد سكان المدينة الفلانية كذا فيعترض عليه معترض ويقول أنت لا تعرف شيئاً, أنا الخبير في التاريخ والجغرافيا وأنا
الخبير بعدد سكان المدن.
إن التأمل في أحوال الناس يكشف أن أكثر النزاعات داخل العوائل ونزاعات الناس فيما بينهم والعداوات والتفرقة يرجع أكثرها إلى المراء, أي أننا إذا تفحصنا السبب الأصلي في أي نزاع فغالباً ما نجد أنه حديث دار بينهما أوجب كُدورة وحساسية حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. كما نجد أن المراء كان على أمور موهومة مثل شخص كان اسمه عمرو ودخل إلى المدرسة فسمع الأستاذ يقول: ضرب زيدٌ عمرواً فغضب ( عمرو ) وصرخ وهل يجرؤ زيد أن يضربني ثم هجم على الأستاذ, وعرف الأستاذ أنه أحمق فقال لقد أخطأت يا رجل يجب أن نقول: أعطى زيدٌ عمرواً درهماً فخذ درهماً عوضاً عن خطأي واذهب أي واجه كلاماً بكلام, فرضي ذلك الجاهل ومضى.
لا شك في حرمة المراء:
الواقع أن من يصبح المراء عادة له وطبعاً, يصبح كالكلب العقور يتناول بأنيابه ثوب ورجل كل من يمر به.
وحرمة المراء شرعاً مسلمة إذ بالإضافة إلى الروايات المتعددة التي تنهى عنه يكفي كل من عناوين إيذاء المؤمن وإهانته وتحقير الغير وتزكية النفس لإثبات حرمته. ومن هذا يعلم أنه لا فرق في حرمة المراء بين أن يكون المماري محقاً أو مبطلاً لأن مراءه في الحالتين يكون إهانة وإيذاء, وقد أورد في الكافي اثني عشر حديثاً حول هذا يكتفى هنا بحديثين منها:
المراء يمرض القلب:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق[278].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاث من لقي الله عز وجل بهن دخل الجنة من أي باب شاء من حسن خلقه وخشي الله في المغيب والمحضر وترك المراء وإن كان محقاً[279].
الجدال لا عن تظاهر:
عندما يكون الجدال في مسألة دينية اعتقادية أو فرعية ولا يكون الهدف من الجدال التظاهر وإظهار فضيلة النفس وإهانة الآخر وتحقيره, ويكون الهدف فقط إثبات الحق ونصرة الحقيقة وإرشاد الخلق وهدايتهم, فلا ضرر فيه بل قد يصبح واجباً أحياناً وهذا هو الجدال الذي أمر به القرآن المجيد[280].
الجدال في طلب الحق:
أما الجدال والمخاصمة في المطالبة بحق ما, فإذا كان الشخص أولاً موقناً بأنه صاحب حق وأنه مظلوم. وثانياً: يجادل للوصول إلى حقه لا عن عناد وعداوة ثالثاً: أن يجادل بالمقدار اللازم ورابعاً: أن لا يرتكب حراماً أثناء كلامه أو فعله عندها يكون الجدال في طلب الحق جائزاً.
إذن عندما يكون شاكاً في أنه محق أو يكون هدفه من الجدال العناد والعداء لا الوصول إلى الحق, وأحياناً يصرح بذلك فيقول: أنا أريد أذية فلان أريد أن أمرغ أنفه بالتراب ولست مهتماً بحقي عنده فإذا تمكنت من إذلاله وأخذت مالي منه سوف ألقيه في البحر.
أو يعمد إلى شتم الآخر وضربه أو يجادل أكثر مما يلزم ويسبب ضيقاً للطرف الآخر, ففي جميع هذه الموارد يكون الجدال حراماً حتى إذا كان
المجادل محقاً والحكم المذكور منطبق على المحامي في المرافعة والمخاصمة أي إذا لم يتيقن أن موكله محق فلا يمكنه إثبات دعواه وإذا فعل فقد قام بعمل باطل وحرام وأخذ المال من موكله حرام. وإذا تيقن أن موكله محق فلا مانع من المرافعة عنه بشرط رعاية الشروط الأربعة المتقدمة.
وحيث أن عدم تجاوز الحد في المطالبة بالحق صعب جداً فإذا صرف الإنسان العاقل النظر عن أصل المجادلة في طلب حقه فسيكون بمأمن من ذلك اللهم إلا في الموارد التي تصبح المطالبة بالحق فيها واجبة عقلاً أو شرعاً, عندها يجب أن تراعى الشروط الأربعة المذكورة.
التواضع للمنبوذين:
قال الإمام الصادق عليه السلام: مر علي بن الحسين صلوات الله عليهما على المجذومين وهو راكب حماره وهم يتغدون فدعوه إلى الغداء فقال أما إني لولا أني صائم لفعلت فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع وأمر أن يتنوقوا فيه ( أي يكون طعاماً لذيذاً ) ثم دعاهم فتغدوا عنده وتغدى معهم[281].
يستفاد من الروايات أنه حيثما كانت مسكنة وكان انكسار فذلك محل رحمة أرحم الراحمين. وكلما كان الإنسان في هذه المواضع أكثر تواضعاً وانكساراً فستصبح إمكانية شمول الرحمة الإلهية له أكثر, وبناءاً عليه فيجب التواضع والإنكسار في مقابل المرضى والمصابين والفقراء ومواساتهم وإذا أمكن إدخال السرور على قلوبهم فإن في ذلك أجراً عظيماً.
من هنا وردت روايات كثيرة في فضل عيادة المريض ولزومها وأن تحمل هدية إليه وأن لا يجلس عنده بحالة طابعها الحزن وأن يصغي إلى حديثه ويطلب منه الدعاء.
حيث كان علي يتواضع:
" إن علياً عليه السلام كان يمشي في خمسة حافياً ويعلق نعله بيده اليسرى, يوم الفطر والنحر والجمعة وعند العيادة وتشييع الجنازة ويقول إنها مواضع الله وأحب أن أكون فيها حافياً ".
وقد نقل في الكافي خمسة عشر حديثاً في باب إدخال السرور على المؤمن يكتفى بنقل واحد منها.
من آثار التواضع:
قال الإمام الباقر علي السلام: تبسم الرجل في وجه أخيه حسنة وصرف القذى عنه حسنة وما عبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن[282].
والمراد بصرف القذى عنه إزالة كل ما يعاني منه المؤمن من الألم والمشقة والصعوبة ويدخل السرور على قلبه مثلاً إذا كان مريضاً يمرضه ويعالجه أو مديناً فيؤدي دينه أو مظلوماً فينتصف له أو فقيراً فيساعد على الثراء والخلاصة إن إدخال السرور على المؤمن أحب الأعمال إلى الله ويبعث الله هذا العمل في أحسن صورة ويتجلى لصاحبه ساعة الموت فيبشره بالكرامة الإلهية ولا يفارقه حتى القبر حيث يبشره, كما يبشره في المحشر وعند الخوف والهول ويبقى معه إلى الجنة, وهذا مضمون العديد من الروايات والخلاصة إن هذه الأعمال تواضع للخلق من أجل الله وهي ضد التكبر وقد ذكرت آثارها العظيمة سابقاً.
التواضع للذمي:
عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أن أمير المؤمنين
عليه السلام صاحب رجلاً ذمياً ( يهودياً أو نصرانياً ) فقال له الذمي أين تريد يا عبد الله فقال أريد الكوفة فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين عليه السلام فقال له الذمي ألست زعمت أنك تريد الكوفة فقال له بلى فقال له الذمي فقد تركت الطريق فقال له علمت قال فلمَ عدلت معي وقد علمت ذلك فقال له أمير المؤمنين عليه السلام هذا تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا صلى الله عليه وآله فقال له الذمي هكذا قال, قال نعم، قال الذمي لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة فأنا أشهدك أني على دينك ورجع الذمي مع أمير المؤمنين فلما عرفه أسلم[283].
يعلم من هذا الحديث أن تواضع أمير المؤمنين عليه السلام كان السبب في إسلام ذلك الذمي ويعلم أيضاً أن حق الصاحب في السفر مطلق أي يشمل الرفيق من أي دين ومعتقد, فيجب التواضع له وأداء حق الصحبة حتى إذا لم يكن مسلماً كما هو الأمر في الوالدين فإن التواضع لهما وأداء حقهما واجبٌ مهما كانت عقيدتهما.
وكذلك الجار الذي تجب رعاية حقه حتى إذا لم يكن مسلماً وكذلك أيضاً الأكبر سناً وعزيز كل قوم فإنه ينبغي إكرامهما والتواضع لهما من أي دين كانا ولقد كان عدي بن حاتم قبل أن يسلم كبير قبيلة طيء ووفد على رسول الله ففرش له صلى الله عليه وآله له رداءه حتى لا يجلس على التراب وتأدب عدي ولم يجلس على رداء المصطفى, وكان هذا التواضع من رسول الله صلى الله عليه وآله سبباً في إسلامه.
التواضع في خدمة العائلة:
" نظر أبو عبد الله ( الإمام الصادق ) عليه السلام إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله, فلما رآه الرجل استحيى منه فقال أبو عبد الله عليه السلام اشتريته لعيالك وحملته إليهم أما والله لولا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشيء ثم أحمله إليهم[284] يعلم من هذا الحديث أن شراء لوازم الحياة من السوق وحملها إلى البيت يزيد التواضع وقد أمر به في رواية أخرى وكان الإمام عليه السلام يحبه إلا أنه كان يجتنبه حيث أنه كان مستهجناً لدى العرف آنذاك.
التواضع في نوعية اللباس:
مثال ذلك ارتداء الثياب الخشنة والرخيصة الذي ينفع في زيادة التواضع وكان الأئمة عليهم السلام يحبون ذلك ولكن لأنه بحسب وضع زمانهم لم يكن مناسباً لهم كانوا يتركونه.
في كتاب " كشف الغمة " قال سفيان الثوري دخلت على جعفر بن محمد وعليه جبة خز دَكْناء وكساء خز فجعلت أنظر إليه متعجباً فقال لي: يا ثوري ما لك تنظر إلينا لعلك تعجب مما ترى فقلت له يا ابن رسول الله ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك. قال: يا ثوري كان ذلك زمان إقتار وافتقار وكانوا يعملون على قدر إقتاره وافتقاره، وهذا زمان قد أسبل كل شيء عزاليه ثم حسر ردن جبته فإذا تحتها جبة صوف بياض يقصر الذيل عن الذيل والردن عن الردن وقال: يا ثوري لبسنا هذا لله تعالى وهذا لكم فما كان لله أخفيناه, وما كان لكم أبديناه[285].
تواضع عيسى عليه السلام للحواريين:
قال عيسى يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي قالوا قضيت حاجتك يا روح الله فقام فقبل ( وفي نسخة فغسل ) أقدامهم فقالوا كنا نحن أحق بهذا يا روح الله فقال عليه السلام إن أحق الناس بالخدمة العالم إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ثم قال عيسى عليه السلام: بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل[286].
العلماء أحق بالتواضع:
دقق في هذا الحديث وانظر كيف أن عيسى عليه السلام وهو نبي الله وأفضل أفراد بني البشر آنذاك تواضع بما لا مزيد عليه ولا يتصور أكثر منه, وهو تقبيل أو غسل أرجل أصحابه وأتباعه ومن هم دونه, وعندما قال له الحواريون كان ينبغي أن نفعل ذلك نحن لا أنت قال عليه السلام في جوابهم:
إن العالم أحق من جميع الناس بالتواضع وما قاله عليه السلام من أن العالم أحق بالتواضع له عدة أسباب:
الأول: أن العالم الذي انكشفت له حقيقة الأمر وعرف نفسه والجميع بالفناء والفقر الذاتي وعرف الله بأنه الوجود وعين الكمال والغنى, سيكون تواضعه أكثر من سائر الناس ويبلغ تواضع الإمام علي السلام إلى حد أنه يقول: " وأنا يا رب بعد أقل الأقلين وأذل الأذلين ومثل الذرة أو دونها ".
والثاني: أن العالم يعلم أنه ببركة المتعلمين وأتباعه سيصل إلى الدرجات العالية وثواب إرشاده وهدايته, ولهذا يتواضع لهم.
وأيضاً حيث أن عمل العالم قدوة لأتباعه فيجب أن يكون متواضعاً ليتعلم أتباعه ذلك منه ويتصفون هم أيضاً بهذه الصفة الحميدة كما قال المسيح عليه السلام للحواريين: " إنما تواضعت لكم لكيما تتواضعوا بعدي في الناس ".
وما قاله عليه السلام " بالتواضع تعمر الحكمة " إشارة إلى أن العلم الحقيقي الذي قد يناله الإنسان هو الذي يصقل مرآة قلب الإنسان من كدورة وظلمة العجب والأنانية والكبر والنخوة وأمثالها وينيرها بدلاً من ذلك بالتواضع والإنكسار واللين وأمثالها لترتسم فيها الحكمة.
التلميذ يجب أن يكون متواضعاً:
ومن الجدير بالذكر كما أن العالم يجب أن يكون متواضعاً للحيثيات المتقدمة, فكذلك المتعلم يجب أن يكون متواضعاً في مقابل العالم لمقام العلم الذي عظمه الله تعالى ويؤدي عن هذا الطريق حق العالم, يجب أن يعرف كل واجبه ويعمل بتكليفه.
يقول الشعبي[287] صلى زيد بن ثابت على جنازة ولما قدمت له بغلته ليركب ويرجع أمسك ابن عباس له ركابه فقال زيد لا تفعل ذلك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ابن عباس أمرنا أن نتواضع لعلمائنا وكبارنا فقبل زيد يد ابن عباس وقال: ونحن أُمرنا أن نتواضع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله.
والخلاصة واجب كل عالم أن يعلم أن علمه عطاء إلهي أعطي له بدون
استحقاق فيجب إذن أن يتواضع في مقابل الجاهل ويرحمه ويشفق عليه ويبذل جهده ليصبح عالماً كما وأن واجب الجاهل الخضوع والإنكسار والقبول من العالم حتى إذا لم يكن العالم بحسب الظاهر ذا شهرة وعنوان ومقام, فيتواضع لعلمه.
الحسنان يعلمان شيخاً الوضوء:
والحسنان عليهما السلام مرا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء فقالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا يتوضأ كل واحد منا فتوضآ ثم قالا أينا يحسن؟ قال كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن الوضوء وقد تعلم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما[288].
من نال منه رفعه لا يتضع:
قال الإمام الصادق عليه السلام: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن توا ضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه[289].
ولكي يختتم البحث بذكر سيد الشهداء عليه السلام ليتأمل القاريء العزيز في أحوال أصحابه عليه السلام وأن سبب تواضعهم في مقابله سلام الله عليه جعلهم سادة الشهداء الأولين والآخرين وللتذكر يشار هنا إلى تواضع اثنين منهم.
أدب الحر مع الإمام الحسين عليه السلام:
منذ التقى الحر بالإمام الحسين عليه السلام كان مؤدباً معه, سلم عليه وبعد ساعة من الحوار حلّ وقت الصلاة فقال الحسين للحر أتصلي بأصحابك قال لا بل نصلي جميعاً بصلاتك فصلى بهم الحسين.
وأراد الحسين عليه السلام الإنصراف إلى المدينة " فحال الحر بينهم وبين ذلك فقال الحسين للحر ثكلتك أمك ما تريد منا.
قال الحر: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذا الحال ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه[290].
الخلاصة أن هذه النماذج من التواضع كانت سبب حسن عاقبة الحر إذ أنجاه الله تعالى يوم عاشوراء من حفرة الهلاك الأبدي وأخذ بيده ووضعه مع الإمام الحسين عليه السلام ووفقه إلى التوبة.
جاء إلى الحسين مستغيثاً منكساً رأسه خجلاً ووقع على قدميه عليه السلام قال له ارفع رأسك من أنت " قال جعلت فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان وما كنت أظن أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت وإني تائب إلى الله مما صنعت فترى لي في ذلك توبة[291] ".
وتواضع له الإمام عليه السلام مقابل تواضعه وبشره بقبول توبته والمهم أن تواضعه السابق وفقه للتوبة, إن تواضعه لساعة في يوم عاشوراء طهره من جميع ذنوبه وأوصله إلى درجة أصحاب سيد الشهداء[292].
والواقع أن قصة الحر وعمر بن سعد مع الإمام الحسين عليه السلام هي قصة آدم وإبليس مع الأمر الإلهي فإبليس أبطل بتكبر ساعة على أمر الحق عبادة ستة آلاف سنة كان عبد الله فيها وأصبح مطروداً ملعوناً, وآدم وصل بتواضعه وتوبته إلى درجة الإصطفاء والنبوة.
" العِرق عِرق وهذا الماء العذب والماء الأجاج يجريان في الخلائق حتى ينفخ في الصور ".
العبد الأسود الوفي:
كان جون بن مالك مولى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عبداً أسوداً قال له الحسين عليه السلام أنت في إذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية فقال: يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم والله إن ريحي لنتن وإن حسبي للئيم ولوني لأسود فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم[293].
بعد هذا التواضع والإصرار أذن له الإمام الحسين عليه السلام بالجهاد فقتل خمساً وعشرين وقُتل فأصبح في عداد شهداء كربلاء فوقف عليه الحسين وقال:
اللهم بيّض وجهه وطيب ريحه واحشره مع الأبرار وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد[294].
وروي عن الإمام الباقر عن الإمام السجاد عليهما السلام أن الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى فوجدوا جون بعد عشرة أيام تفوح منه رائحة المسك رضوان الله عليه[295].
" سقطت قطرة مطر من غيمة وعندما رأت البحر الزخار لفها الخجل ".
" قالت حيث يكون البحر ماذا أشكل أنا إن كان هو موجوداً فلست من عالم الوجود ".
" ولأنها تواضعت واحتقرت نفسها أنشأ الصدف بقربها إكراماً لها ".
" متى اتضع من نال رفعة منه إنه يندك في الفناء حتى يصبح موجوداً ".
التواضع يزيدك علواً ورفعة والتكبر يهوي بك إلى الدرك الأسفل[296].
اللهم بحق الحسين وأخيه وجده وأبيه وأمه وبنيه وأصحابه ومواليه صلواتك عليهم أجمعين اجعلنا من الخاضعين الخاشعين المتواضعين لك ولأوليائك أجمعين.
7 - سوء الظن
سوء الظن من الذنوب القلبية والأمراض النفسية وهو سبب كثير من الذنوب ويندر من لا يتلوث به والأصعب أنه لا يُلتفت إلى أنه ذنب, وحيث أنه لا يعتبر ذنباً فلا يتندم صاحبه لأجله ولا يتركه وبالإصرار عليه يصبح - على فرض كونه صغيرة - من الكبائر, وإذا كان مشمولاً لأدلة العفو قبل أن يصبح كبيرة فإنه بواسطة الإصرار والإستخفاف به يصبح ذنباً لا يغتفر.
ومن الواجب على كل سلم أن يعرف حرمة سوء الظن وأن لا يلوث نفسه به وإذا كان ملوثاً به أن يتوب منه فوراً لأن التوبة واجب فوري وبناءاً عليه فيجب أن يذكر معنى سوء الظن وأنواعه ودليل حرمته وطريق العلاج منه.
معنى سوء الظن:
كل قول وفعل يصدر من شخص فهو على قسمين:
1 - تارة يكون حسن ذلك الفعل والقول وسلامة نية صاحبه أو عدم سلامتها واضحاً تماماً ويقيناً بحيث لا يحتمل خلاف ذلك كأن يرى إنسان بأم عينه شخصاً آخر يشرب زجاجة ويتيقن أن ما فيها خمر وهو يشربه مختاراً دون
أي إكراه أو اضطرار أو أن يبقى شخص مع آخر من الظهر إلى الغروب ويذكره بالصلاة ثم لا يصلي, أو أن يخبر جماعة ويرى العقل استحالة اتفاقهم على الكذب أنهم رأوا فلاناً قتل فلاناً... وبشكل عام كلما كان قبح قول الشخص أو عمله وسوء نيته واضحين تماماً ولا مجال أبداً لاحتمال الحسن والصحة فيجوز لآخر أن يسيء الظن به ويوسع في قلبه مكاناً للإعتقاد بسوئه.
2 - وتارة يكون القول أو الفعل الصادر من شخص بحيث لا يمكن اليقين لا بحسن فعله أو قبحه ولا بحسن نيته أو سوئها, وكل من الحسن والسوء محتمل.. مثلاً:
شممنا رائحة الخمر من فم شخص فهنا يحتمل أن يكون شرب الخمر عالماً عامداً ويحتمل أن يكون شربه نسياناً أو جهلاً بأنه خمر أو أن شخصاً أجبره على شربه ومثل ذلك ما إذا كنا مع شخص من الظهر إلى الغروب ولم يصلّ واحتملنا أنه لم يصلّ عمداً, واحتملنا كذلك أنه لم يصلّ نسياناً وكذلك إن رأينا شخصاً خارجاً من منزل امرأة سيئة إذ يحتمل أنه ذهب بهدف فعل قبيح, كما يحتمل أنه ذهب خطأ أو لعمل آخر لرؤية شخص في ذلك البيت أو لشراء البيت أو استئجاره.
وكذلك ما إذا قال جماعة إن فلاناً ارتكب فعلاً قبيحاً فيحتمل أن يكون كلامهم صحيحاً, ويحتمل أيضاً أن يكون خطأ, أو أنهم سمعوا ذلك من شخص مغرض وصدقوه ونقلوه.
وبشكل عام, كل قول وفعل يصدر من مسلم فنراه أو نسمع به ويحتمل أن يكون صحيحاً فحمله على الفساد والإعتقاد بذلك حرام, إلى حد أنه لو أخبر شخص عادل بقبح فعل شخص آخر فلا ينبغي قبول ذلك والإعتقاد به بل
يجب أن تقول لعله الأمر اشتبه عليه أو سمعه من جماعة فحصل له العلم من كلامهم.
والخلاصة لا يصح أن يكون كلام العادل سبباً لإساءة الظن بمسلم ولا يصح كذلك أن يساء الظن بالعادل ويُفسَّق بحجة أنه اغتاب مسلماً بل تحمل غيبته على مورد من موارد جواز الغيبة الإستثنائية إلا إذا كان كلامه لا يمكن أن يحمل على شيء من هذه الموارد عندها يجب حمله على التوبة.
وكذلك مثل ما إذا رأيت عبادة كالصلاة, الصيام, الحج, والإنفاق أو سمعت بذلك واحتملت أن يكون ذلك عن رياء وتظاهر, فما دام احتمال أن يكون ذلك عن إخلاص احتمالاً موجوداً فإن ترك الإحتمال الثاني والإعتقاد بالإحتمال الأول إساءة الظن بمسلم وذلك حرام كما سيأتي.
وما تقدم هو سوء الظن بالخلْق في الأمور العبادية والحسن والقبح الشرعيين وأما سوء الظن في العادات فهو كما يلي:
الحمل على الفساد في الأمور العادية:
وذلك بأن يُحمل قول الشخص الآخر أو فعلُه العاديان على الفساد وعدم الصحة, مثلاً: يرى شخص رجلاً مع إمرأة فيحمل ذلك على الفساد أو أنه لا يجد امرأته أو يراها تتحدث مع شخص آخر أجنبي فيسيء الظن بها دون أي تحقيق أو يقول الطفل في البيت شيئاً فيحمله ذلك على سوء الظن أو يرى اثنين يتحدثان سراً فيتخيّل أنهما يتحدثان عنه فيسيء الظن بهما أو يحتمل لدى حديث شخص أنه يلمح إليه ويكني عنه وهدفه من هذا الحديث الطعن فيه فيسيء الظن بهذا الشخص.
وموارد سوء الظن في الأمور العادية كثيرة ويذكر هنا مورد مهم منها هو محل ابتلاء بشكل عام.
ما يخالف التوقع ليس سبباً لسوء الظن:
من يتوقع من شخص آخر أن لا يصدر منه خلاف رغبته قد يسيء الظن به - إذا صدر منه خلاف ما يتوقع - فيبتلى بذنب سوء الظن, وغالباً ما يكون سوء الظن سبباً للعداوة والحقد والحسد والذنوب الأخرى, مثلاً شخص يتوقع من آخر أن يحسن إليه ولم يعطه شيئاً أو أنه لم يعطه بمقدار ما كان يتوقع فيفسر ذلك بالبخل أو بهدف شيطاني آخر ويسيء الظن به أو طلب منه قرضاً واستعارة شيء فلم يعطه فيسيء الظن به لذلك أو طلب نصرته في أمر فلم ينصره رغم استطاعته فأساء الظن به واعتبره إنساناً سيئاً مع أنه كان باستطاعته أن يحمله على الصحة ويقول: لعله واقعاً لا يستطيع وأنا لا أعلم, أو أنه توقع من شخص أن يحترمه ويكرمه ولم يفعل مثلاً لم يبتدئه بالسلام أو لم يقم له إجلالاً أو لم يمدحه فيسيء الظن به مع أن من المحتمل أن لا يكون ملتفتاً أو أنه سلم ولم تسمع أنت أو أن توقعك هذا هو من الأساس في غير محله.
والسبب الأصلي لهذا النوع من سوء الظن هو حب الدنيا والعلاقة الشديدة بالشهوات وشؤون الحياة المادية.
وحيث أن أكثر الناس لا علاقة لهم بغير الدنيا وشؤونها, وأكثر أولئك الذين لهم علاقة بالآخرة فإن حب الدنيا في قلوبهم أكثر, فلذلك نجد أن سوء الظن هذا شائع بين الناس بل يندر شخص يكون بمأمن من هذا الذنب.
ومنهم من يلمزك في الصدقات:
ومن هنا جاء في الحديث أن الإمام الصادق عليه السلام يقول إن أكثر من ثلثي الناس مبتلون بهذا الذنب كما سيأتي وقد أشير إلى هذا النوع من سوء الظن في القرآن المجيد حيث يقول تعالى:
" ومنهم ( المنافقين ) من يلمزك ( يا رسول الله صلى الله عليه وآله ) في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون ". التوبة 58.
بعض المسلمين بحسب الظاهر إما لأنهم ليسوا مستحقين مالياً أو لأسباب أخرى لم يعطهم الرسول صلى الله عليه وآله شيئاً من الصدقات وكان ذلك خلاف توقعهم ورغبتهم فأساؤوا الظن برسول الله صلى الله عليه وآله وغضبوا منه واعتبروا أن عمله ليس مناسباً, والحال لو أنهم رأوا أن توقعهم في غير محله وليس مناسباً ورضوا بما أعطاهم الله لقنعوا وما سخطوا من تقسيم رسول الله صلى الله عليه وآله ولما ابتلوا بهذا الذنب الكبير كما يقول تعالى في الآية التالية: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ( من الغنى أو الفقر والولد أو عدم الولد والعزة أو الذلة والسلامة أو المرض والأمن أو الخوف ) ورسوله ( من الصدقات التي قسمت ) وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ( من إحسانه ) إنا إلى الله راغبون ". التوبة 59.
والخلاصة أن هؤلاء المسلمين كان يجب عليهم بدل إساءة الظن برسول الله أن يصرفوا النظر عن ميلهم النفسي ويرضوا بعطاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ويعتبروا أن الله كافيهم وحسبهم ويأملوا كرمه وكرم رسوله.
نحن أيضاً أهل هذه الآية:
يقول إسحاق بن غالب: قال لي الإمام الصادق عليه السلام: كم ترى أهل هذه الآية " فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون " قال ثم قال:
هم أكثر من ثلثي الناس[297].
أيها القاريء العزيز... ولأجل تصديق كلام الإمام عليه السلام تأمل قليلاً في حالك وحال سائر المسلمين لترى أننا جميعاً كذلك أي أننا نرضى عن الله حين يعطينا وفق رغباتنا النفسية, أما إذا لم يرَ مصلحتنا في ذلك ولم يعطنا أو رأى مصلحتنا في البلاء وما لا يريح النفس فعندها نغضب.
وأيضاً: نرضى عن الناس عندما يعاملوننا بما يطابق رغباتنا وإذا صدر منهم ما يخالف ذلك نسيء الظن بهم ونسخط.
والخلاصة: حيث أن علاقتنا بالشهوات النفسية والرغبات الدنيوية شديدة, وحيث أنه لم يستطع أي إنسان على الإطلاق أن يحقق رغباته في الدنيا - ولن يصل - فلذلك نحن نسيء الظن دائماً بالله والناس ونظل نعتب عليهما ونشكوهما.
وعدم الرضا عن الناس يوجب التعب والمشقة في الحياة الدنيوية كما أن عدم الرضا عن الله موجب للشقاء والحرمان في الحياة الخالدة " خسر الدنيا والآخرة.. ذلك هو الخسران المبين ". الحج 11.
بناءاً على هذا يجب اعتبار سوء الظن ذنباً كبيراً ومرضاً نفسياً خطيراً وإذا تساهل الإنسان في علاجه فإنه سيؤدي إلى الهلاك والشقاء في الدارين.
سوء الظن بصفات الله وأفعاله:
ما تقدم يرتبط بسوء الظن بالناس أما سوء الظن بالله في صفاته سبحانه وأفعاله. فالكفار الذين يقولون لا وجود لرب العالمين أو أولئك الذين يقولون إنه ليس عالماً بالأمور الجزئية أو بالأعمال التي يؤديها الناس سراً أو الخواطر الباطنية...
وكذلك مثل المسلم الذي يقول باللسان فقط إن الله بكل شيء عليم لكنه
في تصرفاته كالكفار لا فرق, مثلاً في السر لا يعتبر أن الله حاضر ناظر ويتجرأ على الذنب وقد أشير في القرآن المجيد إلى هذا النوع من سوء الظن قال تعالى: " حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون* وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون* وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون* وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين* فإن يصبروا فالنار مثوىً لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين ". فصلت 20 - 24.
الإعتقاد بأن عالم الوجود عبث:
ويدخل في سوء الظن بالله تعالى إنكار كل غير عاقل ينكر الحكمة الإلهية في عالم الوجود أي أن من لا يفهم أصغر جزئية من أجزاء عالم الوجود واعتبر ذلك لغواً واعتقد به فقد أساء الظن بالله الحكيم, وهكذا إلى أن نصل إلى الجاهل المغرور الذي يرى جميع عالم الوجود العظيم لغواً ولا حكمة في خلقه ويظن أنه لا حياة أخرى للبشر بعد هذا العالم يصلون فيها إلى كل سعادتهم...
والخلاصة إن كل منكر للمعاد يسيء الظن بالله خالق الكون سبحانه ويعتبر أن عمله عبث وقد أشار القرآن المجيد إلى هذا في عدة مواضع " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار* أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ". ص 27 - 28.
إن من يرفض أن الإنسان يثاب على أعماله أو يعاقب ويظن أنه لا وجود
للعالم الجزائي ( الذي يجزى فيه الإنسان ) فقد أساء الظن بالله ونسب إليه ما لا يليق ( الظلم وعدم الحكمة ).
" أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ". الجاثية 21.
منكرو النبوة والمعترضون على القضاء:
ومن جملة مصاديق سوء الظن إنكار النبوة والكتب السماوية أي الظن بأن الله لم يعرِّف الإنسان مبدأه ومعاده ولم يرشده إلى طريق سعادته وبخل في إرسال الدليل, وحقاً إنه ظن سيء " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ". الأنعام 91.
ومثل أصحاب هذا الظن أولئك الذين يواجهون حادثة مؤلمة فيعتبرونها خالية من الحكمة والمصلحة ولهذا يسيئون الظن بربهم فتظهر فيهم حالة غيظ واعتراض على القضاء والقدر الإلهيين وكأن الله ظلمهم.
وأصعب من هؤلاء من يصرف قلبه عن الله ولا يأمل الفرج منه مثلاً: شخص يتعرض لضغط الحياة ويصبح فقيراً من جراء الإسراف والتبذير وجهله أو نتيجة امتحان إلهي, أو أنه نظر إلى من فوقه وهم بحسب الظاهر منعمون, فتألم وأساء الظن بالله, كأن له على الله حقاً وله عليه دين " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن* وأما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ". الفجر 15 - 16.
يتوقع الرفاهية لأنه أسلم:
أو شخص جاهل لأنه اعتنق الإسلام وعمل بأحكامه فهو يتوقع أن يكون في حياته الدنيوية مرفهاً دائماً ومرتاحاً وأن لا تواجهه أية حادثة مؤلمة وأن يكون
مسلطاً على عدوه منتصراً عليه باستمرار, باختصار: يريد أن يجري جهاز الوجود وفق ميله النفسي وإذا دارت دورة الفلك بخلاف ميله فإنه يسيء الظن بالله ويبتلى بالشك في دين الحق.
هذا الجاهل بدل إساءة الظن بالله ينبغي أن يسيء الظن بنفسه وتوقعه الذي هو في غير محله وأن يعلم أن التدين هو لتأمين الحياة الخالدة والسعادة في عالم ما بعد الموت أما الحياة المادية الدنيوية فإنها محكومة لسلسلة من العلل والأسباب وضعها الخالق الحكيم جل جلاله ويتساوى فيها المؤمن والكافر والصالح والطالح.
ثم إنه إذا كان من المفروض أن يكون كل متدين مرفهاً في الدنيا دائماً محققاً لأمنياته ولا يقع في العالم إلا ما يسعده فسيفقد أولاً استحقاقه للثواب والجزاء في عالم الآخرة لأنه نال جزاءه في الدنيا.
وثانياً سيصبح كل الناس عندها متدينين طمعاً في تحقيق آمالهم الدنيوية, وعندما يكون منطلق التدين هو الطمع المادي فإنه لا يمكنه أبداً أن يحقق سعادة البشر, وحيث أن بيان ذلك يستدعي الإطالة فإنه يترك إلى مقام أكثر مناسبة.
وقد أشير إلى هذه المرتبة من سوء الظن بالله تعالى في عدة مواضع من القرآن المجيد من جملة ذلك في قصة أحد حيث واجه المسلمون الهزيمة بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وقتل جماعة وجرح آخرون. بعض المسلمين أساؤوا الظن بالله آنذاك لأنهم كانوا يتوقعون أن ينصر الله المسلمين على كل حال ويسلطهم على أعدائهم في حين أن السبب الوحيد لهذا التوقع هو حب الدنيا والعلائق بالمفرحات الدنيوية وليس إعلاء الحق, ثم إن سبب هزيمة المسلمين هو - كما تقدم - مخالفتهم لأمر
النبي صلى الله عليه وآله.
بناءاً عليه كان يجب عليهم أن يسيئوا الظن بأنفسهم لا بالله وقد أشير إلى هذا في القرآن المجيد قال تعالى: " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ". آل عمران 154.
ومن الجدير بالذكر أنه كلما توقف بقاء الحق على الأسباب غير العادية بحيث إذا لم يمد الله المسلمين بالنصر يقضى على الإسلام نهائياً فإن الله تعالى ينصر دينه كما في غزوة بدر حيث أرسل سبحانه خمسة آلاف من الملائكة وتحققت هزيمة الكافرين[298].
توقع استجابة الدعاء فوراً:
ومن مصاديق سوء الظن بالله تعالى: مسلم يدعو الله ويطلب منه حاجته ولأنه يتوقع استجابة دعائه فوراً فإذا لم تتحقق رغبته يسخط على الله ويعتبر ذلك إخلافاً بالوعد ويسيء الظن بالله, في حين لو أنه تنبه إلى شرائط الإستجابة التي من جملتها كون ذلك مصلحة, وما أكثر الطلبات التي يطلبها الإنسان ولكنها في الواقع مضرة له وهو لا يعلم, لو أنه تنبه لذلك لأساء الظن بنفسه بدلاً من إساءة الظن بالله ولأدرك أن توقعه في غير محله.
الظنون الخاطئة سوء ظن بالله:
وأيضاً الجاهل الذي يظن أن العبد المطيع والعاصي سواء عند الله وليس للعبادة أي أثر أو يظن أن توبة العاصي لا تقبل وهي لغو, أو يظن أنه لا أثر للدعاء والتضرع إلى الله وأيضاً مثل الثري الذي يظن أنه إذا أنفق شيئاً من ثروته
فقد أتلفه وأن الله لن يعوض عليه ولن يعطيه أفضل منه ومن هنا قال الإمام الصادق عليه السلام: البخل في الإنفاق سوء ظن بالله[299].
سوء الظن بالله من الكبائر:
إذا كان سوء الظن بالله ناشئاً من إنكار علم الله وقدرته وحكمته وعدالته فهو كفر وصاحبه مرتد لأن وجوب الإعتقاد بهذه الصفات الإلهية من ضروريات الإسلام أي إذا اعتبر شخص أن الله جاهل وعاجز وظالم ويفعل اللغو والعبث فقد خرج من دين الإسلام.
ثم إن هذا النوع من سوء الظن بالله متحد مع إنكار التوحيد أو النبوة أو المعاد[300].
أما إذا لم يكن سوء الظن بالله ناشئاً من إنكار الصفات الإلهية بل هو بسبب العلاقة بمشتهيات النفس وعدم الوصول إلى الأمنيات وضغط البلايا والمنغصات ومواجهة المصائب, إنه لذلك أساء الظن بالله فرغم أنه لا يكون عندها كافراً ومرتداً إلا أن هذه الحالة من سوء الظن حرام قطعاً ومن الكبائر والتخلص منها والتوبة منها واجب فوري لأن حالة سوء الظن بالله هي النفور من الله وبغضه والإعتراض عليه والتمرد على طاعته وعدم الإنقياد له على حد سواء وبعبارة أخرى: حالة سوء الظن بالله ضد الإيمان.
وهذه الحالة غالباً ما تقترن بالقنوط واليأس من رحمة الله, وقد ثبت في كتاب " الذنوب الكبيرة " أن عدم الأمل بالله من الكبائر.
وقد ورد النهي الأكيد عنها في الآيات والروايات والوعد عليها بالعذاب ويكتفى بنقل آية واحدة ورواية:
قال تعالى: " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنم وساءت مصيراً ". الفتح 6.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: والذي لا إله إلا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة والإستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصيره من رجائه وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين[301].
علاج سوء الظن بالله:
إن نور العقل والتدبر في القرآن المجيد يوصلان إلى الإعتقاد بأن الله عالم قادر حكيم وعادل, بالتفصيل الذي مر في قسم العقائد.
وهذا الإعتقاد هو الذي يجعل الإنسان لا يسيء الظن بالنبوة والمعاد ويعصم صاحبه من أن يظن أن المطيع والعاصي سواء ويجعله كذلك يرى نفسه مخلوقاً وعبداً ليس له حق الإعتراض, كما يرى نفسه غريق نعم الله وإحسانه فلا يسخط عليه أو ينصرف عنه وييأس منه.
كما أن على الإنسان أن يعتبر نفسه عاجزاً عن تشخيص ما فيه صلاحه حتى لا يتورط في تحديد أمورٍ والجزم بأنها مصلحة له وإذا لم تتحقق يصبح معرّضاً لسوء الظن بالله تعالى, وعلى الإنسان أيضاً أن يقصر من آماله في الدنيا حتى لا يسيء الظن بالله تعالى بسبب عدم تحققها وليبعد كذلك من ذهنه توقع الراحة الدائمة والسلامة من الإبتلاءات والمصائب وليعلم أن الحياة المادية
للبشر مبنية على أساس التضاد والتزاحم ولذا فلن يكون إنسان بمنجى من مواجهة المنغصات كالإحتياجات والأمراض والعداوات وأنواع الحسد وفي النهاية الموت فإن ذلك من لوازم الحياة المادية ولا يستطيع أي إنسان أن يهرب منها وليس له إلا الصبر وانتظار نهاية هذه الحياة المملة والوصول إلى الحياة الأفضل في عالم ما بعد الموت.
" فليمض هذا الدهر الذي هو أمر من السم ليأتي مرة أخرى دهر كالسكر[302] ".
على الإنسان أن يعلم أنه إذا واجه أي مصيبة واعتصم بقوة الإيمان فسيعوَّض بدلاً من ذلك في عالم الجزاء ويجزيه الله تعالى جزاءاً عظيماً وهكذا يمكنه أن يصمد أمام الحوادث المختلفة ولا يسيء الظن بالله ولا يقطع أمله به خصوصاً إذا علم أنه مهما كان بلاؤه فإنه هناك مبتلون ببلاءات أشد, ورؤيتهم تبعث في نفسه الإستقرار.
وعلى الإنسان كذلك أن يعلم أن الله غفور رحيم وعطوف حتى لا ييأس من قبول التوبة واستجابة الدعاء.
الدنيا مزرعة والله صادق الوعد:
وأن يعتبر أيضاً أن الحياة المادية الدنيوية هي فقط محل الزرع أي تحصيل الإيمان والعمل الصالح وأن الحياة بعد الموت هي محل الحصاد أي الوصول إلى جزاء الإيمان والعمل حتى لا يتوقع الجزاء في الدنيا فيقول إذا أصابه بلاء: أنا مؤمن ومن العاملين ( من أهل العبادة ) فلماذا ابتليت, ثم يسيء الظن بربه.
وإذا تأخرت استجابة دعائه يحتمل أن ما طلبه لم يكن مصلحة أو أن شرطاً من شروط الإجابة لم يتوفر في دعائه حتى لا يتهم الله بخلف الوعد.
ويعتبر أيضاً أن الله صادق الوعد وأن وعده بالتعويض والأجر هو أضعاف الإنفاق في سبيله حتى لا يخشى أن ينقص ماله بسبب الإنفاق في سبيل الله ولا يسيء الظن بربه, وأيضاً ليكون في مقابل كل حادث يواجهه معتمداً على الوعد الإلهي الحتمي حيث يقول سبحانه: " فإن مع العسر يسراً* إن مع العسر يسراً ". الإنشراح 5 - 6 فلا يسيء الظن كذلك بالله بل يحسن الظن به سبحانه وينتظر الفرج.
الإمام الصادق والتاجر المفلس:
كان أحد التجار يتردد إلى الإمام الصادق عليه السلام وذات يوم خسر جميع ثروته وعندما تشرف بخدمة الإمام وشكى له حاله أنشأ عليه السلام ثلاثة أبيات هي:
فلا تجزع إذا أعسرت يوماً فقد أيسرت في الدهر الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر لعل الله يغني عن قليل
ولا تظْنُنْ بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل[303].
والكلمات القصار التي قيلت في بيان الظن بالله قد تم شرحها في أبحاث هذا الكتاب وينبغي أن يفكر القاريء العزيز فيها بدقة.
حسن الظن بالله:
حسن الظن بالله من لوازم الإيمان بل هو حقيقة الإيمان لأن الإيمان بمعنى الإعتقاد, أي بعد معرفة أن الله يتصف بالرحمانية والربوبية والتعهد
لكل ذرة في هذا الكون والرعاية لعبده بما يصلحه, وبعد معرفة سلامة أفعاله تعالى وصحتها وكذلك سائر صفاته الكمالية, بعد معرفة ذلك كله والإعتقاد به عندها يعتقد العبد بالله تعالى, أي يعتقد أنه عظيم ويحبه ويتعلق قلبه به ويعلق آماله عليه ويتذلل له وينقاد ويأمل الوصول إلى أي خير عن طريقه ومنه, هذا معنى الإعتقاد بالله.
إن كل من كانت فيه حالة سوء الظن بالله فقد انقطع عن ربه وابتعد عنه وأصبح لا يحبه وهذا معنى عدم الإيمان.
بناءاً على هذا فحسن الظن بالله على كل حال, واجب والآيات والروايات في الأمر بذلك ومدحه كثيرة ويكتفى - رعاية للإختصار - بذكر حديث واحد من أصول الكافي:
عن أبي جعفر عليه السلام: وجدنا في كتاب علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال وهو على منبره: والذي لا إله إلا هو ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب المؤمنين والذي لا إله إلا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة والإستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصيره من رجائه وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين.
والذي لا إله إلا هو لا يَحسُن ظنُّ عبدٍ مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن لأن الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه فأحسنوا الظن بالله وارغبوا إليه.
قال المجلسي عليه الرحمة في شرح هذا الحديث:
قوله " إلا بحسن ظنه " قيل: معناه:
1 - حسن ظنه بالغفران إذا ظنه ( أي الغفران ) حين يستغفر.
2 - وبالقبول إذا ظنه حين يتوب.
3 - وبالإجابة إذا ظنها حين يدعو.
4 - وبالكفاية إذا ظنها حين يستكفي.
لأن هذه الصفات لا تظهر إلا إذا حَسن ظنه بالله.
5 - وكذلك تحسين الظن بقبول العمل عند فعله إياه فينبغي للمستغفر والتائب والداعي والعامل أن يأتوا بذلك موقنين بالإجابة بوعد الله الصادق فإن الله تعالى وعد بقبول التوبة الصادقة والأعمال الصالحة وأما لو فعل هذه الأشياء وهو يظن أنها لا تقبل ولا تنفعه فذلك قنوط من رحمة الله والقنوط كبيرة مهلكة وأما ظن المغفرة مع الإصرار وظن الثواب مع ترك الأعمال فذلك جهل وغرور ( ... ) فإن الظن هو ترجيح أحد الجانبين بسبب يقتضي الترجيح فإذا خلا عن سبب فإنما هو غرور وتمنّ للمحال[304].
حسن الظن بالله حين الموت:
يجب العلم أن حسن الظن بالله وإن كان واجباً في كل حال إلا أنه قد أمر به في ساعة العمر الأخيرة بالخصوص ليموت الإنسان وهو محسن الظن بربه أي يكون سعيداً بالله وأنه ينقله إلى مكان أفضل وكما كان في الدنيا يعيش على فتات مائدته فسيكون الآن أيضاً على مائدته في عالم البرزخ والعوالم الأرقى وسيمنّ الله عليه مقابل عقائده وأعماله التي لا تذكر بنعم وألطاف جلّى.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يموتنّ أحدكم حتى يحسن ظنه
بالله عز وجل فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة[305].
" وسأل الصادق عن بعض أهل مجلسه فقيل عليل فقصده عائداً وجلس عند رأسه فوجده دنفاً فقال: أحسن ظنك بالله فقال: أما ظني بالله فحسن[306] ".
يتضح من هذا الحديث والروايات الأخرى أنه يستحب تلقين المحتضر حسن الظن بالله كاستحباب تلقين الشهادتين والتوبة والإستغفار.
و " مرض رجل من الأنصار فأتاه النبي صلى الله عليه وآله يعوده فوافقه وهو في الموت فقال كيف تجدك قال أجدني أرجو رحمة ربي وأتخوف من ذنوبي فقال النبي صلى الله عليه وآله: ما اجتمعتا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله رجاءه وآمنه ما يخافه[307] ".
الخاطرة ليست سوء ظن:
من الجدير بالذكر ما ذكر من أن بعض مراتب سوء الظن بالله كفر وارتداد وبعض مراتبه الأخرى من الكبائر إنما هو فيما إذا تركه الإنسان يستقر في قلبه وأفسح له مكاناً فيه, أما إذا كان وسوسة شيطانية وخاطرة نفسية عابرة تخطر بالبال ويستاء الإنسان منها فليس على الإنسان منها شيء ولأنها غير اختيارية فلا يؤاخذ عليها وهي معفو عنها وقد تقدم بيان ذلك في قسم العقائد.
وكذلك سوء الظن بالخلق, فإنه إذا كان وسوسة وخاطرة فليس ذنباً, أما إذا استقر في القلب فهو ذنب, وجميع الذنوب القلبية كذلك كما أشير إلى كل منها في محله.
سوء الظن بالمسلم حرام:
كل قول لمسلم أو فعل يمكن حمله على الصحة والحسن إذا حمله آخر على الخطأ والقبح واعتقد بذلك, فقد أساء الظن بمسلم وذلك حرام طبقاً للآيات والروايات التي يذكر هنا بعضها, أما الآيات:
" ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ". الإسراء 36.
في هذه الآية الشريفة نهي عن اتباع الإنسان ما لا يعلمه سواء في الأعمال البدنية أو الأمور القلبية والمعتقدات, أي لا تفسح مجالاً في قلبك لشيء لا تتيقن صحته, ولا تعتقد به وكذلك:
لا تتلفظ بشيء ليس يقيناً عندك, ولا تقم بأي عمل لا تتيقن صحته.
وبعبارة أخرى: الإعتقاد بشيء ليس يقيناً حرام كما أن الإقدام على عمل ليست صحته يقينية حرام.
والخلاصة: إن الله يحرم في هذه الآية اتباع الظن ومن أساء الظن بمسلم الذي يظن بسوئه أي لا يقين له بسوئه بل يحتمل سلامته وصحته, فإذا جعل ظن السوء بهذا المسلم يستقر في قلبه واعتقد به فقد اتبع الظن وهو مورد نهي الله ومن جملة الشهادات التي يؤديها القلب يوم القيامة الشهادة بالظنون السيئة التي أقرها الإنسان في قلبه وأفسح لها مكاناً فيه كما أشير إلى ذلك في كلمة " والفؤاد ".
لماذا لم تحسنوا الظن بالمؤمنين:
" لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين ". النور 12.
في هذه الآية يوبخ الله ذلك المؤمن الذي سمع كلاماً منافياً حول مؤمن آخر فصدقه وأساء الظن به ويأمر تعالى أن المؤمن ينبغي أن يحسن الظن بالمؤمن ويعتبر أن هذا الكلام كذب وافتراء وحيث أن جميع المؤمنين بمنزلة نفس واحدة, فعلى المؤمن أن يرى هذا الكذب الذي سمعه كالكذب والإفتراء عليه شخصياً وينبغي أن يتألم ويدافع عن أخيه المؤمن تماماً كما يتألم ويدافع حين يكون هو المستهدف بالكذب والإفتراء[308].
إن بعض الظن إثم:
" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ". الحجرات 12.
وقد ذكرت احتمالات في معنى " كثيراً من الظن ":
1 - إنه إشارة إلى كثرة سوء الظن أي أن الآية تريد أن تقول إن الظن على قسمين:
الظن الذي هو إثم, وهو الظن السيء والظن الذي ليس إثماً, وهو الظن الحسن... ولكن ما هو إثم - أي الظن السيء - أكثر ويجتب اجتنابه.
2 - أن هذه الجملة " اجتنبوا كثيراً من الظن " أمر بالإحتيلاط في كثير من الظنون لأن بعضها إثم وحرام وهو الظن السيء وبعبارة أخرى: الظن تارة يكون اتباعه واجباً كحسن الظن بالله والمؤمنين والظن بالأحكام حيث تكون الوظيفة الشرعية ذلك وتارة يكون حراماً كسوء الظن بالله والمؤمنين واتباع الظن حيث يكون تحصيل اليقين ممكناً ولم يجز الشرع العمل بالظن.
وتارة يكون مباحاً وذلك هو اتباع الظن في الأمور العادية وأمور المعاش.
بناءاً عليه يجب اجتناب كثير من الظنون والتفكير فيها أنها من أي قسم وما لم يتيقن الإنسان أنها من القسم الواجب أو المباح فينبغي أن لا يفسح لها مجالاً لتستقر في قلبه ولا يترتب الأثر عليها.
ضع أمر أخيك على أحسنه:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً[309].
قال المجلسي في شرح هذا الحديث:
" أي احمل ما صدر من أخيك من قول أو فعل على أحسن محتملاته وإن كان مرجوحاً من غير تجسس حتى يأتيك منه أمر لا يمكنك تأويله فإن الظن قد يخطيء والتجسس منهي عنه كما قال تعالى: " إن بعض الظن إثم " وقال" ولا تجسسوا "[310].
وقد نقلت جملة " ولا تظنن إلخ " عنه عليه السلام في نهج البلاغة
وحاصل المراد بها أن كل كلمة صدرت من أخيك ولها احتمالان فإن عليك أن تأخذ بالإحتمال الإيجابي الحسن حتى وإن كان هذا الإحتمال هو المعنى المجازي لكلامه أو أنه يدل عليه بالكناية والتورية ولا وجود للقرينة, خاصة إذا ادعى هو أنه أراد ذلك المعنى.
أمثلة على ذلك:
إذا مدح شاعرٌ أهل البيت عليهم السلام وكان ظاهر شعره الغلو, أي نسبةُ الألوهية إليهم - والعياذ بالله - فلا يجوز الحكم بكفر ذلك الشاعر لأن من المحتمل أنه أراد معنى مجازياً صحيحاً ويكون مراده الحقيقي أن آل محمد هم بإذن الله والقدرة التي أعطاهم إياها الله قادرون على كذا وكذا.
قد يكون ذلك مراده حتى إذا لم يذكره في شعره.
وكذلك إذا أورد شاعر مسلم اسم الخمر وآلات الطرب وأمثال ذلك في شعره وأظهر صبابته بها فلا يجوز الحكم عليه بالفسق لأن من المحتمل أن يكون مراده من الخمر السكر في مقام المحبة أو أنه لم يرد العشق المجازي الحيواني بل أراد الحقيقي والروحاني.
وكذلك إذا مدح شخص ظالماً فيجب القول لعل ذلك من باب التقية والإضطرار وأيضاً, إذا أورد عالم كلاماً من كلام الصوفيين أو الفرق الأخرى وتبناه فلا يجوز أن ينسب إليهم ويحكم بكفره أو فسقه لأن من المحتمل أنه لا يؤيدهم إلا في هذه المسألة وأنه يرفض سائر معتقداتهم الباطلة, ونقله لكلامهم هو من قبيل نقل رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام شعراً أو حكمة عن كافر أو عن أشخاص من الفرق الباطلة.
والخلاصة: كلما كان ظاهر كلام المسلم منافياً فيجب حمله على الوجه الحسن, بل لو أن مسلماً أقرّ إقراراً صريحاً بذنبه, كالزنا مثلاً فما دام هناك أدنى احتمال يخالف وجوب إقامة الحد عليه فلا تنبغي إقامة الحد عليه ومن الواضح أنه في الزنا نفسه لا يقام عليه الحد ما لم يقر بذلك إقراراً صريحاً والأحوط أن يسمع منه إقراره في أربعة مجالس وبعدها يقام الحد عليه.
توبة ماعز بن مالك:
أتى ماعز بن مالك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني, فردّه, فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية والثالثة فلما كان في الرابعة أمر به فحفر له حفيرة ثم أمر به فرجم فكان الناس فيه فرقتين فقائل يقول لقد هلك والله وأحاطت به خطيئته, وقائل يقول: " ما توبة أفضل من توبة ماعز ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم[311].
سوء الظن أصل كل فساد:
إذا فكر القاريء العزيز بدقة سيجد أن السبب المهم للتفرقة بين المسلمين والعداوات بينهم والتكفير والتفسيق وإراقة الدماء خصوصاً من قبل الحكومات الإسلامية هو عدم رعاية هذه القاعدة الحمل على الصحة التي هي من أحكام الإسلام البديهية... وقد بلغ الأمر من التنكر لهذه القاعدة بحيث أن معاوية أمر عماله في المدن اقتلوا من ظننتم أنه من شيعة علي - وقبل عدة سنوات تقيأ السيد
أبو طالب اليزدي في المسجد الحرام قهراً وبلا اختيار فوجهت إليه تهمة أنه فعل ذلك عمداً وقطع رأسه.
ما زال ( فريق من ) السنة يكفرون الشيعة ويعتبرونهم مشركين وذنبهم أنهم يقولون يا محمد يا علي يا حسين ويقولون علي ولي الله ويسجدون على التربة ( تقدم الجواب على هذه الشبهة في بحث الشرك ) وإذا أردنا استقصاء مفاسد عدم رعاية هذا الحكم الإسلامي فسيطول بنا الكلام ولذا يترك لفطنة القاريء ودقته. وينبغي الإنتباه إلى قاعدة الحمل على الأحسن إنما تجري في أفعال وأقوال المسلم التي يبدو ظاهرها منافياً أما في غير ذلك من الإقرارات والمعاملات والإخبارات فإذا لم يكن المسلم فاسقاً فظاهر كلامه حجة ويجب ترتيب الأثر عليه بالبيان المذكور في كتب الفقه.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: اطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً. وقال عليه السلام: اطرحوا سوء الظن بينكم فإن الله تعالى نهى عن ذلك[312].
لا تسمعنّ في أخيك أقاويل الناس:
وقال أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً: أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الناس, أما إنه قد يرمي الرامي وتخطيء السهام ويحيك الكلام وباطل ذلك يبور والله سميع شهيد, أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثم قال عليه السلام: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت[313].
ومراده عليه السلام بقوله " الباطل أن تقول سمعت " هو الكلام الباطل الذي تسمعه حول شخص تعرف إيمانه, فيجب على السامع في مثل هذا الحال أن يعتبر ذلك باطلاً ولا يقبله وما لم يرَ ذلك السوء بعينه ويكون مع ذلك لا يمكن حمله على الصحة فلا ينبغي له التصديق به.
الخلاصة إن سوء الأخ في الدين على قسمين: تارة يسمعه الإنسان بأذنه فهو باطل ولا يمكن قبوله, وتارة يراه بعينه بحيث لا يمكن حمله على الصحة فهو حق وصحيح.
أما الكلام الآخر الذي لا يتضمن نقل عيب مؤمن فإذا كان متواتراً[314] أو كان المخبر عادلاً فيجب قبوله أما إذا كان المخبر فاسقاً فلا يمكن قبوله بدون تحقيق وتثبت.
كذب سمعك وبصرك:
عن محمد بن الفضيل قال قلت له ( الإمام الكاظم عليه السلام ) جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكره فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقاة فقال لي يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك وإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدقه وكذبهم ولا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروته فتكون من الذين قال الله " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة[315] ".
الجمع بين الروايتين:
في هذا الحديث يقول الإمام عليه السلام: كذب سمعك وبصرك عن أخيك وفي الحديث السابق قال الإمام علي عليه السلام: والحق أن تقول
رأيت, وهذان المعنيان متنافيان...
والجواب: إن الحديث الأول بيان لتكليف الإنسان تجاه ما سمع من عيب أخيه فإن تكليفه إذا سمع شيئاً أن لا يصدقه إلا إذا رآه بعينه, أي لا يتيقن ذلك ولا يقبله.
والحديث الثاني بيان لتكليف الإنسان تجاه ما يراه من عيب أخيه في حين أنه يحتمل كون بصره مخطئاً أي أنه ليس متيقناً فإن تكليفه أن يقول: لعل عيني أخطأت وخطأ العين كثير... مثلاً يرى شخص زيداً يعمل عملاً ما فيتبيَّن أنه ليس زيد بل هو عمرو, أو يرى بعينه أنه يشرب خمراً فيتبيّن أنه ليس خمراً, والخلاصة: يجب أن يكذب بصره عن طريق احتمال الخطأ ولا يقبل ما تبادر إلى ذهنه من عيب أخيه.
أما إذا تيقن واقعاً بصحة ما رأى ولم يكن يحتمل الخطأ أبداً فما رآه حق كما تنص على ذلك الرواية الأولى إلا أن تكليفه وواجبه أن لا يحدث أحداً بذلك العيب إلا في موارد الضرورة والوجوب الشرعي وقد ذكر ذلك في مستثنيات الغيبة من " الذنوب الكبيرة ".
هل ينسجم حسن الظن مع تكذيب الآخرين:
السؤال الآخر هنا هو أن الإمام عليه السلام قال في هذا الحديث " وإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدقه وكذّبهم " والحال أن تكذيب المؤمن حرام لأنه سوء ظن به فكيف نسيء الظن بعديدين لندفع سوء الظن عن شخص.
والجواب: إن المراد بتكذيب المخبر هو عدم اعتبار خبره دليلاً على صحة وواقعية ما قال بل يقول السامع إن هذا المخبر شهد طبق ما فهمه لكنه أخطأ, وبناءاً عليه لا ينبغي ترتيب الأثر على خبره, دون أن يسيء الظن
بالمخبر بل يحمله على الصحة أي يقول: ما يقوله صحيح بحسب اعتقاده إلا أنه أساء الفهم وأخطأ.
التهمة تزيل الإيمان:
قال الإمام الصادق عليه السلام: إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء[316] أي أن البهتان وسوء الظن يزيل الإيمان.
ضمناً يجب العلم أنه يصدق على سوء الظن في النفس ودون إظهاره باللسان أبداً, أنه تهمة وفي الكافي أورد سوء الظن والتهمة في باب واحد.
درس الإمام الكاظم عليه السلام:
في الإحتجاح للطبرسي عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال رجل من الشيعة لموسى بن جعفر عليه السلام وهو يرتعد بعدما خلا به: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره اعتقاد وصيتك وإمامتك فقال موسى عليه السلام: وكيف ذاك.
قال: لأني حضرت معه اليوم في مجلس فلان, وكان معه رجل من كبار أهل بغداد فقال له صاحب المجلس أنت تزعم أن صاحبك موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره ( أي هارون الرشيد ).
قال له صاحبك هذا: ما أقول هذا بل أزعم أن موسى بن جعفر غير إمام وإن لم أكن أعتقد أنه غير إمام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فقال له صاحب المجلس جزاك الله خيراً ولعن من وشى بك إلي.
فقال له موسى بن جعفر عليه السلام: ليس كما ظننت، ولكن صاحبك أفقه منك إنما قال موسى غير إمام أي إن الذي هو غير إمام فموسى غيره فهو إذاً إمام إنما أثبت بقوله هذا إمامتي ونفى إمامة غيري[317] يا عبد الله متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك هذا من النفاق تب إلى الله ففهم الرجل ما قال واغتم ثم قال: يا ابن رسول الله ما لي مال فأرضيه به ولكن قد وهبت له شطر عملي كله من تعبدي وصلاتي عليكم أهل البيت ومن لعنتي لأعدائكم قال موسى عليه السلام: الآن خرجت من النار.
سوء الظن عدم إنصاف:
أمر الله تعالى المسلمين في القرآن المجيد بالعدل فقال: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان ". النحل 90.
وقال تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى ". المائدة 8.
وفي " معاني الأخبار " يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام أن العدل بمعنى الإنصاف والإحسان بمعنى التفضل ويقول عليه السلام في بيان العدل والإنصاف:
" واجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك وأحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها وأحسن كما تحسب أن يحسن إليك ولا تظلم كما تحب أن لا تظلم[318] ".
وفي أصول الكافي باب الإنصاف والعدل عشرون حديثاً ذكرها يستدعي الإطالة, وفي باب حق المؤمن ستة عشر حديثاً ذكر فيها الإنصاف من حقوق المؤمن على المؤمن وفي الحديث الثالث منها يقول الإمام الصادق عليه السلام:
" .. إن من أشد ما افترض على خلقه ثلاثاً: إنصاف المرء من نفسه حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلا بما يرضى لنفسه.. ".
بعد أن اتضح هذا نقول: كل من أحب أن يحسن الناس الظن به وأن يحملوا أفعاله على الصحة فإن من عدم الإنصاف وعدم العدالة أن يريد ذلك من الناس لنفسه ويكون هو يسيء الظن بهم ويحملهم على الأسوأ, ألا ينبغي بعد هذه الأوامر الأكيدة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام حول الإنصاف أن يعتبر مثل هذا الشخص نفسه بين يدي الله تعالى مذنباً وخجلاً, ثم يتوب من ذنبه الكبير ( عدم الإنصاف ).
ويعتبر أن توقع حسن الظن به من الناس هو في غير محله وحقاً إن لسان حال مثل هذا الشخص كمن يقول:
أيها الناس إن الله حرم فقط سوء ظنكم بي أما سوء ظني بكم وسوء ظن بعضكم بالبعض الآخر فكله حلال.
" تسرق مال المسلم وعندما يسرقون مالك تصيح وتصرخ: لم يبقَ مسلم[319] ".
ومن هنا يعلم أن الشخص السيء الظن إنسان سيء ولأنه منحرف عن طريق الصلاح والسداد فإنه يرى الآخرين منحرفين, ولأنه ليس فيه أي جهة
حسن, فإنه لا يرى في الآخرين أي حسن.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: الشرير لا يظن بأحد خير لأنه لا يراه إلا بطبع نفسه[320].
أي أنه يظن أن جميع الناس مثله وطباعهم وخصالهم كطباعه وخصاله فلذلك لا يرى في أحد أي خير.
مع الشهيد الثاني رحمه الله:
ذكر الشهيد الثاني عليه الرحمة في كشف الريبة مطالب مفيدة حول سوء الظن ولمزيد الإطلاع تذكر هنا:
" واعلم أنه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن وأن يحدث غيره بلسانه بمساويء الغير كذلك يحرم عليه سوء الظن, وأن يحدث نفسه بذلك, والمراد من سوء الظن المحرم عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين به.
وأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه, كما أن الشك أيضاً معفو عنه قال الله تعالى " اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل, وما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يلقيه إليك, فينبغي أن تكذبه, فإنه أفسق الفساق وقد قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة " فلا يجوز تصديق إبليس.
ومن هنا جاء في الشرع: أن من علمت في فيه رائحة الخمر, لا يجوز أن تحكم عليه بشربها ولا تحده عليه, لإمكان أن يكون تمضمض به ومجه أو
حمل عليه قهراً وذلك أمرٌ ممكن فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء " فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به الدم والمال وهو تيقن مشاهدة أو بينة عادلة أو ما جرى مجراهما من الأمور المفيدة لليقين أو الثبوت الشرعي.
( ... ) وطريق معرفة ما يخطر في القلب من ذلك هل هو ظن سوء أو اختلاج وشكّ أن تختبر نفسك فإن كانت قد تغيّرت ونفر قلبك عنه نفوراً واستثقله وفتر عن مراعاته وتفقّده وإكرامه والإهتمام بحاله والإغتمام بسببه غير ما كان أولاً فهو أمارة عقد الظن.
وقد قال صلى الله عليه وآله: " ثلاثة في المؤمن وله منها مخرج فمخرجه من سوء الظن ألا يحققه " أي لا يحققه في نفسه بعقد, ولا فعل, لا في القلب ولا في الجوارح. أما في القلب فبتغيّره إلى النفرة والكراهة وفي الجوارح بالعمل بموجبه والذي ينبغي فعله عند خطور خاطر سوء على المؤمن أن يزيد في مراعاته ويدعو له بالخير فإن ذلك يقنط الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك بعد ذلك خاطر سوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة وهو ضد مقصوده.
ومهما ( وكلما ) عرفت هفوة من مؤمن فانصحه في السر ولا يخدعنّك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الإستصغار وترتفع عنه بدالّة الوعظ بل ليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك, إذا دخل عليك نقصان.
وينبغي أن يخطر بقلبك أن تركه ذلك من غير نصيحتك أحب إليك من
تركه بالنصيحة فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه[321] ".
سوء الظن خاطرة ثابتة:
اتضح جيداً مما تقدم أن سوء الظن بمسلم إذا كان خاطرة وحديث نفس عابراً فلأنه ليس اختيارياً فلا مؤاخذة عليه وهو معفو عنه, أما إذا كان ثابتاً أي لا يحمل من ظنَّ به على الصحة ويفسح مجالاً في قلبه لسوء الظن به ويعتقد به فهو حرام والتوبة منه واجب فوري. وما قاله الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) من أن الذنب القلبي ما لم يصل إلى مرحلة العمل فلا شيء عليه فمرادهم الذنب البدني, وسوء الظن ذنب قلبي, أي إن محله الباطن وقد تقدمت الإشارة لذلك مراراً, وهذا تذكير بمضار سوء الظن:
1 - انعدام الأمن:
سوء الظن حالة انحراف, ومرض نفسي لا ينظر صاحبه إلى الآخر باحترام ولا يعترف بتقواه وطهارته ويرى أنه هو فقط سليم النية طاهر السريرة والطوية, إن المتصفين بسوء الظن لا يرون النقاط المضيئة في حياة الناس الآخرين ولا ينظرون إلا إلى نقاط الضعف المبهمة والمظلمة.
سيء الظن يعتدي على حريم شخصية المسلمين وطهارتهم وسلوكه هذا تحدٍّ واضح لما أمر به القرآن المجيد.
وكما يقول أحد العلماء إن حدود الأمن التي حددها الإسلام للمجتمع لا تنحصر بالروح والمال والكرامة ( ماء الوجه ) بل هناك بالإضافة إلى حدود الأمن الثلاثة هذه حدٌّ رابع وهو تحصين المسلم من أحكام الآخرين الذهنية ليتم
تحصين المجتمع كله عبر ذلك أي أنه لا يحق لأحد أن يهاجم في محيطه الفكري شخصاً آخر ويصدر عليه أحكاماً قاسية ليست مبنية على اليقين, وهذا يعني أن احترام شخصية الشخص تتعدى حدود مرحلة العمل و " الخارج " لتشمل محيط تفكير الآخرين.
إن الإسلام يحرم أي نوع من أنواع سوء الظن الذي يؤدي إلى تلويث المظنون به في محيط الفكر, ويريد الإسلام أن يجتنب المجتمع الإسلامي كل مفردات سوء الظن.
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض روائعه على حدود الأمن الأربعة هذه فقال: " إن الله حرم على المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء ".
وإذا كان حفظ الحدود الثلاثة الأولى يتم عبر الحكومات المادية والمؤسسات الإدارية فإن حفظ حد الأمن الرابع لا يمكن أن يتم ويتحقق إلا في ظل الإيمان بالله تعالى لأن دائرة عمل الحكومات المادية تنحصر بالظواهر, والحيلولة دون تجاوزات الباطن خارج نطاق الظواهر وخارج نطاق عمل تلك الحكومات.
إنه الإيمان بالله فقط الذي يمكنه أن يحول دون هذا النوع من التجاوزات والإعتداءات لأننا نؤمن أن الله تعالى محيط بأعمالنا الظاهرة والباطنة.
2 - تتبع عثرات الآخرين الباطنية:
من أساء الظن بآخر لا يكتفي بذلك بل يحاول التجسس عليه ليجد شواهد على سوء ظنه وهكذا يسلب مسلماً حريته لأن لكل إنسان سلسلة من الأعمال يبيحها الشرع ولا يمنعها إلا أن الإنسان لا يؤدي هذه الأعمال عادةً أمام
الأنظار وبمرأى من الناس ومسمع ولا يرضى أن يطلع الآخرون عليه وهو يقوم بها, وإذا خضع إنسان لمراقبة الآخرين وتابعوا خصوصيات حياته فسيسلب لذة الحرية في العمل ويصبح في جو من المشقة والأذى وانعدام الأمن.
سيئو الظن الفضوليون الذين يدققون في حياة الناس الخاصة ليسوا في نظر نبي الإسلام مسلمين حقيقيين ومؤمنين واقعيين.
ينقل الإمام الصادق عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته[322].
في هذا الحديث اعتبر تتبع عيوب المسلمين دليلاً على عدم صفاء الإيمان القلبي وخلوصه من الشوائب ولعله إشارة إلى أن هذه الخصلة السيئة من آثار الكفر بالله ويوم الجزاء لأن الشخص إذا كان يعتقد أن الله تعالى في كل حال حاضر وناظر وكان أيضاً يعتقد بيوم الجزاء لما تجرأ على هذا العمل القبيح.
والمراد من تتبع الله عيبه أنه سبحانه يظهر عيبه للناس.
أقرب ما يكون العبد إلى الكفر:
قال الصادقان عليهما السلام: أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنفه بها يوماً ما[323].
في هذا الحديث - كما ترى - اعتبر حفظ زلات المسلم ودون إظهارها والإخبار بها ذنباً قلبياً, ويكفي في خطورة هذا الذنب أن مرتكبه أقرب ما يكون
إلى الكفر, وفي بعض الروايات الأخرى أن هذه الحالة هي أبعد حالات الإنسان عن الله تعالى.
3 - الغيبة والفضيحة نتيجتان:
وأيضاً فإن سيء الظن بالناس والفضولي المراقب لأوضاع الناس الداخلية لا يمكنه عادةً أن يمنع نفسه من إفشاء أسرارهم فيفشيها ويغتابهم ويهتك حرمتهم ويفضحهم, وأهمية حيثية المؤمن وكرامته وماء وجهه عند الله تعالى كأهمية روحه ودمه, وهي تتعرض للسحق والهتك من جراء إشاعة سره للآخرين... ومن لوازم الإيمان بالله أن يمتنع الإنسان من إسقاط شخصية أخوته في الدين وإراقة ماء وجوههم وفضحهم وعبر التتبع لعثراتهم[324].
4 - سوء الظن يفسد العبادة:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: إياك أن تسيء الظن فإن سوء الظن يفسد العبادة ويعظم الوزر[325].
إن كون سوء الظن بالله يفسد العبادة ويعظم الوزر واضح من خلال ما تقدم, أما سوء الظن بالناس فلأنه متحد مع العجب بالنفس أي أن من أساء الظن فهو قهراً وحتماً معجب بنفسه, فإذا أدى عبادة في مثل هذه الحال فلأنها عبادة حال العجب فهي باطلة بالتفصيل الذي مر في بحث العجب ثم إنه في حال العجب بنفسه يستصغر حتماً ذنبه وقد ذكر في كتاب الذنوب الكبيرة أن كل ذنب يستخف به صاحبه يصبح كبيرة من الكبائر[326].
5 - سوء ظن الإنسان ينسيه عيبه:
من يصب سوء الظن بالخلق طبعاً له فإنه لا يرى أبداً عيوبه ونقائصه, حتى يكون بصدد علاجها وتزداد عيوبه في كل يوم حتى تهلكه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: سوء الظن يردي صاحبه وينجي مجانبه ويقول أيضاً: اشتغالك بمعايب نفسك يكفيك العار[327].
إن العيوب اليقينية موجودة فيه وهو لا يراها ويرى عيوب الآخرين المظنونة والموهومة ويسيء الظن بهم وهذا عار كبير له, وإذا اشتغل بعيوب نفسه فسينصرف قهراً عن الإشتغال بعيوب الآخرين وهكذا ينجو من العار.
وقال عليه السلام أيضاً: تتبع العورات من أعظم السوءات[328].
وقال أيضاً: تتبع العيوب من أقبح العيب وشر السيئات[329].
وقال عليه السلام: أكبر العيوب أن تعيب ما فيك مثله[330].
وقال عليه صلوات الله وسلامه: الذين يتتبعون عيوب الآخرين ويتحدثون بها ولا يذكرون محاسنهم كالذباب يبحث عن الأماكن الفاسدة والقذرة في بدن الإنسان ولا شغل له بالأماكن السليمة منه[331].
" رؤية عيوب الخلق دوماً ليست مروءة ولا رجولة ".
" انظر إلى ذاتك ففيك كل المعاصي ".
" طريق طالبي الآخرة الكرم والفضل والإحسان ".
" فماذا لك من علائم الرجولة غير القبعة ".
" حاسب نفسك لا تحاسب الخلق يا سعدي ".
" فالبضاعة التي تحملها إلى القيامة هي عمل الفساد[332] ".
المؤمن سيء الظن بنفسه:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " واعلموا عباد الله أن المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها إلى أن يقول: يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس[333] ".
" ارفع بصرك عن عيب الآخرين وانظر في نفسك وأصلح عيبها[334] ".
6 - سيء الظن في عذاب دائم:
حيث أن سيئي الظن لا يستطيعون أن يتصوروا أن أعمال الآخرين خالية من الأغراض والتلوث فإنهم يعيشون دائماً في عذاب روحي وألم نفسي, يعانون من نيران خيالاتهم وظنونهم المضطرمة وسوء الظن لا يترك أثره على روح الإنسان فقط بل إنه بسبب الإرتباط بين الروح والجسد فإن الجسد أيضاً لا يبقى سليماً ويؤثر سوء الظن على الجهاز العصبي ( سمياتيك ) والغدد الداخلية وكثيراً ما يكون سبباً للإختلالات العملية بل العضوية.
وإن قيل إن سيء الظن محروم من السعادة في الحياة الدنيوية والأخروية فهو كلام صحيح ومطابق للواقع " خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ".
7 - غربة سيء الظن:
من كان سيء الظن بالآخرين ويعتبرهم خونة لا يستقيمون في الصداقة ولا يخلصون يضطر إلى قطع كل علاقاته بهم.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليله صلحاً[335] ".
ثم إنه نتيجة خوفه من شر الآخرين وضررهم يصبح ميالاً إلى الفرار من الناس ولا يأنس بأحد.
يقول عليه السلام: من لم يحسن ظنه استوحش من كل أحد[336].
ولذلك فإنه سيحرم من كل الخيرات والبركات التي تترتب على تآلف المسلمين وقربهم من بعضهم.
8 - سوء الظن مرض مسر:
كما أن بعض الأمراض مسرية بحيث إذا جاور الصحيح المريض مرض, فسوء الظن كذلك, إنه نوع مرض نفسي مسر, يجعل المجاور يسيء الظن ويصل الأمر به إلى أن يصبح ذلك طبعاً له.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: " إياك ومعاشرة متتبعي عيوب الناس فإنه لم يسلم مصاحبهم منهم[337] " أي إن مصاحبهم سيبتلى مثلهم بسوء الظن وتتبع عثرات الآخرين وعيوبهم, ولعل المراد أن مصاحبهم سيبتلى أيضاً بسوء ظنهم به, ولن يسلم من شرهم.
سوء الظن سبب الخيانة:
سوء الظن غير المبرر بالزوجة أو الخادم أو الأجير والعامل سبب في حملهم على الخيانة لأن كثرة الأمور التي يثيرها كبير البيت أو صاحب العمل تذكرهم بالخيانة وتلقي في قلوبهم التفكير بها يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
إياك والتغاير في غير موضع غيرة فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم والبريئة إلى الريب[338].
ولعل المراد من السقم هو ذكر التعب والعذاب الناشيء عن التعصب والغيرة في غير ( محلهما ), أو المرض الحاصل من الأذى والغصة أو المرض الروحي والهلاك الأخروي الذي يترتب على مثل هذا التعصب حيث لا ينبغي.
والخلاصة: إن واجب كل عاقل قبل كل شيء أن يختبر زوجته وخادمه وشريكه وبشكل عام كل شخص يريد أن يجعله محل أسراره لأن " الطمأنينة إلى كل أحد قبل الإختبار من قصور العقل[339] ".
فإذا علم صلاحه فينبغي أن لا يسيء الظن به أي إذا رأى أو سمع ما يحتمل فيه الحسن والسوء فلا يحمل ذلك على الأسوأ ولا يتصدى للبحث والفحص والعقاب.
علاج سوء الظن:
يجب العلم أن سوء الظن أحد آثار نقص العقل وضآلته, كما أن من آثار
كمال العقل ورشده عدم الإعتناء بكل ظن وخيال, وما لم يصبح الأمر يقينياً لا يحتمل فيه الخطأ أبداً فلا يعتقد به ولا يتبعه ورشد العقل مرتبط بكسب الإنسان ( وسعيه إلى ذلك ) أي إذا بنى إنسان أمره على اتباع أي ظن فسيبقى عقله كما كان في طفولته صغيراً ولا يكاد يُذكر. ومثل هذا الإنسان سيكون محروماً من كل خير وسعادة, مبتلى بكل شر, لأن من يرى عيب غيره ونقصه فقط فهو لا يرى نقصه ليحاول التخلص منه ويصل إلى شيء من مقومات الكمال إنه لا يرى في نفسه عيباً وشراً ليحاول إصلاحها, وهو باختصار لا يرى عيبه اليقيني ويرى عيوب الآخرين المشكوكة, ولذا فهو يرى نفسه فوق الآخرين, ورؤية الشخص نفسه مبرأً من العيوب دليل صغر عقله وشقائه وحرمانه من سعادة الدنيا والآخرة.
لا تحدثنّ نفسك أنك فوق أحد من الناس:
قال الإمام الصادق عليه السلام: فإن أردت أن تقر عينك وتنال خير الدنيا والآخرة فاقطع الطمع مما في أيدي الناس, وعد نفسك في الموتى ولا تحدثنّ نفسك إنك فوق أحد من الناس.
واخزن لسانك كما تخزن مالك[340].
" روي أن عابداً من بني إسرائيل كان يأوي إلى جبل فقيل له في النوم: إيت فلاناً الإسكافي فاسأله أن يدعو لك فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب فيتصدق ببعضه ويطعم عياله بعضه فرجع وهو يقول: إن هذا لحسن ولكن ليس كالتفرغ لطاعة الله فأُتي في المنام ثانياً وقيل له:
إيت الإسكافي وقل له: ما هذا الصفاء بوجهك فأتاه فسأله فقال له: ما
رأيت أحداً من الناس إلا وقع لي ( خطر ببالي ) أنه سينجو وأهلك أنا فقال العابد: هذه[341] ".
الحمل على الصحة ما أمكن:
لا ينبغي للإنسان العاقل إذا رأى - أو سمع - عملاً منافياً من شخص أن يعتبره فوراً شخصاً سيئاً فيكون بذلك كالطفل الذي يصدق كل ما يواجهه, بل ينبغي أن يبحث عن الإحتمالات العقلية الممكنة يقول مثلاً: لعلي مخطيء في اعتباري هذا العمل منافياً وغير صحيح, لعل ذلك الشخص قام به سهواً أو جهلاً بالحكم أو الموضوع ومن هنا فإن الإنسان إذا رأى من مسلم منكراً فلا يمكنه فوراً أن ينهاه ويزجره لأنه قد يكون فعله عن جهل وعدم اطلاع على حكم الله والنهي في هذه الحال لا يجوز بل يجب إرشاده وتعليمه.
مثلاً يرى شخصاً يبول تجاه القبلة ويحتمل أنه لا يعرف القبلة أو أنه لا يعرف هذا الحكم فيجب إرشاده إلى الحكم أو الموضوع لا نهيه وزجره والإعتقاد بسوئه. ولو فرض أن من فعل المنافي يعرف كونه منافياً فلعله سيتوب منه أو يأتي بعمل حسن يعوض قبح ما فعله ولعل خاتمته السعادة. هكذا ينبغي أن يبحث العاقل في الإحتمالات العقلية ليمنع نفسه من إساءة الظن بالآخرين.
ثم إن هذا الشخص الذي يبدو سيئاً لعله واقعاً ولي من أولياء الله وسوء الظن به وإهانته بمثابة إعلان الحرب على الله كما تقدم في الأبحاث السابقة, ولإثبات هذا يكتفى برواية واحدة.
الإمام الكاظم وشقيق البلخي:
في كشف الغمة عن شقيق البلخي قال: خرجت حاجاً سنه تسع وأربعين ومائة فنزلنا القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف فوق ثيابه ثوب من صوف, مشتمل بشملة, في رجليه نعلان, وقد جلس منفرداً, فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية, يريد أن يكون كلاًّ على الناس في طريقهم, والله لأمضين إليه ولأوبخنه فدنوت منه فلما رآني مقبلاً قال: يا شقيق " اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " ثم تركني ومضى فقلت في نفسي: إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق باسمي وما هذا إلا عبد صالح لألحقنه ولأسألنه أن يحالَّني ( يسامحني ) فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني.
فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري, فقلت هذا صاحبي أمضي إليه فأستحله فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال: يا شقيق اتلُ " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " ثم تركني ومضى فقلت: إن هذا الفتى لمن الأبدال لقد تكلم على سري مرتين.
فلما نزلنا زبالة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماءاًً فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه, فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول:
" أنت ريِّي إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردت الطعاما "
اللهم سيدي ما لي غيرها فلا تعدمنيها, قال شقيق فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملؤها ماء, فتوضأ وصلى أربع ركعات, ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب
فأقبلت إليه وسلمت عليه فردّ عليَّ السلام فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك فقال: يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحاً, فشبعت ورويت وبقيت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً ثم إني لم أره حتى دخلنا مكة فرأيته ليلة جنب قبة الشراب في نفس الليل قائماً يصلي بخشوع وأنين وبكاء فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل, فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح ثم قام فصلى الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً ( سبعة أشواط ) فخرج فتبعته وإذا له حاشية وموالٍ وهو على خلاف ما رأيته في الطريق, ودار به الناس من حوله يسلمون عليه, فقلت لبعض من رأيته يقرب منه: من هذا الفتى؟ فقال هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقلت: قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد[342].
تدريجياً, يصبح حسن الظن عادة:
علاج العجب هو: أن يدقق القاريء في ما ذكر في هذا البحث ويتذكره وإذا وردت على قلبه خاطرة سوء ظن بمؤمن فليحمله فوراً على الصحة ويجعل حسن الظن به يستقر في قلبه ويحسِّن تعامله مع ذلك المؤمن ومهما تكن هذه الروية والطريقة صعبة على النفس في البداية فبعد المداومة عليها لمدة يصبح حسن الظن طبعاً له وخصلة من خصاله, بحيث لا تعود تخطر في قلبه خاطرة سيئة لأن الخاطرة السيئة من الشيطان - كما تقدم - وهو يريد أن يوقع الإنسان في المعصية وعندما يرى أنه يفعل العكس أي يحسن الظن ويحسِّن سلوكه ويحصل بسبب ذلك على الثواب أكثر فإنه لن يلقي في خاطره الخواطر السيئة بعد ذلك.
وحقاً إذا أصبح حسن الظن عادةً للشخص فعندها يتذوق طعم لذة السعادة الدنيوية والأخروية ويتخلص من الآلام والأحزان النفسية المدمرة.
لا تساعد الآخرين في سوء الظن:
في ختام بحث سوء الظن يتم التذكير بأمرين مهمين:
1 - حيث أن أكثر الناس بسبب ضعف الإيمان واتباع النفس والشيطان لا يتركون سوء الظن ويبتلون بهذا الذنب الكبير فإن واجب كل متدين أن لا تكون أقواله وأفعاله بطريقة تسبب سوء الظن والتهمة والإفتراء أي يتصرف بحيث لا يعرض الناس للإبتلاء بهذا الذنب ولا يساعدهم ويعينهم عليه " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ". المائدة 2.
ومساعدة الناس على سوء الظن حرام في حالتين:
إحداهما أن يقصد أن يسيء الناس الظن به فيعمل عملاً صالحاً ظاهره سيء وصحته غير واضحة, وهذا - بالإضافة إلى أنه مساعدة على إساءة ظن الناس به لا شك في حرمته لأنه إهانة للنفس وإراقة لماء الوجه.
وثانيهما أن لا يتعمد أن يسيء الناس الظن به إلا أنه يعلم علم اليقين أنه إذا فعل هذا الفعل فإن الناس يسيئون الظن به حتماً, هنا يعتبر هذا الفعل حراماً لأنه مساعدة على إساءة الناس الظن به
أما الأعمال التي ليست سبباً يقينياً لإساءة الظن, ولا تؤدى بهذا القصد فرغم أنها ليست حراماً إلا أن الأحوط تركها.
ثم إن الشخص المتدين يجب أن يرحم عباد الله ويعتبرهم أخوته في الدين وكما أنه لا يرضى لنفسه أن تتلوث بالذنوب ويبذل كل جهده كي يبقى مصوناً منه, فيجب أن يكون بالنسبة للآخرين كذلك وللإرشاد إلى هذه
الحقيقة قال رسول الله صلى الله عليه وآله" اتقوا مواقع التهم[343] ".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من عرض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء الظن به[344].
مثال من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتكفاً في المسجد فذهبت زوجته صفية لزيارته, ولدى رجوعها مشى معها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قليلاً " فمر به رجل من الأنصار فدعاه رسول الله وقال يا فلان هذه زوجتي صفية فقال يا رسول الله: أفنظن بك إلا خيراً قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخشيت أن يدخل عليك[345] ".
إن الشخص العاقل المتدين لا يصح أن يطمئن إلى تصور أن كل الناس يحسنون الظن به ويحملون كل أعماله على الأحسن... ولا يجتنب - لذلك - مواطن التهم, وعندما يكون رسول الله صلى الله عليه وآله يجتنب مواطن التهم فإن تكليف الآخرين يصبح واضحاً.
لا استثناء في حرمة سوء الظن:
2 - حكم حرمة سوء الظن بالتفصيل الذي مر عام, أي أن سوء الظن بكل مسلم في كل حين وزمان حرام ولا استثناء فيه, أما التجسس أي البحث عن أمور الآخرين السرية وخصوصياتهم وعيوبهم فهو أيضاً حرام إلا عند الضرورة وبالمقدار اللازم.
مثلاً: يريد شخص أن يوقع معاملة مع شخص آخر فإذا بحث حوله قبل إيقاعها ليطمئن إليه فهذا حلال خصوصاً إذا وقع ذلك في زمان ترك أكثر الناس
فيه طريق الصلاح والتقوى ومالوا إلى الفساد بحيث أنه إذا أوقع المعاملة بدون تأكد وتثبت فإنه يحتمل احتمالاً قوياً أن يبتلى بخسارة وضرر بل في مثل هذه الحالة لا ينبغي ترك البحث والتأكد.
وفي بعض الموارد يكون ذلك واجباً[346] مثلاً يريد الشخص اختيار زوجة فينبغي أن يعرف دينها وأخلاقها ليمكنه العيش معها, أو يريد مشاركة شخص فيريد أن يعرف دينه وتقواه ليمكنه ذلك.
والخلاصة: إن سوء الظن بأي مسلم في كل زمان حرام ولكن حسن الظن في المعاملات والتعامل بدون فحص وتثبت مكروه وخصوصاً في زمن غلبة الفساد على أكثر الناس[347].
وفي الموارد التي يكون فيها الإقدام على التعامل فيها مع ترك الفحص خطراً عند العقلاء ويعرض صاحبه للضرر فإن الفحص لازم ولا يجوز تركه.
وهكذا يعلم جيداً أن عدم إساءة الظن بالمسلم لا ينافي الفحص عن حاله أثناء المعاملة, ولمزيد من الإيضاح تذكر عدة روايات:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر[348] أي لا ينبغي التعامل بحسن الظن عندما يغلب الفساد, ولا
ينبغي ترك الفحص بالمقدار الذي يرى العقل لزومه, وليس المراد أنه إذا غلب الفساد فإن سوء الظن يصبح مبرراً لأن سوء الظن بمسلم في زمان غلبة الصلاح وزمان غلبة الفساد هو بشكل عام حرام.
بعبارة أخرى: في حين أن الإسلام حرم سوء الظن بشكل عام وكلي وأمر بحسن الظن فإنه لا يكتفي في المعاملات بحسن الظن فقط خصوصاً في زمان غلبة الفساد, بل إنه يأمر في كثير من المعاملات بالفحص والتدقيق بالمكاتبة والشهود.
صدق المؤمنين:
يقول حماد بن سنان كان لي مال وأردت أن أبعث به إلى اليمن في تجارة, فذهبت إلى الإمام الجواد عليه السلام واستشرته وقلت أريد أن أدفع مالي إلى فلان فقال عليه السلام: أما علمت أنه يشرب الخمر قلت:
بلغني ذلك فقال عليه السلام: صدق المؤمنين فإن الله تعالى يقول في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله: " يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين "[349].
وخلاصة كلام الإمام الجواد عليه السلام: إن الشخص الذي شهدت طائفة من المؤمنين بأنه يشرب الخمر لا يصح عدم الإعتناء بشهادتهم وإعطاؤه مالك اعتماداً على حسن الظن فإن هذا الإعتماد والتصرف ليسا عقلائيين.
إسماعيل وشارب الخمر القرشي:
" كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله ( الصادق ) عليه السلام, دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن فقال إسماعيل يا أبه إن فلاناً يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار، أفَتَرى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من
اليمن فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر فقال إسماعيل هكذا يقول الناس فقال يا بني لا تفعل فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها وحج أبو عبد الله عليه السلام وحج إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت ويقول: اللهم أجرني على فلان واخلف علي فلحقه أبو عبد الله عليه السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له: يا بني فلا والله ما لك على الله هذا ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته فقال إسماعيل: يا أبه إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون فقال إن الله عز وجل يقول في كتابه " يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ". التوبة 61, يقول يصدق الله ويصدق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم ولا تأتمن شارب الخمر إن الله عز وجل يقول في كتابه " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ". النساء 5, فأي سفيه أسفه من شارب الخمر إن شارب الخمر لا يزوج إذا خطب ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه[350] ".
والروايات في هذا المجال كثيرة وفي ما ذكر كفاية.
8 - الحقد
من الذنوب القلبية والإنحرافات النفسية, الحقد, أي عندما يرى إنسان من آخر عملاً غير ملائم أو يسمع به ويغضب ويعجز عن الحيلولة دون ذلك أو تلافيه والقيام بما يعوض له عنه ولا يمكنه أن يسكن غضبه ويبرد قلبه فإنه يفسح في قلبه مكاناً لضرام وعداء لهذا الشخص وهو ما يسمى بالعربية الحقد والبغض, وهو يوجب الشقاء والحرمان من السعادة الدنيوية والأخروية لكل قلب يحل فيه بالتفصيل الآتي.
وبناءاً عليه فإن معرفة خطورة هذا الذنب وأضراره وأسبابه وعلاجه ضرورة لطالب السعادة " ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ". الحشر 10.
يقول في مجمع البيان: لا شك في أن كل من يعادي مؤمناً وينوي الإساءة إليه لإيمانه فهو كافر أما إذا كان ذلك لهدف آخر - غير إيمانه - فهو فاسق.
البغض الحرام:
1 - بغض الله..
كالكافر الذي لا يعرف إلا المادة والصورة وأسباب عالم
الطبيعة وكل تعلق قلبه وحبه متوجه إلى تلك الأسباب الظاهرية التي عرفها واعتبرها مؤثرة مؤمنة للإحتياجات... وإذا قيل له:
أنت مقيم في الجهل والخطأ ويجب أن تعلم أنك وجميع ما عرفت وعلمت كلكم مخلوقات الله ومقهورون له ومحتاجون إليه ورجوعكم جميعاً إلى الله, فإن ذلك الشقي بدل أن ينتبه ويدرك الحقيقة ويقطع علائق قلبه عن كل شيء, ويتوجه إلى العلاقة بالله تعالى وحبه, يفسح مجالاً في قلبه لبغض الله وعداوته بحيث أنه إذا سمع اسم الله وحده يشمئز وينفر ويستاء وهذا البغض أشد مراتب الكفر وعذابه في النار أشد من كل ما عداه ولا نجاة لصاحبه:
" وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ". الزمر 45.
" ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاءاً بما كانوا بآياتنا يجحدون ". فصلت 28.
2 - بغض القضاء الإلهي:
والمراد به أولاً: بغض القضاء التكليفي أي الأحكام التي أخبر الله بها في القرآن المجيد وبواسطة الرسول الأكرم بحيث يغضب من كل حكم لا يوافق هواه ويتنكر له, كأن تكون بينه وبين شخص خصومة على مال فيتلى عليه حكم الله ويقال له بناءاً على حكم الله فدعواك باطلة, وليس لك حق... فيسخط هذا الجاهل على حكم الله ويسخط في قلبه على ربه.
وثانياً: بغض القضاء التكويني كالعزة والذلة, الثراء والفقراء, الموت والحياة, المرض والسلامة والحوادث العامة كالبرودة والحرارة, الجدب وسائر الإبتلاءات العامة فإذا غضب الإنسان بسبب القضاء الإلهي المخالف لرغبته
وهواه وأحلّ في قلبه السخط والإعتراض فحالة البغض هذه حرام وذنب كبير والتوبة منه واجب فوري.
مثلاً يبغض الإنسان شخصاً, وكلما رأى أن الله أعطاه ثروة ومكْنة وعزة فإنه يغضب في قلبه من هذا القضاء الإلهي, أو شخص لدغته عقرب وعانى من ألم اللدغة وعذابها, فيغضب في قلبه من الله تعالى لماذا خلق العقرب حتى لدغته, أو شخص يضيق صدره من الفقر أو لموت أقاربه فيعترض في قلبه على هذا القضاء الإلهي وموارد الغضب على قضاء الله كثيرة. وبشكل عام البغض التكليفي أو التكويني ( للقضاء الإلهي ) حرام وإثم كبير بل بعض مراتبه في حد الكفر بالله وقد أشير إلى هذا الأمر في القرآن المجيد كثيراً ويذكر هنا بعض ذلك.
لا يؤمنون حتى يحكموك:
1 - " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ". النساء 65.
وخلاصة الآية الشريفة أن الإيمان إنما يكون صحيحاً إذا سلم الإنسان في مقابل الله سواءاً كان تشريعياً أو تكوينياً, ولم يعرف قلبه أي اعتراض وتشكيك أما إذا خالف حكم الله ورسوله واعترض وشكك في قلبه فهذه الحالة من أقسام الشرك بالله كما قال الإمام الصادق عليه السلام:
" لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ثم تلا هذه الآية " فلا وربك... " ثم قال أبو عبد الله عليه
السلام: فعليكم التسليم[351] ".
والتأمل الدقيق في معنى الإيمان يوضح أن حالة الإعتراض ضد الإيمان أي أنها كفر بالله لأن الإيمان تسليم وانقياد وتذلل مع محبة وحالة الإعتراض على الحكم التشريعي أو التكويني الإلهيين طغيان وتمرد وتقابل وبغض.
2 - " والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم* ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله ( أي القرآن والأحكام الشرعية ) فأحبط أعمالهم ". محمد 8 - 9.
3 - " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يُذهبنَّ كيده ما يغيظ ". الحج 15.
العلاج, حسن الظن بالله:
على الإنسان أن يعلم أن غضبه وبغضه للقضاء الإلهي غلط وعبث ولا نتيجة له إلا ضرره في الدنيا والآخرة لأنه عاجز ولا يستطيع أن يفعل شيئاً وإذا انتحر فإنه لا يكون قد داوى وجعه ولا أخمد نار غيظه, ويجب عليه بحكم العقل أن يصبر وينتظر الفرج ونصر الله كما وعد سبحانه " إن مع العسر يسراً ". ولا يتغيّر قلبه على الله بحال من الأحوال, وليعلم أن الإنقطاع عن الله هلاك الدنيا والآخرة.
مثلاً: شخص يصبح فقيراً ويمتليء قلبه غيظاً وحنقاً لينظر هل لغيظه هذا نتيجة غير الضرر الدنيوي ( كمرض الجسد والأضرار الأخرى التي يأتي ذكرها ) والضرر الأخروي أي الحرمان من أجر الصابرين بل العذاب بمرتبة عذاب أعداء الله, هل هناك نتيجة غير ذلك, أو شخص مات عزيز يحبه من أقاربه,
فيغضب بعد موته هل يستفيد من غضبه وغيظه شيئاً غير الضرر الدنيوي والأخروي.
الخلاصة إن هذا البغض والغيظ حرام وذنب كبير والتوبة منه واجب فوري وإذا رافق هذه الحالة القلبية صراخ أي صوت خارج عن الحد المتعارف, أو لطم على الرأس والوجه أو نتف شعر أو مزق ثوبه وخمش وجهه فقد ارتكب فاعل ذلك محرمات أخرى وشرح ذلك وبيان خصوصياته مذكور في الكتب الفقهية[352].
ومن الجدير بالذكر أن البكاء والنحيب على الميت إذا لم يتجاوز الحد المتعارف فهو جائز ومستحب.
3 - بغض النبي والإمام والملائكة:
من كان في قلبه بغض لأحد الأنبياء والأئمة فهو كافر خارج من دين الإسلام ومن كان في قلبه بغض لأحد الملائكة فقد ترك ما يجب الإيمان به لأن الإيمان بالملائكة واجب بنص القرآن[353] كاليهود الذين كانوا يقولون لرسول الله
صلى الله عليه وآله حيث أن الذي يأتيك بالوحي هو جبرائيل, وحيث أننا أعداء لجبرائيل فنحن لا نؤمن بك.
وكعداء بعض العوام لعزرائيل ملك الموت رغم أن " من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ". البقرة 98.
وفي الروايات المتواترة تصريح بأن أعداء أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله أسوأ من الكافرين[354].
4 - بغض المؤمن لإيمانه:
من أبغض مؤمناً لإيمانه أي لأنه يعتقد بالله والرسول والآخرة ويهتم بعبادة الله, وبلغ في بغضه حداً بحيث يحب أذاه ومساءته وهلاكه, فهذا البغض من أشد مراتب الكفر لأنه بالإضافة إلى كونه إنكاراً للحق عنادٌ للحق وعداء له " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ". آل عمران 118.
" ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ". آل عمران 119.
" إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم كيدهم شيئاً, إن الله بما يعملون محيط ". آل عمران 120.
5 - بغض المؤمن لمعصيته:
من رأى مؤمناً ارتكب معصية لا يجوز له أن يتخذه عدواً بحيث يفرح لمساءته وأذاه ومحنته لأن المؤمن الذي يعصي لا تكون معصيته لطغيانه وعناده وتمرده على الله بل تكون ناتجة عن الغفلة وغلبة النفس والشيطان, وهو في النهاية سيندم ولأن أصل إيمانه محفوظ فيحرم جعل عداوته تستقر في القلب بل يجب عندما يراه ارتكب معصية أن يشفق عليه ويتحرق لأجله ويحمله على ترك ذلك والندم عليه. والأدلة على حرمة بغض المؤمن وإن كان عاصياً كثيرة يشار هنا إلى بعضها:
في مكتوب الإمام الرضا عليه السلام: كن محباً لآل محمد وإن كنت فاسقاً ومحباً لمحبيهم وإن كانوا فاسقين[355].
قال السيد الراوندي: هذا المكتوب من الإمام عليه السلام موجود الآن عند أحد أهالي قرية " كرمند " من توابع أصفهان وكان الإمام الرضا عليه السلام استأجر جمالاً من رجلٍ حين كان متجهاً إلى خراسان فطلب الرجل من الإمام عندما أراد الرجوع إلى بلده أن يكتب له شيئاً بخطه المبارك ليتبرك به وكان من العامة فكتب له الإمام هذا الحديث ودفعه إليه[356].
قال أمير المؤمنين عليه السلام لميثم التمار: احبب حبيب آل محمد صلى الله عليه وآله وإن كان فاسقاً, وابغض مبغض آل محمد وإن كان صواماً قواماً[357].
عمله قبيح وذاته جميلة:
قال زيد النرسي: قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: الرجل من مواليكم يكون عارفاً يشرب الخمر ويرتكب الموبق من الذنب نتبرأ منه فقال تبرأوا من فعله ولا تبرأوا منه أحبوه وابغضوا فعله.
( قلت فهل يمكنني أن أقول عنه فاجر فاسق فقال:
الفاسق والفاجر من أنكرنا وعادى أولياءنا أما ولينا فرغم أنه عاصٍ إلا أنه ليس خبيث الذات فقل عنه: فاسق العمل مؤمن النفس, خبيث الفعل طيب الروح والبدن[358] ).
ولمعرفة لزوم محبة المؤمنين لبعضهم وحرمة بغض المؤمن يراجع كتاب الإيمان والكفر من أصول الكافي.
ويجب العلم بأن الروايات الواردة في هذا المقام ليست مختصة بالمؤمن الذي لا يصدر منه ذنب أبداً وظاهرها عموم المؤمنين.
ما تقدم لا ينافي النهي عن المنكر:
وتسأل: روي في باب النهي عن المنكر عن أمير المؤمنين عليه السلام: " أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة " وبناءاً عليه فبغض أهل
المعصية من المؤمنين جائز بل واجب.
والجواب: المراد بأهل المعاصي الذين يستمرون في ارتكاب المعاصي ويصرون عليها, لا المؤمن الذي يصدر منه ذنب ثم لا يعود إليه ويتوب منه.
ثم إن ذلك الذي يستمر على الذنب يجب أن يكون المؤمن بظاهره فقط مغضباً منه ويفهمه أن غضبه بسبب ذنبه ليتركه, لا أن يفسح مجالاً في قلبه لبغضه والحقد عليه.
ومع ذلك فإذا كان النظر إليه بغضب يجعله أكثر إصراراً على المعصية, بينما إذا تمَّ التعامل معه بلين ونصح فإن الأمل بتركه الذنب أكثر مما إذا تعاملنا معه بقسوة عندها يكون النظر إليه بغضب حراماً.
مداراة المخالفين:
يجب العلم أيضاً أن حرمة بغض المؤمن لا تختص بالشيعي الإثني عشري بل يشمل هذا الحكم كل الفرق الإسلامية غير النواصب أي الذين هم أعداء أهل البيت عليهم السلام[359] وبناءاً عليه فلا يحق للشيعي أن يجعل بغض
مسلم من جميع الفرق يستقر في قلبه ويعاديه ويخاصمه وقد ورد في روايات كثيرة الأمر باللين مع المخالفين والإنسجام معهم وحسن السلوك والإشتراك في جماعتهم ( صلاة الجماعة ) وعليه فإن الذين يغادرون المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وآله أثناء انعقاد الجماعة ولا يصلون, إنما هم يعملون خلاف التكليف, ويجب عليهم الإلتحاق بالجماعة والإقتداء وصلاتهم أيضاً صحيحة.
6 - بغض المؤمن لظلمه:
إذا آذى مسلم شخصاً, مثلاً: قتل أحد أقاربه أو ضربه هو أو ضرب أحد أقاربه أو جرحه أو سرق ماله أو منعه حقه أو أسمعه ما يسيئه وأمثال ذلك من الأمور المحرمة شرعاً والتي توجب العداوة قهراً فهناك ثلاث حالات لقلب هذا
الشخص في مجال بغض هذا المسلم الظالم وهي: الحرمة, الإباحة, الإستحباب.
1 - الحالة الحرام: هي أن يحقد قلبه على هذا المسلم أكثر مما يستحقه الظلم الذي صدر منه, مثلاً: ضربه كفاً فيحقد عليه حقداً لا يعوضه ضربه كفاً كما ضرب بل إنه إذا ضربه عشر مرات فإن الحقد الكامن في قلبه عليه لا يزول ويفرح بكل مصيبة تحل به ولأنه ضربه هذا الكف فإنه يتمنى أن يُسْحَق, يفتقر, يموت ابنه, يمحى من الوجود, أو إذا جرحه يتمنى أن يقطع إرباً إرباً ويبقى قلبه مملوءاً حقداً عليه إلى آخر عمره ويستاء إذا أصابه خير ويفرح إذا أصابه شر...
الخلاصة إن البغض لمسلم أكثر مما يتناسب مع ظلمه حرام لأن البغض الزائد يدخل تحت أدلة حرمة بغض المؤمن التي تقدمت الإشارة إلى بعضها ويذكر الباقي في ما يأتي.
قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها ( ... ) إنه لا يحب الظالمين ". الشورى 40.
قال الإمام الصادق عليه السلام: إن العبد ليكون مظلوماً فما يزال يدعو حتى يكون ظالماً[360].
قال المجلسي: " يفرط في الدعاء على الظالم حتى يصير ظالماً بسبب هذا الدعاء كأن يكون قد ظلمه بظلم يسير كشتم أو أخذ دراهم يسيرة فيدعو عليه بالموت والقتل والفناء أو العمى.... " ثم ذكر وجوهاً أخرى[361] ".
المعاملة بالمثل جائزة:
2 - الحالة المباحة: هي بغض الظالم بمقدار ظلمه[362] وبالمقدار الذي حدده الشرع الإسلامي وذكر في كتاب القصاص والديات, ثم بعد الإقتصاص لا يبقى في قلبه بغض له.
" ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ". الشورى 41.
" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ". النحل 126.
" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ". البقرة 194.
وحيث أن الإنسان قد يتجاوز الحد حين الإقتصاص فإن الله تعالى أمر بالتقوى والإحتياط وعدم تجاوز الحد.
الكل في هذه الأحكام سواء:
يجب أن نعلم أن هذا الحكم برعاية الحق والعدالة في العداء والإنتقام من الظالم يشمل جميع الناس على حد سواء المسلم منهم والكافر, فإذا ظلم الكافر فلا يصح عداؤه والإنتقام منه بأكثر مما يستحقه على هذا الظلم.
قال الإمام الصادق عليه السلام: إنما المؤمن من إذا سخط لم يخرجه سخطه من الحق[363].
وقال الإمام الباقر عليه السلام في صفات المؤمنين: " وإذا ما غضبوا لم
يظلموا[364] " وقال في وصف المؤمن " لا يغرق في غضبه[365] ".
العفو أفضل:
3 - الحالة المستحبة هي العفو أي أن لا يغضب من الظلم الذي لحقه, ويتصرف على أساس كأنه لم يكن أي لا يحمل في قلبه عداوة الظالم ويعفو عن القصاص وقد ورد الأمر في القرآن كثيراً بهذا الخلق الذي برضاه الله تعالى والذي هو من صفات الأنبياء وعظماء الدين.
كما ورد مدحه في القرآن كثيراً والوعد عليه بثواب بغير حساب ولمزيد الإطلاع يشار هنا إلى بعض ذلاك:
" فمن عفا وأصلح فأجره على الله ". الشورى 40.
" ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ". الشورى 43.
" ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ". النحل 126.
" خذ العفو وأمرْ بالعرف وأعرض عن الجاهلين ". الأعراف 199.
" وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ". النور 22.
أي أن عفو الله عنكم في مقابل عفوكم عن بعضكم.
" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ". فصلت 34 أي: الخلق الحسن كالصبر والطهارة والحلم والمداراة ليس في الجزاء والنتيجة مثل الخلق السيء كالغضب والقسوة, والشدة, والحدة والإنتقام. والمراد بإدفع
بالتي هي أحسن أي سكّن الغضب بالحلم والذنب بالعفو واللغو بالتغافل وعدم الإكتراث والظاهر من كلمة أحسن أن المراد ليس أن تدفع السيء بالحسن بل ادفعه بالأحسن مثلاً: إذا أساء إليك شخص فالحسن أن تعفو عنه ولا تحمل في قلبك حقداً عليه والأحسن أن تحسن إليه وتحبه.
" من السهل الجزاء على السوء بالسوء إن كنت رجلاً فأحسن إلى من أساء[366] ".
" فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ". فصلت 34.
" طوق العدو بألطافك, فلا يمكن قطع هذا الطوق بالشفرة ".
إذا رأى العدو الكرم واللطف فلن يجد الخبث إلى وجوده سبيلاً.
وإذا عاملت صديقك بشدة وضيق فلن يرى لك حسناً ولا حرمة.
إذا واجهت أيها السيد أعداءك بالخلق الحسن فسرعان ما يصبحون أصدقاء[367] ".
" وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ". فصلت 32 لأن الإنتقام دليل ضعف النفس وسرعة التأثر, ومن لا تستفزه التصرفات المنافية بل يواجهها بالمحبة والإحسان فإن روحه نتيجة تكرار الصبر أصبحت كبيرة وقوية فأمكنه أن لا يدع الغضب والبغض والحقد تحتل مواقع في قلبه وامتلك بدلاً من ذلك العفو والإحسان.
والكاظمين الغيظ:
" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت
للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ". آل عمران 133 - 134.
كانت جارية للإمام السجاد عليه السلام تصب الماء على يده فسقط الإبريق من يدها وأصاب رأسه فشجه فرفع الإمام رأسه ونظر إليها فقالت: والكاظمين الغيظ قال: قد كظمت غيظي. قالت والعافين عن الناس قال قد عفوت عنك قالت والله يحب المحسنين قال فاذهبي فأنت حرة لوجه الله[368].
هل بغض الظالم غير اختياري:
وربما قيل: إن عداء الظالم المؤذي قهري ومن لوازم البشرية ولوازم البعد الحيواني في الإنسان وباختصار إنه ليس اختيارياً ليكون مورداً للتكليف بالحرمة والمؤاخذة والعقوبة.
والجواب: ما هو قهري وغير اختياري, هو خطور البغض في القلب أما فسح المجال له وإحلاله القلب والحفاظ على استمراره, فلا شك في أنه اختياري, لأن الإنسان إذا فكر بأضرار الحقد الآتي ذكرها والآيات والروايات في ذمه والإيمان بالمواعيد الإلهية في ثواب العفو والتسامح فإنه يستطيع أن يحول دون تلوث قلبه بالبغض...
إن الحقد كسائر الذنوب القلبية التي ثبت في بحث كل منها في محله أنه اختياري ومورد للتكليف والمؤاخذة بالأدلة التي ذكرت وتأتي.
هل يدخل الحاقد الجنة:
ليتأمل القاريء العزيز بدقة في هذا المجال في حال من هو من جهة
الإيمان والعمل مستحق للجنة إلا أنه يموت حاقداً على مؤمن فهل يستطيع أن يدخل الجنة مع وجود هذا التلوث فيه, مع أن الجنة مكان طاهري القلوب الذين ليس فيهم من أي جهة ذرة من الأسى والحزن, إن أهل الجنة هم الذين يفرحون للقاء بعضهم بالعكس من أهل النار الذين يعتبر لقاؤهم لبعضهم عذاباً إضافياً لهم.
إذن المؤمن الذي يستحق الجنة ويموت حاقداً يجب أن يبقى سنين في البرزخ ومواقف القيامة يواجه الإبتلاءات ليطهر من هذا التلوث ويستطيع أن يدخل الجنة وينعم بها ومن هنا يبيّن تعالى في القرآن المجيد أن المؤمنين يطهرون قبل دخول الجنة من ذنب الحقد الخطير ويقول سبحانه.. " ونزعنا ما في صدورهم من غل ". الأعراف 43.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن العبد ليحبس عن ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن[369].
ولعل هذا إشارة إلى الحقد والحسد اللذين لا يستطيع صاحبهما حتى إذا كان من أهل الجنة أن يدخل الجنة ويجب أن يحبس حتى يطهر منهما.
وبناءاً على هذا وبعد التأمل في هذه العبارة القصيرة هل يفسح عاقل - أمله الوحيد في العالم الحصول على الإستقرار في العالم الأبدي بحيث لا تواجهه أية مشكلة - المجال للحقد في قلبه, هل سيبقى في غضب وحنق دائمين على مؤمن, وإذا كان شخص كذلك فهذا دليل ضعف إيمانه.
هل العفو استسلام للظالم:
وتسأل: بناءاً على أن البغض والغضب والإنتقام حرام, إذن يجب أن
يبقى المسلم مسكيناً دائماً يستسلم للظلم والجور ولا يصرخ وإذا كان الإسلام يأمر بالعفو والإحسان فيجب أن يصرف المسلم النظر عن حقه ولا يقتص وهذا يوجب اختلال النظام الإجتماعي وجرأة الظالمين.
والجواب: إن البغض والغضب والإنتقام المحرم بعد وقوع الظلم والجور هو ما زاد على مقدار الظلم الذي لحق بالشخص أما إذا كان بذلك المقدار فليس حراماً بالتفصيل المتقدم.
أما قبل وقوع الظلم فإن الواجب على كل مسلم أن لا يستسلم للظلم وأن يواجه الجور ويدافع عن ماله وعرضه وروحه بالتفصيل الآتي:
الدفاع واجب:
عندما يبتلى المسلم بظالم يستهدف روحه أو زوجته أو ابنه فإن الواجب على هذا المسلم إذا كان يستطيع أن يقاوم ويدافع عن دمه وزوجته وولده حتى إذا كان لا يظن السلامة.
وإذا كان لا يستطيع المقاومة وكان يستطيع الفرار فإن الفرار واجب لينجو بنفسه.
وإذا استهدف الظالم ضربه أو جرحه أو نقص عضو من أعضاء بدنه فإن حكم ذلك كحكم استهداف قتله والدفاع هنا واجب.
أما إذا استهدف الظالم ماله فإذا كان ذلك المال قليلاً ولا يكاد يذكر كحذاء قديم لا يهتم به فإذا أراد لص أخذه فالدفاع ليس واجباً بل هو جائز أما إذا كان المال كثيراً ومهماً فالمشهور بين الفقهاء أن الدفاع عنه واجب وقال بعضهم إن الدفاع واجب إذا كان ذلك المال واجباً كأن يكون رأسمال الشخص وهو محتاج إليه.
ويجب العلم أن الدفاع عن المال إنما يجب فيما إذا اطمأن الشخص إلى سلامته أما إذا ظن أن هذا الدفاع عن المال يعرض روحه للخطر كأن يكون السارق مسلحاً وهو أعزل لا سلاح معه فالدفاع هنا ليس جائزاً لأن حفظ الروح مقدم على حفظ المال ولمعرفة أحكام الدفاع تراجع كتب الفقه.
عدم الثأر ليس استسلاماً للظلم:
الخلاصة يحرم به على كل مسلم الإستسلام للظالم وعدم التصدي له, إلا أنه إذا نزل به ظلم فليس واجباً عليه أن يثأر ويقتص بل هو مخير بين العفو وصرف النظر أو المطالبة والإقتصاص مثلاً, إذا ضربه ظالم أو جرحه أو بتر عضواً من بدنه فيستطيع أن يعفو ويستطيع أن يقتص أو يطلب الدية طبقاً لما ورد في كتاب الحدود والديات.
أو إذا سرق ماله فيستطيع أن يطالب بعين المال إذا كان ما يزال موجوداً أو بمثله وقيمته إذا كان قد تلف دون أية زيادة, كما يستطيع أن يصرف النظر إلا إذا كان المال مما يجب حفظه كأن يكون أمانة أو رأس مال عمله فهنا تجب المطالبة.
وقد اتضح مما ذكر أن مورد وجوب الدفاع عن الظلم هو قبل وقوعه ومورد الأمر الإستحبابي بالعفو هو بعد وقوعه فلا تنافي بين هذين الحكمين على الإطلاق.
العفو واختلال النظام:
وأما ما ذكر من أن العفو يوجب اختلال النظام ويسبب جرأة الظالم فجوابه أن ما يوجب اختلال النظام هو العفو عند إجراء الحدود الإلهية عند اجتماع الشرائط بالتفصيل المذكور في كتاب الحدود وفي سورة النور يقول تعالى:
" ولا تأخذكم بهما رأفة ". النور 2.
لأن زنا الزاني إذا اتضح بحيث شهد به أربعة شهود عدول ثم لم يقم عليه الحد فإن ذلك مدعاة لرواج الزنا ويزول لدى الناس قبحه وكونه من الكبائر وكذلك اللواط والسرقة والقذف وشرب الخمر وغير ذلك مما ذكر في الشرع له حد واجب.
وأما العفو عن المظالم الجزئية فهو بالإضافة إلى أنه لا يوجب اختلال النظام إنما يوجب استحكام النظام الإجتماعي وتقويته لأن العفو سبب زيادة العلاقة والمحبة كما تقدم وهي سبب في تماسك المجتمع وقوته.
العفو يمنع الظلم غالباً:
وأما أن العفو سبب للجرأة على الظلم وزيادته فنقول:
ليس هذا عاماً بل غالباً ما يكون بعكس ذلك أي إذا عفي عن الظالم فإن ظلمه لا يتكرر خاصة إذا استتبع العفو إحسان إليه فإن ذلك يكون سبباً في قوة العلاقة والمحبة بين الطرفين كما مر.
نعم إذا كان الظالم قاسياً وشقياً وتيقن المظلوم أنه إذا تركه وتجاوز عنه فإن ذلك يشجعه على الظلم فلا ينبغي في مثل هذه الحال أن يعفو عنه.
والشواهد التاريخية على أن العفو يمنع الظلم كثيرة بل هو سبب لخيرات جمة, ومن هذه الشواهد:
النبي يعفو عن قاتل عمه:
عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة عن أذى المشركين له وكان أذىً بالغاً لا يحصى, واعتنقوا الإسلام وقد حسن إسلام كثير
منهم, كما عفا عن " وحشي " قاتل حمزة عليه السلام وكان هذا التسامح سبباً في إسلامه, وفي نهاية المطاف قتل أكبر الأشقياء الذي كان سداً في طريق الإسلام والمسلمين أي مسيلمة الكذاب.
وسيد الشهداء عليه السلام عفا يوم عاشوراء عن الحر الرياحي فكان ذلك سبباً لوصوله إلى أعلى درجات الشهادة.
عند الإعتذار يصبح العفو لازماً:
يجب العلم أن ما ذكر من استحباب العفو والإحسان إنما هو في العفو الإبتدائي أي أن المظلوم يبادر إلى العفو ودون أن يطلب الظالم منه ذلك أما إذا ندم الظالم على فعله وطلب من المظلوم بخجل أن يعذره فاللازم قبول عذره والعفو عنه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي من لم يقبل من متنصل عذراً صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي[370].
وقال صلى الله عليه وآله: اقبلوا العذر من كل متنصل محقاً كان أو مبطلاً ومن لم يقبل فلا أناله الله شفاعتي[371].
وقال الإمام السجاد عليه السلام: إن شتمك رجل من يمينك ثم تحول إليك عن يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره[372].
وفي كشف الغمة عن الإمام الكاظم عليه السلام: " وروي أن موسى بن جعفر أحضر ولده يوماً فقال لهم: يا بني إني موصيكم بوصية من حفظها لم
يضع معها إن أتاكم آت فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهاً ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره[373] ".
7 - بغض المؤمن لعدم مراعاته الآداب:
إذا رأى شخص من مؤمن خلاف ما يتوقع أو رآه ترك بعض الآداب العرفية فأبغضه لذلك فهذا البغض حرام قطعي وذنب كبير, مثلاً: نوى هذا الشخص أن يقترض من مؤمن وهو يتوقع أنه سيلبي حاجته فوراً وحيث أنه لم يعطه فإنه يتخذه عدواً.
أو طلب استعارة كتاب أو شيء من الأثاث من آخر ولأنه كان يتوقع أن يعتبره أميناً فرأى منه خلاف ذلك فإنه يحقد عليه.
أو أنه كان يريد إذا دخل أن يقف له الآخر ولأنه لم يقف فإنه يعاديه.
أو كان يتوقع إذا دعاه إلى منزله فإنه سيلبي فوراً, أو كان يتوقع أن يدعوه هو إلى بيته فلم يدعه فإنه كذلك يتخذه عدواً.
وأسوأ من كل شيء العداوات الناشئة من التوقعات الخاطئة والتوهمات الممتزجة بالكفر, كالعداوة الناشئة مثلاً من أن صاحب دكان يرى أن شخصاً آخر افتتح دكاناً قريباً منه أو صاحب عمل يرى أن آخر بدأ عملاً مشابهاً قريباً منه فيحقد عليه لأنه تسبب في قلة رزقه غافلاً عن أن الرزق بيد الله, والواقع أن عداوة الزميل في العمل وإقرارها في القلب من أسوأ أنواع الحقد.
ويشار هنا إلى بعض الروايات في حرمة بغض المؤمن:
في سخط الله, ولا يقبل عمله:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ومن بات وفي قلبه غش لأخيه
المسلم بات في سخط الله وأصبح كذلك وهو في سخط الله حتى يتوب ويرجع وإن مات كذلك مات على غير دين الإسلام[374].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءاً[375].
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: لا هجرة فوق ثلاث[376].
لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[377].
والمراد من الهجرة والهجران قطع العلاقات القلبية وخيط المحبة والإلفة, والنفور منه والإنزجار قلباً من الشخص الذي رأى منه خلاف توقعه ( في الأمور الدنيوية ) أو تقصيراً في حقوق العشرة والصحبة أو وقع بينهما نزاع وجدال.
وإنما قال في الحديث أن الهجرة أكثر من ثلاثة أيام حرام لبيان المرتبة الشديدة لذنب بغض المؤمن أي أن هذا البغض إذا استمر ثلاثة أيام فإن ذنبه يصبح أصعب وأشد.
وأما في خصوص الأيام الثلاثة فإن مقتضى إطلاق سائر الأدلة أن هجران الأخ فيها وبغضه ذنب من أول لحظة استقر بغضه في القلب, إلا أنه بعد ثلاثة أيام يصبح أشد.
السابق إلى الجنة:
عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام ولم
يكن بينهما ولاية فأيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب[378].
وقال الإمام الباقر عليه السلام: إن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدد ثم قال فزت فرحم الله امرءاً ألّف بين وليين لنا يا معشر المؤمنين تألّفوا وتعاطفوا[379].
وخلاصة الحديث أن العداوة والهجران من خداع الشيطان والشيطان كامن للمؤمنين يسعى أن يسلبهم دينهم فإذا وصل إلى مبتغاه سعد واستراح.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر المسلمان فإذا التقيا اصطكت ركبتاه وتخلعت أوصاله ونادى يا ويله ما لقي من الثبور[380].
وربما استحقا اللعنة:
قال المفضل: سمعت أبا عبد الله ( الإمام الصادق ) عليه السلام يقول: لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم قال عليه السلام: لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس له عن كلامه ( لا يتغافل ويتنازل ) سمعت أبي يقول: إذا تنازع اثنان فعازَّ أحدهما الآخر ( طلب العز عليه ) فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه: أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه فإن الله تعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم[381].
وخلاصة الحديث أن الشخصين اللذين يتهاجران ويغضب كل منهما من الآخر وتستقر عداوة كل منهما في قلب الآخر إذا استمرا على ذلك فهما معاً مقصران آثمان والأمر في الظالم واضح وأما المظلوم فلأنه يستطيع أن يزيل غضبه وغضب الظالم كذلك بأن يذهب إليه ويقول له أنا أسأت, ظلمت[382] نفسي ) وفي الروايات أن من جملة حقوق المؤمنين على بعضهم الحفظ من الوقوع في الذنب.
من أدب طلب الحوائج:
قال الإمام الصادق عليه السلام:
لا تسألوا إخوانكم الحوائج فيمنعونكم فتغضبون وتكفرون[383].
وفي هذا الحديث اعتبر الغضب على المؤمن لسبب دنيوي في حد الكفر وحتى لا يبتلى المؤمن بذنب خطير من هذا النوع فقد أمر عليه السلام أن نجتنب طلب الحوائج ما استطعنا خوف أن لا يلبى الطلب فيتلوث المصدود بذنب بغض المؤمن.
ونقل عليه السلام عن آبائه الطاهرين: لا تقبل شهادة ذي شحناء[384].
وكذلك: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمز على أخيه[385].
مع المحقق الحلي والشهيد الثاني:
قال المحقق في الشرائع: الحسد معصية وكذا بغضة المؤمن والتظاهر بذلك قادح في العدالة[386].
أي أن بغض المؤمن ما لم ينكشف فهو ذنب باطني وإذا انكشف سقط صاحبه عن العدالة فلا يصح الإعتماد عليه فيشترط فيه العدالة كالشهادة وإمامة الجماعة إلا أن يتوب ويُطمَأن بوجود ملكة العدالة فيه.
وقال الشهيد الثاني في المسالك في شرح عبارة المحقق ( عليهما الرحمة ):
لا خلاف في تحريم هذين الأمرين والتهديد عليهما في الأخبار مستفيض وهما من الكبائر فيقدحان في العدالة مطلقاً وإنما جعل التظاهر بهما قادحاً لأنهما من الأعمال القلبية فلا يتحقق تأثيرهما في الشهادة إلا مع إظهارهما وإن كانا محرمين بدون الإظهار والمراد بالحسد كراهة النعمة على المحسود وتمني زوالها سواء وصلت إلى الحاسد أم لا وببغضه ( أي والمراد ببغضه ) كراهته واستثقاله لا بسبب ديني كفسق فبغضه لا لأجله معصية سواء قاطعه مع ذلك أم لا فإن هجره فهما معصيتان وقد يحصل كل منهما بدون الأخرى[387].
وقال في الرياض: " نعم يشكل حصول العدالة مع تلك العداوة بعد الإتفاق فتوى ورواية على أن عداوة المؤمن وبغضه لا لأمر ديني معصية ثم ذكر أن بعض الفقهاء عرفوا العداوة بأنها " الفرح بمساءة المؤمن والحزن بمسرته " وزاد بعضهم عليها " أن يبلغ العداء حداً يتمنى زوال نعمه وهو حينئذٍ عين المبغض والحاسد إلى أن قال: فالعداوة على هذا من الكبائر " وإن لم نقل أنها
كذلك فهي بالإصرار عليها تصبح كبيرة قطعاً[388] ".
يجب استصغار الدنيا وإكبار الآخرة:
وقد تقول: إن بغض الإنسان لمن رأى منه خلاف ما يتوقع قهري وغير اختياري وبناءاً عليه فليس مورداً للتكليف والمؤاخذة.
والجواب هو ما ذكر في بحث البغض في مقابل الظلم فما هو غير اختياري هو الخطور الأول للبغض أما فسح المجال له في القلب وإحلاله فيه فهو اختياري وهنا نقول:
" إن السبب الأصلي لوجود البغض في هذه الموارد هو حب الدنيا أي العلاقة الشديدة بالحياة الدنيوية وشؤونها والغفلة عن عالم ما بعد الموت العظيم, وبديهي أن من رأى هذه الحياة الدنيوية المستعارة كبيرة فإنه يستاء لأقل عمل مناف مخالف لتوقعه يصدر في شخص آخر, إلا أنه إذا عرف بنور الإيمان حجم عالم الآخرة والحياة الخالدة بعد الموت واطلع على عظمة أوضاعها وشؤونها فإن الحياة الدنيوية تصبح لديه صغيرة وتافهة ولن تستطيع عندها أكبر منغصات هذا العالم أن تؤلمه بدلاً من أن تهزمه وتسحقه إنه يرى أن لذائذ الحياة المادية والوضعية ومنغصاتها أصغر من أن تؤثر فيه.
بناءاً عليه إن السبب الوحيد للبعض والحقد هو ضعف الإيمان والجهل بالحقيقة ولأن تقوية الإيمان ومعرفة الحقيقة بمقدوره وفي اختياره فإن الحيلولة دون الحقد أيضاً اختياري.
أضرار الحقد:
من استبدّ به الغضب فإذا استعصم بقوة الإيمان وصبر وأطفأ نار غيظه فإن
قلبه لا يتلوث ويتحرر من نار الغضب.
أما إذا لم يصبر ولم يستطع أيضاً أن يعوض عن ذلك فقد استقرت نار الغيظ في قلبه وسيوجد فيه العداء والنفور وسوء النية تجاه من أبغضه, وإذا استمرت هذه الحال ففيه مقدمة وسبب لآفات عشر هي كما يلي:
1 و 2 - الحسد والهجران:
من حقد على آخر فهو حتماً يفرح بابتلائه ويتألم مما يفرحه, ويتمنى أن تزول النعمة عنه وهذا هو الحسد الحرام الذي سيأتي في البحث القادم.
كما أن الحقد سبب قطيعة من حقد عليه وهجرانه وقد تقدم ذكر دليل كون الهجران من الذنوب الكبيرة.
3 - الشماتة والتأنيب:
من عادى شخصاً فإنه يفرح إذا رآه مبتلى بمشكلة ما, وغالباً ما يظهر فرحه هذا بالضحك وسائر الأمور التي تعبر عن الفرحة ويهزأ به ويعيّره فيقول له مثلاً: ما أروع أنك ابتليت, لأنك فعلت كذا ابتليت بهذا, لقد دعوت عليك وبسببي أصابتك هذه المصيبة, قال الإمام الصادق عليه السلام: " من أنّب مؤمناً أنّبه الله في الدنيا والآخرة[389] " وقال أيضاً: " لا تبدِ الشماتة لأخيك فيرحمه ويصيرها بك[390] " وقال عليه السلام: " من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن[391] ".
4 - الغيبة والتهمة:
من عادى آخر فإنه لا يستطيع أن يمتنع عن التحدث بعيوبه التي يعرفها بل لا يستطيع أن يمتنع عن اختلاق العيب له أي تهمته, لأن الحيلولة دون التهمة
والغيبة لا تمكن إلا بالركون إلى قوة الإيمان بالله ويوم الجزاء, ولو أن إيمان هذا كان صحيحاً وقوياً لما فسح المجال أبداً للحقد على المؤمن لكي يستقر في قلبه وقد ذكرت خطورة الغيبة والتهمة في كتاب " الذنوب الكبيرة ".
5 و 6 - الخيانة والتحقير:
وكذلك من عادى شخصاً فإنه يصبح جاهزاً لخيانته ولا يتورع عن أية خيانة له فيكشف أسراره التي يعرفها قبل معاداته وقد ذكرت خطورة ذنب الخيانة أيضاً في " الذنوب الكبيرة ".
ومن لوازم الحقد تحقير العدو وإذلاله فإذا التقاه أعرض بوجهه عنه ولم يسلم عليه ويهزأ به ويحاكيه ويقلده ويمنع الآخرين من تعظيمه وتكريمه وخطورة كل من ذلك مذكورة في " الذنوب الكبيرة " كذلك.
7 و 8 - منع الحقوق الواجبة والإيذاء:
إذا كان رحماً فإن العداوة تسبب قطع الرحم, وإذا كان جاراً فإنها تسبب التقصير في حقوق الجار مثلاً: إذا رآه قد ظلم فإنه لن يبادر إلى نصرته وإغاثته وكذلك يترك سائر الحقوق الواجبة وخطورة كل من ذلك مبيّنة في محلها.
وكذلك من حقد على شخص فإنه يصبح مستعداً لإلحاق أي نوع من الأذى به.
9 - الأضرار الدنيوية:
لكل إنسان في حياته الدنيوية احتياجات لا تحصى لمساعدة الآخرين له بحيث أنه إذا لم يكن له أصدقاء يساعدونه ويشاطرونه آلامه ويؤمنون له احتياجاته فإنه لا يستطيع بمفرده أن يتولى ذلك, وكلما عادى شخصاً فإنه يقاطعه وينصرف كل منهما عن مساعدة الآخر, وتكرار ذلك بين الناس يؤدي إلى أن
يصبح كل منهم وحيداً يعيش الغربة ويقاسي شدائد الحياة ومصاعبها الأمر الذي يؤدي بالشخص إلى مواجهة مصائب مدمّرة تضاف إلى الآلام التي تنشأ من حالة البغض الداخلي وهذا يترك أثره على الأعصاب والصحة, خاصة إذا رأى عدوه يتقلب في النعمة والرفاهية أو لم يستطع الإنتقام منه.
10 - الأضرار الأخروية:
بالإضافة إلى الذنوب التي لا تحصى التي يتلوث بها الحاقد كما تقدم فإنه يحرم من خيرات وبركات وافرة كان من الممكن أن يحصل عليها نتيجة للإلفة والمحبة ويذكر هنا بعضها: إن لكل مؤمن أعداء باطنيين ( أي الشياطين ) وهم له بالمرصاد وهم أعداء إيمانه وأعماله الصالحة ومهمتهم إلقاء الوسواس والخواطر القبيحة في باطنه ليسلبوا إيمانه عن هذا الطريق ويحرفوه عن صراط العبودية المستقيم وباختصار ليصبح مثلهم بدون إيمان وفاسداً ولا يصل إلى مقام الإنسانية الشامخ وهم في خصومتهم هذه لا يغفلون عن المؤمن لحظة واحدة وحسب تعبير عظيم سئل هل ينام الشياطين فقال: لو كانوا ينامون في اليوم والليلة لحظة لكنا استرحنا عند ذلك من شرهم.
ومن هنا تكرر الإخبار في القرآن المجيد بعداوة الشيطان والأمر بالإستعداد للصراع معه[392].
وحقاً إن المؤمن وحده لا يقوى على مقارعة عدو لدود كهذا, والطريق الوحيد للإنتصار عليه الإستعانة بقلوب المؤمنين بأن يقوي رابطة صداقته الإلهية معهم ويصبح معهم قلباً واحداً وروحاً واحدة, وإذا أصبح كذلك فكلما اقترب الشيطان من قلبه رأى أنه ليس أمام قلب واحد بل مئات القلوب وأنه لا سبيل إلى مثل هذا القلب ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وآله " المؤمن للمؤمن
كالبنيان يشدّّ بعضه بعضاً[393] " كما أن أجزاء البناء الحجر والحديد والإسمنت يشد بعضها بعضاً ولهذا ورد في روايات كثيرة الأمر بتحصيل الأصدقاء مهما أمكن وأن يكون الإنسان مع أصدقائه حميماً صافي الود.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
عليك بإخوان الصفاء فإنهم عماد إذا استنجدتهم وظهور
وليس كثيراً ألف خل وصاحب وإن عدواً واحداً لكثير[394]
ويقول عليه السلام: " أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان وأعجز منه من ضيَّع من ظفر منهم[395] ".
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فحوائج يقومون بها وأما في الآخرة فإن أهل جهنم قالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم[396].
صلاة الجماعة تغيظ الشيطان:
من هنا يعلم سبب أهمية صلاة الجماعة وكثرة فضيلتها وثوابها إلى حد أنه قد نهي عن الصلاة فرادى لأنه كلما كانت علاقة عدة أشخاص ورابطة صداقتهم الإلهية قد بلغت حداً بحيث وحدت قلوبهم ووقفوا بقلب واحد متجهين إلى الله فإن الشيطان أضعف من أن يستطيع أن ينفذ إلى قلوبهم ويسرق من جواهر إيمانهم.
وحقاً إن كل سعي الشيطان وأمنيته هو تفريق قلوب المؤمنين والفصل بينها
لأنه كلما استطاع أن يفرق بين مؤمنين اثنين فإن قوته تزيد بهذا المقدار وبهذا أيضاً يستطيع الوصول إلى قلب من فرق بينه وبين أخيه المؤمن ويجعل سهام وسوسته مؤثرة في هذا القلب كما ورد في الأحاديث المتقدمة عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام.
خير المؤمنين.. الأليف:
قال أمير المؤمنين عليه السلام سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: المؤمن عز كريم والمنافق خب ( محتال ) لئيم وخير المؤمنين من كان مألفة للمؤمنين ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " شرار الناس من يبغض المؤمنين وتبغضه قلوبهم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للناس العيب لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة ثم تلا عليه السلام: " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم[397] ".
والخلاصة أن من أكبر أضرار المؤمن من عداوة مؤمن آخر ومقاطعته, وحدته في مقابل عدوه اللدود الشيطان, وكذلك الحرمان من شفاعته في القيامة وكذلك الحرمان من أدعيته والحرمان من بركات ودرجات ومقامات الصداقة في سبيل الله بالتفصيل المذكور في باب الحب في الله في أصول الكافي. أضف إلى ذلك الحرمان من الثواب الذي كان بالإمكان أن يحصل عليه من معاشرته.
علاج البغض الحرام:
بعد معرفة أحكام الأقسام السبعة للبغض الحرام وأضرارها تنبغي الإشارة
على سبيل الإختصار إلى علاج كل من هذه الأقسام وطريق الوقاية منها.
1 - بغض الله:
ينبغي لمن أراد علاج ذلك أن يطالع ما ذكر في قسم العقائد من هذا الكتاب بدقة وأن يعرف الله خالق الكون ويعلم أنه هو وعلاقاته وكل ما في عالم الوجود من الله تعالى, ثم يتأمل في بناء جسمه بدقة أيضاً ويلاحظ أجزاءه وأعضاءه وقواه الإدراكية ثم يتأمل في النعم الجزئية المتواصلة التي منَّ الله بها عليه ويمنّ, حتى يعلم علم اليقين أن نعم الله عليه لا تحصى.
وكنموذج يتأمل في لقمة الخبز التي يأكلها كل يوم وينظر أية أسباب لا تحصى سخرها رب العالمين جلّت قدرته حتى يحصل الإنسان على هذه اللقمة.
السحاب والريح والقمر والشمس في عمل دائب حتى تصل إلى يدك لقمة ولا تأكلها وأنت غافل, والكل مطيعون من أجلك وخاضعون فليس من الإنصاف أن تكون أنت متمرداً وغير مطيع[398].
وليتأمل أيضاً في الأسباب التي سخرها الله تعالى للهضم لتصبح هذه اللقمة جزءاً من البدن موجبة لتقويته... وحركة الفك واللعاب والجهاز الهضمي, " المعدة ", والكبد وجهاز تصفية الدم أي القلب, وشرح كل منها يطول, لكي يعلم أن نعم الله لا تحصى, ليلقِ نظرة متأملة على جهاز التنفس ليرى أن كلّ نفس ينزل ممد للحياة وكل ترجيع له مفرح للذات, ففي كل نفس نعمتان وكل منها تستحق شكراً.
حب المنعم فطري:
بعد هذا اليقين سيوفق لحب رب العالمين لأن حب المنعم فطري للإنسان وقد قيل " الإنسان عبد الإحسان " وهل الإنسان أقل وأسوأ من الكلب الذي تصل علاقته بصاحبه إلى حد أنه يفديه بنفسه[399].
ولهذا تكرر في القرآن الكريم الأمر بذكر نعم الله التي لا تحصى فإن من آثار هذا التذكر ترك الطغيان والتمرد على أوامر الله وذلك يوفق الإنسان لنيل نعمة الخشوع والخضوع أي الحب والصداقة والتذلل لله تعالى.
" فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ". الأعراف 69.
لأن تذكر النعم وشكرها سبب للعلاقة بالله وحبه والعبودية لله وهو كذلك سبب زيادة النعمة والتنعم... وهذا فقط هو سبيل الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
" واذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ". الأعراف 74.
وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى أن نسيان نعم الله يوجب أشد أنواع الفساد, توضيح ذلك: إن لكل جزء من أجزاء عالم الوجود كمالاً يجب أن يصل إليه تدريجياً وفساده هو عدم وصوله إلى كماله المناسب له أو سلب هذا الكمال منه إذا كان قد وصل إليه.
وبناءاً عليه إذا منع إنسان شيئاً من الوصول إلى كماله فهو مفسد ( مخرب ) وللإنسان الذي هو أشرف الموجودات كمالٌ يجب أن يصل إليه وذلك الكمال هو معرفة رب العالمين والإرتباط به والعبودية له وهذا لا يحصل إلا بزيادة ذكره وذكر
نعمه التي لا تحصى.
والخلاصة: ترك ذكر النعمة سبب عدم الوصول إلى الكمال الإنساني وهو أشد أنواع الفساد.
الإيمان اتصال قلبي والكفر انفصال:
تقدم في قسم العقائد من هذا الكتاب أن الإيمان بمعنى عقد القلب والعلاقة والإنقياد والعبودية لله تعالى, كما أن الكفر بمعنى الإنفصال عن الله والطغيان وتعلق القلب بالدنيا, يقول تعالى:
" أما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى ". النازعات 38.
كما تقدم بيان طريق تحصيل الإيمان وتقويته بالتفصيل, وعلى طالب الوصول إلى الكمال الإنساني أن يعمل بما ذكر.
2 - علاج بغض القضاء والقدر:
من كان يغضب من القضاء التكويني أو التكليفي الإلهيين إذا خالفا هواه ورغبته ولا يستسلم لحكم الله يجب أن يلاحظ عدة أمور:
أحدها: الإلتفات إلى علم الله وقدرته وعطفه عز وجل ويجب أن يعتقد أن هذه الصفات موجودة في الله تعالى بلا نهاية ولا حدود.
والثاني: الإلتفات إلى جهله هو وغفلته, وأن يعلم أن حقائق الأمور وواقعها محجوب عنه بحيث إذا رأى أن وجود شيء مصلحة له فيجب أن يدخل في حسابه أنه قد يكون مخطئاً ولعل ذلك واقعاً ليس مصلحة له وكذلك العكس.
" عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ". البقرة 216.
بناءاً على هذا فتقدير الإنسان المصلحة لنفسه أي أن يقول إن الأمر الفلاني مصلحة لي حتماً, هو خطأ وقبيح, بل يجب أن يكون الإنسان أمام القضاء الإلهي كالمريض بين يدي الطبيب الحاذق العطوف.
سلّم أمرك لله يا حافظ لعلك تعيش عمرك بخطٍ يَمُنُّ الله به عليك[400].
ليس في العالم سيء مطلق:
والأمر الثالث الذي ينبغي أن يلاحظه من لا يستسلم للقضاء الإلهي هو أن كل المنغصات التي تواجهه وهي من وجهة نظره شر كموت أحد أقاربه الذي يؤلمه ويحزنه كثيراً فيجب أن يفهم أن هذا الذي مات لو لم يكن موته أصلح له بحيث أنه أفضل من بقائه لما قبض الله روحه.
وبشكل عام فإن كل إنسان عندما يموت فالموت آنذاك أفضل لأنه إن كان عبداً مطيعاً فقد نجا من هذه الدنيا ووصل إلى العالم الأعلى وإذا كان طاغياً فإن موته وضع حداً لطغيانه فلا تزداد عقوبته بعد ذلك.
ليتذكر النعم الأخرى:
والأمر الرابع أن يتذكر فوراً أمام كل منغص النعم الوافرة التي أعطاها إياها الله تعالى مثلاً إذا افتقر فليتذكر نعمة العافية وعظمتها وإذا مرض عضو منه ليتذكر عافية سائر أعضائه والأهم من ذلك بقاء أصل الحياة.
وليتذكر كذلك نعمة العقل والصفات الكمالية التي منّ الله سبحانه بها
عليه والأهم من ذلك كله نعمة أصل الإيمان وولاية آل محمد عليهم السلام التي هي الحياة الطاهرة الحقيقية.
والخلاصة يجب أن يعلم أن كل نسبة من الألم والبلاء بالنسبة إلى النعم التي وهبها له الله تعالى ليست شيئاً يذكر.
النبي يوسف, مع أبيه وإخوته:
عندما التقى النبي يعقوب والنبي يوسف عليهما السلام سأله يعقوب يا بني حدّثني بما جرى عليك قال: يا أبت لا تسألني ماذا صنع بي إخوتي بل سلني ماذا صنع بي ربي وأين أوصلني.
وعندما عرفه أخوته وكانوا يجلسون معه صباحاً ومساءاً إلى المائدة كان الخجل يسيطر عليهم فطلبوا منه أن يعفيهم من الحضور.
قال لهم: أنتم سبب عزتي ورفعتي لأن المصريين كانوا يعتبرونني قبل مجيئكم غلاماً وصلت إلى السلطنة وعندما جئتم عرفوا أني لست غلاماً بل ابن نبي ومن أولاد إبراهيم الخليل.
الدنيا المتقلبة, بلاء دائم:
وليلق نظرة أيضاً على قصر العمر وسرعة انقضائه كيف أن الموت يهدده في كل لحظة وليعلم أنه لن يبقى أثر من ملذات الدنيا ولا من منغصاتها.
وليتأمل بدقة في أحوال الناس المعاصرين له أو الماضين من كل الطبقات من الأغنياء والأقوياء هل يجد منهم شخصاً واحداً لم يواجه في حياته المنغصات والمصائب, أنه كلما زادت الثروة والقوة كانت المصائب والبلايا أكثر.
" وجدت في هذا العالم شخصاً واحداً هاديء البال, وكان هدوء باله
خلاصه وتحرره من قيود الغنى والجاه[401] ".
ومن هذا التأمل تفهم قاعدة كلية هي أن حياة البشر في الدنيا مبنية على البلاء بحيث أن البلاء من اللوازم الحتمية لهذه الحياة, وأما الحياة " الطيبة " التي ليس فيها أي أذى وألم فهي فقط في الجنة.
ولهذا يعتذر رب العالمين سبحانه في القيامة من المؤمنين للمصائب والإبتلاءات التي واجهتهم في الدنيا ويقول لهم: لم أمنعكم حاجاتكم لهوانٍ بكم علي بل لصغر الدنيا وضيقها ووضاعتها ولكم اليوم ما تشتهون.
ليمضِ هذا الدهر الأمرّ من السم لتأتي بعده محطة كالسكر.
وليتأمَّل أيضاً في أحوال الأنبياء والأئمة وعظماء الدين ليعلم:
كل من كان في هذا المضمار أكثر قرباً كان له من كأس البلاء النصيب الأوفى وتفصيل أسرار البلاءات وخصائصها وإيراد الآيات والروايات يستدعي الإطالة فيترك إلى حيث يكون أكثر مناسبة.
يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب:
وليتذكر أيضاً الثواب الذي وعد به الصابرون في القرآن المجيد والروايات المتواترة.
وليعلم أنه إذا جزع وفزع ولم يرضَ وغضب بدلاً من الصبر والتسليم فإنه بالإضافة إلى حرمان نفسه من مقامات أهل الصبر والتسليم والرضا ودرجاتهم سيقضي هذه البضعة أيام ( حياته الدنيا ) في عذاب ومشقة وبلاء وضيق نفسي ولو أن شخصاً تذكر باستمرار هذه الجملات القصيرة ولم يتوقع الإستقرار
المطلق والراحة الشاملة في مدة حياته الدنيوية المستعارة بل استعد لمواجهة الإبتلاءات والمصائب فإنه سينعم بالإستقرار الروحي في الدنيا واللذة المطلقة الشاملة وتحقق كل آماله في عالم الآخرة.
" ليست هناك سلطنة كملك الفقراء وليس هناك مُلك أكثر شمولاً من مُلك الرضا[402] ".
3 - علاج بغض النبي والإمام والملائكة:
من أبغض نبياً أو إماماً عرف رسالته وإمامته أو ملكاً عرف أنه واسطة بين الله والبشر واستعداهم لهذه الأسباب ( الرسالة والإمامة ) فحقيقة عدائهم لهذه الأسباب هي عداء الله تعالى وهو أشد مراتب الكفر وعلاجه تحصيل الإيمان بالله بالتفصيل الذي مضى.
أما إذا كان عداؤه لهم لأسباب أخرى, فإذا كان يبغض النبي أو الإمام بسبب صدر عنهما لم يعجبه ولم يوافق هواه كالخوارج الذين أصروا في بداية الأمر في صفين أن يقبل الإمام علي عليه السلام مصالحة معاوية والتحكيم, وعندما وافق الإمام مضطراً انقلبوا وعادوا الإمام عليه السلام لأنه أوقف الحرب, فلا شك في أن هذا العداء هو عدم الإعتقاد بإمامته ورفضها وهو عدم إيمان وعداء لرسول الله صلى الله عليه وآله لأنه صلى الله عليه وآله نص من قبل الله تعالى على وجوب محبة وإطاعة أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم السلام إلى حد أنه قال " حب علي إيمان وبغضه كفر ".
وبناءاً عليه فمثل هذا الجاهل ( الذي يبغض نبياً أو إماماً ) ينبغي أن يخرج من دائرة الجهل المركب ويعرف أنه كافر ثم يعمل جاهداً لتمتين أساس إيمانه
بالتفصيل الذي تم إيضاحه.
وأما بالنسبة للملائكة فقد كان اليهود يعتبرون جبرائيل عدواً لهم لأنه كان ينقل عن الله تعالى للأنبياء حكم الحرب الذي كانوا يرون أنه مضر لهم ومن الواضح أنه لا سبب لهذا العداء إلا الحمق وعدم الفهم لأنه لا حرج على الملك الذي لا شأن له إلا إطاعة أمر الله تعالى.
ثم إنهم لم يروا إلا إبلاغه حكم الجهاد ولم يروا سائر ما أتى به من الوحي الذي يحيي النفوس في مجال المعارف الإلهية وواجبات العبودية لو أنهم رأوا ذلك لأحبوه بكل وجودهم.
عزرائيل واسطة وصال لا فراق:
وطائفة من العوام يعادون ملك الموت لأنه واسطة قبض الأرواح وعلى هؤلاء أن يعلموا أن ملك الموت كسائر الملائكة مطيع لأمر الله, والملائكة لا يمكن أن يعصوه سبحانه, والله الذي أعطى الأبدان الأرواح يستردها بواسطة عزرائيل وأعوانه فلا حرج عليه هو ولا اعتراض, ثم إن هؤلاء يرون أن الموت سبب انفصال وألم فراق ولا يرون أنه وسيلة تحرر الأرواح من سجون الأبدان كما لا يرون أنه وسيلة للوصال والإتصال بالأرحام والأقارب والأصدقاء من السابقين المسافرين إلى الملأ الأعلى, لو رأوا ذلك لأحبّوا الموت وعزرائيل عليه السلام بكل وجودهم كما مر.
4 - بغض المؤمن:
أما بغض المؤمن لإيمانه بالله والرسول أو لتقواه فإنه لا يوجد إلا في الكافر وعدو الله والرسول صلى الله عليه وآله وعلاجه ما ذكر.
وأما بغض المؤمن لسائر العقائد الصحيحة كأن يبغض مسلماً شيعياً اثني
عشرياً لأنه يعتقد بأن الإمام واجب الإطاعة فيجب أن يعلم أن حقيقة هذا العداء هي عداء أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ومن أحكام الإسلام الضرورية ( البديهية ) التي تثبت من القرآن والسنة المتواترة وجوب محبة أهل البيت عليهم السلام وحرمة معاداتهم وبناءاً عليه فإذا عادى أحد شيعياً لتشيعه فهو فاسق ومستحق للعذاب.
قال الإمام الصادق عليه السلام:
إن الرجل ليحبكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله الجنة وإن الرجل ليبغضكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله ببغضكم النار[403].
بغض المؤمن الفاسق:
من آمن بالله الواحد واعتقد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله رسوله وخاتم أنبيائه وآمن بالمعاد ولم ينكر حكماً من أحكام الإسلام الضرورية فهو مسلم يمكنه أن يستفيد من جميع مزايا الإسلام.
وإذا ترك واجباً أو فعل حراماً ( طبعاً لا عن إنكار بل عن تساهل وغلبة النفس والشيطان ) فإنه يصبح فاسقاً حتى يتوب من ذنبه سواء كان ذلك الواجب من الأمور الإعتقادية كوجوب الإعتقاد بإمامة علي عليه السلام والأئمة المعصومين الإحدى عشر عليهم السلام أو كان من الوظائف والواجبات العملية كالصلاة والصوم والحج.
بعد اتضاح هذا نقول: الخوارج والنواصب أي أعداء أهل البيت عليهم السلام خارجون عن الإسلام وكفار بسبب إنكارهم حكم الإسلام الضروري بوجوب مودة أهل البيت عليهم السلام وسيأتي في آخر البحث وجوب بغضهم
وما عدا هؤلاء فجميع فرق المسلمين أخوة متساوون وبغض فرقة لفرقة قبيح عقلاً وشرعاً وحرام لأنهم جميعاً متحدون في أصل الإسلام وليس فيهم كافر ومنكر لحقائق الإسلام.
5 - بغض الجاهل القاصر:
وأما بغض الشخص لفسقه في الأمور الإعتقادية[404] فإذا كان مستضعفاً وجاهلاً قاصراً أي لا قدرة له على التحقيق للوصول إلى الحق أو أنه يستطيع ذلك وبحث إلا أنه لم يصل إلى الحق فلأن مثل هذا الشخص معذور عند الله ولن يعذبه على ذلك فبغضه لا مبرر له وحرام.
نعم إذا كان يستطيع البحث وبحث وحقق واتضح له الحق ومع ذلك لم يتبعه ولم يعتقد به فلأنه معاند للحق ومبغوض لله وسيعذَّب, فبغضه مبرر ومثال هذا: عالم مسلم فهم إمامة الإمام علي وسائر الأئمة عليهم السلام من الأدلة العقلية والقرآن المجيد والروايات المتواترة التي ذكرت في كتب الكلام ومع
ذلك لم يعتقد بإمامتهم, فإن ذلك يكشف أنه لا يؤمن بالله والرسول والقرآن.
والخلاصة إن بعض غير المقصر والمعاند للحق لا مبرر له ويجب تمني هدايتهم وبذل الجهد في حدود الإستطاعة عبر حسن السلوك وحسن البيان لتعريفهم الحق.
وينبغي التنبيه على أن التقصير في قبول الحق أمر خفي ونادراً ما يحصل اليقين به ولذا ينبغي احتمال القصور في الجميع وعدم معاداتهم إلا المقصر الذي ثبت تقصيره يقيناً وقد تقدم في قسم العقائد بيان معنى الجاهل القاصر والمقصر كما تقدمت الإشارة إليه في بحث سوء الظن.
التكفير والتفسيق الرائجان:
مما ذكر يعلم أن أكثر أنواع التكفير والتفسيق والعداوات الجاهلة والحروب المذهبية التي راجت بين المسلمين من صدر الإسلام حتى الآن قبيحة ولا مبرر لها بل هي حرام ومخالفة لمباني الإسلام وقد أدى هذا السلوك المستهجن بالمسلمين إلى حيث صاروا آلاف الفرق وكل فرقة آلاف المجاميع المتناثرة, بحيث أن كل جماعة من أية فرقة عدوة للجماعة الأخرى, تتمنى مساءتها تسبُّها وتفحش لها في القول وكل مجموعة لا تتورع عن هتك المجموعة الأخرى وفضيحتها بحجة ذنب صدر منها.
أحكام الإسلام هي ما ذكرناه, وأحوال أتباع الإسلام أيضاً هذا الذي سمعت ويجب أن يُبْكى دماً لتفرق المسلمين هذا, والتمسك بالصبر وانتظار ظهور بقية الله عجل الله تعالى فرجه ليحقق الوحدة الإسلامية.
" أين جامع الكلمة على التقوى.. ".
بغض الفاسق في الواجبات والمحرمات العملية:
واجب كل مسلم في التعامل مع المسلم الآخر أن لا يعتبره غريباً وأجنبياً عنه بل يعتبره أخاه الديني والروحي, بناءاً على هذا فلا ينبغي له إذا رآه ارتكب ذنباً أن يغضب منه بل أن يعطف عليه ويتحرق لأجله بأن يحتمل أن فعل ذلك جهلاً أو سهواً ويرشده بحنان وإذا تيقن أنه فعل ذلك عالماً عامداً فليحاول أن يثنيه عنه بلين فإذا لم ينثن واحتمل أن الحدة قد تحمله على ترك هذا المحرم فليستعمل معه الحدة في الحديث والغضب الظاهري أي التقطيب لا الغضب النفسي والباطني.
ثم أنه ينبغي أن يدعو له بظهر الغيب ( في غيابه ) ويسأل الله تعالى له توفيق الطاعة والمغفرة كما أن حملة العرش يطلبون المغفرة للمؤمنين ويدعون لهم.
الخلاصة أن الغضب على العاصي في حالة إصراره على الذنب, فإذا تركه فلا مبرر للغضب, ثم إن الغضب بسبب الذنب يجب أن يكون رحيماً أي من منطلق الرحمة والتحرق كيف أن هذا المؤمن الذي هو أخي تلوث بالذنب واحترق بنار الذنب.
بين الغضب الرحماني والنفساني:
يتم التمييز بين الغضب الرحماني والنفساني بأن يلاحظ الإنسان نفسه إذا صدر منه أو من أحد أقاربه ذنب وصدر من آخر فهل غضبه في الموارد كلها على حد سواء إذا كان كذلك فغضبه رحماني.
أما إذا كان صدور الذنب من غيره وغير أقاربه يثير غضبه إلا أن هذا الذنب
منه ومن أقاربه أو ذنب أشد منه لا يتركان أي أثر فيه, ولا يأبه فغضبه إذن نفساني.
6 - بغض الظالم:
من لحقه ظلم من مسلم في ماله أو كرامته أو بدنه, يجب عليه أن يدخل في حسابه الأمور الآتي ذكرها حتى يسيطر على غضبه ولا يفسح مجالاً في قلبه للحقد عليه:
1 - أن يتذكر فوراً أعماله هو والظلم الذي يلحقه بنفسه دائماً مثلاً إذا لحق به ظلم مالي ليتذكر كم أنفق طيلة عمره في مصارف عبثية في حين أنه كان يستطيع أن يتعامل بهذا المال مع الله ويشتري الجنة.
وإذا لحق به ظلم في كرامته ليتذكر كيف أنه بارتكاب المعاصي يريق ماء وجهه أمام الله والرسول والملائكة, وما أشد الفضائح التي ستواجهه في المحشر.
وإذا لحق به ظلم بدني ليتذكر النيران التي أضرمها لبدنه الضعيف[405].
2 - وليتذكر أيضاً المظالم والإيذاءات والتجاوزات التي ارتكبها طيلة عمره بحق الآخرين ولعل هذا الظلم الذي لحق به في مقابل بعض من ذلك.
من يظلم يُظْلم:
قال الإمام الباقر عليه السلام: " ما من أحد يظلم بمظلمة إلا أخذه الله بها
في نفسه وماله وأما الظلم الذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر الله له[406] ".
وقال الإمام الصادق عليه السلام: " من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده[407] ".
قال عليه السلام: " من ظلم سلط الله من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه[408] ".
درس من مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه:
3 - وليحتمل المظلوم أن الظالم أخطأ ولم يكن ظلمه بسبب العداء وحب الظلم بل خطأ وصدفة, وإذا أيقن أنه عامد متعمد, فليفكر في حقيقة باطنه وكيف أنه أصبح أسيراً ذليلاً للنفس والهوى وفي قبضة الشيطان عاجزاً عن الإفلات من ذلك والإمتناع عن الظلم وأضرم لنفسه بيده النار التي سيعذب بها, عندها يتذكر أنه أخوه الديني وبدلاً من الغضب عليه يشفق عليه ويطلب له من الله المغفرة.
مر مالك الأشتر ذات يوم في سوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة خام فرآه شخص لا يعرفه ونظر إليه باحتقار ورماه ببندقة ( كتلة طين صغيرة ) فلم يكترث مالك به... وجاء من قال لذلك الشخص أتعرف بمن هزئت وعلى من اعتديت, قال لا, قال إنه مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين عليه السلام فارتعدت فرائصه وسيطر عليه الرعب ومضى خلف مالك ليعتذر منه ووجده في المسجد واقفاً يصلي وعندما أنهى صلاته وقع على قدميه يقبلهما, فسأله مالك ما الخبر, فقال جئت أعتذر منك على ما بدر مني.
قال مالك: لا تثريب عليك، والله ما دخلت المسجد إلا لكي أصلي
وأستغفر الله لك[409].
كظم الغيظ:
4 - وليتأمل المظلوم في آيات وروايات فضيلة كظم الغيظ ولا يحرم نفسه من آثار هذا الخلق العظيم:
قال الإمام الباقر عليه السلام: " من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشاه الله أمناً وإيماناً يوم القيامة[410] ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من أحب السبيل إلى الله عز وجل جرعتان جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر[411] ".
وقال الإمام الصادق عليه السلام: " اصبر على أعداء النعم فإنك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه[412] ".
سيرة العظماء:
5 - وليتأمل أيضاً في سيرة الأنبياء والأئمة والصلحاء كيف كانوا يترفعون في مقابل أعدائهم وظالميهم عن الغضب والإنتقام بل كانوا يواجهونهم بالعفو والإحسان الأمر الذي كان يؤدي إلى نجاة هؤلاء, وعلى المسلمين الإقتداء بعظمائهم[413].
مس الرحم يسكن الغضب:
قال الإمام الباقر عليه السلام: " إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت[414].
وخلاصة هذه الرواية والروايات الأخرى أن على من يغضب لكي يطفيء نار غضبه أن يغيّر الحالة التي هو عليها فإذا كان قائماً فليجلس وإذا كان جالساً فليقم أو فلينم أو يغسل وجهه بالماء البارد أو يتوضأ.
لم يغضب وحقن الدماء:
وفي الكافي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رجل للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم يا رسول الله علمني قال: اذهب ولا تغضب فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تغضب فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه فقال: يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أو فيكموه فقال القوم: فما كان فهو لكم نحن أولى بذلك منكم قال فاصطلح القوم وذهب الغضب[415].
عندما تضطرم نار الغضب:
قال بعض المحققين: " ومهما اشتدت نار الغضب وقوي اضطرامها أعمت صاحبه وأصمته عن كل موعظة، فإذا وُعظ لم يسمع بل زاده ذلك ( ... ) إذ يطفأ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب ( ... ) ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار فاسود جوه وحمي مستقره ( أرضه ) وامتلأت بالدخان جوانبه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا يرى فيه صورة ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الإحتراق فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ وربما تقوى نار الغضب فتفني الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبها غيظاً.
( ... ) ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغيّر اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق ( ... ) ولو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وقبح باطنه
أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن ( ... ).
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحيي منه ذو العقل ويستحي هو منه عند فتور الغضب ( ... ) أما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ولطم نفسه وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحيّر وربما يسقط صريعاً لا يطيق العدْو والنهوض لشدة الغضب ويعتريه مثل الغشية وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب إناءاً مثلاً على الأرض ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول إلى متى منك هذا يا كيت وكيت كأنه يخاطب عاقلاً وقد ترفسه دابة فيرفس الدابة ويقابلها بذلك[416].
7 - الوقاية من الغضب:
كل نوع من أنواع الفساد الذي يظهر في الإنسان في القول أو الفعل أو يستقر في باطنه إذا بحث عن جذره ومنشئه يتضح أنه حب الدنيا لا غير.
توضيح ذلك: أن الشخص الذي تكون كل علاقته القلبية منصبة على تأمين معيشته الدنيوية وترتيب أوضاعه المادية وهو يرى عالم ما بعد الموت العظيم عالماً صغيراً لا قيمة له أو يراه قصة وحكاية ليس إلا... وهو يذكره بلسانه فقط, مثل هذا الشخص يسعى قهراً للوصول إلى أهوائه النفسية التي تناسبه, بذلك فقط يفكر وله يكدح ويتحفز ويتوثب, وهو لا يدخر جهداً في هذا السبيل ولا يضيع فرصة, وهو مستعد لتحمل كل المصاعب ومواجهة كل المصائب وإذا لم يتح له تحقيق ما أراد فإنه يحزن بشدة ولا يستطيع أن يصمد
أمام المنغصات ولا قدرة له على الصبر والحلم إلى حد أنه إذا سمع كلاماً يستهدف النيل من شخصيته واعتباره فإن ذلك يصدمه فيضطرب ويعادي القائل... وليس لذلك سبب أبداً إلا إكباره أوضاع الحياة المادية.
إذا أكبر الإنسان الآخرة:
لو أن شخصاً ركز اهتمامه على تأمين حياته بعد الموت وأكبر هذا العالم بحيث أصبح يعتبر صرف النظر عنه قبيحاً وغير مناسب, ولأجل استقراره في الحياة الأبدية فهو على استعداد للإلتزام بكل تكليف من فعل الواجبات وترك المحرمات وإذا فاته واجب أو صدر منه حرام فإنه يستاء كثيراً ويغضب على نفسه وباختصار يحب كل ما ينفعه لحياته الأبدية ويلتزم به ويترك كل ما يضره فيها ويهرب منه وأما تأمين حياته المادية السريعة الزوال فلأنه يراها بالنسبة إلى حياته الأبدية ليست شيئاً يذكر فهو لا يتهالك على تحقيق رغباته النفسية وشهواته الحيوانية بل يقوم بواجبه ( العمل لتأمين قوته وما شابه ) بكل تماسك واطمئنان قلب, وإذا لم يحالفه التوفيق أحياناً فإنه لا يأسف على ما فات على الإطلاق لأنه في نظره ليس كبيراً وليس مهماً كما أنه في مقابل المنغصات لا يحبط ولا يسقط أو يضطرب ويشتد خفقان قلبه ويغضب لأن من كانت المنغصات الروحية والأخروية كبيرة في نظره ومهمة فإن المنغصات النفسية الدنيوية قهراً وحتماً لا تؤثر فيه أثراً مهماً ومؤلماً.
بناءاً على هذا فالطريق الوحيد لعلاج كل فساد والوقاية منه بما في ذلك فساد الغضب والبغض والحقد والحسد, هو تقوية الإيمان بيوم الجزاء وحياة ما بعد الموت أي أن يعتقد بذلك كما وصفه الله تعالى في القرآن المجيد ويعظمه كما عظّمه الله تعالى ويبذل جهده بجد ومثابرة للوصول إلى تلك السعادة الكبيرة الخالدة.
وقد تقدم الحديث عن طريق تقوية الإيمان في بحث العقائد.
نصيحة ضرورية:
حيث أن الحقد ذنب خطير ومدمر للإيمان ويقضي على سعادة الدنيا والآخرة ويكفي في فساده أنه يعبث بوحدة القلوب التي هي منشأ كل خير وبركة وسعادة, فكما أن على كل مسلم أن لا يلوث قلبه بهذا الذنب الخطير كذلك يجب عليه أن لا يصبح سبباً لتلوث مسلم آخر به أي لا يقولن شيئاً ولا يفعلن فعلاً يوجب بغض آخر له وحقده عليه.
والأمور التي تسبب العداوة وقد نهي عنها بالخصوص كثيرة ويذكر هنا بعضها:
1 - المراء والجدال يورثان الحقد:
أي أن الإعتراض على قول آخر وفعله وإثبات خطئه وتفنيد جوابه إذا أدى ذلك إلى العداوة فهو حرام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " إيّاكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلب على الإخوان وينبت عليهما النفاق[417] ".
وقد ورد في هذا الباب في الكافي أحد عشر حديثاً.
2 و 3 - النميمة وكثرة المزاح:
من اغتاب شخصاً ونقل السامع ذلك إليه, فإن هذا سبب حدوث الحقد في القلب قال علي عليه السلام: " إياك والنميمة فإنها تورث الضغينة وتبعد عن الله والناس[418] ".
وقال الإمام الصادق عليه السلام: " كثرة المزاح تذهب بالبهاء وتوجب الشحناء[419] ".
وقال عليه السلام: " لا تمازح الشريف فيحقد عليك[420] ".
4 و 5 و 6 - العبوس والسب وحبس الحقوق:
قال الإمام الباقر عليه السلام: " الإنقباض من الناس مكسبة للعداوة[421] ".
والمراد بالإنقباض مواجهة الناس بوجه مقطب عابس.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: " لا تسب الناس فتكسب العداوة منهم[422] ".
ومن الأمور المهمة استعداء الناس واكتساب الأعداء والمسامحة في دفع الحقوق وأدائها سواء الحقوق المالية بالتفصيل المذكور في كتاب الذنوب الكبيرة أو الحقوق الشرعية أو العرفية التي حددت في آداب العشرة بين الرجل والمرأة, الأب والأم والولد, الأرحام والجيران, الصديق والصاحب في السفر وسائر الناس بالتفصيل المذكور في كتاب العشرة من وسائل الشيعة.
ومن الواضح أن الإنسان إذا امتنع عن أداء حق أحد من الناس فمن الممكن أن يثير بذلك عداء صاحب الحق له.
وأيضاً: من واجب صاحب الحق أن لا يتشدد في المطالبة بحقه, وأن يتسامح ويعذر صاحب العلاقة, وإذا صرف النظر عن حقه فإنه يستحق ما ذكر في فضيلة العفو.
والخلاصة: إن على من في عهدته حق أن لا يتساهل في أدائه, وليعلم أن تساهله يوجب العداوة, وعلى صاحب الحق أن يتساهل لأن التشدد في طلب الحق يسبب العداوة.
ورعاية للإختصار فقد صرف النظر عن ذكر الروايات في هذا المجال.
7 - الطمع يسبب العداء:
من الأمور التي تسبب العداء الطمع بمال شخص آخر أو مساعدته أي أن يمد الشخص يده إلى غيره, وعندما يرى أنه لم يحصل منه على ما أراد يحقد عليه, أو يعاديه, كما يحدث كثيراً.
يقول أحد الرواة قلت للإمام الصادق عليه السلام: " ما الذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال عليه السلام: هو الورع, والذي يخرجه منه؟ قال: الطمع[423] ".
وعن الإمام السجاد عليه السلام: " رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس[424] ".
قال المجلسي: " الخير كله " أي الرفاهية, وخير الدنيا وسعادة الآخرة, لأن الطمع يورث الذل, والحقارة, والحسد, والحقد, والعداوة, والغيبة, والوقيعة, وظهور الفضائح, والظلم, والمداهنة, والنفاق, والرياء, والصبر على باطل الخلق, والإعانة عليه, وعدم التوكل على الله, والتضرع إليه والرضا بقسمته والتسليم لأمره، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تحصى, وقطع الطمع يورث أضداد هذه الأمور التي كلها خيرات[425].
البغض الواجب: التبري:
يجب على كل مؤمن التبري من أعداء الله وعداوتُهم وهذا التبري هو ركن الإيمان ومن لوازمه القطعية, والجمع بين محبة الله تعالى والإعتقاد به, ومحبة أعداء الله محال, لأن صديق العدو عدو, إذن صديق عدو الله عدو لله.
وأعداء الله هم المنكرون لله, والرسول, المحاربون للمسلمين الذين هم أنصار الله والرسول, وأعداء الله أيضاً هم الذين عادوا أحد الأئمة الإثني عشر عليهم السلام وحاربوهم, لأن الأئمة عليهم السلام هم بشهادة الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولياء الله قطعاً, ولأن عدو الصديق ( والولي ) عدو فإن عدو آل محمد عليهم السلام عدو الله تعالى.
بناءاً عليه فإن المحاربين لهم كمعاوية وعمرو بن العاص وسائر المحاربين لعلي عليه السلام وقاتله أي ابن ملجم, وقاتل الحسن عليه السلام, أي معاوية وقتلة الحسين عليه السلام, عموماً, وكذلك قتلة سائر الأئمة عليهم السلام هؤلاء المحاربون والقتلة جميعاً يبغضهم الله والرسول, ويجب على كل مسلم بغضهم والتبرؤ منهم.
وباختصار: إن كل شخص - من صدر الإسلام وإلى الآن - ثبت عداؤه لله والرسول يقيناً يجب عداؤه والتبرؤ منه.
يجب أن يكون الحب والبغض في الله:
كمال الإيمان في أن يكون الحب والبغض في الله, أي أن المؤمن الكامل ليس له محبوب غير الله وكل من يحبه الله, ولا يحب من الأقوال, والأفعال إلا ما كان إطاعة لله وقد أمر به سبحانه.
وكذلك لا يبغض غير أعداء الله, ولا يعادي من الأقوال والأفعال إلا ما كان معصية, إلى حد أنه لا يحب زوجته وأولاده إلا لأنهم أمانة الله وعطاؤه ولأنهم أيضاً مؤمنون ومحبون لله, ويحب أرحامه لأن الله أمر بصلتهم, وكذلك سائر المؤمنين, ويحب المال لأنه عطاء الله ونعمة منه سبحانه يستطيع بواسطة إنفاقه في سبيل الله ( المصاريف المشروعة, التوسعة على العيال وغير ذلك ) أن يحصل على رضا الله تعالى.
وكل قول أو فعل يصدر من شخص ما, فإنه لا يشعر بعداء تجاهه ما لم يكن معصية حتى إذا كان لا يلائمه أبداً, ويأتي تفصيل هذه المضامين بصورة أوفى مع ذكر الروايات في بحث الحب إن شاء الله تعالى, ويكتفى هنا بذكر رواية واحدة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة, وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكل ما قلتم فضل وليس به, ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتولي أولياء الله والتبري من أعداء الله.
استغاثة.. من تفرق المسلمين:
إذا تأملت أيها القاريء العزيز في ما تقدم, ثم فكرت في حالك وحال سائر المسلمين ستعلم أن المسلمين تمردوا على هذا المنهج الإسلامي وخرجوا من طاعة الله وامتثال أمره, وجميع صداقات المسلمين وعداواتهم لبعضهم البعض تتم على أساس هوى النفس, وليس لها أي بعد إلهي.
إذا كان مسلم يحب مسلماً آخر فلأنه يتلاءم مع نفسه وهواه, وبمجرد أن
يصبح غير متلائم مع ذلك فإنه يعاديه فوراً والعداوات بين المسلمين قائمة على أساس عدم تلاؤم أهوائهم, إلى حد أن الذين يعتبرون أنفسهم متدينين ويعادون أصحاب المعاصي سيجدون إذا فكروا قليلاً أن عداءهم بشكل عام نفساني لا رحماني, لأنه لو كان رحمانياً لما تلوثوا هم بالمعاصي.
ومن الواضح أن عداء الذنب إذا صدر من آخر, وعدم عدائه إذا صدر من النفس ليس إلا حيثية نفسية ( ودليلاً على حب الهوى ) وقد بلغ أثر البغض النفساني في فصل المسلمين عن بعضهم وتفريقهم حداً بحيث أن حوالي مليار مسلماً لا يوجد واحد على الألف منهم بل واحد على المليون متحدون قلباً واحداً وهدفاً واحداً ويحب بعضهم البعض لله ويطرحون جانباً الأهواء والأغراض النفسية, في حين أن أمر الله للمسلمين هو: " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ". آل عمران 103.
" وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ". الأنفال 46.
أي لا توجدوا الإختلاف بينكم عبر النزاع والتخاصم فتكون النتيجة أنكم تجعلون أنفسكم ضعيفي الإرادة وتخسرون العزة والسلطة, أو الغلبة على العدو, لأن الإختلاف بينكم يقضي على وحدة كلمتكم وقوتكم واصبروا على النوائب وكل الصعوبات لأن الله ينصر الصابرين.
هذا هو الأمر الإلهي, وهذا هو حال المسلمين, ولأنهم لم يلتزموا بهذا الأمر فقد حرموا من سعادة الحياة الدنيا والآخرة أما سعادة الدنيا فلأن الحياة الفردية لكل مسلم أصبحت كحياة الكفار أي حوَّل الإضطراب والشقاء نهارهم إلى ليل وكل منهم غير راضٍ عن وضعه المعيشي, سيء الظن بالله بل هو غاضب.
ولأن القلوب تفرقت فقد تسلطت الشياطين عليها وألقت فيها بدلاً من الصبر والقناعة والتوكل على الله, الجزع والحرص, وبدلاً من الرضا والتسليم لوثتها بالغضب والغيظ, وبدلاً من التسامح وحب الخير, حب الإنتقام وحب الشر, وبدلاً من التعاون والخدمة حب الأذى وحب الإستغلال.
وباختصار رغبتهم الشياطين بالإحتيال والسرقة وادخار الثروة والخيانة والكذب, وحب التعالي على الآخرين.
ولا شك أن هذا الوضع يسلب الراحة والإستقلال, الأمر الذي يجعل الإنسان يمضي عمره في وضع مأساوي.
الحياة الإجتماعية للمسلمين, مأساوية:
وأما الحياة الإجتماعية للمسلمين, فإنها وصلت من السوء إلى حيث أن الكفار تسلطوا عليهم, وغلبوهم, وفرضوا عليهم أن يعانوا الضيق والعذاب من كل الجهات, وهذا بلاء يشمل جميع الدول الإسلامية.
وكنموذج: تأمل في حرب العرب وإسرائيل ( عام 67 ) وكيف أن المسلمين نتيجة عدم وجود الوحدة الإسلامية وعدم الإيمان يعانون من أذى اليهود واعتداءاتهم, مع أن اليهود ( حوالي الثلاثة ملايين, والعرب أكثر من مائة مليوناً والمسلمين حوالي مليار مسلماً, والعجيب أنهم رغم كل هذه المرارات التي يعانونها والغصص التي يتجرعونها لا يتوبون ولا يمثلون أمر الله تعالى.
وأما سعادة الآخرة بالنسبة لهؤلاء المسلمين, فإن هذا التحلل وعدم الإعتناء بالأحكام الإلهية, يسبب موتهم على غير الإيمان, وحتى لو ماتوا على الإيمان فإنهم يقيناً لا يمكنهم دخول الجنة مع هذه الأحقاد والشحناء التي
يحملونها, بل إنهم لن يشموا رائحتها إلا بعد أن يقضوا آلاف السنين في البرزخ أو في مواقف القيامة ليطهروا من القذارة أو تدركهم شفاعة رسول الله وعظماء الدين.
صلاح المجتمع من صلاح الفرد:
وتسأل: ما هي فائدة هذا الكلام, هل يصلح به المجتمع الإسلامي؟ وتستبدل هذه الفرقة القاتلة بالوحدة؟
ونقول في الجواب: إن صلاح المجتمع من صلاح الأفراد ورغم أن صلاح جميع الأفراد المسلمين محال على ما يبدو إلا أن صلاح بعضهم ممكن, كالبدن الذي أحاطت به النار وإطفاؤها غير ممكن إلا أن إطفاء النار المحيطة بعضة ولو بمقدار الإصبع إذا كان ممكناً فهو واجب, ولا يصح القول: ما الفائدة من إطفاء هذا الجزء الصغير من النار.
بناءاً عليه فإذا كان بالإمكان إزالة بعض هذا البلاء الذي أحاط بجسد المجتمع الإسلامي وإطفاء شيء من ناره المضطرمة, وإنقاذ عدة أشخاص على الأقل فإن ذلك واجب من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نفسك.. فعائلتك.. فالآخرين:
قد يقرر القاريء العزيز - بعد هذا البحث وسائر أبحاث هذا الكتاب والإطلاع على الأحكام الإسلامية والواجبات الدينية - أن يعمل بها, ويصلح نفسه, ومن جملة ذلك أن يبعد عنها الأحقاد الحرام, فليبذل جهده بعد ذلك في مجال إصلاح وضع عائلته ثم إصلاح أصدقائه, ليدخل ذلك في حسابه, وليسع ما أمكنه عندما يواجه أي مسلم تلوث قلبه بالحقد على مسلم وبات على خصامٍ ونزاعٍ معه أن يتعرف على سبب هذه العداوة ويعالجه ( السبب ) ويصلح بينهما.
التأكيد على الإصلاح بين المسلمين:
ورد الأمر المؤكد في القرآن والروايات بالإصلاح بين المسلمين, وعظمة الثواب على ذلك " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ". الحجرات 10.
وإذا وقع نزاع بين زوجين مسلمين فقد أمر الله تعالى أن يبعث حكَم من أهله وحكم من أهلها ليصلحا بينهما, وكذلك عندما يقع نزاع بين طائفتين مسلمتين ورد الأمر بالإصلاح بينهما وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله وتطفأ نار الفتنة[426].
صدقة يحبها الله:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " صدقة يحبها الله, إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا[427] ".
وقال المفضل: " قال الإمام الصادق عليه السلام: " إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي[428] ".
وعن أبي حنيفة سابق الحاج, قال: مر بنا المفضل وأنا وختني ( صهري ) نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثم قال: تعالوا إلى المنزل, فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه قال: أما إنها ليست من مالي, ولكنْ أبو عبد الله عليه السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وأفتديهما
من ماله فهذا من مال أبي عبد الله عليه السلام[429].
إذا دعيت إلى الإصلاح:
وروي عنه عليه السلام: " إذ دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل: علي يمين أن لا أفعل[430] ".
أي إذا أقسم شخص بالله على ترك عمل خير واجباً أو مستحباً فذلك اليمين باطل, وبناءاً عليه فإذا كان الشخص قد حلف أن لا يصلح بين الناس فذلك اليمين باطل ويجب عليه أن يقوم بما حث الله عليه, وأمر به, وأن لا يتساهل في ذلك.
عرّفنا الله واجباتنا, ووفقنا لنكون من عباده المطيعين.
نهاية بحث الحقد
9 - الحسد
من الذنوب القلبية, والأمراض النفسية القاتلة, مرض الحسد وهو بلاء مهلك وفتنة مدمرة, يقضي على دين من ابتلي به ودنياه, وكل حاسد هو بحكم الإسلام فاسق.
بين الحسد والغبطة:
من آلمه أن يرى على غيره نعمة من مال وولد أو فضيلة كالعلم, والشجاعة, والكرم, واستاء لذلك وغضب, ولم يستطع أن يتحمله, وتمنى زوال هذه النعمة عنه سواءاً اكتفى بتمني زوالها عنه مطلقاً أو تمنى زوالها عنه وانتقالها إليه فإن هذه الحالة الداخلية حسد, وصاحبها حاسد, والطرف الآخر محسود.
أما إذا كان الشخص لا يتأذى من نعمة أنعم الله بها على شخص آخر, ولا يتمنى زوالها عنه, وكل ما يتمناه أن يحصل هو أيضاً على مثل هذه النعمة كما حصل عليها غيره..
فهذه الحالة تسمى " غبطة ".
والغبطة في النعم الدنيوية مباحة, وفي النعم الأخروية مطلوبة. ويجب الإنتباه إلى أن جميع الناس, الرجل والمرأة, العالم والجاهل, الوضيع والشريف, الثري والفقير, القادر والعاجز, معرضون للتلوث بهذا المرض القاتل ( الحسد ) ويجب على كل مسلم أن يعرفه حتى لا يبتلى به, وإذا كان قد ابتلي به فليعالج نفسه بعلاجه الآتي ذكره, حتى لا يحترق بناره في الدنيا والآخرة.
الحسد في القرآن:
1 - " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم, من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ". البقرة 109.
لأن الحقيقة كانت واضحة لهم, كانوا يرون أن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة ونعمة على المسلمين, وأن أحد آثارها اتحاد قلوب المسلمين, فلذلك كانوا يحسدون المسلمين ويعملون على سلب هذه النعمة منهم.
2 - " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ". البقرة 159.
يتضح من هاتين الآيتين والروايات الواردة في تفسيرهما أن كل حق لشخص أو فضيلة منَّ الله بها عليه ولا يستطيع شخص آخر أن يتحمل ذلك, ويتمنى زوال هذه النعمة عنه وينكر هذا الحق أو الفضيلة حسداً أو يخفيه, فإن هذا الشخص يستحق العقوبة ولعنة الله والملائكة والمؤمنين, كعلماء اليهود الذين كانوا يعرفون نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن حق ولكن لأنهم رأوا أن النبوة والرئاسة الإلهية في غيرهم, فقد كرهوا ذلك ولم يستطيعوا
تحمله وحملهم الحسد على إخفاء الحق الإلهي, وحالوا دون اعتناق اليهود الإسلام, وأيضاً أغضبهم أن يروا المسلمين متحدين, وحاولوا سرقة إيمانهم, وإلقاء الخلاف بينهم.
وتفاصيل حسد اليهود والنصارى منذ صدر الإسلام فما بعده مدونة في كتب التاريخ, وحسدهم الآن واضح.
إنكار حق أهل البيت حسداً:
وكذلك كثير من علماء المسلمين الذين كرهوا فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم عليهم السلام حق, فأنكروا هذا الحق وهذه الفضائل حسداً وأخفوا ذلك, بل وضعوا روايات كاذبة في فضائل أعدائهم.
وللإطلاع على مفردات هذا الحسد راجع كتاب الغدير.
قال في مجمع البيان: وهذه الآية تدل " إن الذين يكتمون... " إلخ تدل على أن كتمان الحق من أكبر الكبائر.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار, والمراد أنه يكتمه حيث يكون إظهاره واجباً ولا خوف من إظهاره.
3 - " أم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله ". النساء 54.
في هذه الآية توبيخ وإنكار ونهي عن حسد من أنعم الله عليه سواءاً بالنعم الظاهرية كالمال, والأولاد, والجاه, أو بالمقامات المعنوية كمقام النبوة التي أعطاها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقام الولاية الذي أعطاه سبحانه لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان أعداؤهم يحسدونهم عليه.
لا تتمن نعم الآخرين:
4 - " ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً ". النساء 32.
أي لا يقل أحدكم ليتني كنت مكان فلان, ليت هذه النعمة تؤخذ منه وتعطى لي, كحسد الأخت أخاها على سهمه من الإرث الذي هو ضعف سهمها, أو الجاهل الذي يحسد مسلماً لأن امرأته جميلة ويتمنى أن تكون له.
أو جاهل آخر يحسد غيره على بيته أو ثروته, ويحمل هذه الأمنية في قلبه أو كقليل العلم الذي يحسد عالماً على شهرته وسمعته ويتألم لذلك, ويتمنى في قلبه أن يحصل على مقامه ومكانته, أي أن تزول تلك النعمة عن صاحبها وتكون لهذا الحسود.
وخلاصة معنى الآية: لا تتمنوا التفوق والمزية المالية وغير المالية مما منحه الله لبعضكم دون البعض الآخر لأن لكل شخص رجل أو امرأة نفعاً من كسبه, وعمله, وجهده, وموقعه الإجتماعي, ومعاناته, ومستواه المعيشي, والله العالم بكل شيء أوصله إلى ما هو فيه عن حكمة ومصلحة, ولا حق لغيره من منطلق الرذالة والدناءة والحسد, أن يتمنى زوال نعمته, وواجب كل مسلم أن لا ينسى نصيبه الذي أعطاه إياه الله ويقنع به, ويكون شاكراً, ويطلب الزيادة, والأفضل, من ربه سبحانه, أي يطلب من الله أن يعطيه مثل تلك النعمة وأفضل منه دون أن تزول عن ذلك الذي أعطيت له الآن.
وبشكل عام فإن المفروض أن يغض الطرف عن مزايا الآخرين وتفضيلهم, ويكون أمله وأمنيته فقط زيادة النعم التي هي لدى الله, وهو
سبحانه قادر عليها[431] وهذه هي الغبطة التي تقدم أنها ممدوحة.
لو أننا نعمل بهذه الآية:
لو أن المسلمين الذين يقولون: إن القرآن كتابنا السماوي, ودستورنا الإلهي كانوا يعملون بهذه الآية ويعتقدون بها, ويخافون من التلوث بذنب الحسد الكبير لاجتثت من أوساطهم جذور أنواع الخيانات, والجنايات, والغضب, وعدم العفة, والإعتداءات على الأموال والأعراض والكرامات, ولكان بإمكانهم أن يتذوقوا لذة الحياة في الدنيا, وأن يتنعموا بالسعادات الأخروية.
ولكن.. لأنهم عصوا أمر الله فإنهم يعيشون في الدنيا الذل والنكبات
والمشقات والمحن, وسيلفهم الخجل يوم القيامة وينكسون رؤوسهم أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أعوذ بالله من الحاسد:
5 - " ومن شر حاسدٍ إذا حسد ". الفلق 5.
في هذه الآية الشريفة, جعل الحسود الذي هو في الحقيقة شيطان إنسي, كالشيطان الجني, ولأن الشيطان الجني عدو خفي, ولذلك فهو يأخذ الإنسان على حين غفلة, ولا وسيلة للتخلص منه إلا اللجوء إلى الله والإستعاذة به من شر هذا العدو فكذلك الإنسان الحاسد, فإنه لا يُعرف قبل وصول حسده إلى المحسود ولو كان يعرف قبل ذلك لأخذ المحسود حذره منه.
ثم إن من الممكن أن يكون للإنسان حساد كثيرون, وهو غافل عن خططهم التي تحاك ضده بمهارة, ويعجز عن الدفاع عن نفسه, وعلى الأقل يعجز عن الوقوف بوجه أثر نظراتهم المسمومة.
والعلاج الوحيد هو اللجوء إلى الله تعالى والإستعاذة به ليخلص بقدرته المؤمن العاجز من شر الحساد والسحرة وسائر الشياطين.
جاء في تفسير البرهان عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: " ومن شر حاسد إذا حسد " قال: " أما رأيته إذا فتح عينيه وهو ينظر إليك هو ذاك[432] ".
الحسد في الروايات:
الحسد يقضي على الإيمان, قال الإمام الصادق عليه السلام: " إن
الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب[433] ".
ذلك أن الحسود ينشغل قلبه بالغضب على المحسود, فلا ينصرف إلى ذكر الله والآخرة حتى يوفق للحصول على نور الإيمان.
وأيضاً: إنه لا يرى عيوب نفسه ليصلحها, ولا يتذكر ذنوبه التي لا تحصى حتى يتوب إلى الله منها, ولا يعرف حضور القلب في الصلاة, وسائر العبادات حتى يكون له عمل صالح.
آفة الدين, وعلامة النفاق:
وقال عليه السلام: " آفة الدين الحسد والعجب والفخر[434] ". و " إن المؤمن يغبط ولا يحسد, والمنافق يحسد ولا يغبط[435] " أي إن الحسود منافق.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله عز وجل لموسى بن عمران: " يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي, ولا تمدن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي, صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي ومن يك كذلك فلست منه وليس مني[436] ".
وقال داوود الرقي: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: " اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً[437] ".
داء الأمم من قبلكم:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يوماً: " ألا إنه قد دب إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدين
وينجي منه أن يكف الإنسان يده ويخزن لسانه ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن[438] ".
وقال الإمام الصادق عليه السلام: أصول الكفر ثلاثة: الحرص, والإستكبار, والحسد[439].
يخرج من الجنة ويذهب الإيمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " معاشر الناس إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد فلا تحسدوا فتحبط أعمالكم وتزول أقدامكم[440] ".
وقال صلى الله عليه وآله: لا يجتمع الإيمان والحسد في قلب امريء.
وقال علي عليه السلام: الحسد يميت الإيمان كما يميث الماء الثلج[441].
الحسد أهلك قابيل:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " والحسد أصله من عمى القلب والجحود بفضل الله تعالى وهما جناحان للكفر وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً ولا توبة لحاسد لأنه مصر عليه معتقد به[442].
" إن أبغضكم إليَّ المترئسون المشاؤون بالنمائم الحسدة لإخوانهم ليسوا مني ولا أنا منهم إلى أن قال: والله لو قدم أحدكم بملء الأرض ذهباً على الله
ثم حسد مؤمناً لكان ذلك الذهب مما يكوى به في النار[443] ".
وفي عدة الداعي ضمن حديث معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " ... وتصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة إلى أهلها فتمر إلى ملك السماء الخامسة ( ... ) ولذلك العمل رنين كرنين الإبل, عليه ضوء كضوء الشمس، فيقول الملك: قفوا أنا ملك الحسد، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واحملوه على عاتقه إنه كان يحسد من يتعلم أو يعمل لله بطاعته، وإذا رأى لأحد فضلاً في العمل والعبادة حسده ووقع فيه، فيحمله على عاتقه, ويلعنه عمله[444] ".
فتاوى فقهاء الإسلام:
قال الشيخ المفيد: ولا تقبل شهادة الفاسق ولا ذي الضغن والحسد[445].
وقال ابن إدريس في السرائر: الحسد حرام وكذا بغض المؤمن والتظاهر بذلك قادح في العدالة[446].
وقد عدد الشهيد الأول في الدروس " الكبائر " وذكر أن منها: " إظهار الحسد للمؤمن والبغضاء[447] ".
وفي شرح كلمة أمير المؤمنين عليه السلام: إياك والحسد فإنه شر شيمة وأقبح سجية وخليقة إبليس[448] قال المحقق الخونساري الحسد أن يتمنى شخص زوال نعمة شخص آخر كالمال أو الجاه أو العلم وأمثال ذلك, سواءاً تمنى أن يصل إليه أم لا, وهو مذموم وحرام.
ومن الذين اعتبروا حرمة الحسد مسلَّمة لا خلاف فيها المحقق المازندراني في شرح أصول الكافي.
وقال الفاضل المقداد في كشف اللثام: الحسد حرام ولأنه أمر خفي, فالتظاهر به مضر بالعدالة.
ونقل عن مبسوط الشيخ أن الحاسد إذا أظهر حسده بالسب والظلم فهو فاسق.
وقال العلامة المجلسي في شرح الكافي وبحار الأنوار: المشهور بين الفقهاء أن الحسد حرام مطلقاً أي سواءاً أظهره الحاسد أم لم يظهره, وبعض الفقهاء حرموا إظهاره فقط بلحاظ بعض الأخبار المتواترة في ذم الحسد والنهي عنه, فإن العقل الصريح يحكم بقبحه, لأن الحسد غضب على قضاء الله لأنه منَّ على بعض عباده بزيادة في هذا المجال أو ذاك, ولا ذنب أشد خطراً من أن يتألم الإنسان لأن مسلماً مرتاح في حين أن راحته لا تشكل لذلك التعيس الحاسد أي ضرر, إلى غير ذلك من مفاسد الحسد الأخرى وسيأتي ذكرها[449].
وقال الشيخ الحر العاملي: والحسد حرام دون الغبطة[450].
وقال الفاضل النراقي في جامع السعادات:
1 - إذا أظهر الحاسد الحسد بالقول أو بالفعل, فلا شك في مذمته وحرمته وصاحبه عاصي وسبب عصيانه الحسد, وأما فعله وقوله فكل منها في حد ذاته ذنب.
2 - إذا لم يظهر حسده القلبي إلا أنه لم يستأ منه, واحتفظ به في قلبه, فهذا أيضاً لا شك في مذمته وحرمته كالقسم الأول مع فارق أنه في هذا القسم ذنب بينه وبين الله, والتوبة منه واجبة, ولكنه في القسم الأول أظهره أي عبر بقوله أو بفعله عما في قلبه, ولذلك أصبح واجباً عليه بالإضافة إلى التوبة من ذنب الحاسد, التسامح من المحسود وإرضاؤه.
3 - إذا لم يظهر حسده, واستاء منه, وغضب على نفسه لهذه الحالة الشيطانية, وأحب أن يتخلص منها, وأن لا يبتلى بها فالظاهر أنه في هذه الصورة لم يرتكب ذنباً.
إلى أن يقول: اتضح مما ذكرنا أن حالات الإنسان بالنسبة إلى أعدائه على ثلاثة أقسام:
1 - أن يفرح لحلول البلاء بعدوه ويصبر عن فرحه بالقول أو الفعل أو أن يؤذي عدوه بالقول أو الفعل, وهذا القسم حرام مطلقاً وصاحبه عاصي حتماً.
2 - أن يحب بحسب طبعه ما يؤذي عدوه لكنه عقلاً يكره هذه الحالة فيه وهو يتألم منها وغاضب بسبب وجودها فيه ولو أنه استطاع لتخلص منها, وهذا القسم معفو عنه باتفاق الفقهاء.
3 - أن لا يظهر حسده, ولا يستاء منه, ولا يطلب زواله من نفسه, وهذا القسم محل خلاف, والحق حرمته وعصيان صاحبه[451].
وقال صاحب الجواهر:
لا كلام في أن الحسد وهو تمني زوال النعمة عن الغير أو هزوله معصية تأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب, وأن آفة الدين الحسد والعجب والفخر وأن الحاسد ساخط لنعم الله صاد لقسمه بين عباده وأن ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة ( ... ) والعلماء بالحسد[452]. إلى أن يقول: ويمكن القول بملاحظة كلمات بعض الأصحاب والروايات أن إظهار الحسد حرام.
وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أن الحسد بمعنى تمني زوال النعمة من مال وجاه وعلم وفضيلة عن الآخر, سواء وصلت إليه أم لم تصل,
أما تمني أن يصله ما وصل إلى غيره فليس حسداً مذموماً, بل غبطة محمودة, والظاهر أن الحسد بالمعنى الأول حرام للإجماع والأخبار الكثيرة. إلى أن يقول: ظاهر الأخبار أن الحسد معصية كبيرة, بل قريبة من الكفر, وإذا لم يقبل أحد أنه كبيرة فيجب أن يقبل أن الإصرار والمداومة عليه كبيرة وقادح في العدالة, والظاهر أن الحسد مطلقاً معصية, ظهر أم لم يظهر.
ويقول بعض أعاظم العصر: إن تمني زوال النعمة عن الغير فعل قلبي محرم[453].
الحسد حرام أم إظهاره:
بعد تتبع كلمات الفقهاء, يتضح أن فتوى مشهور الفقهاء هي حرمة الحسد مطلقاً, كما نقل عن العلامة المجلسي, وبعض الفقهاء حرموا إظهار الحسد, أي التعبير عنه بواسطة العين أو اللسان أو سائر الأعضاء, وإيذاء المحسود بذلك أو سلب النعمة منه.
أما بالعين فبأن ينظر إلى المحسود شزراً أو حسداً, وأما باللسان فبأن يحقره, أو يعيره, ويشمت به وهكذا, إلى أن يشتمه, وأما باليد فبأن يعبر بالكتابة عن هدفه المشؤوم وهكذا إلى أن يضربه.
دليل حرمة الحسد:
لكن الحق في المسألة أن الحسد وحده معصية وحرام كما قال المشهور, وظواهر الأدلة تدل على ذلك, وإظهار الحسد في حد ذاته حرام
مستقل ومعصية أخرى.
دليل أولئك الذين حرموا إظهار الحسد فقط شيئان:
الأول: أن الحسد غير اختياري.
الثاني: بعض الروايات.
أما كون الحسد غير اختياري, فإذا كان مرادهم أن الحسد غريزة بشرية بحيث لا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه في الوقوع فيه والبعض يسمي الحسد " حب التنافس " واعتبره طبيعياً وذاتياً للإنسان وقال: إن الحسد بين الأطفال شاهد على كونه أمراً غريزياً, إذا كان مرادهم ذلك فالجواب:
الحسد ليس خلقاً طبيعياً:
إذا كان الحسد طبعاً بشرياً فيجب أن يوجد في جميع الناس, والحال أن كثيراً من الناس لا وجود للحسد فيهم, وكثير من الذين يوجد فيهم الحسد يمكنهم التخلص منه عبر تقوية الإيمان وتنمية الروح الدينية ثم إنه لو كان طبعاً بشرياً لما ذم العقلاء عليه ولما نهى عنه الله تعالى وقد تقدم أن المشهور بين فقهاء الإسلام حرمته ووجوب الإمتناع عنه.
نعم, خطوره غير اختياري, أي من الممكن أن توجد حالة الحسد في الإنسان دون أن يريد هو ذلك, ولكن الإحتفاظ بهذه الحالة في القلب وإظهارها معاً مستطاعان مقدوران تماماً, فإذا قام المكلف بذلك أي احتفظ بالحسد في قلبه وعبر عنه وأظهره فإنه بالتدريج يصبح ملكة له ( أي طبعاً وخلقاً ) بحيث يصعب عليه أن يتخلص منه, ولأنه أصبح كذلك بسوء اختياره فهو مستحق للتقبيح والنهي والمؤاخذة والعقاب.
التنافس غير الحسد:
أما حب التنافس فإذا كان المراد منه أن الإنسان لا يستطيع أن يرى غيره في نعمة ورفاهية, ويتمنى زوال تلك النعمة فهذا هو الحسد, وقد تقدم أنه ليس غريزة إنسانية, ولا طبعاً بشرياً.
وإن كان المراد أن طبع الإنسان وسجيته حب الكمال والنعمة وحيث ما رأى ذلك أحب أن يكون له ما رآه بل ما هو أفضل منه - إن كان هذا المراد - فهذا الكلام سليم ولكن هذا ليس هو الحسد بل هو تلك الغبطة, المنافسة, التي تقدم أنها في الأمور الدنيوية مباحة, وفي الأمور الأخروية مطلوبة, وقد أمر الله تعالى بها. " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ". المطففين 26, " فاستبقوا الخيرات ". البقرة 148.
الإحساس بالحاجة في الطفل:
وأما حسد الطفل الذي لا يستطيع أن يرى أمه تلقم ثديها لطفل آخر أو تجلسه في حضنها وتحنو عليه فذلك أيضاً ليس أمراً غريزياً إذ ما أكثر الأطفال الذين ليسوا كذلك, والذين هم هكذا فالسبب هو إحساسهم بالحاجة لأمهاتهم فالطفل يخشى إذا أحبت أمه طفلاً آخر أن يقل عطفها عليه.
والخلاصة: إن هذا الحسد عارض وهو يزول بعد بلوغ سن الرشد.
وأحياناً ينتقل الحسد إلى الطفل عن طريق الوراثة من الأب أو الأم وهو أيضاً ليس غريزياً, بل هو على سبيل الإقتضاء ( أي وجد ما يقتضيه ) وهو يزول بالتعليم والتربية على أساس الدين.
مع المحدث الفيض والفاضل النراقي:
ذكر المحدث الفيض والفاضل النراقي في المستند ما حاصله أنه إذا
غصب ظالم مال شخص أو أهانه وسبه أو جرحه أو جرح ابنه فإن كراهية هذا الظالم وحسده يستقران في قلب المظلوم قهراً, وبشكل غير اختياري, أي أن هذا المظلوم يستاء من نعمة حصل عليها الظالم, ويفرح لزوالها عنه, ويتمنى ذلك.
ونقول في الجواب:
أولاً: إن حسد المظلوم للظالم ليس غريزة وسجية, بل هو أمر اختياري, ويمكن للإنسان أن يرجع إلى ما ذكر في بحث البغض ( الحقد ) من أضرار الحسد وعلاجه, ويعمل به ولا يبتلى بالحسد.
ونقول أيضاً: إن سبب الحسد الأصلي هو حب الدنيا والإهتمام الزائد بالحياة الدنيوية, والتعلق الشديد بها.
ويمكن الرجوع إلى ما سيأتي في بحث حب الدنيا للنجاة من ذلك وعدم التلوث بالحسد.
ثانياً: لنفترض أن بغض الظالم وحسده قهريان, وأن حسد المظلوم لهذا السبب لا يعاقب الله تعالى عليه, فإن هذا لا يصلح دليلاً لإثبات أن الحسد قهري حتى في الموارد الأخرى حيث لم يظلم المحسود الحاسد ولا يكون السبب الوحيد للحسد إلا الوضاعة وحب الدنيا وعدم الإيمان.
والخلاصة: لا شبهة ولا شك في أن الحسد في الموارد الأخرى - غير ما إذا كان المحسود ظالماً - هو اختياري قطعاً.
وقفة مع حديث الرفع:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون, وما لا يطيقون، وما اضطروا
إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة[454].
أي أن هذه الأمور التسعة لا مؤاخذة عليها ولا عقاب وهي:
1 - الخطأ: مثلاً: إذا أخطأ شخص وشرب الخمر بدلاً من الماء فإنه لا يكون قد عصى.
2 - النسيان: إذا نسي شخص الصلاة ولم يأت بها فإنه لم يعص ولكنه إذا تذكر وجب عليه القضاء.
3 - ما أكرهوا عليه: وهو واضح.
4 - وما لا يعلمون: بشرط أن لا يكون من لا يعلم جاهلاً مقصراً بل يكون جاهلاً قاصراً.
5 - وما لا يطيقون: أي ما لا يقدرون عليه كأن يكون شخص لا يستطيع الصيام فلا يصوم فأنه لا يكون عاصياً.
6 - وما اضطروا إليه: كاضطرار الجائع لأكل الميتة حتى لا يموت.
7 - الحسد أي أن بداية وجود الحسد في القلب ليست ذنباً لكن إحلال الحسد في القلب والإستمرار عليه ذنب وحرام[455] كما مر في الأدلة المتقدمة.
8 - الطيرة أي الفأل السيء الذي يخطر بالبال أو يجري على اللسان لا مؤاخذة عليه, وكفارته التوكل على الله وقد تقدم في قسم العقائد.
9 - التفكر في الوسوسة في الخلق: أي سوء الظن بأفعال الناس[456] وهو أيضاً لا مؤاخذة عليه إلا أن إحلاله في القلب والإعتقاد به وإجراءه على اللسان حرام ومعصية كما تقدم في بحث سوء الظن.
ويمكن أن يكون المراد بالوسوسة في الخلق الوساوس الشيطانية في القضاء والقدر, وإنكار الحكمة في خلق الشيطان والحيوانات المؤذية, وخلق النار وخلود الكفار فيها, وأمثال ذلك, فإن هذه الأفكار إذا كانت خواطر عابرة فلا مؤاخذة عليها, أما إذا استقرت في القلب, واعتقد بها الإنسان, وأظهرها بلسانه فهي حرام, وفي بعض الموارد كفر.
وخلاصة الجواب عن حديث الرفع أن المراد من الحسد الذي لا مؤاخذة عليه, الخواطر القلبية, أما إبقاء الحسد والإحتفاظ به في القلب فهو حرام, وإظهاره باللسان ( كالفحش في القول, والتهمة, والقذف, والفضيحة ) والأعضاء ( كالضرب ) فهو ذنب آخر[457].
ثلاثة لا يسلم منها أحد:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة لا يسلم منها أحد: الطيرة، والحسد، والظن قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامضِ، وإذا حسدت فلا تبغ وإذا ظننت فلا تحقق."
قال الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله: والبغي عبارة عن استعمال الحسد وفي رواية أخرى إن المؤمن لا يستعمل حسده[458].
استعمال الحسد بالقلب:
والجواب: إن استعمال الحسد أعم من القلبي والقولي والفعلي كما نقل صاحب الحدائق عليه الرحمة عن بعض المحققين أن المذموم من الحسد هو ما أظهر الحاسد أثره بقول أو فعل, دون ما خطر على القلب من غير ترتب أثر عليه كما يدل عليه قوله عليه السلام في بعض الأخبار: إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده أي لا يستعمله قولاً ولا فعلاً ولا قلباً بالتفكر في كيفية إجرائه على المحسود وتنفيذه في حقه وإزالة نعمته[459] فالإستعمال القلبي للحسد هو تثبيت الحسد في القلب, وأن يتصدى في قلبه للتخطيط لإيذاء المحسود وإزالة النعمة عنه.
ومن الواضح أن أدلة حرمة الحسد تشمل هذه المرتبة من استعمال الحسد.
وعلى فرض أن ظاهر الإستعمال هو القولي والفعلي دون الإستعمال القلبي فنقول: إن جملة " فلا تبغ " إرشاد إلى طريق الخروج من ذنب الحسد, أي إذا لم يعمل الإنسان بالحسد فإنه يزول, وبناءاً على هذا فلا دلالة فيها على عدم حرمة الحسد القلبي.
والخلاصة: إن إطلاقات حرمة الحسد لا تقيد بهذه المرسلة. ( أي الرواية التي لا يعتمد على سندها لنقص فيه ).
الحسد ينافي عصمة الأنبياء:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " ثلاث لم يَعْرُ منها نبي فما دونه: الطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق[460] ".
ونقول في الجواب: من الشروط القطعية في النبي والإمام, العصمة, ويجب الإعتقاد بأنهم مطهرون من كل تلوث بأية معصية صغيرة كانت أم كبيرة, وأنهم لا تخطر على قلوبهم الخواطر الحرام لأن الله تعالى كلفهم بتزكية النفوس البشرية وتطهيرها من كل دنس فيجب أن يكونوا طاهرين ليمكنهم تطهير الآخرين.
مثلاً: إذا كان في نبي ذرة من حسد فكيف يمكنه إنقاذ الناس من هذا المرض القاتل؟
ثم إن وجود الحسد فيه يكشف أنه لم يعرف بعد حقيقة الدنيا, فناءها, وضعتها, وحقيقة الآخرة, بقاءها وعظمتها, ومحال أن يكون الجاهل ممثل الله تعالى.
الحسد بمعنى المحسود:
بناءاً على فرض صدور الرواية عن الإمام ( مرفوعة الخصال ) فالحسد هنا بمعنى المحسود ( مصدر بمعنى اسم المفعول ) أي أن كل نبي ومن هو أقل منه هم محسودون دائماً يعانون من حسد الناس لهم وأذاهم كما في آية " أم يحسدون الناس ".
والطيرة في هذه الرواية بمعنى وقوع الشخص مورداً للطيرة والفأل السيء أي أن الأنبياء والأئمة بل المؤمنين يتطير الناس بهم ويعتبرونهم شؤماً عليهم كما في سورة يس " إنا تطيرنا بكم ".
والتفكر في الوسوسة في الخلق إشارة إلى ابتلاء الأنبياء بالوساوس الموجودة في الخلق, وحقاً إن من ابتلاءات الأنبياء الشديدة ابتلاؤهم بأهل الوسوسة الذين يلقي الشياطين الوساوس والخواطر القبيحة في قلوبهم, فيقومون هم بإلقاء الناس في الضلال ويبعدونهم عن الأنبياء.
وما ذكر - هنا - في معنى هذا الحديث أورده الصدوق في الخصال وقال: ليس لهذا الحديث معنى آخر[461].
جذور الحسد:
1 - العداوة: حيث أن الحسد حالة نفسانية عارضة, توجد في النفس فإن لوجودها أسباباً تجب معرفتها لتُجتنب... ولا يبتلى الإنسان بمرض الحسد القاتل.
كلما ابتُلي شخص بظلم ظالم, أو واجهه سبب آخر من أسباب البغض
التي تقدم ذكرها في بحث الحقد, ويعمل بما ذكر من العفو والتسامح بل أفسح مجالاً في قلبه للعداوة, فإن هذه العداوة تصبح جذراً خصباً للحسد, لأن مثل هذا الشخص يتمنى دائماً زوال نعمة عدوه وينتظر حلول البلاء به ليفرح ويعتبر أن ابتلاءه تعويض إلهي وانتقام له من عدوه.
وإذا رآه يتقلب في النعمة تألم وضاق صدره وإذا كان " مؤمناً " عتب على ربه واشتكى منه بل ويغضب: كيف أنعم على عدوي ولم يقف إلى جانبي...
أما إذا لم يكن مؤمناً فيعتبر ذلك من تقلب الدهر وجور الزَّمَان والفلك.
حسد العداوة من صفات الكفار:
هذا النوع من الحسد أي الحسد من منطلق العداء, اعتبر في القرآن المجيد من صفات الكفار قال تعالى:
" ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ". آل عمران 118.
" إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ".آل عمران 120.
وهذا الحسد إذا استقر في القلب, وأسلس له الحاسد قياده فإن صاحبه لا يتورع عن التلوث بأية خيانة وجناية والإقدام على أية فتنة وفساد بما في ذلك القتل[462].
وللوقاية من شرور وآفات حسد العداوة يجب العمل بما ذكر في بحث
الحقد وأن لا يفسح الإنسان مجالاً في قلبه لبغض آخر.
2 - الإشتراك في أمر معنوي:
إذا اشترك شخصان في مزية وكان لأحدهما تقدم على الآخر وتفوق, فبالإمكان أن يحسده الآخر على ذلك ويصبح لا يستطيع أن يتحمل تفوقه عليه, ويتمنى زوال هذه النعمة عنه, كحسد الأقارب بعضهم بعضاً, وكلما اشتدت القرابة كالأخوين واشتدت المزية التي يتفوق فيها أحدهما كانت إمكانية الحسد أكثر.
وقد ذكرت في القرآن المجيد قصة حسد قابيل لأخيه هابيل[463] كما
ذكرت قصة حسد أبناء يعقوب لأخيهم يوسف.
ويجب على الأرحام إذا كان في أحدهم مزية وفضيلة أن يراقبوا قلوبهم بشدة حتى لا تتلوث بحسده, وليتأمل من يكون في معرض الإبتلاء بذلك في هاتين القصتين من قصص القرآن المجيد ليرى كيف أن عاقبة الحسد الفضيحة وقتل الأخ أخاه والشقاء الأبدي.
وليتأمل أيضاً في ما ذكر في بحث قطيعة الرحم من كتاب الذنوب الكبيرة ليكون بمأمن من الإبتلاء بهذه القذارة المدمرة.
وكالأخوين والأرحام الشريكان في صف دراسي, أو الدراسة عند أستاذ واحد وأحدهما متقدم في درسه على الآخر, ويحبه الأستاذ أكثر من زميله, هنا أيضاً يجب على الطرف الآخر ولا يسمح لنفسه أن تتلوث بحسد زميله وليرجع إلى ما سيأتي ذكره من أضرار الحسد وليبذل جهده بدلاً من الحسد على تحسين مستواه طالباً العون من الله تعالى.
العلماء والوعاظ في معرض الحسد أكثر:
وكذلك فيما إذا كان شخصان فقيهين أو واعظين يعيشان في محيط واحد, فإنهما إذا كانا طالبين لزيادة المال أو الشهرة ورأى أحدهما أن منافسه يحظى بحب الناس أكثر منه فإنه يبتلى حتماً بمرض الحسد وما أكثر المفاسد التي ستصدر منه.
إذن يجب أن يفكر من كان في معرض الإبتلاء بذلك في أمر نفسه فإن
الحسد علامة الجهل بالحقيقة وشهادة على عدم فهم فناء الدنيا وعدم امتلاك الإيمان ببقاء الآخرة وعظمتها.
وما أقبح وأشد عار أن يكون الشخص يرى نفسه عالماً ويقدم نفسه للناس على هذا الأساس في حين يكون فيه ما يدل على جهله قطعاً.
ليتأمل هذا أيضاً في ما سيأتي من علاج الحسد وليقرأ الآيات والروايات في ذم ولعن العالم المقبل على الدنيا الطالب لها ويطبق ذلك على نفسه لو كان يرى باطنه وهو كحمار حُمل أسفاراً لما حسد منافسه على الإطلاق.
الزمالة والحسد:
ومثل ما تقدم إذا كان شخصان زميلين في الطب, أو التجارة, أو الصناعة في محيط واحد, فكلما رأى أحدهما أن عمل الآخر أكثر رواجاً, وقد أصبح وضعه المالي أفضل, خاصة إذا كانا متجاورين في المكان, فإن ذلك قد يكون منشأ للحسد, فيتألم الحاسد ويغضب ويتمنى فقر زميله وزوال نعمة رواج عمله عنه, وبهذا يكون قد أهلك نفسه بنار الحسد.
إن من الواجب على مثل هذا أن يستأصل جذور الحسد من نفسه بواسطة تقوية الإيمان بالله واليقين بالتوحيد الأفعالي بالتفصيل الذي تقدم في قسم العقائد, خصوصاً الفقرة المتعلقة بالأرزاق, وأن يعلم موقناً أن رزق كل مخلوق على خالقه وقلة ذلك وزيادته مرتبطة بحكمة الله ومصلحة الإنسان.
وليرجع أيضاً إلى ما ذكر في بحث القضاء الإلهي ليرضى بقضاء الله تعالى.
وليرجع كذلك إلى ما سيأتي ذكره في بحث حب الدنيا إن شاء الله من عدم أهمية الدنيا وعدم قيمتها وليفكر في ذلك جيداً حتى لا يتألم أبداً من تردي
أوضاعه وتحسن أوضاع زميله وليفهم أن التردي في عالم الآخرة الخالد أهم, ولأجله ينبغي أن يكون الإضطراب.. والإستغاثة والبكاء.
التعارض والحسد:
وكذلك كل شخصين توهما أن التعارض والتزاحم قائم بينهما في الحياة وشؤونها, كزوجتين لرجل واحد, والمرأة وأم زوجها ( حماتها ) فإذا رأت الزوجة أن ميل زوجها إلى ضرتها أكثر أو إلى أمه, أو رأت الأم ذلك, فقد تضطرم نار الحسد في قلبها وتحملها على القيام بكثير من المفاسد.
وعلاج ذلك ما ذكر في حسد الزميل زميله, وأحياناً يكون حسد الإخوة من هذا الباب, أي لأنه يرى زيادة عطف من أبيه أو أمه على أخيه أو أخته الأمر الذي يجعل نصيبهما أكثر من نصيبه فإن ذلك يحمله على الحسد.
3 - التكبر وحب التفرد:
من كان يرى أنه أكبر من آخر أو أعز منه, ثم رأى في ذلك الآخر بعض أسباب العزة والكبر الدنيويين, كالثروة والشهرة والمنصب فإنه يحسده ويتمنى زوال نعمته, ومن هذا الباب حسد الدول الكبرى على الدول الصغيرة والعمل على إضعافها عبر الإختلافات الداخلية أو غير ذلك حتى تحتفظ الدول الكبرى بالعزة والكبر لنفسها.
وقد يبلغ تكبر البعض وغرورهم بحيث أنهم لا يستطيعون أن يتحملوا أبداً وجود المتفوق عليهم كما يقال عن النمر إنه لا يستطيع أن يرى ما هو أعلى منه, ولذا يحقد على القمر لأنه يراه فوق رأسه, فيصمد على قمة الجبل ليهجم على القمر ويسقط في قعر الوادي.
حسد النساء وغِيَرهِن:
وهذا هو منشأ حسد النساء غالباً, إنهن لا يستطعن تحمل من هو أعلى منهن سواء كان تفوقه بالجمال, أو الثروة أو بحب الزوج أو غير ذلك.
ويصل أمر هذا الخلق " عبادة الذات والغرور " في البعض إلى حد أنها تريد أن تكون منقطعة النظير فريدة دهرها ووحيدة عصرها كالحاكم الذي يريد أن يصبح حاكماً على الحكام ويتمنى فناء كل الحكام غيره[464].
أو كالفقيه الحسود الذي يريد أن يكون فقيهاً أوحدياً, وإذا عرف بوجود شخص مثله تمنى أن يظل مغموراً أو يطويه الفناء.
أو كالثري الذي لا يريد أن يكون لثروته نظير, وإذا بلغه أن هناك من يشبهه في الثراء تمنى تبديد ثروته.
وكذلك البهلوان الذي يتمنى زوال قوة منافسه وعجزه.
وكالدكتور المختص الحسود الذي يريد أن يكون اسمه فقط هو المشهور وإذا رأى أن شخصاً اشتهر مثله أو أكثر منه تمنى فناءه, أو كالقائد المدرس الذي يريد زيادة عدد أتباعه وتلامذته وأن لا يكون له نظير على الإطلاق وهكذا في سائر الأصناف والطبقات.
وحب التفرد هذا قائم في كثير من النفوس البشرية وقد أدت أنواع هذا الحسد إلى فتن ومفاسد ومجازر ونقل الشواهد التاريخية يستدعي الإطالة.
العلاج في الخروج من الجهل المركب:
والواقع أن علاج هذا النوع من الحسد هو في نهاية الصعوبة لأن سببه الأصلي هو الجهل المركب بحقيقة وواقع الحياة الدنيا وخالق العالم سبحانه.
والشخص الجاهل بحقيقته الجاهل بجهله, بل المنكر لجهله الذي يرى نفسه عالماً, لا علاج له, إلا أن تلمع بارقة اللطف الإلهي وتعرفه بنفسه ليعترف بعجزه وفنائه وصغر الدنيا وحقارتها وقدرة ربه ووجود الآخرة وعظمتها وخلودها, حتى يشفى من هذا المرض " الغرور والعجب وحب الشهرة وحب التفرد " الذي هو سبب الحسد.
4 - الحرص والطمع:
من ابتلي بمرض الحرص ولم يقنع بما أُعطي, وكان في سعي دائم للحصول على المزيد, وعينه ممدودة إلى ما في أيدي الناس, فسيحمله ذلك على تمني زوال أيّة نعمة يراها في غيره, وما لم يشف من مرض الحرص والطمع فإنه سيبقى يحترق بنار الحسد, ويجب عليه إذا أراد علاج ذلك أن يرجع إلى ما سيأتي في باب حب الدنيا.
5 - البخل الشديد:
البخلاء الذين لا يستطيعون أن يعطوا من ثرواتهم شيئاً, تبلغ أحياناً شدة لؤمهم ووضاعتهم حداً بحيث لا يستطيعون أن يتحملوا رؤية نعمة على شخص وتبلغ أحياناً درجة أشد فلا يستطيعون أن يتحملوا رؤية شخص يحسن إلى آخر ويحسدون هذا وذاك, أي من يرون أن الله أنعم عليه أو من أحسن إليه محسن.
أعطى أمير المؤمنين عليه السلام شخصاً ذات يوم خمسة أوساق من التمر ( حوالي 750 كيلو غراماً ) وكان هذا الرجل فقيراً لا يسأل الناس وكان ينفق مما عنده إذا وجد, فقال شخص آخر كان حاضراً:
يا أمير المؤمنين إن هذا لم يطلب منك شيئاً وكان يكفيه وسق واحد فلماذا أعطيته كل هذا؟
فقال عليه السلام: لا كثر الله في المؤمنين ضربك ( مثلك ):
أعطي أنا وتبخل أنت[465].
لا يجتمع الإيمان والبخل:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " حرمت الجنة على ( ... ) البخيل...[466] ".
وقال صلى الله عليه وآله: ما محق الإيمان شيء محْق الشح...[467].
وقال صلى الله عليه وآله: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد[468].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة أشياء ( ... ) ولا يكون فيهم بخيل[469].
قال العلامة المجلسي بعد نقل هذه الروايات: يتضح من هذه الروايات أن الشح ( الذي هو البخل الشديد المقترن بالحسد ) من الكبائر المهلكة.
والواقع أن البخيل الحسود الذي يتألم إذا رأى نعمة على غيره ويفرح إذا سلبت منه ليس بحسب الباطن والسريرة من الآدميين والجنة محل الآدميين.
علاج الحسد بشكل عام:
يجب الإنتباه إلى أن علاج الذنب القلبي صعب ويحتاج إلى وقت طويل يتناول فيه المريض الدواء المر وغير المستساغ الذي حدد في الصيدلية الإلهية أي القرآن وعلوم آل محمد عليهم السلام, على العكس من الذنب الجسدي الذي يتم علاجه في وقت أقصر.
مثلاً: شرب الخمر أو لعب القمار وأمثالهما, يكفي في الطهارة منها أن يخاف الشخص من الله ويندم على فعله ويصمم على الترك ويتدارك ما يلزم تداركه.
إلا أن الذنب القلبي حيث أنه أمر ثابت خفي فيحتاج القلب لكي يطهر منه إلى زمان طويل يواظب خلاله على تناول الدواء الإلهي, وإذا تساهل في الأثناء فإن ذلك الذنب يتجذر ويصعب بحيث لا تمكن معالجته إلا بنار جهنم.
وبناءاً عليه فعلى كل إنسان عاقل أن يهتم بذنبه القلبي أكثر من ذنبه
الجسدي ويبذل في علاجه جهداً أكبر, ولا يتساهل خصوصاً مع ملاحظة أن ذنب الجسد واحد ولكن ذنب القلب مستمر وأحياناً لا يمكن إحصاؤه.
مثلاً: من شرب كأس خمر فقد أذنب ذنباً واحداً وعليه واجب واحد هو أن يتوب من ذلك.
ولكن من ضربت جذور الحسد في أعماق قلبه هو في كل لحظة في المعصية, وفي كل لحظة تجب التوبة عليه, وفي بعض الموارد يساوي عدد الوجوب عليه عدد أنفاسه في المعصية والترك. والهدف من بيان هذا الأمر الحث على الإهتمام بعلاج الحسد بالتفصيل الآتي.
لا يرى عيبه الخفي:
النقطة الأخرى التي ينبغي الإلتفات إليها هي: حيث أن الإنسان يرى ذنبه الجسدي ويعرف أنه ملوث بالذنب فبالإمكان أن يندم بسرعة ويتوب فيطهر من ذنبه.
ولكن ذنب القلب يخفى على الحس, فرؤية الإنسان له تحتاج إلى عناية خاصة, سيما إذا لاحظنا أن كل نفسٍ تحب نفسها والحب يمنع رؤية العيب.
من هنا قيل أنه لا يمكن لأحد أن يرى عيوبه, بل يجب أن يسأل غيره عنها.
العجب يحجب رؤية العيب:
إلا أن من الواجب الإلتفات إلى أن من لا يمكنه أن يرى عيب نفسه إنما هو المعجب والمغرور الذي لا يريد أن يرى أنه صاحب عيب, ولو أنه مزق سار الغرور وأصبح يشفق على نفسه حقاً, وخاف من وجود العيب فيه
والموت وهو على هذه الحال, ثم تصدى للبحث عن عيبه لرأى عيوبه التي لا تحصى.
إن واجب كل عاقل - بناءاً على ما ذكر - أن يتنبه إلى الذنوب القلبية التي ذكرت في هذا الكتاب ثم يتأمل في نفسه بعمق ويبحث في زوايا قلبه بدقة, فإذا وجد لأي منها أثراً فليبذل جهده لعلاجه بالتفصيل الذي تقدم, وليعلم أنه إذا كان عبد ما طالباً لصلاح نفسه حقاً وسعى من أجل ذلك فإن الله سبحانه سيفهمه عيوبه ويساعده في علاجها والطهارة من أدرانها.
وحيث أن الحسد أصعب مرض نفسي وأكبر ذنب قلبي فعلاجه والتطهر منه أيضاً صعب ومشكل إلا لمن أعانه الله وأضاء قلبه بنور اليقين ويجب الإهتمام بعلاجه عن طريقي العلم والعمل.
العلاج العلمي للحسد:
يجب على المبتلي بهذا المرض أن يسعى للوصول
إلى حد اليقين الصادق بعدة أمور:
1 - اليقين بالتوحيد الأفعالي لرب العالم, أي أن يعلم أن الفقر والثروة والسلامة والمرض وصولاً إلى الموت والحياة, كل ذلك من الله وتدبيره وتقديره كما تقدم في قسم العقائد.
ومن وصل إلى هذه المرحلة من اليقين, قنع بما أعطاه الله وفرح به وشكر, لن يجد الحرص بعدها إلى نفسه سبيلاً, وبما أنه عرف أن كل شيء مرتبط بالله فلن يطمع أبداً حتى يبتلى بالحسد.
ولأنه يدرك أن قلة الرزق وزيادته من الله فإنه لا يهتم بشريكه أو منافسه أو زميله حتى يبتلى بحسدهم.
ثم إنه باعتبار معرفته بأن كل ما لديه هو من الله تعالى فلن يبخل في سبيل الله خصوصاً مع اليقين بأن وعد الله حق وقد وعد سبحانه أن الإنفاق سبب لزيادة النعمة.
والخلاصة: إن إشراقة نور اليقين في القلب تستأصل كثيراً من أنواع الحسد المذكورة.
والتدقيق في الذنوب الجسدية يكشف أن جذورها هي الذنوب القلبية التي تنشأ من عدم الإيمان أو من ضعف الإيمان, وبناءاً عليه فعلاجها الوحيد هو تقوية الإيمان.
معرفة الدنيا والآخرة:
2 - المعرفة الواقعية للدنيا والآخرة, واليقين بما بيّنه الله تعالى في القرآن المجيد حول حقيقة كل منهما, من ذلك:
" اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ( أي في طلبها تعب ومشقة كمشقة الأطفال في لعبهم الذي لا فائدة منه ) ولهو ( أي إلهاء عن الوصول إلى المقامات الخالدة ) وزينة ( تزين في الطعام واللباس والمسكن وواسطة النقل وغير ذلك ) وتفاخر بينكم ( في الحسب والنسب والمقام ) وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ( قد يكون المراد بالكفار الزُّراع الذين يكفرون البذر أي يسترونه ) ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ( للكافرين ) ومغفرة من الله ورضوان ( للمؤمنين ) وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ". الحديد 20.
هل تستحق هذه الدنيا الحسد:
إذا تأملت أيها القاريء العزيز قليلاً في أحوال الحريصين والأثرياء وطالبي
الرئاسة الحسودين من الماضين, ستعلم أنهم تماماً كنبات يخضر لفترة ثم يذبل ويجف ويتناثر, أولاء أيضاً يبقون عدة أيام يأكلون ويشربون ويروحون ويجيئون ترتفع أصواتهم فوق الأرض ويصولون ويجولون, ثم يختفون في باطن الأرض بمنتهى الذل.
" إذهب إلى المقبرة واجلس قليلاً وانظر إلى أولئك المتحدثين الساكتين[470] ".
فهل يحسد عاقل بعد معرفة حقيقة الدنيا أحداً على الثروة والرئاسة؟
هل سيكون بعد ذلك طالباً للتفرد بمقام دنيوي ليبتلى بالحسد؟
وتقدم مزيد حديث حول حب الدنيا في بحث القسوة ويأتي التذكير به في بحث حب الدنيا.
" لا قيمة للدنيا بحيث يحسد عليها أو يؤسف عبثاً على وجودها وعدمها ".
" أولئك الذين لم يأبهوا لهذه الحفنة, من التراب, يمكن القول حقاً إنهم أهل الرأي الصائب ".
" العارفون لا يقيمون أي وزن لكل ما لا ثبات له ولا بقاء حتى إذا كان مُلْك كل العالم ".
" حتى لا تتطاول ولا تتكبر فاعلم أن لله في ملكه حيوانات كثيرة مثلك ".
" هذا عالم معرض للإختلال طبعاً والسعداء هم أسرى عالم
آخر ".
" من يضرب الأرض برجله نخوة وتكبر فعاقبته أن يصبح تراباً يطؤه الناس[471] ".
3 - معرفة أضرار الحسد الدنيوية والأخروية للحاسد, والمنافع الكثيرة للمحسود.
أ - الأضرار الدنيوية - العذاب الدائم:
الحسود الذي تسبب نعمة شخص آخر عذابه واضطرابه الداخليين, يبقى دائماً في اضطراب وتحرق وغم وحزن, ولا يعرف الإستقرار ساعة واحدة, وكما أن نعم الله على عباده لا تنتهي فإن حسرة الحسود وغصته أيضاً لا تنتهيان " الحسود الثري والقوي يحترق بنار الحسرة والفقير العاجز الطاهر القلب مرتاح ".
الحسد سجن الروح:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أقل الناس لذة الحسود[472] ".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " لا راحة لحسود " " الحسود مغموم " " الحسد حبس الروح " " الحسود كثير الحسرات متضاعف السيئات ".
وقال عليه السلام أيضاً: " ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم[473] ".
أي لأن الحسود يرجع أثر ظلمه إليه فهو في الحقيقة مظلوم وهو قد ظلم نفسه, يعيش القلق والحزن المتواصلين بحيث يتمنى الموت للخلاص من الغم والحسرة[474].
ب - الخيبة الدائمة:
الحسود الذي يتمنى زوال النعمة عن المحسود, تلف عمره كله الخيبة, لأن لكل فرد في مدة حياته الدنيوية مقدرات حتمية من الله تعالى, لا تستطيع أية قدرة أن تحول دون تحققها, ثم إنه لا يخلو شخص من حاسد ولو قدر أن يصل الحاسدون إلى أمنياتهم لكان من المفروض أن تسلب النعم من الجميع, حتى نعم هذا الحاسد فإنه أيضاً محسود.
والخلاصة إن تمني زوال النعمة عن الغير طمع ساذج يبتلى به المحسود بخيبة لا نجاح فيها على الإطلاق, وإذا لم يطهر نفسه من هذه القذارة فيجب أن يعتبر نفسه في عداد أهل جهنم, لأنهم يعيشون في خيبة دائمة, كما أن أهل الجنة يحققون كل آمالهم ولا تعرف الخيبة إليهم سبيلاً[475].
الحاسد يفرح المحسود!
والعجيب أن المشقة والعذاب والخيبة التي يعيشها الحسود ترضي المحسود بل ويتمناها, فالحسود عبر هذه الحالة الشيطانية إذن يدخل السرور على عدوه ويحقق أمنيته بحيث أن المحسود يحب أن لا تزول هذه المعاناة والمشقة عن الحاسد.
قال الإمام الهادي عليه السلام: " إياك والحسد فإنه يبين فيك ولا يعمل في عدوك[476] ".
وقال الإمام الصادق عليه السلام: قال لقمان: " يا بني احذر الحسد فلا يكونن من شأنك واجتنب سوء الخلق فلا يكونن من طبعك فإنك لا تضر بهما إلا نفسك، وإذا كنت أنت الضار لنفسك كفيت عدوك أمرك لأن عداوتك لنفسك أضر عليك من عداوة غيرك[477] ".
ج - المرض:
الغصص التي يتجرعها الحاسد تستبد به, وقد تمرضه, لأن الحزن الدائم يعطل عمل الجهاز الهضمي, ويضعف - في النهاية - مقاومة البدن في مقابل الأمراض بحيث يصبح أقل مرض يضطره إلى ملازمة الفراش.
إذن, ينبغي أن يرحم الحسود نفسه ولا يخسر نعمة السلامة والصحة عبثاً ودون مبرر.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " صحة الجسد من قلة الحسد[478] ".
وقال أيضاً: " العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد " و " الحسد يضني[479] " لأن صاحب الحسد يظل يرى النعم المتتالية على الناس, وكل منها يثير حزنه ولذلك يضنيه الحسد ويمرض جسده.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " الحسود أبداً عليل " و " الحسد شر الأمراض[480] " الجسدية والنفسية, لأن الأمراض النفسية الأخرى ليس لها غير الأضرار الأخروية أضرار دنيوية ذات شأن, ولكن الحسد, بالإضافة إلى الأضرار الأخروية يسبب مرض البدن ومشقة لا تنتهي.
أما الأمراض البدنية فرغم أن آلامها سبب في تطهير صاحبها من الذنوب وحصوله على الثواب, إلا أن المرض البدني الناشيء من الحسد سبب في زيادة الذنوب واستحقاق العقاب.
د - قصر العمر:
الألم المستمر, والمرض, يهيئان الحسود للموت السريع, وباختصار: تصبح الحسرة موتاً ثم إن الحسد يحمل صاحبه على القيام بأعمال كقطيعة الرحم, والبغي على عباد الله وهذان يقصران العمر, وقد يحمله الحسد على بعض الأعمال التي تؤدي إلى هلاكه.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " الحقد يُذوي " والحقد من لوازم الجسد والمراد ﺒ " يُذوي " أنه يقصر العمر[481].
ﮪ - الحسود وحيد دائماً:
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " الحسود لا خلة له[482] " فلا هو يصادق أحداً لأن من كان يتمنى زوال نعمة شخص فهو يراه عدوه فكيف يصادقه؟ ولا غيره مستعد لمصادقته لأن الحسود يؤذي المحسود بكلماته الجارحة وأفعاله القبيحة فيثير نفور الآخرين منه إلى حد أن زوجته وابنه ينفران منه.
و - الحسود لا يسود:
وقال عليه السلام: " الحسود لا يسود[483] " إما لأنه إذا ساد وهو يحمل الحسد ويتمنى زوال نعمة الآخرين فسيصدر منه من الفساد ما لا يطاق, ولذلك فالله تعالى يمنع دون وصوله إلى مثل هذا الموقع...
وإما لأنه بسبب حسده يقوم بأعمال تنافي السيادة والتقدير والإحترام وتسبب استخفاف الناس به ووضاعته في نظرهم ولهذا فهو لا يسود.
أو لأنه بسبب الحسد لا يدرك نقائصه وعيوبه حتى يعمل على إصلاحها ولذلك فهو لا يسود.
ز - زوال الإيمان:
ذكر معنى الإيمان في هذا الكتاب مراراً وخلاصته يقين الشخص بأنه وجميع أجزاء عالم الوجود مخلوقات الله, وأن كل ما به وبالآخرين من نعم فهو من الله, ولهذا فهو يحب الله ويكون خاضعاً له وذليلاً ومطيعاً.
بناءاً عليه فالشخص الحسود الذي لا يرضيه أن منَّ الله على غيره بنعمة ما ويتمنى زوالها عنه, إن لم يعتبر أن هذه النعمة من الله فكفره بالله واضح, وإذا اعتبرها من الله ومع ذلك فهو غير راضٍ بها فقد جعل نفسه في مقابل الله بل أعلى منه لأنه يقول بلسان الحال: النعمة التي أعطاه إياها الله منافية لما أراه مصلحة.
والخلاصة: إن حالة الحسد عدم إيمان, وانقطاعٌ عن الله تعالى. وإذا استمرت هذه الحالة فيه فإنها تستأصل من قلب الحاسد جذر الإيمان وأصله بحيث أنه إذا مات على تلك الحالة فقد مات على غير الإيمان.
وحقاً, لو لم يكن للحسد ضرر إلا زوال الإيمان لكان كافياً في هلاك صاحبه, لأن الفلاح مرتبط بالإيمان, والشيء الذي يزيل الإيمان هو مهلك بطبيعة الحال, واجتنابه واجب عقلاً.
ح - زوال الحسنات القلبية والبدنية:
" إن الحسد يأكل الحسنات " يعجز الحسود عن الإتصاف بأي خلق إنساني, ويتصف ويتصف بالأخلاق السيئة القبيحة, فيتصف بدلاً من المحبة والنصيحة أي حب الخير للآخرين بالعداوة وحب الشر, وبدلاً من الصدق والصفاء والوفاء بالكذب والتلون والنفاق, وبدلاً من السخاء والكرم والشكر بالبخل واللؤم والكفران, وبدلاً من الفداء والإيثار والإحسان بحب الذات والأنانية, وبدلاً من
البشاشة واللين والتسامح بالعبوس والحدة والتشدد في الإنتقام, إلى حد أنه يلوث نفسه بكل خيانة وجناية ممكنتين.
وبشكل عام فإن الحسود يُحرم من كل الصفات الحسنة ويبتلى بكل الصفات القبيحة.
العبادة الميتة:
أعمال الحسود الحسنة, عبادات صورية وشكلية لأنه محروم من الخضوع والخشوع القلبيين, إنها عبادات لا روح لها ولا حقيقة وقشرية لا لب فيها, وحتى إذا راعى شرائط صحتها فهي فاقدة لشرائط القبول ولذلك فإنها لا تنفعه أبداً.
وإذا كان لبعض عباداته شيء من الفائدة فإن هذه الفائدة ستكون من نصيب المحسود بسبب الغيبة والتهمة وسائر أنواع الأذى التي تصدر من الحاسد ضده, وسيؤخذ له من الحاسد يوم القيامة ما يعادل ذلك.
حقاً إن الخيبة والحرمان اللذان يبتلى بهما الحاسد يثيران العجب فهو في الدنيا يحترق لرؤية النعمة في المحسود ويتمنى زوالها ولا يحقق ما أراد, وفي القيامة يرى حسناته مع المحسود ومن الواضح أي أثر سيتركه ذلك فيه ( الحاسد ) وفي الحقيقة إن زوال النعمة الذي يريده الحاسد للمحسود يتحقق للحاسد فتزول نعمته عنه " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ". فاطر 43.
حسد إبليس وبني أمية:
مثل إبليس الذي تصدى لحسد آدم وأراد زوال نعمته عنه إلا أن العكس تحقق فأصبح هو المطرود الأبدي عن باب الله تعالى وتسامى مقام آدم حتى درجة الإصطفاء.
وكبني أمية الذين حسدوا آل محمد عليهم السلام ولم يستطيعوا تحمل حب المسلمين لهم واستفادتهم من أنوار ولايتهم, فبذلوا جهدهم معتمدين القوة والمال, وحالوا كالسحاب المتراكم دون سطوع شمس الحقيقة إلا أن حب أهل الإيمان وتنعمهم بولاية أهل البيت وبغضهم لبني أمية ونفورهم منهم ولعنهم زاد عما كان عليه وحالهم في عالم الآخرة وعالم الجزاء واضح[484].
لماذا يحسُد العلماء:
إذا سأل سائل: إن الأمور التي ذكرت في بيان العلاج العلمي للحسد كلها ضرورية وبديهية ولا تخفى على عاقل خصوصاً أهل العلم, وبناءاً عليه لا ينبغي أن يوجد الحسد في أهل العقل, مع أننا نرى أن هذا المرض يزداد باستمرار في جميع الناس وفي أهل العلم بشكل خاص.
فالجواب: إن سبب عدم علاج مرض الحسد بهذه المعلومات البديهية التي تقدم أنها علاج عملي للحسد أمران:
الأول: أن أكثر الناس لا يلتفتون إلى هذه المعلومات, وإذا صادف سماعهم لها من واعظ أو قرأوها في كتاب فإنما يتم الإلتفات إليها كخاطرة عابرة, والخواطر مليئة بأمور أخرى وملهيات كثيرة مضادة وهي تقضي على هذه الخواطر الصحيحة.
والخلاصة: شرط تأثير هذه المعلومات استقرارها في القلب ودوام الإلتفات إليها.
تفكير ساعة:
قد يقال: بناءاً على هذا فيجب أن يترك الإنسان كسبه وعمله وتأمين معاشه ويقضي وقته في التفكير بهذه المعلومات.
ونقول: يكفي في اليوم والليلة تفكير ساعة في المعارف والحقائق ولا ينافي ذلك إدارة الشؤون الحياتية وقد ذكرت أهمية التفكير وضرورته في قسم العقائد.
الثاني: ( السبب الثاني الذي يمنع تأثير العلاج العلمي للحسد ) أن كل حالة تعرض على النفس إنما تتحول إلى صفة ثابتة راسخة في الذات ويكون زوالها بمنتهى الصعوبة فيما إذا التزم الشخص بها وجعل أفعاله وأقواله مطابقة لها, أما إذا لم يلتزم بها ولم يعمل بمقتضاها بل كان سلوكه مطابقاً لما يضادها فإن تلك الحالة تزول دون أي عناء ولا يبقى في النفس أي أثر منها.
بناءاً على هذا, تجب معرفة السلوك والأفعال المطابقين للحسد ليتم اجتنابهما, وتجب معرفة السلوك المضاد للحسد ليعمل على أساسه للشفاء من هذا المرض المدمر.
العلاج العملي:
1 - سوء الظن وحسن الظن:
من لوازم الحسد أن لا يعترف الحاسد بفضيلة للمحسود ولا يعترف بصحة أقواله وأفعاله, وقد يلجأ إلى اتهام المحسود بالرياء وخداع الناس حتى لا يضطر للإعتراف بصحة عمل عمله وصحته ظاهرة واضحة أو يقول إن ذلك حصل منه صدفة.
وعلاج ذلك أن يقرر أن ينظر بعين حسن الظن إلى أفعال الناس وأقوالهم, وما لم يتيقن بفساد شيء من ذلك فليحمله على الصحة بالتفصيل الذي تقدم في بحث سوء الظن.
2 - القدح والمدح:
يحمل الحسد الإنسان على ذم المحسود وقدحه وتتبع عثراته وتضخيم أخطائه وتوجيه النقد الحاد إليه وإفشاء عيوبه وإخفاء فضائله, ويبلغ به الأمر إلى تهمته والإفتراء عليه.
فمن أراد علاج حسده يجب عليه أن يحفظ لسانه من قول السوء وأن يتحدث بما يعرف من فضائل المحسود بدلاً من الحديث عن عيوبه وأن يتجاهل أخطاءه ويجعل العفو شعاره بدلاً من الإنتقام ويجتنب النميمة.
3 - الكبر والتواضع:
ويحمل الحسد صاحبه أيضاً على التكبر على المحسود وسوء الخلق معه, عدم ابتدائه بالسلام, العبوس في وجهه, عدم زيارته, فيجب التصرف مع المحسود بخلاف رغبات النفس والشيطان, فيتواضع له ويحسن معاملته ويقابله بالبشاشة ويبدأ بالسلام عليه ويذهب لزيارته ويجله ويحترمه بدلاً من إهانته وانتقاصه ويثني على إيجابياته بالتفصيل الذي تقدم في بحث الكبر.
4 - الشماتة والمواساة:
مقتضى الحسد أنه إذا نزلت بالمحسود مصيبة وحلَّ به بلاء فإن الحاسد يفرح ويعبر بلسانه عن شماتته به فيقول: إنه يستحق ذلك, ويجب أن يصيبه أكثر من ذلك, وأمثال هذه الكلمات التي تدل على وضاعة الحاسد.
والحريص على نجاته يجب أن يعلم أن التعيير والشماتة من الكبائر وقد تم
إيضاح ذلك في كتاب " الذنوب الكبيرة " فيجب إذن اجتناب هذا الذنب الكبير ولأجل استئصال الحسد من قلبه فيجب أن يبادر إلى العبادة الكبيرة التي هي مواساة المصاب بحيث يعتبر أن مصيبته مصيبة له هو فيعزيه ويحثه على الصبر.
وثواب المواساة وكيفيتها لا يرتبطان بحديثنا هنا فليراجع كتاب " أحكام الأموات " من " وسائل الشيعة ".
5 - العداوة والصداقة:
يجب على الشخص العاقل المتدين أن لا يعتبر نفسه غريباً عن سائر الناس ومنفصلاً عنهم, بل يجب أن يعتبر أنه والجميع واحد باعتبار أنهم جميعاً خلقهم الله وهو سبحانه يرزقهم, وكلهم يبقون على وجه الكرة الأرضية ضيوفاً لمدة قليلة ويعبرون, ثم يجتمعون جميعاً في عالم البقاء... إذن ينبغي أن يحبهم جميعاً إلا أولئك الذين هم أعداء الله بالتفصيل الذي مر في بحث البغض ( الحقد ).
" أنا سعيد بالعالم لأن العالم منه وأعشق جميع العالمين لأنهم منه[485] ".
وليعتبر جميع الناس عوناً له وأنصاراً ومدداً لأن كل شخص يحتاج إلى سائر الناس في تأمين مسكنه وثيابه ومأكله ومشربه ومقدمات ذلك وسائر مستلزمات الحياة وشرح هذا يطول, ويترك التفكير فيه إلى فطنة القاريء العزيز.
" بنو آدم أعضاء بعضهم البعض لأنهم في الخلق من جوهر واحد.
فإذا آلم الدهر عضواً لا يقر لسائر الأعضاء قرار[486] ".
ولذا ينبغي أن يحبهم, وينبغي أن تتضاعف هذه المحبة بالنسبة لمن هم شركاء في المعتقد, وكلما زادت علائق الإنسان كالقرابة وعلاقة الأستاذ والتلميذ وأمثال ذلك يجب أن تزداد المودة والمحبة أيضاً.
يرى نعمة المحبوب نعمته:
بعد استحكام علاقة المحبة هذه ينبغي للشخص إذا رأى نعمة على غيره أن يتصرف وكأن هذه النعمة حصل هو عليها, وعندها لن يتمنى زوالها عن صاحبها, بل إنه إذا خرج من دائرة الصغار والوضاعة وكان من أهل النبل والمحبة فسيصبح دائماً يحب الخير أي يحب أن يصل الخير إلى الناس وأن يكون الكل منعمين مرفهين, وإذا رأى أن الله أنعم على شخص فإنه يفرح ويصبح كمن أوصل ذلك الخير إلى صاحب ( النعمة ) أي يُعطى ثواب فاعل الخير, وكذلك يفرح إذا رأى شخصاً يحسن إلى آخر وعندها يكون شريك هذا المحسن في الثواب لأنه رضي بعمله, وباختصار ينبغي أن يحب الشخص لغيره ما يحبه لنفسه.
والروايات كثيرة حول الحب في الله وحب الخير لعباد الله والثواب العظيم على ذلك ويترك إيرادها إلى مكان أكثر مناسبة.
6 - ترك صحبة الحسود:
حيث أن مرض الحسد مُسْرٍ لكثير من الأمراض النفسية وبعض الأمراض الجسمية فإذا صادق شخص طاهر القلب شخصاً حسوداً وعاشره فسيبتلى بعد مدة بمرض الحسد ( تقدمت الإشارة إلى ذلك في بحث اليقين ).
قال الإمام الصادق عليه السلام: " نهاني أبي أن أصاحب حاسد نعمة وشامتاً بمصيبة أو حامل نميمة[487] ".
7 - تذكر الله والآخرة يصرف عن الحسد:
بشكل عام يجب فوراً طرد الخواطر التي تخطر على القلب والإنصراف إلى الخواطر النفسية السليمة ومحاولة إشغال القلب بها كالتدبر في عظمة عالم الوجود والتفكر في الحِكم اللامتناهية في أجزاء هذا العالم وكالتفكير في النفس والكمالات التي يجب التحلي بها والمنازل والمراحل التي لا بد من قطعها واجتيازها.
وأيضاً: التدبر في قرب الخلاص من دار الغربة والوصول إلى المحطة الأبدية والمقر الخالد الذي تشكل ساعة الموت طليعته وكالتفكير في تقارير عمله وتفاصيل ما يجري عليه في عالم الآخرة بالنحو الذي أخبر به القرآن المجيد وكذلك التفكير في مكائد الشياطين وطريق الخلاص منهم.
يقول الإمام السجاد عليه السلام: " اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك وتفكراً في قدرتك وتدبيراً على عدوك[488] ".
نصيحة لا بد منها:
ما ذكر في بيان العلاج العملي للحسد رغم أنه دواء للنفس مر وغير مستساغ بل شديد الصعوبة ثقيل الوطأة إلا أن ملاحظة عدة أمور تجعله سهلاً يسيراً...
أحدها: أن ما ذكر هو شعبة من جهاد النفس الذي أمرنا به في القرآن والأخبار والذي اعتبر العلاج الوحيد للأمراض النفسية وللإطلاع يراجع كتاب الوسائل والمستدرك باب جهاد النفس ويكتفى هنا بنقل رواية واحدة.
قال الإمام الصادق عليه السلام: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فلما رجعوا قال مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس.
والخلاصة إن النجاة من مشقات الدنيا وعقوبة الآخرة والوصول إلى الراحة في الدنيا والثواب والمقامات في الآخرة, كل ذلك متوقف على الصراع مع النفس وترك أهوائها وإذا قرر شخص أن يلتزم برغبات نفسه وينفذها فليعلم أنه خرب آخرته ودنياه, وعليه فتجب مخالفة النفس كما قال الفيض: " إن هزمت نفسك ووقعت في أسرك فذلك خير من أن تهزم الكفار وتتخذهم أسرى[489] ".
التأمل في فضائل أصحاب الكمال:
وليرجع - المهتم ببناء نفسه - إلى ما ورد في فضيلة وعظمة مقام أهل المحبة الذين يريدون للناس الخير, وأهل الصبر والتسامح والتواضع الأمناء حفظة الأسرار الذين يقضون حوائج الناس ويخدمونهم, وكذلك عظمة سائر الصفات التي ينبغي التحلي بها لعلاج الحسد, ولأن نقل فضيلة كل من هذه الصفات يستدعي الإطالة فليرجع القاريء العزيز إليها ليسهل عليه العمل بما ذكر في علاج الحسد.
صعب ولكنه لذيذ:
ويجب العلم أيضاً أن كل قول أو فعل مخالف للنفس مهما كان القيام به صعباً على النفس وغير مستساغ, ولكن حيث أن ذلك موافق للقلب والروح فإن الإنسان إذا تحركت همته وقام به فسيعمر الفرح قلبه وروحه.
مثلاً: أثناء الغضب, رغم أن كظم الغيظ, وصرف النظر عن الإنتقام والتسامح ثقيل على النفس, ولكن إذا أعمل الشخص همته وتسامح فإنه سيجد أن قلبه برد وقد تخلص من الإضطراب الداخلي " في العفو لذة لا توجد في الإنتقام ".
ما أحسن أن يجرب الإنسان ويترك الغضب ويعفو ليدرك حقيقة برودة القلب وفرحه ويذوق طعم ذلك, عندها تظهر حقيقة وعد الشيطان الكاذب الذي كان يقول: انتقم ليبرد قلبك وكذلك وعده حين يقول: انتقد المحسود واذكر نقائصه ليصغر وتكبر أنت.
عندما يتصرف الإنسان بخلاف ذلك فيُسِر خطأ المحسود ونقصه ويُظهر فضائله, سيرى أنه بذلك يكبر ويصبح محبوباً, أما إذا أصغى إلى وعد الشيطان فإنه يحقر نفسه ويذلها.
وكذلك عندما يهدد الشيطان الحاسد بالفضيحة وإراقة ماء الوجه إذا تواضع للمحسود, إن مخالفة الشيطان في هذا وفي ما تقدم تكشف كذبه " وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ".
" إذا اعتبرت ترك اللذة لذة فلن تجد بعد ذلك أن اللذة لذة ".
" ستحلق روحك في الأعالي إذا حلت بينها وبين الطمع والأماني ".
" ولكن إن لم يبلغ صبرك القمة, فستكون في شرك الشهوة كالعصفور في الشرك ".
" أنت تعبد حالتك هذه عبادة تمنعك عن رؤية الطريق ما دمت على قيد الحياة[490] ".
والتأمل في أحوال الأنبياء والأئمة وعظماء الدين يكشف أن سيرتهم وسلوكهم مبنيان على مخالفة النفس والهوى وموافقة العقل وأمر الله, وكانوا يرون أن السعادة والراحة الحقيقيتين في ذلك... وكان نهجهم باستمرار الحلم, والتواضع, والنبل, والبذل وحب الخير لجميع عباد الله حتى أعدائهم, كما أن سيرة مخالفيهم وأعدائهم كانت مبنية على اتباع هوى النفس والشيطان ومخالفة العقل والرحمن وكانوا يتعاملون مع عباد الله بالكبر والغضب وحب الإنتقام والقهر والحدة وحب السوء لهم وسوء القول بحيث أنهم كانوا يتمنون فناء أي شخص يرون أن الله تعالى منَّ عليه بنعمة أو فضيلة.
مقارنة بين سلوكين:
إقرأ عن سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي سفيان وسائر المشركين في فتح مكة, ثم اقرأ عن موارد حسد هؤلاء له صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته, وكذلك معاملة أمير المؤمنين عليه السلام لمعاوية وعائشة وأتباعها في حرب الجمل وحلمه عليه السلام وعفوه إلى حد أنه أرجع عائشة إلى المدينة بكل احترام وإكرام ثم اقرأ عن سلوك هؤلاء معه عليه السلام ومع أولاده لتعرف سيرة كل الفرقين وطريقته.
قطع معاوية الماء في صفين عن جيش أمير المؤمنين عليه السلام وعندما
استولى الإمام عليه السلام على الشريعة ( الماء ) وهزم جيش معاوية أمر أن ينادى في المعسكر أنه لا يحق لأحد أن يمنع جيش معاوية من الماء وأن الماء مباح للجميع.
وهذا يشبه تقديم سيد الشهداء عليه السلام الماء إلى جيش الحر ثم منع ابن زياد له ولأصحابه من الماء.
ولمعرفة حسد ولؤم وشقاء أعداء أهل البيت عليهم السلام تأمل في ما فعله هؤلاء ببدن الإمام الحسين المطهر ورأسه المقدس, وكذلك معاملتهم للنساء والأطفال وسائر آل بيته عليه السلام, وحديث ابن زياد مع السيدة زينب وسروره وشماتته وجراحات لسانه ثم سجنهم, وأسرهم بعد ذلك وإرسالهم بوضع مؤسف إلى الشام إلى عدوهم اللدود يزيد وتأمل أيضاً في هذه القصة التي تنقل هنا من " منتهى الآمال ".
قال ابن الأثير في الكامل: عندما رفض أهل المدينة بيعة يزيد وأخرجوا عامله على المدينة جاء مروان إلى عبد الله بن عمر وكلمه أن تبقى عياله عنده فأبى ابن عمر أن يفعل, وكلم مروان علي بن الحسين وقال: يا أبا الحسن إن لي رحماً فاجعل حرمي مع حرمك فقبل.
فأرسل مروان زوجته عائشة بنت عثمان بن عفان مع حرمه إلى علي بن الحسين فخرج بهم ( عليه السلام ) مع عياله إلى ينبع, وفي رواية أنه عليه السلام أرسل حرم مروان إلى الطائف, وأرسل معهم ابنه عبد الله[491].
فكان العفو منا سجية:
ينقل ابن خلكان عن الشيخ نصر الله بن مجلى أنه قال:
رأيت أمير المؤمنين عليه السلام في المنام فقلت له: لقد ظلمتكم قريش وظلمكم بنو أمية في مكة, ومنعوا عنكم الخبز والماء, ولم يألوا جهداً في أذاكم والهزء بكم, حتى هاجرتم إلى المدينة, ثم جيشوا الجيوش لحربكم وقتلوا شيوخكم, ولكنكم عندما أمكنكم الأمر وفتحتم مكة, لم تنتقموا منهم بل قلتم " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " حتى كانت فاجعة كربلاء لولدك الحسين عليه السلام.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألم تسمع شعر ابن صيفي[492] في ذلك قلت: لا، قال: اسمعه منه.
وانتبهت من النوم فذهبت إلى ابن صيفي, فحدثته بما رأيت في منامي, فبكى وعلا نحيبه, وقال: أقسم بالله أني قلت البارحة شعراً, ولم أكتبه بعد, ولم أخبر به أحداً ثم قرأ عليَّ:
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ
وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا على الأسرى نعفُ ونصفحُ
وحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وحيث أن هذه سيرة عظماء الدين, وتلك سيرة أعدائهم, فعلى المتدينين والمحبين لأهل البيت عليهم السلام اتباع مواليهم وجعل سلوكهم منسجماً مع سلوكهم عليهم السلام ليكونوا من شيعتهم, وليحذروا من اتباع
أعدائهم والإقتداء بهم.
" أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أمَّن لا يهدي إلا أن يهدى ". يونس 35.
اللهم اجعلنا مستنين بسنن أوليائك, مفارقين لأخلاق أعدائك مشغولين عن الدنيا بحمدك وثنائك بجاه محمد وآله الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين.
" نهاية بحث الحسد ".
10 - حب الدنيا
من الذنوب القلبية الكبيرة والأمراض النفسية الشديدة التي هي أصل ومنشأ سائر الذنوب القلبية والجسمية.. حب الدنيا.
وقد نهى جميع الأنبياء عنه, وأكدوا على ذمه.
وقد تحدث القرآن المجيد عن قبح هذا الذنب والنهي عنه أكثر من الحديث عن سائر الذنوب, والروايات المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى عليهم السلام في ذلك كثيرة وسيشار إلى بعضها:
ما تنبغي معرفته هو معنى الدنيا, والمراد من حب الدنيا الذي هو حرام.
معنى الدنيا[493]:
منذ اللحظة التي يخرج فيها الإنسان من بطن الأم ويلامس الكرة الأرضية
إلى الساعة التي تفارق فيها الروح الجسد, هذه الفترة الزمانية تسمى الدنيا مع ما هو من لوازم حياة الشخص فيها كالطعام والثياب والمسكن وكذلك الأمور التي لها دخل في استقرار الإنسان ولذته في هذه الفترة كالسلامة والصحة, والزوجة, والولد, وزيادة الثروة, والعزة, والشهرة, وحُسن التسمية, والرئاسة, وتحصيل وسائل الأنس والطرب وما شابه, كل ذلك يسمى الدنيا.
والخلاصة إن حياة الإنسان من حين ولادته إلى ساعة موته والآثار واللوازم والإعتبارات وجميع ما يرجع إلى ذلك, كله يسمى: " الدنيا ".
العمل الصالح باق:
أما الأفعال الإختيارية للإنسان التي أمر الله بها كالصلاة والصوم والحج والزكاة وسائر العبادات, والإمتناع عما نهى الله عنه كالشراب, الزنا, القمار, وسائر الذنوب - أما هذه الأفعال الإختيارية - فإنها وإن كانت من الأمور التي تقع في الحياة الدنيوية الفانية ولكن كما أن الله تعالى باقٍ فإن كل عمل يقوم به الإنسان باسم الله وبذكره فإن أثره أيضاً باق.
وبعبارة أخرى العبادة والوقاية من الذنب إذا كانتا لله فصورتهما دنيوية وفانية ولكن حقيقتهما وأثرهما باقيان, ولذا يقال لكل منهما أنه أخروي لا دنيوي, بل وأكثر من ذلك, إن مقدمات العبادة والوقاية من الذنب إذا كانت لله فهي أيضاً من أمور الآخرة.
العبادة خارجة من موضوع حب الدنيا:
مثلاً: الشخص الذي يحصل على المال, ويحافظ عليه من أجل أداء
التكليف الإلهي لينفقه على عياله ويزكي, ويصل رحمه, أو يذهب إلى الحج وكذلك سائر الموارد التي أمر الله بها. إذا كان تحصيله المال بهذه النية حقاً فكذلك أيضاً أخروي.
وبشكل عام فإن العبادة خارجة من موضوع حب الدنيا ولزوم حبها ( العبادة ) واضح.
وأما الذنوب فلأنها من الدنيا المذمومة وكونها مبغوضة أمر بديهي, فلزوم بغضها ( الذنوب ) واضح وهي أيضاً خارجة عن بحثنا.
الخلاصة: المراد من حب الدنيا الذي هو محل البحث هنا ما أحبه الإنسان من الدنيا غير العبادة والمعصية. إذ أن حكم وحب هذين واضح.
خلقتم للبقاء:
تقدم في قسم العقائد بالتفصيل أن واجب الإنسان أن يوقن أنه بالموت لا يفنى, بل الإنسان مخلوق خالد لا يطويه الفناء أبداً بعد أن خلق, وانفصاله عن البدن المادي بالموت شبيه بخروج الطائر من سجن قفصه, أي أن الإنسان في عالم ما بعد موته يكون في سعة ليس فيها أي نوع من الضيق, وفي بهجة وسرور لا يشوبهما أي غم وغصة, وفي لذة وراحة لا يعرف الألم وعدم الراحة إليها سبيلاً, لا يتمنى شيئاً إلا ويتحقق ولا يعيش الخيبة أبداً, إنه في قدرة وعزة لا يعتريهما عجز وذل, إن حياته باختصار تغمرها السعادة ولا يعتريها الفناء على الإطلاق.
فالآخرة إذن تُحب:
لكن هذه السعادة في الحياة الخالدة إنما تكون فيما إذا انتقل الإنسان من
هذا العالم بالإيمان والتقوى, والإيمان والتقوى كجناحين يوصلانه إلى العالم الأعلى, ومقدار سعادته في ذلك العالم مرتبط بمراتب قوة الإيمان والتقوى.
ومن الواضح أن الحصول على الإيمان والتقوى وتقوية كل منهما ليس ممكناً إلا في الحياة الدنيوية, وبعد الموت لا مجال إلا لحصاد نتيجة وآثار ما كسبه الإنسان في الدنيا.
الإنسان - في الحقيقة - مسافر يجب أن يؤمّن في مدة حياته الدنيوية هذه سعادته الخالدة بعد الموت, ومن هنا تتضح أهمية هذه الحياة الدنيا المستعارة.
" كل نفس من أنفاس عمرك جوهرة, إن ذلك النفس يقودك نحو ربك[494] ".
حب الدنيا للآخرة:
كل عاقل يفكر في عواقب الأمور, يحب هذه الدنيا, ويتمنى العمر الطويل[495] يخشى سرعة حلول أجله لأنه يعلم أن الإيمان والعمل الصالح وهما رأس مال السعادة الأبدية لا يمكن اكتسابهما إلا في هذا العالم, وبعد الموت يطوى سجل العمل.
والخلاصة: حيث أن الحياة الدنيا وسيلة الحياة الباقية فهي محبوبة لدى العاقل وقد ورد في القرآن والأخبار الحث على إدراك قيمتها والإهتمام بها[496].
النعم الدنيوية بأهداف إلهية:
وأما النعم واللذائذ الدنيوية والتنعم بها, فحيث أنها وسيلة لزيادة معرفة الله تعالى ومحبته, ووسيلة أيضاً للتذكير بالعالم الأعلى الذي يوجد فيه أصل كل نعمة وخالص كل لذة[497], فهي لدى كل عاقل محبوبة وقد ورد الأمر بذلك في القرآن والأخبار:
" يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ".
" قل من حرم زينة الله ( في الأرض ) التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ".
أي أن هذه الطيبات رغم أن الكافرين والمؤمنين يتنعمون بها ولكن إنما خلقت للمؤمنين لتزداد بواسطتها معرفتهم لله ومحبتهم له ويؤمّنوا بواسطتها سعادة العالم الخالد.
وأما التزيينات والنعم الأخروية فلا يشارك الكافرون فيها المؤمنين وهي خاصة بالمؤمنين.
... وبهدف السعادة في الآخرة:
خلاصة القول إن التنعم بالزينة وأنواع النعم الموجودة في الدنيا إذا كانت حلالاً ودون إسراف, مباح ( التنعم بها ) لجميع الناس وحلال, ولكن الحب القلبي لهذه الزينة والنعم, والتعلق بها إذا كان بهدف أنها وسيلة لتأمين السعادة
الخالدة فهو مقبول وقد أمر الله به كما تقدم.
مثلاً: يحب الشخص زوجته لأن دينه يحفظ بسببها ولا يقع في الحرام, ولأنها كذلك نعمة إلهية تساعده على الإستقرار وهدوء البال وتعينه على شؤون الحياة وتكوين الأسرة وبقاء النسل.
ويجب أيضاً أن يحب الولد لأنه عطاء إلهي وإذا ربي تربية سليمة وأصبح عبداً صالحاً فإن أباه وأمه سيكونان شريكين في ثواب أعماله الصالحة.
ويحب المال لأنه عطاء الله ويستطيع أن يؤمّن به استقرار وسعادة الحياة الدنيا والآخرة.
ويحب أنواع اللذائذ لأنها جميعاً آثار قدرة الله وحكمته وجماله وكماله وبسببها يزداد معرفة بالله وحباً له, كما يزداد شوقه إلى الوصول إلى قربه سبحانه.
ويحب القدرة والعزة والثروة والشهرة والمنصب إذا أتته هذه الأمور[498] لأنه يستطيع بواسطتها أن يقوم بالأعمال التي ترضي الله تعالى كنصرة المظلوم والإقتصاص من الظالم ومساعدة الضعيف العاجز.
الحب الإستقلالي للدنيا مرفوض:
وبشكل عام فإن حب الحياة الدنيوية وما فيها وما يرجع إليها ويرتبط بها, إذا كان بهدف إلهي وأخروي فهو خارج عن موضوع حب الدنيا الذي هو محل بحثنا, الذي ورد في القرآن والأخبار ذمه. لأن صاحب هذا الحب لم
يحب في الحقيقة شيئاً غير حب الله والآخرة على وجه الإستقلال وبالذات, وإنما أحب الدنيا لله[499] وآخرته كالمسافر الذي ليس له في سفره هدف إلا الوطن وتأمين استقراره فيه, وإذا رأى في مدينة ما أشياء تنفعه في حياته في وطنه أحبها وطلبها وعمل للحصول عليها ليرسلها إلى وطنه.
والخلاصة: حب الدنيا لا على نحو الإستقلال, بل على نحو الآلية والمقدمة ليس مذموماً, وما هو المذموم في القرآن المجيد والأخبار المتواترة هو الحب الإستقلالي للدنيا بالتفصيل المذكور.
علامة حب الدنيا للآخرة:
من الجدير بالذكر أنه قد يشتبه الأمر على الإنسان, ويتخيل أنه يحب الدنيا لله والآخرة لا على نحو الإستقلال, في حين أن حبه لها واقعاً استقلالي, لأن علامة حب الدنيا لله والآخرة أن لا يحب الذنب وأن لا يطمع بما يملكه أحد, وأن لا يحسد وأن لا يكون فيه أثر للبخل والكبر والعداوة والأنانية والحرص والفساد.
ما هو الحب الإستقلالي[500]:
من أحب الحياة الدنيا لأجل الدنيا, ورغب في المؤنسات واللذائذ والشهوات الدنيوية لأجلها وفي حد ذاتها, بحيث أنه يرى أن سعادته هي فقط في تحقيق رغباته وآماله الدنيوية.
فهو لهذا غافل عن الله يظن أنه محتاج إلى الأسباب ( المادية ) ويتصور أنها مؤثرة تنفعه أو تضره, ولذلك مَدَّ يَدَ الإستجداء إلى هذه الأسباب وأخذ يركض خلفها غافلاً عن عالم الآخرة أو أنكره, وأصبح لا يتورع عن التلوث بأي حرام وإثم, وفرحته فقط في أن يحقق ما يصبو إليه, وحزنه في عدم استطاعته ذلك.
هذا هو معنى حب الدنيا الذي يذمه العقل وينهى عنه الشرع.
مراتب حب الدنيا:
لحب الدنيا من أجل الدنيا مراتب ثلاث:
الأولى: أن لا تكون في قلب الإنسان أية علاقة أخرى غير حب الدنيا والتعلق بما فيها, وليس له أي هدف غير الرغبات المادية, وأن يكون يعتبر الله والآخرة حديث خرافة وهذيان حاله ومقاله:
" ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ". الجاثية 24 أي أن الإنسان كالحيوان موجود مادي يفنى بالموت وينعدم وليس له حياة أخرى
فيجب أن يسعى بكل ما أمكنه لتحقيق رغباته وآماله.
يحب الدنيا أكثر:
المرتبة الثانية:
أن يكون الإنسان وهو يحب حياته الدنيا على نحو الإستقلال ويتعلق بها, ويتمنى الإستقرار والسعادة في كلا الدارين, وهو يسعى ويجد في سبيل كل منهما, لكن علاقته القلبية بالدنيا أكثر وأقوى, والدنيا في نظره أكبر من الآخرة وأغلى, بحيث أنه عند التزاحم بينهما ( عند تعارضهما ) يجعل الآخرة فداء الدنيا كعمر بن سعد الذي أقدم على قتل سيد الشهداء عليه السلام ليصل إلى حكم الرَّي[501].
ومثله كل طالب شهرة ورئاسة يبلغ تعلقه بالمنصب والرئاسة حداً لا يتورع معه عن ارتكاب كل ما يضر آخرته من الخيانات والجنايات.
ومثله كذلك المحب للمال الحريص على تحصيله وادخاره إلى حد أنه لا يتورع في سبيل ذلك عن المعاصي وحبس الحقوق بالخصوص رغم أن ذلك كله يسيء إلى آخرته, وباختصار: لا يهتم بآخرته ولكنه يتألم لضرر يصيب دنياه.
ما أكثر الذين يؤمنون حقيقةً بالله والمعاد ويبذلون الجهد من أجل آخرتهم ولكنهم مع ذلك إذا ارتكب أحدهم معصية من الكبائر التي تخرب آخرته لا
يشعر بأي حرج, في حين لو أن ضرراً أصاب حياته الدنيا فإنه يتألم ويضطرب بشدة, وبعبارة أخرى: عدم تحقق آماله الدنيوية يؤثر فيه أكثر من عدم تحقق آماله الأخروية, وهذا علامة أن حب الدنيا فيه أقوى من حب الآخرة.
حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان في قلب:
هذه المرتبة من حب الدنيا تتنافى مع الإيمان بالله وعالم الآخرة, ولكي يقوي صاحبها إيمانه بالله ويوم الجزاء فلا بد له من اقتلاع حب الدنيا من قلبه توضيح ذلك أن الله تعالى خلق عالم الآخرة بحيث لا يعتريه الفناء, وعظيماً ومهماً وقيماً وبشر الناس به[502] ودعاهم إلى تعظيمه والإسراع إليه[503] والتسابق[504] والتنافس[505] في ذلك.
وفي مقابل ذلك خلق الدنيا سريعة الزوال وجعل حياة الناس فيها محفوفة بالمشقة والتعب والألم ودعا الناس إلى استصغارها واحتقارها بالنسبة إلى عالم الآخرة[506] وأمر العباد أن يعتبروا الدنيا محطة وليست مقراً[507] وأن لا تتعلق قلوبهم بها بل يعتبرونها مقدمة ووسيلة للحياة الخالدة, ولا يهتمون بشؤونها وشجوها, ولا ينشغلون بها خوف أن يعيقهم ذلك عن تهيئة زاد سفر الآخرة, وأن لا يفرحوا بسرائها ولا يحزنوا لضرائها[508].
لا ينسجم مع ادعاء الإيمان:
أنصف أنت أيها القاريء العزيز: الشخص الذي يعتبر نفسه مؤمناً بالله وبالرسول ويوم الجزاء ثم تكون حاله عكس كلام الله وما أمر سبحانه به ويهتم بالدنيا ويجعلها أثمن وأكبر من الآخرة ويكون حبه للدنيا وعلاقته بها أكثر, هل شخص كهذا صادق في ادعاء الإيمان..؟
وإذا اغتفر له هذا الذنب فهل يمكن تعويض الخسائر التي لحقته من نقص في الإيمان ونقص في العمل الصالح؟
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " لو لم يكن فينا ( نحن الذين نعتبر أنفسنا مسلمين ومؤمنين بالله تعالى والنبي صلى الله عليه وآله سلم ) إلا حبنا ما أبغض الله ( أي الدنيا ) وتعظيمنا ما صغر الله لكفى به شقاقاً لله ومحادَّة عن أمر الله[509] ".
وتسأل:
أولاً: إن حب الدنيا أمر قلبي فكيف يكون ذنباً وننهى عنه ما لم يتحول إلى عمل؟
ثانياً: إن حب الدنيا غير اختياري, ومن الواضح كون حب الملذات والشهوات قهرياً, بناءاً عليه كيف يكون مورداً للتكليف؟
ونقول في الجواب: حب الدنيا, كالكفر والشرك والرياء والعجب والحسد وسائر الذنوب القلبية التي محلها قلب الإنسان وقد نهينا عن إحلالها في القلب أما الذنوب الجسدية فحين أن صدورها يتم بواسطة الجسد فلم نُنه عن
إخطارها على القلب وليس ذلك ذنباً وقد تقدم ذكر هذا الأمر بالتفصيل.
هل حب الدنيا فطري؟
وأما ما قيل من أن حب الدنيا أمر غير اختياري, فإذا كان المراد منه أن حب الدنيا أمر ذاتي للإنسان وجزء من طبيعته يولد معه, بحيث أنه خارج قدرته واستطاعته حدوثاً وبقاءاً, فإن عدم صحة ذلك واضح فإنه منذ ولادته وإلى مدة طويلة لا يمتلك أي إحساس تجاه الدنيا ويظل كذلك إلى أني عرف الأمور الملائمة لطبعه والشهوات والملذات ويلتذ بها وفي النتيجة بأنس بها ويحبها.
إخراج حب الدنيا من القلب:
وإذا كان المراد أن حب الدنيا ليس ذاتياً للإنسان ولا يولد معه, إلا أنه بمرور الزمان ونمو الإحساس, وانسياق الإنسان لما يلائمه وللملذات والشهوات والأنس بها, تصبح العلاقة بالدنيا وأوضاعها أمراً ثابتاً وسجية راسخة في القلب, بحيث أن اقتلاعها من القلب خارج قدرة الإنسان واستطاعته, والله عادل لا يكلف الإنسان بأمر خارج عن استطاعته.
لأنه عسر وحرج فليس واجباً:
ونقول في الجواب: رغم أن استئصال حب الدنيا من القلب ليس خارج استطاعة الإنسان, بل هو قادر عليه مستطيع له كما سيتضح, ولكن حيث أنه بالنسبة لأكثر الناس صعب وشاق وموجب للعسر والحرج فليس واجباً, بل هو مستحب كما سيأتي.
والشيء اللازم على كل مكلف عاقل هو إضعاف حب الدنيا في القلب وتقوية حب الله والآخرة فيه, بحيث تصبح محبة القلب وعلاقته بالآخرة أكثر وأشد من حب الدنيا وشؤونها.
وما هو حرام وذنب, عكس ذلك أي أن يكون حب الدنيا أقوى من حب الآخرة.
حب الآخرة أكثر, اختياري:
وكون تقوية حب الآخرة أمراً اختيارياً, بل سهلاً, واضح لا غموض فيه.
توضيح ذلك: أن الإنسان من أول العمر إلى سن التكليف, يكون غافلاً عن عالم ما بعد الموت العظيم, ولا يعتقد بأن هذه الجزئيات الدنيوية التي تنتهي بالموت سيأتي بعدها عالم آخر, ولذلك فهو متعلق بحياته الدنيوية, يحب الملذات والشهوات وكل ما يلائم نفسه, ويهتم بشؤون الحياة الدنيا.
وعندما يصل إلى سن التكليف وظهور نور العقل, يصبح واجباً عليه أن يؤمن بعالم الآخرة كما أخبر به القرآن المجيد أي يجب أن يوقن أن للإنسان بعد الموت حياةً خالدة لا مجال أبداً لمقارنتها من حيث الراحة والسعادة مع الحياة الدنيا, وأن فيها المثوبات والجزاءات والضيافات الإلهية بالتفصيل المذكور في القرآن.
ويجب أيضاً حب هذه الحياة والتعلق بها, والعمل لتحقيق السعادة فيها, وهذا معنى الإيمان بالآخرة, وكلما كان الإيمان والتعلق بالحياة بعد الموت أكثر, ضعفت العلاقة بالحياة الدنيا, خاصة إذا أدخل الإنسان في حسابه النقائص والمنغصات التي هي من لوازم الحياة الدنيا فعندها ستضعف علاقته بالدنيا أكثر, بل إذا لم يغفل عن زوالها وفنائها وعدم اعتبارها فإنه سيقطع علائق قلبه بها ويتعلق بالآخرة.
والخلاصة: كلما ازداد الإيمان بالآخرة, يزداد التفكير في نقائص الدنيا فيزداد الإعراض عنها وعدم التعلق بها, والإيمان والتفكير كسْبيان
واختياريان, إذن: حب الدنيا وتخليص القلب من أصل الفساد هذا, اختياري.
وكيف يمكن القول: إن حب الدنيا غير اختياري مع أن القرآن المجيد والروايات المتواترة ينهيان عنه, كما سيأتي, والفقهاء الكبار كالمحقق الأردبيلي وصاحب الجواهر اعتبروا حب الدنيا من المحرمات[510].
وكذلك الشيخ الحر العاملي في " بداية الهداية[511] " صرح بحرمته.
هل يختل الوجود بدون حب الدنيا؟
وتسأل: كيف يحرم الإسلام حب الدنيا الذي لولاه ما سعى أحد للكسب والعمل وتعلم الصناعات, ولما سعى إلى الملذات والشهوات والزينة, ولأدى ذلك إلى انقراض الجنس البشري وهو أمر يساوي اختلال نظام الدنيا, ثم إنه مخالف للهدف من الخلق, والحكمة فيه.
ليس كل حب للدنيا حراماً:
ونقول في الجواب: لم يحرم الإسلام حب الدنيا مطلقاً وبشكل عام, وما حرمه هو ترجيح الدنيا على الآخرة في العلاقة, أي أن يتعلق الإنسان
بالدنيا أكثر من الآخرة, ذلك حرام, أما العكس أي أن تكون له علاقة بالدنيا في حين أن علاقته بالآخرة أكثر فذلك ليس حراماً وبعبارة أخرى: أن يمتليء القلب من حب الدنيا بحيث لا يكون فيه حب الله والنبي وآله وحب عالم الآخرة, أو يكون فيه ذلك ولكنه حب ضعيف لا يكاد يذكر, هذا هو الحرام.
لتفرغ قلوبهم للآخرة:
قال الإمام الصادق عليه السلام: وإنما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.
ثم إن المنهي عنه هو الحب الإستقلالي للدنيا, بل المرتبة الشديدة منه, أما الحب التبعي وبهدف إلهي كما تقدم فهو ممدوح ورد الأمر به, وهو كافٍ لإعمار الحياة وحفظ نظام الدنيا.
وبعبارة أخرى ليس المراد من ترك حب الدنيا وعدم التعلق بها ترك الأعمال الدنيوية والقيام بواجبات الحياة والإعراض عن اللذات والشهوات الدنيوية, بل المراد التعلق بالله والآخرة بحيث تؤدى الأعمال الدنيوية من منطلق العلاقة بالله والآخرة.
وبشكل عام: كل عمل يؤدى بهدف إلهي وإطاعة لأمره سبحانه فهو يقيناً أكثر دواماً وأشد نفعاً وإحكاماً, وأبعد أثراً في إعمار الدنيا وتماسك نظامها.
ما كان لله ينمو:
مثلاً: رباط الزوجية والبنوة, بل كل رباط, إذا تحقق بهدف إلهي فهو يقيناً أكثر دواماً يخلو من المنغصات ويقترن بالإستقرار, كما أنه إذا كان من منطلق الهوى والهوس والأغراض النفسية فلن يكون في حقيقته إلا عذاباً ومشقة
وعدم استقرار.
أو مثلاً كل بناء وتأسيس[512], إذا كان رحماني فهو حتماً أكثر
دواماً ونفعاً ونتيجة كما أنه إذا كان بهدف شيطاني فسرعان ما يزول ويكون مضراً, وهكذا إلى أن نصل إلى الرئاسة والحكم, فإذا كان ذلك بهدف إلهي فهو كحكم الإمام علي عليه السلام الذي كان كله بسطاً للعدل وانتصاراً للمظلوم, ومنعاً لكل اعتداء, وإيصالاً لكل حق إلى مستحقه.
أما إذا كان بهدف نفساني وشيطاني فهو كحكم معاوية الذي لم ير منه إلا بسط الظلم وسحق المظلوم وإطلاق العنان لكل ظالم وعدم إيصال الحق إلى مستحقه.
رأس كل خطيئة:
كل أنواع الفساد, والحروب, والنزاعات, وإراقة الدماء, واختلال النظم, والتنافر, والقطيعة, التي تقع بين الناس سواء بين شخصين أو أكثر حتى نصل إلى دولتين كبيرتين, يكشف التدقيق فيها أن سببها ليس شيئاً آخر غير حب الدنيا على نحو الإستقلال.
وفي مقابل ذلك: كل أنواع الصلاح والصدق في الأقوال والأفعال, وكل خير يصدر من أي فرد, وكل استقرار وهدوء واقعي, سببه الإيمان بالله والآخرة والحب التبعي للدنيا.
يا ليت أن المسلمين يصلحون إيمانهم بالله والآخرة, عندها سيُؤدون أعمالهم بأهداف إلهية فيصلون إلى النظم والإستقرار الحقيقيين, ويتذوقون طعم لذة الحياة. من أعرض قلبه عن الدنيا وتعلق بالله فله " الحياة الطيبة " أي الحياة بسعادة وشرافة وعزة فلا يرى نفسه محتاجاً لأي مخلوق إنه محتاج لله فقط, ولا يخاف ولا يستوحش من أحد, لا يخاف إلا من الله.
حب الدنيا سبب اختلال النظام:
والحياة الطيبة هي حياة بالعلم والمعرفة, لا تجد الحيرة إليها سبيلاً, فقد عرف صاحبها الهدف من الحياة ألا وهو مقام العبودية, وهو يسعى للوصول إليه ليل نهار بكل حب واشتياق:
" من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". النحل 97.
وخلاصة القول في الرد على ما تقدم من ادعاء أن عدم حب الدنيا - استقلالاً - يوجب خراب الدنيا, واختلال نظام العالم كلام غير صحيح, والواقع بعكسه تماماً, أي أن الحب الإستقلالي للدنيا يوجب خراب الدنيا واختلال النظام, وحب الدنيا التبعي يوجب إعمار الدنيا وتماسك النظام.
تلخيص ما تقدم:
اتضح مما تقدم أن حب الطاعة وبغض المعصية بديهيان, وأن الحب التبعي للدنيا من لوازم الإيمان, وأن للحب الإستقلالي للدنيا ثلاث مراتب:
1 - امتلاء القلب بحب الدنيا, وخلوه من حب الله والآخرة وهذه المرتبة حرام قطعاً وهي في حد الكفر ومستواه.
2 - الحب الشديد للدنيا مع الحب الضعيف لله والآخرة وهذه المرتبة أيضاً حرام.
3 - عكس المرتبة الثانية, أي الحب الضعيف للدنيا مع الحب الشديد لله والآخرة وهي مرتبة مكروهة.
وحيث أن نقل الأدلة على حرمة المرتبة الأولى والثانية من القرآن والأخبار
يستدعي الإطالة, فيكتفى بذكر بعضها:
أولئك مأواهم النار:
" إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون* أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ". يونس 7 - 8.
أي قصروا هممهم على اللذات المحسوسة, والزخارف الفانية وغفلوا عن نعم الجنة واللذات الخالدة, واطمأنوا بالدنيا وكأنهم لن يفارقوها أبداً وغفلوا عن أن يد الأجل تقرع طبل الرحيل لحظة بلحظة, وبلغ نسيانهم الآخرة إلى حد أنها لا تخطر لهم على بال أبداً.
وقفة مع هذه الآية:
ينبغي التأمل الدقيق في أربع جمل من هذه الآية الشريفة مضامينها متلازمة وتوضح حب الدنيا, وسبب دخول النار.
1 - لا يرجون: الرجاء بمعنى الأمل توقع الحصول على شيء يبعث على السرور, أي إذا علم الإنسان بشيء وكان يحبه ويأمل أن يحصل عليه, وحمله هذا الأمل على بذل الجهد للحصول على أمله وانتظر حصوله وتوقعه, فهذه الحالة تسمى رجاءاً أما إذا لم يكن عنده أي حب لشيء وأمل فيه فإن هذه الحالة تسمى يأساً.
وإذا كان الحب والأمل ضعيفين بحيث لا يحملان صاحبهما على بذلا الجهد للحصول على ذلك الشيء الذي تعلق به هذا الحب وهذا الأمل الضعيفان, فهذه الحالة تسمى غروراً[513].
وبناءاً عليه فمعنى " لا يرجون " أن أولئك الذين لم يعرفوا الحياة الإنسانية الخالدة بعد الموت بجوار الله التي يتم فيها الجزاء والإثابة الإلهيان على أعمال المؤمنين الصالحة, ولم يعتقدوا بهذه الحياة, ولم يحبوها, ولم يعملوا لها ما ينبغي عمله, هم في
الحقيقة لا ينتظرون هذه الحياة ولا يتوقعونها ولا يتعلق أملهم بها.
2 - ورضوا بالحياة الدنيا: الإنسان - وكل موجود حي - يميل بشكل فطري وطبيعي إلى الحياة, ويظل دائماً يبحث عن سعادته في هذه الحياة, فإذا عرف الحياة الخالدة بعد الموت وأيقن بها فإنه حتماً سيبذل الجهد من أجل السعادة فيها, سيظل آنذاك يحب حياته الدنيا القصيرة ويحب أن يكون فيها سعيداً, ولكن سيكون ذلك بالحجم الذي تستحقه الدنيا ويتناسب معها.
ولكنه لن يكتفي بحب حياته المستعارة, بل سيحب السعادة في حياته الباقية ويسعى لها سعيها.
المسافر وحب الوطن:
كالمسافر الذي يحب أن يبقى في مدينة ما لمدة من الزمن, ليؤمن في تلك المدينة وسائل حياته المستقرة في وطنه, طبعاً سيكون هذا المسافر طيلة هذه المدة يحب استقرار حياته في غربته ويبذل جهداً من أجل ذلك ولكن بمقدار يتناسب مع مدة بقائه مسافراً.
إلا أنه لم يقنع بالسعادة التي يحصل عليها حال كونه مسافراً, بل سيظل يحلم بالسعادة في وطنه, وسيبقى في حركة دائبة لتأمين مستلزمات هذه السعادة ولذلك فهو يرسل إلى وطنه كل ما يمكنه الحصول عليه.
هذا هو حال من يرجو الآخرة, وأما الذي لا يرجوها وهو يعتبر الموت فناءاً وعدماً دائمين فإنه يقصر كل همته على حياته الدنيوية القصيرة ويرضى بهذه
السعادة في هذه المدة القصيرة ويقنع بها.
والخلاصة: إن من لوازم عدم رجاء الحياة الخالدة, الرضا بالحياة الدنيا.
اطمئنان أهل حب الدنيا:
3 - واطمأنوا بها: من كان ينتظر الحياة الخالدة والوصول إلى الثواب الإلهي, لا يقر له في الدنيا قرار, ويظل دائماً في جد واجتهاد لتحصيل وسائل السعادة في الآخرة, وقمة استقراره وسعادته عندما يصل إلى ما كان ينتظر الوصول إليه.
أما من لا ينتظر شيئاً غير حياته الدنيا القصيرة ومؤنساتها ولذائذها وليست له أي رغبة غير ذلك فإن استقراره واطمئنانه في الوصول إلى هذه المؤنسات واللذائذ التي هي مطلوبه وأمنيته الوحيدين.
الغفلة عن آيات الله:
4 - والذين هم عن آياتنا غافلون: عدم رجاء الآخرة وحب الدنيا فقط والرضا بها والإطمئنان إليها, ذلك سببه الغفلة عن آيات الله, لأن الشخص إذا لم يغفل عن الأدلة والعلامات التي لا تحصى التي تدل جميعها على المبدأ والمعاد وقد وردت في القرآن المجيد, سيتذكر حتماً حياته بعد الموت ويعتقد بها, ولن يطمئن عندها إلى مؤنسات الدنيا بل سيظل في سعي وبحث ليحصل على سعادته الخالدة.
وجملة " بما كانوا يكسبون " إشارة إلى الذنوب القلبية والجسدية كما تقدم.
والخلاصة: إن المستفاد من الآية الشريفة أن كل من استبدل حب
الآخرة والعلاقة بها بحب الدنيا بحيث رضي بها فقط واطمأن إلى ملذتها, فمأواه النار, لأنه غافل عن الآخرة وسيحترق بنار ما اكتسبه من ذنوبه بقلبه أو ببدنه.
الإعراض عن ذكر الله:
" فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا* ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ". النجم 29 - 30.
" إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ". ص 26.
خلاصة الآيتين الشريفتين: إن من أعرض عن ذكر الله والآخرة وكان كل عمله ورغبته وعلاقته منصباً على الحياة الدنيا وشؤونها فقط فقد ضل عن طريق الله, ومن كان هذا شأنه ونسي عالم الجزاء ورضي بالحياة الدنيا فإن له عذاباً شديداً.
ومن الجدير بالذكر: حيث أن الحقيقة هي المدار والأساس فمن أعرض قلبه حقيقة عن الله والآخرة وانصرف عنهما ولم يردهما وتشبث بالحياة الدنيا فقط وأراد الدنيا وأحبها بدلاً من الآخرة وبلغ من حبه لها أنه ركز كل جهده عليها ولأجلها, فمأواه النار سواءاً كان في أقواله كأفعاله أي أنه ينكر الله والآخرة بلسانه أيضاً, ويصرح بأنه لا وجود لشيء غير الحياة الدنيا, أم كان باللسان يقر بالله والآخرة.
وقد تم إيضاح هذا في بحث الإيمان بالتفصيل, فتبين أن الإقرار باللسان فقط لا فائدة له إلا انطباق أحكام الإسلام الخاصة بالدنيا كالطهارة, والزواج, والإرث, وليس له أية ثمرة أخروية ولا ينجي من العذاب إلا الإيمان القلبي.
القلوب المطبوعة بسبب حب الدنيا:
" ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين* أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون* لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ". النحل 107 - 109.
خلاصة الآية الشريفة أن الذين كانوا يحبون الدنيا فقط وفضلوها على الآخرة وحرموا من التوفيق الإلهي, انقطعوا عن الآخرة كلياً, وتعلقوا بالدنيا, فطبع على قلوبهم وختم عليها وأقفلت أي أن فهمهم وإدراكهم لم يتجاوز حدود الدنيا ولم يفهموا شيئاً عن الله والآخرة, آذانهم صماء عن سماع النصيحة, وعيونهم عمي عن رؤية ما يذكرهم بالله والآخرة وأصبحوا بالنسبة للآخرة لا فهم ولا سمع ولا بصر وتواصل نوم غفلتهم عن الآخرة حتى وصولوا إلى ذلك العالم خالي الوفاض صفر الأيدي من الإيمان والعمل الصالح اللذين هما الوسيلة الوحيدة لسعادة حياة الآخرة وحقاً إنهم الخاسرون الحقيقيون.
في ضلال بعيد " عن الحقيقة ":
" وويل للكافرين ( بالله والرسول والقرآن والآخرة ) من عذاب شديد ( في الآخرة ) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد ( عن الحقيقة ) ". إبراهيم 2 - 3.
ويذرون ( ... ) يوماً ثقيلاً:
" إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ". الإنسان 27.
أي يوماً شديد الأهوال ثقيل الوطأة:
" فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى ".
النازعات 37 - 39.
" بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى ". الأعلى 16 - 17.
" من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ". الإسراء 18 - 19.
وفي قوله تعالى " لمن نريد " دلالة على أن ليس كل من أراد الدنيا حصل عليها.
وإيراد الآيات الأخرى يستدعي الإطالة وفي ما ذكر كفاية.
بين طريقين:
وخلاصة ما يستفاد من آيات القرآن المجيد أن الإنسان مع مفترق طريقين, ولا بد له من اختبار أحدهما إما الإيمان بحب الدنيا, وإرادة الحياة الدنيا والتعلق بأوضاعها على نحو الإستقلال أو الإيمان بالآخرة.
والإيمان بكل منهما كفر بالأخرى, ومن هنا ورد التعبير في الروايات عن الدنيا والآخرة بالضدين, والمشرق والمغرب, والماء والنار.
وقد تقدم أن الإيمان بالآخرة يجتمع مع الحب التبعي للدنيا بل هما لازم وملزوم[514].
الناس على ثلاث:
والناس ثلاث فرق: فرقة آمنت بالآخرة وأحبتها وثبتت على ذلك
واستقامت إلى آخر العمر.
وفرقة آمنت بالدنيا وكفرت بالآخرة واستمرت في ذلك إلى آخر العمر.
وفرقة ثالثة: أحياناً تؤمن بالدنيا وتكفر بالآخرة, وأحياناً بالعكس.
الفرقة الأولى: من أصحاب اليمين وتشملها البشارة الإلهية.
والفرقة الثانية: أصحاب الشمال والآيات الشريفة التي تقدم ذكرها تتحدث عنهم.
والفرقة الثالثة: أمرها إلى الله تعالى لتوزن في موقف الحساب حسناتهم وسيئاتهم وتتضح عاقبة أمرهم.
" وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ". التوبة 102.
وتوبة الله عليهم: رجوعه عليهم بالرحمة والمغفرة.
رأس كل خطيئة:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " رأس كل خطيئة حب الدنيا[515] ".
التأمل في أنواع الذنوب القلبية كالكفر, الشرك, النفاق, الرياء, العجب, الكبر, الحقد, الحسد وغيرها, وكذلك في الذنوب الجسدية, يكشف أن حب الدنيا بالنسبة إلى هذه الذنوب كالرأس من الجسد.
فكما أن الجسد بدون رأس جثة لا أثر لها, فكذلك استئصال حب الدنيا لا يترك أي أثر من تلك الذنوب أبداً.
الشقاء عند الموت:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الموت الموت, ألا لا بد من الموت جاء الموت بما فيه الرَّوح والراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم وجاء الموت بما فيه الشقوة والندامة والكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم[516].
ويُعلم من هذا الحديث أن أهل الدنيا الذين هم منذ ساعة الموت في عذاب ومشقة هم الذين كان حبهم للدنيا فقط وبذلوا جهدهم للحياة الدنيا ومتعلقاتها وليس في قلوبهم ميل للآخرة وحب لها ولم يبذلوا جهدهم من أجلها.
قصة قرية مات أهلها:
في أصول الكافي بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَرَّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها, وطيرها, ودوابها, فقال: أما إنهم لم يموتوا إلا بسخطة, ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا, فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته ادع الله أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنجتنبها فدعى عيسى عليه السلام ربه, فنودي من الجو أن نادهم فقام عيسى عليه السلام بالليل على شَرَفٍ ( مرتفع ) من الأرض فقال:
يا أهل هذه القرية, فأجابه منهم مجيب: لبيك يا روح الله وكلمته فقال:
ويحكم, ما كانت أعمالكم.
قال: عبادة الطاغوت وحب الدنيا مع خوف قليل وأمل بعيد, وغفلة في لهو ولعب.
فقال عليه السلام: كيف كان حبكم للدنيا؟
قال: كحب الصبي لأمه, إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا وإذا أدبرت عنا بكينا وحزنا.
قال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟
قال: الطاعة لأهل المعاصي.
قال: كيف كانت عاقبة أمركم؟
فقال: بتنا في ليلة عافية, وأصبحنا في الهاوية.
فقال عليه السلام: وما الهاوية؟ قال: سجين.
قال: وما السجين؟
قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة.
قال عليه السلام: فما قلتم وما قيل لكم؟
قال: قلنا ردنا إلى الدنيا فنزهد فيها، قيل لنا: كذبتم.
قال: ويحك كيف لم يكلمني غيرك من بينهم؟
قال: يا روح الله إنهم ملجمون بلجام من نار, بأيدي ملائكة غلاظ شداد, وأنا كنت فيهم, ولم أكن منهم، فلما نزل العذاب عمّني معهم, فأنا معلق بشعرة على شفير جهنم, لا أدري أُكبكب فيها أم أنجو منها.
فالتفت عيسى عليه السلام إلى الحواريين وقال:
يا أولياء الله, أكل الخبز اليابس بالملح الجريش, والنوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة[517].
ويكفي لمعرفة خطورة ذنب حب الدنيا أنه اعتبر في هاتين الروايتين سبب تعجيل العقوبة والهلاك الأبدي.
يفسد العقل:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: حب الدنيا يفسد العقل ويهم القلب عن سماع الحكمة ويوجب أليم العقاب[518].
ذلك أن من أحب شيئاً لا يرى عيوبه, ومحب الدنيا لن يرى فناءها وزوالها وابتلاءاتها وكدورة ملذاتها ( امتزاجها بالمنغصات ).
عدوان لدودان:
وقال عليه السلام: " إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان
مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها, أبغض الآخرة وعاداها, وهما بمنزلة المشرق والمغرب وما شيء بينهما, كلما قرب من واحد بعُد عن الآخر، وهما بعد ضرتان[519] ".
لأن أكثر الناس تزوجوهما معاً وهم يميلون إليهما معاً غافلين عن أنهما لا تجتمعان.
وقد تقدم أن حب الدنيا والتعلق بها والركون إليها هو عين عداء الآخرة والإعراض عنها وعدم الإعتقاد بها, وأن الإهتمام بكل منهما هو عين عدم الإهتمام بالأخرى, والأنس بإحداهما هو عين النفور من الأخرى أي أن من كان أنسه في ملذات الدنيا وشهواتها سينفر تلقائياً من ذكر الله والآخرة[520].
تريد الحصول على الدنيا وعلى الدين القويم, وهذان لا يجتمعان والفلك ليس عبداً لك[521].
وخلاصة كلام الإمام عليه السلام أن حب الدنيا والإيمان بها, عين بغض الآخرة والكفر بها, إذن كون حب الدنيا ذنباً, بل كونه كفراً - ببعض مراتب الكفر - أمر واضح[522].
وفي ما ذكر كفاية لإثبات هذا الأمر, للإطلاع على الروايات الأخرى يراجع كتاب الكافي والبحار ج 75.
المرتبة الثانية:
من كان حبه للدنيا وتعلقه بها وبعلائقها وشؤونها أكثر من حب الله والرسول وأهل البيت عليهم السلام والآخرة والتدين, يجب أن يعلم أن هذه المرتبة من حب الدنيا حرام ومعصية كبيرة ( من الكبائر ) ويجب أن يتوب ويجعل حبه بالعكس أي يجعل حب الله وما يرجع إليه سبحانه أقوى في قلبه وأكثر من حب الدنيا.
والشواهد على هذا الحكم من القرآن والأخبار كثيرة, ولإطلاع القاريء العزيز عليها يشار هنا إلى بعضها باختصار.
إن كنتم تحبون الدنيا أكثر:
" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم, وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ". التوبة 24.
من عرف الله المنعم, وعرف أنه مخلوق ومربوب له ويتولى سبحانه تدبيره, وكل ما لديه من أموره الداخلية وعلاقاته الخارجية هو منه تعالى, وعرف أن جميع الأسباب مسخرة له بأمره, فإن هذه المعرفة تستلزم محبة الله والركون إليه والإيمان به وينبغي أن يكون حُبّه لله تعالى أكثر من حبه لما أعطاه إياه الله, وأن تكون علاقته به أكثر من علاقته بجميع الأسباب.
وكلما ازدادت هذه المعرفة وازدادت طهارة القلب كلما ازدادت هذه المحبة والعلاقة إلى حيث يصبح لا يرى أحداً غير الله يستحق الحب, ولا يبقى له تعلق بأحد حتى بنفسه ولا بأي شيء آخر ويصبح تعلقه به سبحانه لا غير وإذا
أحب أحداً أو شيئاً فإنما يحبه لله وفي الله, وتكون أمنيته أن يقدم نفسه وكل ما يملك في سبيله تعالى[523].
حب الله يستلزم حب أوليائه:
ويستلزم حب الله حب رسوله وعبده المصطفى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم[524] ) بحيث يكون حبه صلى الله عليه وآله أكثر من أي شخص وأي شيء, " حب محبوب الله حب الله ".
كما يستلزم حب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): حب أهل بيته وقرباه, ويجب أن تكون علاقة الشخص القلبية بهم أكثر من علاقته بأقاربه هو, وقد حرصت بهذا آية المودة في القربى[525], وأخبار كثيرة من طرق العامة والخاصة.
حب الدين من حب الله:
ومن لوازم حب الله حب دين الله, والتعلق بأوامره, بحيث يرضى الشخص بالضرر الذي يصيب دنياه أكثر من رضاه بالضرر الذي يصيب دينه, ويكون مستعداً للتخلي عن أي نفع مادي من أجل امتثال أمر ربه.
وأيضاً من لوازم حب الله حب الدار الآخرة التي هي مقر الثواب والجزاء الإلهيين, ومورد لرعايته ولطفه ومحبته سبحانه والتي يجب أن يكون حبها أكثر من الحياة الدنيا المستعارة, وينبغي أن يجعل دنياه فداء لآخرته, ويكون أكثر
رضاً بالضرر الذي يصيب دنياه من الضرر الذي يصيب آخرته إلى حد أنه يصبح لا يحب الدنيا أصلاً على نحو الإستقلال, بل يحبها باعتبارها مقدمة لآخرته.
هذه هي حقيقة الإيمان, وكل من كان وضعه مطابقاً لما ذكر فهو من أهل النجاة, وأصحاب اليمين ويستحق التوفيقات والهدايات والتأييدات الإلهية.
ومن كان وضعه بعكس ذلك أي أن الحياة الدنيا ومالها ومنامها وجاهها وجلالها وعلاقاتها وملذاتها محبوبة لديه وعزيزة ومهمة أكثر من حبه وعلاقته بالله والرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأهل البيت عليهم السلام, وأكثر من الدين بحيث أنه يصرف النظر عنهم وعن دينه من أجل دنياه, ويتعلق بالحياة المادية المستعارة أكثر من تعلقه بالحياة الباقية بحيث يحب عمرانها والإستقرار فيها أكثر مما يحب إعمار آخرته واستقراره فيها, ويسعى لأجل إعمار دنياه حتى إذا أدى ذلك إلى تخريب آخرته.
وباختصار: إنه مستعد لتقديم آخرته فداءاً لدنياه, مثل هذا الشخص فاسق لأنه ضل عن طريق سعادته وخرج من طاعة أمر الله بالإيمان بالله والإعتقاد به وبالرسول والآخرة, وكل من أصبح فاسقاً فقد حرم من هداية الله وعنايته وتوفيقه وتأييده " والله لا يهدي القوم الفاسقين ".
وأيضاً: ينبغي أن ينتظر الفاسق حلول غضب الله وعقوبته في الدنيا أو الآخرة " فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ".
فللنظر في أنفسنا:
إذن يجب على كل مؤمن بالله والرسول, أن يرجع إلى قلبه ويرى إذا كان حبه لله ولما يرجع إليه أكثر في قلبه وأقوى من حب الدنيا وعلائقها - فإذا وجد أن
الأمر كذلك - فليشكر الله تعالى وليبذل جهده للحصول على المزيد.
وإذا رأى أن الأمر بالعكس فليبك على نفسه وليعمل على إصلاح شأنه وينبغي أن لا يقر له قرار حتى يوقن بأن محبته لله والآخرة أصبح أكثر من حبه للدنيا.
هل نريد رضا أهل البيت؟
مثلاً: بالنسبة إلى حب أهل البيت عليهم السلام الذين يجب على كل مسلم أن يحبهم أكثر من دنياه, يجب أن يرجع أحدنا إلى قلبه وينظر بإنصاف كيف هو تجاه هذه الفريضة الإلهية, هل يحبهم عليهم السلام أكثر؟ أم أنه يحب أكثر مرمة معاشه وصلاح أمور دنياه ورونقها واتساقها وزينتها وسائر ملذاتها المادية.
إذا تبين له بعد التأمل أن حب الدنيا في قلبه هو الغالب الأقوى من حب آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليعلم أنه قصّر في هذه الفريضة الإلهية, ويجب أن يسعى لكي يصبح حاله بالعكس, كما يجب أن لا يغتر بما سمعه من نجاة محبي آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومقامهم عند الله تعالى مثل " حب علي حسنة لا تضر معها سيئة " لأن ذلك صحيح بالنسبة لمن كان حب آل محمد غالباً في قلوبهم لحب الدنيا, أما هو فينبغي أن يقال عنه إنه محب الدنيا لا محب أهل البيت عليهم السلام.
وأحياناً تكون غلبة حب الدنيا على القلب سبباً في أن يصبح صاحب هذا القلب مبغوضاً لله والرسول وأهل البيت عليهم السلام ولإثبات هذا يكتفى بذكر روايتين فقط.
أهل البيت يعتبرونه عدواً:
أورد الشيخ الطوسي عن زيد بن علي ( عليه السلام ) عن آبائه عن علي ( عليه السلام ): أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين, والله إني لأحبك لله، فقال له: ولكني أبغضك لله، قال: ولم؟ قال: لأنك تبغي في الأذان كسباً, وتأخذ على تعليم القرآن أجراً، وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة[526].
( أي كان ذلك حظه يوم القيامة, فلا يُعطى شيئاً من الثواب ).
حب أهل البيت, طاعة الله:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن وليّ محمد, من أطاع الله, وإن بعدت لحمته ( كسلمان وأبي ذر ), وإن عدو محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عصى الله وإن قربت لحمته[527] ( كأبي جهل وأبي لهب ).
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ): يا جابر من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي, ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو, وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع[528].
حب الله منشأ كل خير:
روح المسألة أن حب الله ومحمد وآله ( صلى الله عليه وآله ), والحياة الآخرة ضد حب الدنيا والعلاقة بها, وقوة كل منهما عين ضعف الآخر, وفي
الإهتمام بكل منهما عدم اعتناء بالآخر كما تقدم مراراً.
وكما أن حب الدنيا أساس وأصل كل ذنب, فإن حب الله وما يرجع إليه تعالى أساس وسبب كل حسنة, بحيث أنه إذا زال حب الدنيا من القلب تماماً واستقر بدلاً منه حب الله فلن يصدر من الشخص أي خطأ, ولن يحرم من أي خير وحسنة, سيطهر من كل الرذائل, ويتصف بكل الفضائل.
عشرون خصلة في حب أهل البيت:
روى الصدوق في الخصال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من رزقه الله حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة " فلا يشكن أحد أنه في الجنة فإن في حب أهل بيتي عشرين خصلة, عشر منها في الدنيا وعشر منها في الآخرة. أما التي في الدنيا:
1 - " فالزهد " عدم الرغبة في الدنيا.
2 - " والحرص على العمل ".
3 - " والورع في الدين ".
4 - " والرغبة في العبادة ".
5 - " والتوبة قبل الموت ".
6 - " والنشاط في قيام الليل ".
7 - " واليأس مما في أيدي الناس ".
8 - " والحفظ لأمر الله ونهيه عز وجل ".
9 - " والتاسعة بغض الدنيا ".
10 - " والعاشرة السخاء[529] ".
وهل الحب اختياري:
وتسأل: إن الحب والعلاقة, إدراك منسجم مع النفس, والإنسان منذ أن يمتلك الشعور ويفرق بين ما يلائمه وما لا يلائمه, ما ينسجم مع نفسه وما لا ينسجم فإنه قهراً يحب ما يلائمه وتنشأ بينه وبينه علاقة, ونتيجة التكرار تتجذر هذه العلاقة وترسخ, بحيث أن قطع هذه العلاقة يصبح فوق طاقته.
وبناءاً على هذا فكيف يكلف الإنسان بقطع هذه العلاقة؟ ثم إن الله والرسول والأئمة جميعاً خارج دائرة الحس البشري, وما لم يره الإنسان ولم يفهم ملاءمته له فكيف يمكن تكليفه بحبه والعلاقة القلبية به؟
ليدرك أحدنا خطأه:
أما السؤال الأول فقد تقدم الجواب عليه ولكن نظراً لأهميته وضرورة معرفته فيذكر هنا ببيان آخر فنقول: بعد أن يصبح الإنسان مكلفاً, أي يصل إلى حد العقل, ويميز بنور العقل وتذكير القرآن المجيد بين الفاني والباقي, ويعرف أنه باقٍ أبداً, ( بأمر الله ) ويدرك أن مؤنسات الحياة الدنيا وملائماتها ( ما يلائمه فيها ) لا تتناسب معه لأنها فانية وهو ليس كذلك, عندها يدرك خطأه في ما مضى, ويبدأ بالتدريج يصرف قلبه عنها, ويسعى بجد للحصول على ما يناسبه ويلائمه في حياته الخالدة.
ولهذا كانت أكثر سور القرآن المجيد تذكر بفناء الدنيا وزوالها وصغرها بالنسبة إلى الحياة الخالية, وتضرب الأمثال حول ذلك ليصبح المسلمون
عالمين بحقيقة حياتهم المستعارة وحقيقة حياتهم الباقية, وتتعلق قلوبهم بالثانية الخالدة.
وهكذا يتضح أن إخراج حب الدنيا من القلب في مقدور وطاعة كل إنسان عاقل.
المعرفة هي الميزان, لا الرؤية:
أما ما قيل من أن الإنسان لا يمكنه أن يحب ما لم يره, فهو خطأ ويجب أن يقال بدلاً من " يره " " يعرفه " لأن الأشخاص الذين لا يراهم الإنسان أو لم يكونوا في زمانه, يشعر بحبهم بمجرد أن يعرف فضائلهم وصفاتهم الحميدة.
بناءاً على هذا فالإنسان بفطرته يعشق الكمال, وإذا تأمل عالم الوجود بدقة, وشاهد في كل أجزائه حكمة الله ورحمته ونعمته التي لا تحصى فإنه قطعاً سيحب خالق الكون سبحانه.
ولهذا حفل القرآن الكريم بالآيات التي تذكر بأصول النعم الإلهية, ليعرف الناس المنعم عليهم ويحبوه, وتتعلق قلوبهم به, فيحصلوا بسبب ذلك على الحياة الإنسانية الطاهرة.
لماذا لا يحبون الله؟
وتسأل أيضاً: إذن لماذا نجد أكثر الناس لا يحبون الله؟
والجواب: أولئك أناس لم يتجاوزوا حد الحيوانية وعبادة الشهوة والأنانية, ولذا فليس لهم عين البصيرة ( التي يمكنهم أن يروا بها الحقائق ) ولم يعرفوا المنعم ليحبوه:
" والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ". محمد 12.
وأما حب محمد وآل محمد ( عليهم السلام ), فأي عاقل يعرف ما تحلوا به من الكمالات والمقامات والدرجات والفضائل الإنسانية والأخلاق الروحانية التي في طليعتها العلم, وأنهم في هذه الجهات لا نظير لهم, ويسمع كذلك بمعجزاتهم التي لا تحصى, ويعرف أنهم أقرب الناس إلى الله تعالى, - أي عاقل يعرف ذلك - ثم لا يحبهم؟ أليس كذلك؟ وكل من قل حبه لهم ( عليهم السلام ) فذلك لقلة معرفته بهم أو لقلة إنسانيته, وكلما ازدادت نسبة إنسانيته ومعرفته وقل المانع ( عن المحبة ) تصبح محبتهم والعلاقة بهم أكثر.
" إذا أردت يا سعدي أن تعشق وتصبو فإن عشق آل محمد ( عليهم السلام ) " يكفيك " من عرفك ( أيها المحبوب ) فماذا يفعل بالروح وماذا يفعل بالولد والعيال والممتلكات " تحيله مجنوناً وتهبه الدارين والعالميْن, وماذا يفعل مجنونك ( المجنون بك ) بالعالميْن[530] ".
معرفة الآخرة وحبها:
وأما حب دار الخلود, فمن تأمل في آيات القرآن المجيد في وصف الآخرة ونعمها التي لا تحصى سيتعلق قلبه بها ويشتاق إليها يقيناً, بشرط أن يكون قلبه خالياً من حب الدنيا, ويصل حبه إلى أن يحب موته ويتمناه, لأنه وسيلة الوصول إلى مواعيد الله التي وعد بها سبحانه.
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ), في أوصاف المتقين: " ولولا الأجل
الذي كتب عليهم, لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين, شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب[531] ".
علي ( عليه السلام ) يصف الجنة والناس:
" خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة, مشرباً ومطعماً, وأزواجاً, وخدماً, وقصوراً وأنهاراً, وزرعاً وثماراً, ( كما أخبرت في كتابك ) ثم أرسلت داعياً ( محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعو إليها, فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا...
أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة, قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه, فهو عبد لها، ولمن في يده شيء منها[532] ".
والبحث في أطراف حب الله وما هو راجع إليه وجهاته ومراتبه وكيفية تحصيله, طويل, وإذا وفق الله تعالى فستكتب رسالة مستقلة في بحث المحبة.
آيات أخرى في حرمة حب الدنيا:
" وتحبون المال حباً جماً ". الفجر 20.
في هذه الآية الشريفة يؤنب الله تعالى الذين تشتد علاقتهم بالمال والثروة الحريصين على الإدخار والإزدياد حتى إذا كان ذلك بالسبل الحرام, والذين يؤلمهم ابتعاد المال عنهم وخروجه من أيديهم بالإنفاق, حتى إذا كان هذا
الإنفاق واجباً, وحقيقة هذه الحالة هي العلاقة بالدنيا وعدم العلاقة بالله والآخرة وبهذا يجعلون آخرتهم فداءاً لدنياهم.
ويفهم من مفهوم الآية الشريفة أن الحب الضعيف للمال بحيث يبقى الإنسان يحب آخرته أكثر, ليس حراماً...
نعم كمال الإنسان في أن لا تكون في قلبه أية محبة للدنيا ولا أية علاقة بها على نحو الإستقلال كما سيأتي.
أرضيتم بالحياة الدنيا:
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ". التوبة 38.
في هذه الآية تهديد شديد وعتاب مر من الله تعالى للمسلمين الذين يحبون الدنيا ودعتها ومفرحاتها حباً شديداً, وفي المقابل حبهم للآخرة حب ضعيف ولا يكاد يذكر, بحيث أنهم يجعلونها فداء للدنيا, ويعرضون عن الآخرة متشبثين بالدنيا يتهافتون على شهواتها حتى إذا كان في ذلك خسارة آخرتهم وإلحاق الضرر بها, في حين أن من لوازم الإيمان بالله والآخرة أن يكون المؤمن بالعكس, وأن تكون العلاقة بالآخرة أقوى إلى حيث يصل به الأمر إلى أن يتخلى عن أصل حياته من أجل آخرته ويقدم روحه في سبيل الله فضلاً عن المال والجاه وسائر العلائق.
تأمل في هذه الآيات:
" إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ". القصص 76.
" ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ". غافر 75.
" ولا تمش في الأرض مرحاً ". الإسراء 37.
" فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ". الأنعام 44.
" لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم[533] ". آل عمران 188.
وقد ذكرت في الآية الأخيرة صفتان من صفات الكفار والمنافقين, ووعد بالعذاب عليها, وبناءاً عليه فمن الواجب على كل مسلم اجتنابهما معاً, أحدهما فرح الإنسان من منطلق العجب بالعمل الذي عمله سواءاً كان حسناً واقعياً أو سيئاً, وسواءاً كان من الأهداف الدنيوية المطلوبة التي سعى لتحقيقها فتحققت والنعم التي حصل عليها ( أم غير ذلك ).
والثاني: حسن ثناء الخلق بما لم يفعله وليس فيه.
والأخبار حول ذلك كثيرة, ونقلها يوجب الإطالة, والخلاصة إن الآية نهي عن الفرح بالدنيا.
والله لا يحب كل مختال فخور:
" ما أصاب ( ولن يصيب ) من مصيبة في الأرض ( كالقحط والغلاء ونقصان الأموال وفساد الزرع والثمر وأمثال ذلك ) ولا في أنفسكم ( كالأمراض
والآلام والغموم وموت الأقارب والأصدقاء وأمثال ذلك ) إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ( أنفسكم أو المصيبة أو الأرض ) إن ذلك ( إثبات المصائب مع زيادتها في اللوح المحفوظ ) على الله يسير* لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ( لأن ما أعطي مقدور وهو عطاء الله, فيجب أن يزيد تواضعكم واعترافكم بالعز والحاجة وتفرحوا بفضل الله لا أن تتكبروا وتعجبوا بأنفسكم وتدلون على الله, وتريدون أن يقال لكم المديح والثناء ) والله لا يحب كل مختال فخور ". الحديد 22 - 23.
ما هو الفرح الحرام:
يعلم من التدبر في الآيات المذكورة وكلمات المفسرين واللغويين أن الفرح الذي هو مورد النهي في الآيات بمعنى البطر والإفراط في الفرح وهو السرور بلا حدود, أي السرور المقترن بالكبر والعجب والإدلال والغرور, ولإيضاح ذلك يذكر هذا المثال:
من كان محتاجاً إلى سكن وهو يبحث عنه, إذا استأجر بيتاً مستقلاً فإنه يفرح بذلك رغم أنه مؤقت ويجب أن يدفع أجرته شهرياً, هذا الفرح المختصر المعقول, في محله وهو عقلائي ولا يستتبع ذماً ولم نُنْه عنه.
فإذا تحول هذا المستأجر إلى غاصب وتنكر لصاحب البيت بكل وقاحة واعتبر أن هذا البيت ثمرة جهده وبحثه واعتبر أنه هو المالك المستقل ولا حق لأحد معه في هذا البيت الذي هو مقره الدائم وفرح بحصوله على هذا المسكن وتعالى ضحكه وافتخر وأدل حتى ضاق به إهابه ( جلده ) فلا شك أن هذا السرور بلا حدود ويراه العقلاء قبيحاً ويؤنبون عليه.
إذا عرفت ذلك فنقول:
من حصل على نعمة كالمال إذا اعتبر أنه من الله تعالى وأن لصاحبه
الأصلي الذي هو الله حقوقاً في المال عينها هو سبحانه, ويجب عليه هو أن يؤديها وأن هذا المال عارية ( استعارة ) وسيسترد منه قبل الموت أو بعده... لكنه يفرح به لأنه يسد به حاجته خلال بضعة أيامه التي يقضيها في الدنيا.
إذا كان كذلك وكان فرحه بهذا المقدار فإن هذا الفرح عقلائي وفي محله يقيناً, وإذا كان فرحه مقترناً بالتواضع والإعتراف بالعجز فهو ممدوح شرعاً وقد أمر الله تعالى به: " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ". يونس 58. ( بناءاً على أن فضل الله إشارة إلى النعم الدنيوية " ورحمته " إشارة إلى النعم الأخروية ).
أما إذا نسي الله تعالى بعد حصوله على ذلك المال واعتبر أن المال ثمرة جهوده, ولذا فهو المالك المستقل الذي لا ينازع بحيث لا يرى الحق الذي ينبغي إخراجه من هذا المال, ويظن نفسه أنه بامتلاك هذا المال أصبح غنياً لا يحتاج أحداً ناسياً أنه استعاره, ثم يفرح لامتلاكه هذا المال ويفتخر ويُدِلُّ ويتباهى, هذا السرور بلا حدود مصور لتقبيح العقل وتحريم الشرع.
وما تقدم ذكره في معنى الفرح بحب الدنيا هو هذا الحب الإستقلالي القوي للدنيا الذي هو مورد بحثنا هنا, وذكرت آيات من القرآن المجيد لإثبات حرمته.
يقترن بالأمن واليأس:
لتأييد حرمة الفرح بالدنيا شرعاً, وكونه من الكبائر, يجب العلم - بالإضافة إلى ما تقدم - أن الفرح بالدنيا متحد مع ذنبين قلبيين كبيرين[534] ( من
الكبائر ).
أحدهما: الأمن من مكر الله[535] ( عدم الخوف من الغضب الخفي لله ).
وثانيهما: اليأس من روح الله, أي رحمته.
توضيح ذلك:
من حصل على مبتغاه الدنيوي من المال والولد وغير ذلك وانتابه الشعور بالظفر فاستبد به الفرح, فحيث أنه:
1 - لم ير نعمة الله من الله.
2 - ولم ير لله حقاً عليه.
3 - وتنصل من التكليف الإلهي المترتب على حصوله على تلك النعمة.
فقد أصبح كافراً, وكل كافر بنعمة يستحق القهر والغضب الإلهيين.
فيجب عليه إذن أن يخشى القهر الإلهي الخفي والعذاب الإلهي المفاجيء, وإذا لم يشعر بالخشية والخوف وانساق لفرحه المستبد به فقد تلوّث بالمعصية الكبيرة: الأمن من مكر الله.
والخلاصة: أن الفرح بالنعمة إذا كان بلا حدود مقترناً بالكبر
والإدلال, فلأن صاحبه في هذه الحالة لا يشعر بالخوف فإن هذه الحالة - عدم الخوف - معصية كبيرة وفي الحقيقة كل نعمة يعطيها الله للعبد هي امتحان له هل سيكون شاكراً ومطيعاً أم كافراً وعاصياً.
" قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فمن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ". النمل 40.
علامة الشاكر والكافر:
وعلامة الشاكر هي أن تكون النعمة لديه وسيلة لزيادة المحبة لله والتواضع والخوف من التقصير في الشكر الأمر الذي يؤدي - إذا وقع - إلى التعرض لسخط الله وعقابه.
كما أن علامة الكافر زيادة البعد عن الله, وزيادة القرب من الدنيا, والكبرُ والنخوة والطغيان والإدلال وعدم الخوف من الغضب الخفي لله.
وكل من كانت نعمة الدنيا سبباً في زيادة طغيانه فليعلم أنه بسبب هذه النعم, في ( صميم ) المكر الإلهي, والعذاب الإلهي:
" فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ". التوبة 55.
فالنعم قد تكون إذن وسيلة عذاب إلهي في الدنيا.
ومن تلهى بالدنيا وشدته زينتها إليها, وأدهشه المال والولد وخدعته الآمال والأماني وأغفله الشيطان عن الله ونفسه سيظل دائماً يعيش صراع تزاحم قواه البدنية وغرائزه وشهواته. ويعيش النزاعات والخصومة على اللذائذ المادية وهكذا تتحول تلك الأمور التي ظنها رأسمال سعادته إلى أشد أنواع العذاب.
نعم.. وها نحن نرى بأعيننا كيف أنه كلما كان إقبال الدنيا على شخص أكثر, وتنعم بوفرة المال والأولاد فإنه يبتعد بنفس المقدار عن مركز العبودية ويصبح أقرب - بنفس المقدار - إلى الهلاك وأنواع العذاب الروحي, ويبقى دائماً غارقاً في اللذائذ المادية والآلام الروحية, وما ظنه سبباً لأنسه ورفاهيته هو في الحقيقة وسيلة للضيق والألم.
شكر النعمة أسمى من النعمة:
عن سنان بن ظريف قال: قلت لأبي عبد الله ( الإمام الصادق ) عليه السلام: خشيت أن أكون مستدرجاً ( أي أواجه المكر الإلهي بما كسبت يداي ) قال: ولم؟ قلت لأني دعوت الله أن يرزقني داراً فرزقني ودعوت الله تعالى أن يرزقني ألف درهم فرزقني ودعوته أن يرزقني خادماً فرزقني خادماً قال فأي شيء تقول ( عندما ينعم الله عليك بنعمة ) قال أقول الحمد لله قال فما أعطيْتَ أفضل مما أُعطيت[536] لأن الشكر باق وتلك النعمة تزول.
والخلاصة: الفرح بالنعمة إذا اقترن بالشكر فهو محمود ويستحق صاحبه الثواب. وإذا اقترن بالكفران والإدلال وعدم الخوف من المكر الإلهي فهو مبغوض ومعصية.
الفرح بالنفس, إنقطاع عن الله:
وأما اليأس بمعنى عدم الرجاء بالله والإنقطاع عنه, فإن من حصل على
مبتغاه الدنيوي ولم يعتبره من الله, بل اعتبره ثمرة جهده, وظن أنه غني بما اكتسب وفرح - لذلك - فرحاً شديداً, يجب عليه أن يعلم أنه في هذه الحالة قد انقطع عن ربه واتصل بتلك الثروة وأمثالها من أمور الدنيا.
والإنقطاع عن الله هو عين الكفر به, وفي الحقيقة إنه باعتباره رأى الثروة منجية ومغنية له ارتبط بها وفرح, قد جعل تلك الثروة معبوده, وهو في هذا الحال مع عابد ( الصنم ) على حد سواء.
" إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار".
الحزن الحرام, على الدنيا:
مما ذكر في معنى الفرح بالدنيا, يعلم أن الحزن لبلاءات الدنيا ومصائبها وخيباتها حرام أحياناً, وذلك عندما يكون مفرطاً وبلا حدود, ويقترن بحالة الغضب على القضاء الإلهي وللإيضاح يذكر هنا مثال أيضاً:
شخص التحق مع أفراد عائلته بقافلة للتشرف بحج بيت الله الحرام, ففرق المشرف على القافلة بينه وبين ابنه وأرسل الإبن بواسطة نقل سريعة قبل أيام من سفر الأب... طبعاً سيحزن الأب على فراق ابنه لعدة أيام, ولا مؤاخذة عقلاً على هذا التأثر والحزن, ولكن إذا زاد حزنه عن الحد الطبيعي فتململ واضطرب وتصرف وكأن الظلم الذي حل به لا يطاق وغضب على المشرف على القافلة, في حين أنه أحسن إلى ابنه فإن هذه الحالة طبعاً قبيحة يذمها العقلاء.
وبناءاً عليه فإن الشخص الذي يموت أحد أقاربه إذا تألم لفراقه وسالت دموعه فلا يؤاخذ على ذلك عقلاً بل إن تصرفه هذا ممدوح أما إذا غضب على التقدير الإلهي واعترض عليه, ونسي وصول قريبه إلى الوطن, وخلاصه من
آلام الدنيا ومشقاتها ونسي أيضاً أنه سيلحق به سريعاً, ورأى أن موت هذا القريب ظلم له وحادثة لا تنبغي, فإن هذا الحزن بلا حدود هو بطبيعة الحال قبيح عقلاً وحرام شرعاً " لكيلا تأسوا على ما فاتكم[537] ". الحديد 23.
وقد تقدم تفصيل ذلك في بحث الغضب ( الحقد ).
لا تمدن عينيك:
" ولا تمدنّ عينيك ( أي لا يتعلق قلبك وتحب ) إلى ما متعنا به أزواجاً ( أصنافاً ) منهم ( الكافرين أو رجالاً ونساءاً من الكافرين ) زهرة الحياة الدنيا ( أي زينة الحياة الدنيا وبهجتها التي هي المال والمنال والجاه والجلال ) لنفتنهم فيه ( أي نبلوهم ونختبرهم هل يشكرون ويؤدون الحقوق المطلوبة لنزيد في نعمتهم أم يكفرون لنغير ما بهم من نعمة ونعذبهم في الآخرة وقال البعض إن معنى لنفتنهم هو: لنعذبهم أي نعذبهم بتلك الزينة في الدنيا لأن زيادة المال والجاه والأولاد يستتبع مشقة كثيرة ).
" ورزق ربك ( في الآخرة ) خير وأبقى ". طه 131.
طراوة البرعم قصيرة الأمد:
يقول في " كشف الأسرار " الزهرة في اللغة البرعم, سمى الله الدنيا
برعماً لأن طراوتها لا تستمر أكثر من يومين, وسرعان ما تذبل وتتلاشى.
مال الدنيا برعم في حديقة التنعم تسرق إطلالته قلب أهل الحال ( الذين لهم مع الله حال خاصة ).
لا يمر أسبوع إلا ويسقط البرعم ويصبح على التراب طريقاً يداس كالحشائش والتراب.
لماذا يفسح أهل القلب مجالاً له في قلوبهم وهو الذي يبحث لحظة بلحظة عن الفناء والزوال[538].
مع المحقق الأردبيلي عليه الرحمة:
قال المحقق الأردبيلي: " نهى ( الله تعالى ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الرغبة في الدنيا، فحرم عليه أن يمد عينيه إليها وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا هكذا في مجمع البيان, وعلى هذا على تقدير وجوب التأسي يحرم على أمته أيضاً ذلك إلا أن يكون ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وليس بمعلوم ولا منقول في خصائصه، والمراد بالنظر المنهي, النظر الراغب الطامع فيه كما صرح به صاحب الكشاف، ويحتمل أن يكون ( المراد بالنظر, النظر ) على وجه الحسد والسلب عن غيره ( تمني زوال النعمة ) أو حصوله له من غير وجه شرعي فيحرم عليه وعلى أمته بغير نزاع فتأمل[539] ".
وقال بعض المفسرين إن الخطاب وإن كان في هذه الآية لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لكن المراد عموم أمته, فحب الدنيا والطمع والتعلق بها
حرام على الجميع:
خلاصة معنى الآيات المتقدمة:
من الواضح لأهل القرآن أن قسماً وافياً من القرآن المجيد ينصب على ذم الدنيا والنهي عن التعلق بها, والسر في ذلك هو أن حب الدنيا هو المانع الوحيد من الإيمان والتعلق بالله والرسول والآخرة ( وحب الدنيا أيضاً هو ) الوسيلة الوحيدة لكل فساد وذنب, وموجب لخراب الدنيا والآخرة كما تقدم.
بناءاً عليه فواجب كل متدين أن يصلح نفسه, ويخرج من قلبه حب الدنيا, أو يضعفه على الأقل, ويقوي في قلبه حب الله وما يرجع إليه, وأن يطيل الوقوف عند هذه الآيات الشريفة التي تثبت من مجموعها حرمة الحب الإستقلالي القوي للدنيا, ويكرر قراءتها ورعاية للإختصار لم تذكر الآيات الأخرى وهذه بعض الروايات المعتبرة المؤيدة لمعنى هذه الآيات الشريفة.
الإضطراب, نتيجة حب الدنيا:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره, ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم الله له, ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره[540] ".
وخلاصة الحديث: من كان حبه للدنيا وعلاقته بها أكثر من الآخرة وكان الوصول إلى الآمال الدنيوية أهم لديه من ضمان حياته الباقية وأصبحت هذه حالته المستمرة فإن الله تعالى يجعله دائماً فقيراً أما في الدنيا فلأنه كلما حصل على شيء, ازداد حرصاً بذلك المقدار وزادت حاجته بحيث أنه لا يمر عليه
وقت أبداً يرى فيه نفسه غير محتاج, بل إنه دائماً يرى نفسه محتاجاً ويظل يركض خلف حاجته وما هو حريص عليه, وغالباً لا يصل إلى ما يركض خلفه من منطلق الإحساس بالحاجة إليه, فيزداد غضباً وسخطاً, ثم إنه خشية الفقر والإملاق, يبخل فلا ينفق على نفسه وعياله ويعيش فقيراً, وهذا هو الفقر الواقعي.
وأما في الآخرة, فحيث أنه لم يهتم بها وامتنع عن تحصيل الإيمان والقيام بالأعمال الصالحة التي من جملتها الإنفاق المالي فإنه بطبيعة الحال سيرد ذلك العالم ( الآخرة ) فقيراً.
الإضطراب في الدنيا والآخرة:
وأما الإضطراب والقلق الداخليان وعدم الأمن والإستقرار الدنيويين ( لمن كانت الدنيا أكبر همه ) بسبب جهوده المتواصلة والخيبات المتتالية في كثير من مجالات آماله, وبسبب ابتلائه بكثير من المنغصات وحسد زملائه من أهل الدنيا, أما هذا كله فواضح.
واضطراب آخرته وعدم اتساق أمرها, هو الذي أخبر به القرآن المجيد: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ". الشورى 20. وفي مقابل هذا, من كانت الآخرة أكبر همه, وهو دائم الفكر في إعمار حياته الخالدة, فلا يكون حريصاً على الدنيا وهو يسعى لها بكل ثبات واطمئنان, ولا يرى أنه محتاج إلى أحد غير ربه, ولا يمد يد الإستجداء إلى أحد أياً كان, وهو قانع بما رزقه الله, راضٍ به فهذا هو الغنى الحقيقي والإطمئنان الواقعي " واجعل غناي في نفسي " مثل هذا الشخص غالباً " يرزقه ( الله ) من حيث لا يحتسب ". الطلاق 3. ويزاد في اطمئنانه, ولأن الآخرة أكبر همه فهو يسعى لها سعيها وقد
بشره القرآن المجيد ببشارات في مجال الإطمئنان والسعادة في عالم الخلود.
" اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا[541] ".
أعمال جميلة ولكنها بلا فائدة:
يقول سليمان بن خالد: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً ". الفرقان 23 قال: أما والله إن كانت أعمالهم أشد بياضاً من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه[542].
وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ): " ليجيئن أقوام يوم القيامة لهم من الحسنات كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار فقيل: يا نبي الله أمصلون؟ قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون وهناً من الليل لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه[543] ".
كانوا يجعلون الآخرة فداءاً للدنيا:
يعلم من التدقيق في هذه الرواية والروايات الأخرى التي وردت بهذا المضمون أنها جميعاً تبين حال الذين لا يعدمون العلاقة بالآخرة بل إن لهم إيماناً وعلاقة بالآخرة ولذلك فهم يصلون ويصومون ويعملون أعمالاً
صالحة, إلا أن علاقتهم بالدنيا أقوى وأشد بحيث أنهم كلما رأوا حراماً لا يعرضون عنه بل يجعلون الآخرة فداء للدنيا, فيثبون على المحرم ويلقون بأنفسهم عليه, كالهر الذي ينفر من الرطوبة والماء ولكنه عندما يريد اصطياد السمك يقفز ويلقي بنفسه في الماء وقوة حب الدنيا هذه وضعف العلاقة بالآخرة ذنب يوجب حبط الأعمال الصالحة بحيث أن كل أعمالهم تزول ولا يبقى لها أثر, كما يوجب هذا الذنب عدم قبول أعمال صاحبه ومنعه من القرب ( من الله تعالى ).
" إنما يتقبل الله من المتقين ". المائدة 27.
لا نصيب له من الإخلاص:
والسر في ما ذكر أن من كانت له علاقة شديدة بالدنيا إذا أدّى عبادة أو عمل صالحاً فذلك لا يقبل منه لأنه فاقد للإخلاص ولا نصيب له منه وقبول أية عبادة وصحتها مشروطان بالإخلاص كما تقدم في بحث الرياء.
وهذا الشخص تمام الداعي الذي دعاه إلى هذه العبادة أو هذا العمل - أو جزء الداعي- هو حب الدنيا.
مثلاً: إذا أنفق, فمحركه مدح الناس وثناؤهم, أو الطمع في زيادة المال, أو الخوف من ذم الناس أو هدف دنيوي آخر, وغالباً ما يحتفظ لنفسه بما يحبه وينفق في سبيل الله ما لا يحب.
والخلاصة: عمل محب الدنيا مهما كان ظاهره كبيراً فإنه لا يقبل لأنه فاقد للإخلاص.
لا يغفر له وهو يحب الدنيا:
روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): مرّ موسى برجل من
أصحابه وهو ساجد وانصرف من حاجته وهو ساجد فقال عليه السلام: " لو كانت حاجتك بيدي لقضيتها لك، فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبلته أو يتحول عما أكره إلى ما أحب[544] ".
ومن طريق آخر: أن موسى مرّ برجل وهو يبكي ثم رجع وهو يبكي فقال: إلهي عبدك يبكي من مخافتك, قال الله تعالى:
يا موسى لو بكى حتى نزل دماغه مع دموع عينيه لم أغفر له وهو يحب الدنيا[545]. يجب الإلتفات إلى أن هذا الشخص حيث أنه كان محباً للدنيا فإن خوفه ورجاءه أيضاً دنيويان أي أن سجدته أو خوفه أو تململه وتألمه كان نتيجة خيبات أمل ومصائب دنيوية بالرغم من أنه في الظاهر يذكر اسم الله, والله تعالى ينظر إلى القلب فإذا لم يكن القلب مع الله ولم يكن تعلقه به سبحانه فإنه لا يقبله.
من هنا قال علماء الكلام إن شرط صحة التوبة أن يكون ترك التائب للذنب بسبب الخوف من الله والندم على مخالفة أمره, فإذا كان خوفه من مخلوق أو من ضرر دنيوي هو الذي حمله على " التوبة " فتوبته غير صحيحة.
الذين يعادون الله:
قال الإمام الصادق عليه السلام: أبعد ما يكون العبد من الله عز وجل إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه.
ومن الواضح أن حب الطعام اللذيذ والحصول عليه من طريق الحلال وأكله, وكذلك دفع الغريزة الجنسية بطريقة مشروعة مباح وغير مذموم.
ما هو ذنب وقبيح هو عبادة البطن وعبادة الفرج أي العلاقة الشديدة بهاتين الشهوتين وعدم العلاقة بالآخرة بحيث أنهما إذا استوجب خراب آخرة الشخص ووقوعه في الحرام فإنه لا يجد في ذلك حرجاً.
بغض الدنيا أفضل الأعمال:
سئل علي بن الحسين عليه السلام: أي الأعمال أفضل عند الله قال عليه السلام: ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أفضل من بغض الدنيا، فإن لذلك لشعباً كثيرة وللمعاصي شُعب، فأول ما عُصي الله به الكبر معصية إبليس حين أبى واستكبر, ثم الحرص ( ..... ) ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك حب الدنيا رأس كل خطيئة والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة[546]. ( وهي التي تجعل صاحبها غافلاً عن الآخرة وتعيقه عن الإستعداد لها ).
أقسام الأعمال:
قال بعض المحققين إن كل فعل يقع في الدنيا فهو أحد هذه الأقسام الأربعة:
1 – أن يكون ظاهره وباطنه إلهيين كالطاعات والخيرات الخالصة لله.
2 – أن يكون ظاهره وباطنه دنيويين, كالمعاصي وكثير من المباحات التي هي أساس السُّكْر والغفلة.
3 – ما يكون ظاهره لله وباطنه دنيوياً كالأعمال التي تؤدى رياءاً.
4 – أن يكون ظاهره دنيوياً وباطنه إلهياً كطلب الكفاف من الرزق, لحفظ البدن والإستعانة على العبادة وهذا من أمور الآخرة لا الدنيا.
أضر من ذئبين جائعين:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها واحد في أولها وهذا في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم "[547].
قال المجلسي: المقصود من الشرف هنا التعصب وحب الزعامة والوجاهة الذي كان دائماً سداً كبيراً في مقابل دعوة الأنبياء التي كانت على أساس العدالة والأخوة والمساواة, وقد عبر عنهم في القرآن بالأكابر[548] كما في قوله تعالى:
" وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ". الأنعام 124.
قطاع طريق الله, العلماء الدنيويون:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب ". وقال ( صلى الله عليه وآله ): أوحى الله إلى داود عليه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً
بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم[549].
وينبغي الإنتباه إلى أن المراد بحب الدنيا في هذا الحديث هو ذلك الحب الإستقلالي الشديد للدنيا وعلامته أن يفرح الشخص بلا حدود عندما تتحقق آماله الدنيوية, ولا يحزن لضرر يلحق بآخرته, وإذا خاب أمله ولم تتحقق رغباته أو رغبته الدنيوية أو خسرها بعد الحصول عليها فإنه يتألم ويضطرب بشدة حتى إذا كان في ذلك إعمار آخرته وصلاحها.
المتبع لعابد الدنيا يصبح مثله:
وقوله عليه السلام اتهموا العالم المحب للدنيا على دينكم يعني أن لا تثقوا بدينه لأن من أصبح محباً للدنيا, فستصبح كل أعماله بهدف الوصول إلى آماله الدنيوية حتى إذا كان ذلك عن طريق حرام ومثل هذا الشخص يجعل دينه فداء لدنياه, وتقف حدود تدينه عند ما لا يضر بدنياه.
وقد ثبت فيما مضى أن حب الدنيا والتعلق بها كلما زاد فقد زادت بنفس النسبة عداوة الآخرة وعدم التعلق بها.
وقوله عليه السلام لا تجعل العالم المحب للدنيا واسطة بينك وبيني سببه أن من تعلق بعالم محب للدنيا بهدف تقوية دينه ( بمواعظ ذلك العالم ) واتبع نهجه وسلك مسلكه, فسيصبح بعد قليل مثله محباً للدنيا ويستقر في نفس الموقع الذي تبوأه ذلك العالم من البعد عن الله وخراب الآخرة ومن هنا قال بعض الفقهاء أن من شرائط مرجع التقليد أن لا يكون محباً للدنيا حريصاً
عليها[550].
وما ورد في آخر الحديث من أن العقوبة الإلهية للعالم المحب للدنيا أن ينزع الله حلاوة مناجاته من قلبه, ينبغي الإنتباه إلى خطورته وأنه قهر إلهي وعذاب روحاني شديد لدى أهل المعرفة, وأما العقوبة الأشد التي سيواجهها العالم المحب للدنيا فهي فوق مستوى إدراك العقول الجزئية.
طلب الرئاسة ملعون:
قال الإمام الباقر عليه السلام: من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوء مقعده من النار إن الرياسة لا تصلح إلا لأهلها[551].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: " ملعون ملعون من ترأس, ملعون من هم بها, ملعون من حدث بها نفسه "[552].
يجب العلم أن طلب الرئاسة سواء في أمر شرعي كالمحراب والمنبر ومسند الفتوى والقضاء أو في الأمور الدنيوية كالسلطنة على دولة إلى الإمارة على قرية, وبشكل عام: قبول كرسي الرئاسة والسعي إليها إذا كان من منطلق حب الدنيا أي لزيادة الثروة والشوكة والشهرة حتى إذا أضر ذلك بآخرته ووقع في الحرام, فهو حرام.
وإذا كان زاهداً أي أن علاقته بآخرته شديدة, ويريد – من أجل ضمان
حياته الخالدة – أن يرشد الناس أو يبسط العدل أو ينصف المظلوم فإن ذلك يكون حلالاً.
وقد وردت في حرمة طلب الرئاسة بدواعٍ نفسية روايات كثيرة في أصول الكافي وغيره ويكفي التدبر في الآية 83 من سورة القصص التي تقدم تفسيرها في بحث الكبر: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين "[553].
قال الإمام الصادق عليه السلام: " كان لموسى بن عمران عليه السلام جليساً من أصحابه قد وعى علماً كثيراً، فاستأذن موسى في زيارة أقارب له فقال له موسى: إن لصلة القرابة لحقاً, ولكن إياك أن تركن إلى الدنيا فإن الله قد حملك علماً فلا تضيعه ولا تركن إلى غيره فقال الرجل, لا يكون إلا خيراً, ومضى نحو أقاربه، فطالت غيبته، فسأل موسى عليه السلام عنه فلم يخبره
أحد بحاله، فسأل جبرائيل عليه السلام عنه فقال له: أخبرني عن جليسي فلان ألك به علم قال: نعم هو ذا على الباب قد مسخ قرداً في عنقه سلسلة ففزع موسى عليه السلام إلى ربه وقام إلى مصلاه يدعو الله ويقول: يا رب صاحبي وجليسي, فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى لو دعوتني حتى تنقطع ترقوتاك ما استجبت لك فيه، إني كنت حملته علماً فضيعه وركن إلى غيره[554] ".
حيوانات في صورة إنسان:
يجب الإنتباه إلى أن من اعتبر الحياة الدنيا حقيقة والحياة الآخرة حكاية, وكانت الدنيا – لذلك – أكبر همه بل همه الوحيد فإنه شخص مبتلى بنقص إنسانيته, وإذا تمكن حب الدنيا من قلبه واستقر فيه وأصبح هو خالصاً في حب الدنيا بحيث أصبح ذلك ذاتياً له فقد خرج من دائرة الإنسانية كلياً وأصبح حيوان عالم الروح, وبعد الموت في عالم البرزخ ستنكشف هذه الحقيقة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان "[555].
وصورة نفس كل إنسان هي خُلُقه الحيواني الذي أصبح راسخاً فيه مثلاً إذا كان راسخاً في التقليد ( الأعمى ) والمحاكاة فهو قرد عالم الروح ككثير من البشر في الشرق الأوسط والشرقيين الذين ليسوا أقل من القرد في تقليد الغربيين وتصرفاتهم.
وإذا كان الشخص قد غرق في عبادة البطن وعبادة النساء وعدم الفهم فهو لا يقل عن البقر والحمار والخنزير.
وإذا كان قوياً في العجب والكبر والنخوة والإفتراس فقد أصبح نمراً وذئباً.
وإذا كان قد أصبح متمرساً في التسبب بالشر والإحتيال فهو شيطان.
وإذا كان شخص قد رسخ في هذه الأخلاقية الحيوانية جميعاً فإنه سيظهر في المحشر بأشكال مختلفة, والعجيب أنه يُعرف من هو مهما كانت صورته وقد اتضح تحقيق هذا في القسم الأول من هذا الكتاب.
علي يعرف هذه الحيوانات المفترسة:
ولأن أكثر محبي الدنيا لا يقلون عن الكلب في البخل والحسد والإفتراس فإن أمير المؤمنين عليه السلام اعتبرهم كلاباً, قال عليه السلام:
" وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها وتكالبهم عليها ( ... ) فإنما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها على بعض ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها[556] ".
هذه الدنيا كجيفة حولها الناس صفوف ( بالآلاف ).
أنشب البعض بها مخالبهم, ومد الآخرون إليها مناقرهم وسيتركها الجميع يوماً ولا يبقى من كل هذا الحشد إلا هذه الجيفة[557].
ومن الجدير بالذكر أن ما ذكر من الآيات والروايات نماذج من آيات وروايات كثيرة وردت في باب ذم حب الدنيا, ولم يرد حول أي ذنب بمقدار عشرها وفي ما ذكر كفاية لمعرفة حرمة وخطورة ذنب حب الدنيا القوي والإستقلالي.
حكم المرتبة الثالثة الكراهة:
( وهي مرتبة ) من أحب حياته الدنيوية وتعلق بها وبشؤونها إلا أن حبه هذا بالنسبة إلى حبه وعلاقته بالله والآخرة ضعيف ولا يكاد يذكر والآخرة عنده أهم, يريد إعمار آخرته ويبحث عنه حتى إذا كان فيه خراب دنياه, ولذلك فهو يهرب من كل لذة نفسانية إذا كان فيها ضرر لآخرته.
وعلامة الحب الضعيف للدنيا والحب القوي للآخرة هي أنه إذا لحق بدنيا الشخص ضرر يحزن ولكن في حدود, أما إذا لحق بآخرته ضرر كأن يرتكب معصية أو يحرم من عمل خير فإن حزنه يكون أضعاف حزنه على الشأن الدنيوي فيضطرب ويبكي وترتعد فرائصه ولا يقر له قرار ما لم يتيقن بقبول توبته ويعوض ما فاته.
تماماً كما يضطرب أهل الدنيا ويتألمون لعدم تحقيق آمالهم وأهوائهم الدنيوية فإنه يضطرب لما يضر بآخرته ويتألم, ويجد سلواه في ذكر الله والآخرة والأعمال الصالحة.
يمنع كمال الإيمان والتقدم:
وهذا المقدار من حب الدنيا, حيث أنه لا ينافي الإيمان بالله والآخرة ولا يوجب الفساد وارتكاب المعاصي, ليس حراماً, والآيات والروايات المذكورة لا تشمل هذه المرتبة من حب الدنيا, وهي ( الآيات والروايات ) خاصة بالمرتبتين الأولى والثانية كما تقدم.
لكن هذه المرتبة الثالثة من حب الدنيا منافية لكمال الإيمان وتمنع من الرقي الإنساني, لأن تمام السعادة الإنسانية التي خلق الإنسان من أجلها هي الوصول إلى مقام القرب من حضرة الله تعالى, وذلك لا يتحقق إلا بالحب
والتعلق, شرط أن يكون منحصراً أي يكون حب الشخص وتعلقه منحصرين بالله تعالى, ولا يكون محباً لأي مخلوق على نحو الإستقلال, بل يحب كل من وما يحبه بالتبع أي حباً يتبع محبة الله تعالى ويتفرع عليها, وأن يدرك أن العالم الفاني والعالم الباقي وكل من وما فيهما, كل ذلك من آثار رحمة الله وعلائم قدرته وأنواع نعمته ولذلك فهو يحبهم, ويصل به الأمر إلى أن يرى نفسه وزوجته وولده وسائر علائقه, كل ذلك عطاء الله وأمانته, ولذلك فهو يحبهم.
أنا سعيد بالعالم لأن العالم المنير منه عاشق لكل العالم لأن كل العالم منه[558].
وأيضاً يحب كل طاعة وعبادة وكل عملٍ صالحٍ يحبه الله, يحبه بكل وجوده, كما يحب كذلك الأنبياء والأئمة وسائر أهل الإيمان الذين هم أحباء الله, وطبعاً تكون درجة حب كل منهم بحسيب درجة حب الله له, بحيث يكون حبه للجنة باعتبار أنها دار ضيافة الله ومحل إقامة أوليائه, لا باعتبارها فقط دار التنعم بالنعم والملذات.
كما أنه ينفر من كل ما يوجب انشغاله عن الله ويسبب له الحب الإستقلالي للدنيا التي تلهيه عن الله تعالى.
حب غير الله بعد عن الله:
وحيث قد علم أن سعادة الإنسان وكماله في القرب من الله تعالى واكتمال العلاقة به, فإن الشخص إذا تعلق حبه بشيء أو شخص من عالم الوجود
حتى إذا كان نفسه ولو كان هذا الحب بمقدار ذرة فإنه يبتعد عن الله تعالى بذلك المقدار ويقترب مما أو ممن أحبه ويحرم بذلك المقدار من السعادة والوصول إلى مقام الإنسانية الرفيع وبناءاً عليه فإن العلاقة المستقلة بغير الله, بأي مقدار كان رغم أنها ليست حراماً ولا موجبة للعذاب, لكن حيث أنها تمنع من السعادة وتوجب الحرمان فإن على كل طالبٍ للسعادة - بحكم العقل - أن يجتنبها.
وأما حكم هذه المرتبة شرعاً فينبغي الإلتفات إلى أن بعض آيات القرآن المجيد والأخبار نهت عن حب الدنيا بشكل عام وهو يشمل المراتب الثلاث المذكورة كما سيأتي وفي بعضها الآخر نهي أكيد عن المرتبة الأولى والثانية ووعد بالعذاب عليهما كما تقدم.
بناءاً عليه فالمرتبة الأولى والثانية من حب الدنيا حرام وسيعذب صاحبهما, والمرتبة الثالثة مكروهة وصاحبها محروم من السعادة والدرجات.
ويشار هنا على سبيل الإختصار إلى بعض الآيات والروايات التي تنهى عن حب الدنيا وتأمر بتخلية القلب من العلاقة بغير الله.
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم:
" يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ". المنافقون 9.
ومعنى " لا تلهكم.. عن ذكر الله ". أي لا تتعلقوا بها بدلاً من حب الله والعلاقة به.
ومعنى: " ومن يفعل ذلك " إلخ.. أي من أحب المال والولد وغيرهما على وجه الإستقلال, بدلاً من حب الله.
" هم الخاسرون " لأنهم لم تكن لهم علاقة بالله فلم يستفيدوا من أعمارهم فائدة خالدة وهي الإيمان والعمل الصالح.
رجال لا تلهيهم تجارة...
" رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ". النور 37.
والمراد بذكر الله في هذه الآية الشريفة الذكر القلبي والحب المتعلق أي أنهم في كل حال وأمام كل عمل قلوبهم معلقة بالله المنعم جل جلاله والعلاقة به منشأ علاقتهم بالأعمال والنعم وهم جاهزون لحبه عند كل طاعة وعبادة والإتيان بها.
إحصل يا أخي على سر السلطنة والحكم ولا تخسر هذا العمر النفيس
دائماً في كل مكان مع أي كنت وبأي عمل اشتغلت اجعل في الباطن عين قلبك باتجاه الصاحب ( الله )[559].
لنبلوهم أيهم أحسن عملاً:
" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً* وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً ". الكهف 7 - 8.
إن حسن العمل والعمل الصالح الذي ذكر كثيراً في القرآن المجيد واعتبر الوسيلة الوحيدة للسعادة الخالدة, هو كل عمل يؤتى به من منطلق حب الله والعلاقة به وحب إطاعة أمره سبحانه, حتى إذا لم يكن في الظاهر عبادة.
مثال ذلك من أكل طعاماً لذيذاً ولبس ثياباً فاخرة لا من منطلق حظ النفس
وعبادة البطن وتلبية رغباتهما بل من منطلق الإلتذاذ بنعمة الله تعالى وإظهار إحسانه وإطاعة أمره.
والعمل السيء والقبيح هو كل عمل يكون من منطلق حظ النفس والهدف الشيطاني والنفع الدنيوي حتى إذا كان ظاهره عبادة مقترنة بالرياء والعجب.
والزينة بمعنى تحسين منظر السلعة لجلب انتباه الشاري وإثارة إعجابه.
الهدف الأصلي والتبعي من الخلق:
لدى الدقة في هذه الآية والآيات الأخرى من القرآن المجيد يعلم أن الله الخالق سبحانه خلق أنواع النعم والبهجة واللذة في الكرة الأرضية وأودع هذه الكرة قطرة من بحر جمال الوجود اللامتناهي, بمقدار ما يتناسب مع قابلية الأرض[560] ثم خلق الإنسان وعرض عليهم هذه السلعة ( المتاع ) لهدفين: تبعي وأصلي.
والمراد بالهدف التبعي من عرض الدنيا على الناس أن يسعى الإنسان للحصول عليها فيحصلها ويستثمرها, فيكون ذلك موجباً لإعمار الدنيا وحفظ النسل وبقاء حياته المادية المؤقتة وأما الهدف الأصلي من عرض متاع الدنيا على الناس فهو أن تكون هذه النعم وسيلة لمعرفة المنعم بحيث يصبح الإنسان يبحث عن خالق هذه النعم وصانعها يريده ويحبه ويتعلق به ويطيع أوامره ويكون شاكراً لأنعمه.
لا أن يخدع بمتاع الدنيا ويسعى خلفه وإذا حصل عليه اعتبر نفسه غنياً وغير محتاج إلى أحد, فيكون بذلك قد عبد متاع الدنيا ورأى أنه جدير بالحمد والثناء, ورأى نفسه المالك المطلق والمتصرف بحق بالكرة الأرضية فلا يتحرج على الإطلاق في مخالفة الحدود الشرعية الإلهية.
وباختصار: أن يعرف النعمة فقط فيريدها ويعبدها وينسى المنعم فيتجاوز حدوده ويكون كافراً لأنعمه[561].
كيف يبلونا بزينة الدنيا:
وإذا تأمل أحدنا عند مشاهدة زينة الدنيا, في النقائص التي تكتنفها التي أهمها الفناء وعدم الثبات, لأيقن أن هناك عالم وجود آخر وفيه أصل الكمال والجمال اللامتناهيين, الخاليين من كل عيب ونقص وأهم هذا الكمال, الخلود, واعتبر أنه من أهل ذلك العالم, أي أنه خلق له, لأنه لو كانت الحياة تنتهي بالموت ويفنى لكان ذلك مستلزماً العبث واللغو, مع أن تمام أجزاء العالم تشهد على حكمة الله اللامتناهية ( تقدم بيان ذلك في بحث المعاد ).
هذه هي حقيقة الإختبار الإلهي الذي يبتلي الله تعالى به الناس بواسطة زينة الدنيا ويختبرهم به.
ونتيجة هذا الإختبار وجود وتمايز السعيد عن الشقي, الطيب من الخبيث
طاهر الطينة من خبيثها, عالي الهمة من وضيعها, الإنساني من الحيواني وباختصار أهل الجنة من أهل النار, ثم يتشكل في يوم القيامة صفات من البشر: أصحاب اليمين الذين سيخلدون في الجنة متنعمين بالإكرام والإنعام اللامتناهيين من الله تعالى بالتفصيل الذي بينه سبحانه في القرآن المجيد, وهكذا سيتجلى الفضل الإلهي العظيم.
وأصحاب الشمال يستقرون في المكان الذي أعدوه لأنفسهم أي النار وينالون جزاء أعمالهم السيئة, وهكذا سيتجلى العدل الإلهي الحقيقي.
وعندما يستقر كل منهم في المكان الذي يناسبه يتضح أن الفناء المطلق لا ينبغي إلا لله تعالى[562].
والخلاصة أن رب العالمين سبحانه خلق الحياة الدنيا بزينتها زخارفها وبهارجها اختباراً لكل شخص منذ ولادته إلى حين وفاته ليتميز طالب الدنيا العابد لها من الطالب للآخرة, المحب للآخرة, بناءاً عليه فإن صاحب العلاقة بالحياة الدنيا ( بنحو الإستقلال لا التبع ) سيكون في عداد المخدوعين والخاسرين.
" يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ". لقمان 33.
ومعنى " لا تغرنكم الحياة الدنيا " أي لا تحبوها وتعتبروا أنفسكم في غنى عن الله.
وكما أن معنى " لا يغرنكم بالله الغرور " لا يمنعكم الشيطان عن حب الله
أو لا تغتروا بعفو الله وكرمه, وتتجرأوا على المعاصي.
وبما أن الله تعالى نهى عن الإغترار بالحياة الدنيا وكرر ذلك في سورة الأنعام الآية 70 / 130 والأعراف الآية 51 ولقمان الآية 33 وفاطر الآية 33 والجاثية الآية 35 والحديد الآية 14 فإن على كل مسلم أن يراقب قلبه دائماً وأن لا يكون من المغترين بالدنيا.
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم:
" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ". آل عمران 14 - 15.
خلاصة الآية أن الله خلق زينة الدنيا وجعلها اختباراً للبشر ليصبحوا بواسطتها محبين لله ويضمنوا سعادتهم الخالدة, إلا أن الشيطان خدعهم وبدلاً من أن يحبوا الله خالق الكون ويهتموا بحياتهم الآخرة أصبحوا يحبون هذه المشتهيات ( الزينة ) واهتموا بحياتهم الدنيا, إلا أن عليهم أن يعلموا أن هذه الحياة والتلذذ بشهواتها فانيان ومدتهما لا تكاد تذكر, والتعلق بالفاني مناف للعقل, وأن يهتموا بدلاً من حب الدنيا بحب العالم الباقي فهو الأفضل والأبقى.
ويعلم من هذه الآية الشريفة أن الحب الإستقلالي للدنيا بأي مقدار كان, شيطاني ومذموم[563].
رواية عجيبة في حب الدنيا:
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): قال الله تعالى ( ليلة
المعراج ) يا أحمد لو صلى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي عن الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العابدين، ثم أرى في قلبه من حب الدنيا ذرة أو سُمعتها أو رئاستها أو زينتها، لا يجاورني في داري ولأنزعن من قلبه محبتي ولأظلمن قلبه حتى ينساني ولا أذيقه حلاوة محبتي[564].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: " والله ما أحب الله من أحب الدنيا[565] ".
وعنه عليه السلام في قوله تعالى: " إلا من أتى الله بقلب سليم " قال: هو القلب الذي سلم من حب الدنيا[566].
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة عن قلبه, وما أتى الله عبداً علماً فازداد للدنيا حباً إلا ازداد الله عليه غضباً[567].
ولكم في رسول الله أسوة:
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ولقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار ويردف خلفه ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول لإحدى أزواجه يا فلانة غيبيه عني, فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً, ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن النظر, وكذلك من أبغض شيئاً
أبغض أن ينظر إليه, وأن يذكر عنده[568].
شمول حب الدنيا:
ينقسم الناس من حيث معرفة حقيقة أنفسهم إلى قسمين: الدهريين والمليين.
الدهريون هم الذين يقولون إن الإنسان موجود مادي ولا يزيد عن الحيوان بشيء, خرج من التراب وبالموت تنتهي حياته ويصبح تراباً, وهم متمسكون بهذا الرأي قلباً وقولاً وعملاً أي أنهم يقولون بألسنتهم إن حياة الناس هي هذه الحياة الدنيا فقط ويجب اعتبار استثمارها إلى أبعد الحدود غنيمة لأن الإنسان يفنى بالموت ويصبح عدماً, وقلوبهم لا تميل إلا إلى الدنيا يحبون شهواتها ويقبلون عليها.
وأما عملاً فإن كل جهدهم واهتمامهم منصب على تحقيق الشهوات والملذات والزينة والرتوش والزخارف الدنيوية وتأمين الراحة والإستقرار في هذه الدنيا القصيرة عبر زيادة الثروة والقدرة والشوكة:
" وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ". الجاثية 24.
الملِّيون على ثلاث فرق:
أما الملِّيون أي أتباع الأنبياء من اليهود والنصارى والمسلمين الذين يقرون - بإرشاد الأنبياء ووحي الله خالق الكون - بأن للإنسان غير الحياة الدنيا حياة أخرى خالدة فيها الجنة لأصحاب العمل الصالح, والنار لأصحاب العمل السيء, لكن المليين - في هذا الإعتقاد - على ثلاث فرق:
الأولى: الذين يعترفون بهذا بألسنتهم فقط إلا أنهم قلباً وعملاً هم والدهريون على سواء, أي أن ألسنتهم تتحدث عن الله والآخرة, ولكن قلوبهم مع الدنيا ومحبتهم وتعلقهم في لذة الدنيا وشهوتها وثروتها وسلطانها, وكل جدهم واجتهادهم متركز على تحقيق رغباتهم الدنيوية فقط:
" يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ". آل عمران 167.
المصلون المتساهلون:
والفرقة الثانية: الذين ليس كل وجه قلوبهم إلى الدنيا, بل أكثره باتجاه الدنيا وقليل منه باتجاه الآخرة, أي أن حبهم وعلاقتهم الشديدين هما للذات الحياة الدنيا وشؤونها, ومن هنا فإن أكثر جدهم واجتهادهم منصب على تحقيق ذلك, ولأنهم لا يُعدمون العلاقة بالحياة الآخرة فإنهم يبذلون لها جهداً لا يكاد يذكر ويأتون بأعمال صالحة لا تكاد تذكر, مثلاً: من أجل الوصول إلى الرغبات النفسية واللذائذ الدنيوية يصرفون قدراً كبيراً من العمر والمال دون أي حرج, ولكنهم لا يصرفون قدراً كبيراً من عمرهم ومالهم إلا القليل وبصعوبة ودون إخلاص, للوصول إلى رضوان الله ونعيم الآخرة. وهؤلاء على مراتب أشير إلى مرتبتهم الشديدة في قوله تعالى:
" فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ". الماعون 5 - 7.
لو أن قلوب هؤلاء كانت مرتبطة بالله سبحانه والدار الآخرة لما ابتلوا بضعف الهمة في التوجه إلى الله وذكره عزَّ اسمه ولما عملوا من أجل التظاهر أمام الناس.
وخلاصة أمر هذه الفرقة الثانية من المليين هي تلك المرتبة الثانية من حب
الدنيا التي تقدمت.
والفرقة الثالثة: بعكس الثانية أي أن حبهم وتعلقهم الشديدين منصبان على الله والآخرة ولا تخلو قلوبهم من حب للدنيا لا يكاد يذكر.
كلهم في هذا سواء:
إذا تأملت أيها القاريء العزيز في حال المليين في العالم تجد أنهم جميعاً - إلا القليل - من الفرقة الأولى والثانية, أي أن اليهود والنصارى والمسلمين في أي دولة كانوا في الشرق أو الغرب والشرق الأوسط ورغم الخلاف اللساني بينهم حول الدين هم جميعاً مع الدهريين سواء في حب الدنيا قلباً وعملاً[569].
.............................................................................................
.............................................................................................
الجميع منشدون إلى شهوات الدنيا وزينتها وملذاتها شديدو التعلق بها, والثروة هدفهم الأصلي, يلوثون أنفسهم بأنواع الخيانات والجنايات والمفاسد والصراعات والمجازر.
الجميع يريدون كل شيء إلا رضا الله, سراعٌ لتأمين استقرارهم وزينتهم في الدنيا, إلا أنهم لا يفكرون في تأمين آخرتهم.
يضطرون لأدنى حادثة تواجههم, إلا أن الذنب لا يثير اضطرابهم.
يخافون من الفشل في المجالات الدنيوية, ولا يخافون أبداً الفشل في مجالات الآخرة.
يبذلون جهوداً في الفكر والعمل لحياطة مستقبلهم المظنون في هذه الدنيا, ولا يخطر التفكير بحياطة آخرتهم لهم على بال.
ما أكثر الجهود التي يبذلونها لزيادة الثروة ورأس المال وإذا لحق بهم ضرر
يتعالى جؤارهم والصراخ, لكنهم في مجال زيادة الثروة الواقعية والرأسمال الحقيقي أعني الإيمان والقيم والأخلاق الإنسانية, كالموتى لا يقومون بأي جهد ولا يستطيعون حراكاً.
والعجيب أن كل المليين الذين لا يختلفون أبداً عن الدهريين آمنون من عذاب الله وغضبه يظنون أن نجاتهم قطعية, مغترون بهذا الظن الشيطاني - وكأنهم اتخذوا عند الله عهداً - بل يدعون أن النجاة والسعادة وقف عليهم منحصران بهم وحدهم.
اليهود والنصارى والإدعاء الباطل:
مثلاً: اليهود يقولون نحن من عنصر إسرائيل ( يعقوب ) أشرف أولاد آدم, ولنا في الدنيا حق الحكم والسيادة وفي الآخرة " لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ". البقرة 80 ( أي تلك الأربعين يوماً التي عبدوا فيها العجل ) يقولون هذا مع أن العقل يحكم - وبهذا صرح القرآن المجيد - أن جميع الناس سواء ولا فضل لأحد على غيره إلا بالتقوى.
وكذلك: يقول اليهود والنصارى " نحن أبناء الله وأحباء الله وأولياء الله " والجنة التي هي دار الخلود خاصة بنا, يقولون هذا بألسنتهم مع أنهم واقعاً محبون للدنيا متعلقون بها لا بالله والآخرة, والدليل: حرصهم الشديد على الدنيا[570] إنهم في الحقيقة أولياء الشيطان لا الرحمن همهم الشهوات والملذات الدنيوية لا جوار الله والدار الآخرة.
فتمنوا الموت:
أما ما يقولونه عن نجاتهم في الآخرة, وأن الجنة خاصة بهم, فإن كان حقاً, وكانوا معتقدين به فلماذا يخافون من الموت والإنفصال عن عالم الطبيعة, ويتمنون طول العمر للإستزادة من الشهوات:
" قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ". البقرة 94.
قال في مجمع البيان:
" لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعاً، كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق والهموم والآلام والغموم ومن كان على يقين أنه إذا مات تخلص منها وفاز بالنعيم المقيم فإنه يؤثر الموت على الحياة, ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام وهو يطوف بين الصفين بصفين في غلالة لما قال له الحسن إبنه: " ما هذا زي الحرب: يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه " وقول عمار بن ياسر بصفين أيضاً: الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه, وأما ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي, فإنما نهى عن تمني الموت لأنه يدل على الجزع, والمأمور به الصبر وتفويض الأمور إليه تعالى، ولأنا لا نأمن من وقوع التقصير فيما أمرنا به ونرجو في البقاء التلافي[571] ".
وحب البقاء في الدنيا بهذا الهدف لا يتنافى مع حب أصل الموت وذلك كما إذا وجه السلطان دعوة إلى شخص لزيارته ولم يحدد له وقت تلبيتها, وأحب المدعو تأخير الموعد ريثما يستعد رغم حبه لأصل الزيارة وتمنيه له, وقد تقدم بالتفصيل أن الحب التبعي للدنيا مطلوب ومن لوازم الإيمان بالله والآخرة.
ولكن اليهود فإنهم أحبوا الدنيا بالذات ( استقلالاً ) وتمنوا الحياة والعمر للتنعم باللذات, بحيث أنهم أحبوا أن يعيش أحدهم ألف سنة, وخافوا من الموت بشدة وهذا شاهد على كذبهم إذ يقولون: نحن أحباء الله والجنة خاصة بنا.
أما المسلمون فإن كل فرقة منهم يرون أنهم أتباع القرآن ومحبو الرسول والآل ويرون أن نجاتهم وهلاك الفرقة الأخرى حتميان, في حين أن جميع الفرق - ما عدا القليل جداً - قلوبهم مملوءة بحب الدنيا, منشدون إلى الدنيا وأوضاعها لصيقون بها لا بالله والرسول, أتباع الشهوات النفسية والأوامر الشيطانية لا القرآن, فكرهم وجهدهم منصبان على تأمين الحياة الدنيا والتنعم فيها, يتحملون المشقات من أجل كل علم فيه نفع دنيوي, إلا أنهم لا يخطون خطوة من أجل المعارف الإلهية والأحكام الدينية, إن دعاهم داعي الشيطان أجابوا سراعاً, يخفّون إلى حضور مجالس الغفلة ويتهربون من حضور مجالس العلماء الربانيين التي تذكرهم بالله والرسول والآخرة.
الآثار السيئة للفرار من العلماء:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سيأتي زمان على الناس يفرون من العلماء كما يفر الغنم من الذئب، ابتلاهم الله بثلاثة أشياء:
الأول: يرفع البركة من أموالهم.
والثاني: سلط الله عليهم سلطاناً جائراً.
والثالث: يخرجون من الدنيا بلا إيمان[572] ".
وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): " يأتي على الناس زمان بطونهم آلهتهم ونساؤهم قبلتهم ودنانيرهم دينهم وشرفهم متاعهم لا يبقى من الإيمان إلا إسمه ولا من الإسلام إلا رسمه ولا من القرآن إلا درسه مساجدهم معمورة من البناء وقلوبهم خراب من الهدى علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض[573] أي أكثرهم محبون للدنيا ".
يا صاحب الزمان, عجل ظهورك:
ويجب العلم أن عدم الإيمان هذا, والتلوث بالفساد وأنواع الفتنة والإنحراف, وانتشار الفحشاء والمنكرات في عصرنا الحاضر نتيجة للتعلق الشديد بالدنيا, ولا تستطيع قوة أن تحول دون هذه الأمراض, وهي دائماً في ازدياد إلى أن يدرك جميع الناس ويلاتها المدمرة فيذعنوا, ويصبحون جاهزين لظهور المصلح السماوي, ويظهر الله تعالى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليه السلام, فينير صلوات الله عليه القلوب بنور الولاية الإلهية الكلية ويرشد عقولهم بحيث تصبح جميعها ترى الحقيقة, ويخرج من القلوب حب الدنيا الإستقلالي الذي هو أساس جميع المفاسد ويحل محله الحب الأصلي لله والرسول والآخرة والحب التبعي للدنيا, وعندما يصبحون كذلك فإنهم سيدركون معنى " الحياة الطيبة " ويلتذون بالحياة.
كوخ الأحزان يصبح يوماً روضة غناء:
وظهوره عليه السلام وامتلاء الأرض قسطاً وعدلاً من ضروريات المذهب
( والدين ) وقد تواترت به الأخبار عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل إن جميع الأنبياء بشروا أن جميع الناس يصبحون في قسم من آخر الزمان مؤمنين متقين صلحاء راشدين ويعيشون بمنتهى السعادة والإطمئنان " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ". الأنبياء 105 والمراد بالزبور زبور داوود عليه السلام وبالذكر التوراة وللإطلاع على تفاصيل حياة الناس في ذلك الزمان يراجع المجلد الثاني والخمسون من البحار, ويكتفى هنا بحديث قصير بالمناسبة.
تكمل العقول:
قال الإمام الباقر عليه السلام: " إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم ".
ويصل اكتمال العقول إلى حد لو أن امرأة جميلة شابة حملت علبة جواهر وقطعت المسافة بين بغداد والشام مشياً فلا ينظر إليها أحد نظرة خيانة, كما في الروايات.
والخلاصة يخرج حب الدنيا من القلوب نهائياً.
واجبنا اليوم:
واجب كل متدين أن يصلح نفسه أولاً ويخرج حب الدنيا من قلبه بالتفصيل الآتي ثم - من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ينبه زوجته وأولاده, ويخرج - بمقدار استطاعته - حب الدنيا من قلوبهم فهو أصل كل عدم إيمان وكل فساد, وهكذا يكون قد أدى واجبه وقلَّل من الفساد في المجتمع البشري.
مغالطة الحمقى وجوابها:
وأما ما يقوله الحمقى من أن الدول الكبرى في العالم اليوم التي تمتلك من الصناعة والقوة ما هو في نمو وازدياد, تجر المجتمع البشري إلى المادية وحب الدنيا والركض خلف الشهوات واللذات بحيث لو أن بلداً بل شخصاً أراد أن لا يتبع هذا المنحى فإنه لا يستطيع أن يعيش, ولا يكون في عداد الأحياء ومن هنا فإن من الواجب صرف النظر عن الله والآخرة ونسيانهما! " والسير في ركب الحضارة! " وعبادة الدنيا.
والجواب: هذا الكلام مطابق للتقليد الحيواني بعيد عن العقل الإنساني لأن الإنسان العاقل إذا رأى عدة ألقوا بأنفسهم في مستنقع آسن لا يسمح لنفسه - بحجة أن لا ينفصل عن المجتمع - أن يغرق نفسه في الأسن والنجاسة.
وفي تلك الدول الكبرى علماء يمتازون بفطنتهم يتعالى تحذيرهم وتتوالى صيحاتهم من الفساد الأخلاقي وشيوع الفحشاء وانتشار الخيانات والجنايات وكثرة إراقة الدماء وانعدام القيم ونقص الإنسانية ولكن لا يصغي إليهم أحد وتذهب نصائحهم أدراج الرياح.
وفي بلدنا هنا, هل يصغي الناس إلى صيحات الروحانيين؟
مثلاً: هل يصغون إلى تحذيراتهم من دور السينما التي هي مراكز نشر الفساد الأخلاقي عبر أفلامها الخلاعية التي تقضي على العفة العامة, وتحمل على ارتكاب أسوأ الخيانات والجنايات والتي يحرص النفعيون على أن تكون أفلامها أكثر إثارة للشهوة وأشد تدميراً لمقومات الإنسانية.
هل يصغي الناس لذلك, هل يخطو الأولياء خطوة في مجال
الإصلاح[574].
نصيحة إلى جميع المتدينين:
حس التقليد قوي في الإنسان نظراً إلى بعده الحيواني, وبشكل خاص تقليد الكثرة والجماعة وتقليد صاحب السلطة والثروة.
وفي مقابل هذا الحس أعطى الله الإنسان العقل ليتبع العلم والعالم ويقتفي أثره حتى إذا كانا ( العلم والعالم ) بحسب الظاهر ضعيفين وقليلين عدداً ويفر من الجهل والجاهل حتى إذا كانا قويين وكثيرين.
بناءاً على هذا فبحكم العقل لا ينبغي أن نقلد أوروبا وسائر الدول الكبرى فهم لا يستحقون أن نقلدهم لأنهم بمقدار رقيِّهم في العلوم المادية قد أخفقوا في معرفة الحقائق وعلوم ما وراء الطبيعة وسيطر عليهم الجهل واستبدت بهم الغفلة.
مثلاً: إذا سئلوا هل لهذا العالم العظيم صاحب؟ قالوا: لا ندري, وحدود علمنا المادة والماديات.
هل لهذا المعمل المحير - صانع؟
يقولون: لا ندري, نحن نعرف فقط تشريح أجزاء بدن الإنسان وخواصها.
هل عرفتم حقيقة الإنسانية؟
يقولون: لا ندري, لم ندرك من الإنسان إلا أنه حيوان كامل.
هل للإنسان حياة أخرى بعد الموت تتحقق فيها سعادته التامة؟
يقولون: لا ندري, ولا علم لنا إلا بالحياة المادية الدنيوية, هل سعادة الإنسان - كالحيوان - تنحصر في العبّ من أكؤس الشهوات واتباع الهوى والهوس والثراء والقوة واحتلال البلاد الأخرى أم أن سعادته في الكمالات الإنسانية كالعفة والشجاعة والسخاء والكرامة والعدالة وحب الخير ونفع الآخرين يقولون في الجواب: لا نرى سعادة البشر إلا في تحقيق آماله وشهواته.
وحتى لا يعترفوا بجهلهم وغفلتهم يسخرون بهذه الأسئلة ويهزأون بها ويقولون: هذه الأفكار تافهة ولا قيمة لها في عالم اليوم.
يجب أن تصرف الجهود الفكرية والجسدية في هذا العصر في مجالات جمع الثروة وزيادة السلطة والقوة حتى لا نبقى متخلفين.
اليوم, يجب الإهتمام بصناعة الطيران, وصناعة القنبلة الذرية لتدمير البلاد ونهب الثروات وإراقة دماء الأبرياء, اليوم يجب عدم الإعتناء بشيء والمضي سريعاً نحو تحقيق الأهواء وتثبيت الموقع الشخصي.
اليوم أصبحت مفاهيم الرحم, الإنصاف, العدل, العفو, الإحسان, الحلم, الوقار, التواضع, الغيرة المشروعة - التي كانت تعتبر سابقاً من الكمالات الإنسانية - ألفاظاً لا تخطر معانيها على البال فضلاً عن الإلتزام والتحلي بها.
اليوم يجب أن يكتفى من خالق الكون بالإسم فقط وبدلاً من عبادة الله, تنبغي عبادة الدنيا, وإطفاء الغريزة الجنسية بكل إباحية وعن أي طريق لا مشروع أمكن اعتماده.
كما يجب عدم توفير أي جهد في مجال الأنس والطرب وإرخاء العنان للنفس لترعى كما تريد.
وسيطول الحديث إذا أردنا استقصاء جهالات أهل الدنيا ومظاهر غفلتهم وآثارها السيئة وأفعالهم القبيحة وليتأمل القاريء العزيز بدقة في أحوالهم وشؤونهم من أجل مزيد من الإحاطة بمساوئهم, وفي ما ذكر كفاية لإيضاح جهالتهم حتى لا تكون زخارف صناعاتهم واختراعاتهم وبهارجها سبباً لاعتبارهم علماء والإعتقاد بجواز تقليد طريقتهم الشيطانية وعبادتهم للدنيا.
الأنبياء أحق أن يتبعوا:
أيها الإنسان... بحكم عقلك يجب عليك أن تتبع طريقة العلماء والمطلعين وعلى رأسهم سلسلة الأنبياء الجليلة, الذين يستطيعون الإجابة على كلٍّ من الأسئلة المتقدمة وأمثالها والذين يحرصون على إرشاد الناس وهدايتهم:
" أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمَّن لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون ". يونس 35.
وطريقة الأنبياء والعارفين هي عبادة الله وتأمين السعادة الباقية وتحصيل الأخلاق الإنسانية الفاضلة, وهي الطريقة التي يجب على أهل العقل اتباعها.
وأما طريقة أهل الدنيا التي هي عبادة الدنيا والركض وراء الشهوات والأهواء فإن نهايتها النار وقبل النار في هذه الدنيا الإضطراب والضياع والتعاسة وأنواع المآسي التي تعاني منها أوروبا والدول الكبيرة.
أيها العاقل, لو كانت عبادة الدنيا طريقاً مستقيماً ونهجاً سليماً لما تركها الأنبياء والعظماء, في حين أنهم جميعاً صرفوا قلوبهم عن الدنيا وأصروا على التوجه إلى الله والآخرة.
لاحظ هذا المثال بدقة:
يقال إن امرأة كانت في غاية القبح والدمامة, وكان منظرها يثير استياء الناظر وتنفره, ولم يرغب في الزواج بها أحد وأخيراً تزوجها رجل فقير أعمى.
وذات يوم كانت تحدث زوجها عن حسنها وجمالها وتعدد مفاتنها, فقالت: لقد خطبني عدد كبير ولكن لحسن حظك كنت من نصيبك, فإما أن تكون ساحراً أو أن دعوتك مستجابة ولذلك حصلت على مثل هذه السعادة.
فأجابها الأعمى العارف بحقيقة الأمر: لو كان ما ذكرت من جمالك حقاً لما تركتك عيون المبصرين لتكوني نصيبي أنا الأعمى.
نعم.. لو كانت بهارج الدنيا وزخارفها ومؤنساتها ولذاتها خالصة صافية - أي غير منغصة بمئات العيوب والنقائص والمشقات والآلام وبالإضافة إلى ذلك العذاب الشديد في الآخرة - لما تركها الذين يرون الواقع كما هو أهل البصائر النافذة وعلى رأسهم حيدر الكرار وصي الرسول المختار عليه السلام ولكانوا أصبحوا من طالبي الدنيا.
من هنا فإن طالبي الدنيا هم طائفة العمي والحمقى والمغفلين وعلى رأسهم معاوية وابنه يزيد الذين لم يدركوا عيوب الدنيا وزوالها وعدم أهميتها, والذين هم غافلون عن الله والدار الآخرة, وظنوا أن سعادتهم في عبادة الدنيا.
الدنيا تعرض نفسها على علي عليه السلام:
أورد الشهيد الثاني في كشف الريبة بسند متصل أن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
إني كنت بفدك في بعض حيطانها, وقد صارت لفاطمة عليها السلام فإذا أنا بامرأة قد قحمت علي, وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها فلما نظرت إليها طار قلبي مما تداخلني من جمالها, فشبهتها ببثينة بنت عامر الجمحي وكانت من أجمل نساء قريش.
فقالت: يا ابن أبي طالب هل لك أن تتزوج بي فأغنيك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك؟
فقال لها علي عليه السلام: من أنت حتى أخطبك من أهلك فقالت: أنا الدنيا.
قال: قلت لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري فلستِ من شأني وأقبلت على مسحاتي وأنشأت أقول:
لقد خاب من غرته دنيا دنية وما هي إن غرت قروناً بطائل
أتتنا على زي العزيز بثينة وزينتها في مثل تلك الشمائل
فقلت لها غري سواي فإنني عزوف عن الدنيا ولست بجاهل
وما أنا والدنيا فإن محمداً أحل صريعاً بين تلك الجنادل
وهبها أتتنا بالكنوز ودرها وأموال قارون وملك القبائل
أليس جميعاً للفناء مصيرنا ويطلب من خزانها بالطوائل
فغري سواي إنني غير راغبٍ بما فيك من ملك وعز ونائل
فقد قنعت نفسي بما قد رزقته فشأنك يا دنيا وأهل الغوائل
فإني أخاف الله يوم لقائه وأخشى عذاباً دائماً غير زائل[575]
كيف يستأصل حب الدنيا:
السبيل الوحيد للنجاة من حب الدنيا أمران:
الأول: تقوية الإيمان بالآخرة.
والثاني: إضعاف حب الدنيا.
وسبل تقوية الإيمان بالآخرة وزيادته تقدم في قسم العقائد بالتفصيل ويتم التذكير به هنا باختصار:
يجب أن يقرأ آيات القرآن المجيد والأخبار المعتبرة التي تتحدث عن أوصاف عالم خلود الإنسان بعد الموت وتوضح تفاصيله, وأن تكون هذه القراءة بتدبر وتفكير لتترك أثرها في القاريء وتعمق في قلبه الشوق للوصول إلى العالم الأعلى.
والهدف الأساس من بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن المجيد هو هذا, أن يسمع المسلمون هذه الحقائق ويعتقدوا بها, فتعرض قلوبهم عن الدنيا وتتعلق بالله والآخرة وتشتاق إليه سبحانه وإلى دار كرامته ويهيئوا أنفسهم لذلك العالم الباقي بالعمل بما أرشدوا إليه.
وللأسف أن المسلمين لا يستفيدون من القرآن المجيد وأكثرهم يمر عليه شهر وسنة ولم يقرأ من كتاب الله سورة أو لم يسمع قراءتها إلا من الإذاعة أو في مجالس الفاتحة وعلى المقابر, وكأن القرآن المجيد نزل للأموات, في حين نزل ليصبح الأحياء علماء والإيقاظ من الغفلة والشفاء من مرض الجهالة, والهداية إلى كل فضيلة وإذا قيل إن هذه الطرق المتبعة في قراءة القرآن المجيد
هي في الغالب إهانة للقرآن المجيد فإن هذا الكلام ليس جزافاً[576].
والخلاصة إن هذه الطريقة في القراءة والإستماع للقرآن المجيد وحتى في أغلب الخطب والمواعظ ملوثة بكل غرض وهدف نفسي وما ليس موجوداً هو التدبر والتأثر بكلام الله.
من يقرأ يقرأ بهدف أخذ الأجرة أو إظهار نفسه ومن يستمع يستمع بهدف التسلية وتمضية الوقت, خصوصاً إذا كان صوت القاريء جميلاً.
هل نزل القرآن للتبرك:
وقسم آخر من المسلمين يتخذ أحدهم القرآن للتبرك ( فقط ) فيضعه في زاوية من زوايا بيته, أو يحمله معه بهدف السلامة.
والتبرك بكلام رب العالمين أو دفع الأخطار به أمر سليم ممدوح, لكن القرآن لم ينزل لهذا الهدف الجزئي والذي لا يكاد يذكر ( في مقابل الهدف الأصلي ) بل إذا كان هدف شخص من القرآن هو هذا فقط فقد أهان القرآن, وهو تماماً كشخص تصله دعوة خطية من السلطان دعي فيها إلى مقابلته وكيفية الإستعداد لهذا اللقاء والإستفادة من محضر السلطان, فلا يفتح ذلك الجاهل الرسالة أبداً ولا يقرأها, أو إذا فتحها فإنه ينظر في نقوشها فقط, أو يقرأها دون أن يدرك معانيها ويكتفي بترديد الألفاظ, أو إذا قرأها لا ينبعث في قلبه شوق الحضور في مجلس السلطان ولا يهيء نفسه لذلك, ويكتفي بتقبيل الرسالة ثم يرمي بها في جيبه أو في زاوية من زوايا بيته.
ألا يكون هذا قد أهان دعوة السلطان ولم يهتم بها؟
أليس مستحقاً للخذلان بل للعذاب والإنتقام؟
هذا حال أكثر المسلمين, وأما العدة المعدودة من المسلمين الذين هم على صلة بالقرآن فإن أكثرهم يكتفون فقط بقراءة ألفاظ القرآن طمعاً في الثواب.
طبعاً, ألفاظ القرآن مباركة, إنها كلام الله وهي نور, ولذا فإن قراءتها مفيدة, وكذلك كتابتها والنظر إليها, لكن الهدف من قراءة القرآن
التدبر والتفكر فيما يقرأ, بحيث يشوق قارئه إلى العالم الأعلى[577] فيعزف
قلبه عن الحياة الدنيا ويتعلق بالآخرة, وتحمله قراءة أوامره على بذل الجهد والنشاط ويصبح مستعداً تمام الإستعداد للعمل بها مهما كلف الأمر.
لقد أثنى الله تعالى على الدار الآخرة في مئات من آيات القرآن المجيد ووصف الجنة ونعيمها ودعا أتباع القرآن إليها[578] وذم في المقابل الحياة الدنيا وأوضح عيوبها ونقائصها " وما هذه الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ".
أي أن جميع أوضاع هذه الحياة الدنيا سريعة الزوال وهي كأطفالٍ اجتمعوا في مكان ولعبوا وفرحوا ساعة ثم تعبوا وتفرقوا " دمية, يخدع الطفل هذا الدهر المطاع ( أو متاع هذا الدهر ) الحمقى هم الناس المبتلون به[579] ".
فهل أعرض المسلمون بقلوبهم عن الدنيا بعد قراءة وسماع كل هذه الآيات وتنفروا منها واشتاقوا إلى الآخرة وتعلقوا بها, أم أنهم قبلوا الإسلام والقرآن في الظاهر فقط إلا أنهم قلباً وعملاً يحذون حذو الدهريين تعلقت قلوبهم بالدنيا يركضون خلفها, وقد نسوا الآخرة [580]".
.............................................................................................
حب الآخرة لا ينسجم مع الغفلة عنها:
ويجب الإنتباه إلى أن وجود الإيمان والعلاقة بالآخرة مع الغفلة عنها محال, لقد تعلق أهل الدنيا بها لأن كل ذكائهم وتفكيرهم وسعيهم منصب على الدنيا, وأهل الآخرة الذين هم متذكرون لها دائماً ويسعون لها سعيها يتعلقون بالآخرة, بناءاً على هذا فإن طريق تقوية الإيمان والتعلق بالآخرة كثرة ذكر الحياة الخالدة وقلة الغفلة عنها.
من هنا كان الإكثار من ذكر الموت مستحباً وكذلك تستحب كتابة الوصية وتهيئة الكفن وتشييع الجنازة والمشاركة في تغسيل المسلمين وتكفينهم ودفنهم والذهاب إلى المقابر لزيارة أهل القبور والإكثار من ذكر الأموات وإرسال الخيرات إليهم.
والنتيجة المهمة لهذه الأعمال هي تذكر الأحياء للحياة بعد الموت.
والخلاصة أن من الواجب على الراغب في الإيمان والعلاقة بالآخرة أن يتذكر آخرته أكثر من المقدار الذي يتذكر به دنياه, فينظر كم يتذكر دنياه في اليوم والليلة ويكون تذكره لآخرته أكثر ليستطيع بذلك أن يقتلع من قلبه الجذور الخبيثة لحب الدنيا ويغرس بدلاً منها حب الله والآخرة[581].
ومن الجدير بالذكر أن لمعاشرة أهل الآخرة وصحبتهم تأثيراً كبيراً في مجال الوصول إلى درجة الإيمان, كما أن لصحبة أهل الدنيا - أي محبيها - ومعاشرتهم أضراراً كثيرة وقد تقدم ذكر ذلك بالتفصيل في قسم العقائد.
إضعاف حب الدنيا:
لتبريد القلب عن حب الدنيا وإشعاره بدفء محبة الله والرسول والآخرة لا بد من ملاحظة أمور:
1 - الإكثار من التدبر في ما نقل في هذا الحديث - كنماذج - من الآيات والروايات ليفهم المتدبر خطورة ذنب حب الدنيا حقيقة, ويفهم أن الأساس الأصلي لكل ذنب قلبي وبدني هو حب الدنيا, بحيث أنه إذا استؤصل فسيصبح بمأمن من شر الشيطان وارتكاب الذنب وأيضاً: إذا استؤصل حب الدنيا فقد أصبح بإمكانه أن يكون لديه إيمان سليم وعمل صالح ينفعه في آخرته.
وما دام القلب ملوَّثاً بحب الدنيا فلن يعرف الشخص الإيمان الصحيح ولا العمل الصالح اللذان ينفعانه في الآخرة, لأنه قد تقدم في بحث الإخلاص من هذا الكتاب بالتفصيل أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا إذا اقترنت بالنية الخالصة والصادقة, ومحب الدنيا لا يمكنه أن يتحلى بالصدق والإخلاص.
يمنع من التزود للآخرة:
ويكفي في خطورة ذنب حب الدنيا أنه يمنع من تهيئة الزاد لسفر الآخرة, لأن الدنيا دار الزراعة, والآخرة دار الحصاد الدنيا دار التجارة, والآخرة دار الربح, إذن, ما يمنع الإنسان من الزراعة والتجارة ويجعله يرد الآخرة شقياً فقيراً, يجب اعتباره أكبر ذنب وأشد خطر, والنجاة منه أكثر وجوباً من أي شيء آخر, الهدف - مما تقدم - الإهتمام بذنب حب الدنيا والعلم بأنه ذنب قاتل, وأصل جميع الأمراض النفسية والذنوب القلبية والجسدية فإذا كان السل والسرطان يقضيان على الحياة المادية الدنيوية ويتسببان بالخلاص من آلام الحياة, فإن مرض حب الدنيا يقضي على الحياة الروحية الإنسانية بحيث أن الشخص يصبح ميت عالم الروح ويحرم من سعادات الحياة الخالدة, بل يبتلى بآلام الحياة وأنواع العذاب في الآخرة.
لا بد من معالجة الألم:
يجب العلم أنه ما من شخص يسلم قلبه من حب الدنيا لأن الإنسان منذ
أن يأتي إلى الدنيا ويتبلور فيه الشعور الحيواني يتعلق بالدنيا ويظل كذلك إلى أن يوجد فيه الشعور الإنساني ويطلع على حياته الخالدة, عندها يصبح واجباً عليه أن يصرف قلبه عن هذه الحياة المستعارة ويتعلق بحياته الأخرى.
بناءاً على هذا فمن اللازم على كل فرد أن يعرف مراتب حب الدنيا الثلاث بالتفصيل المتقدم ويرى أية مرتبة من حب الدنيا في قلبه ثم يكون مستعداً جداً للعلاج.
الخطر إلى حافة القبر:
ويجب العلم أيضاً أن الإنسان في خطر ما دام في الدنيا, ويكمن الخطر في تقلب الحالات, والتلون.
مثلاً: من الممكن أن يكون في شهر أو سنة ما يحب الدنيا بالمرتبة الثالثة ثم بنتيجة كثرة الغفلة توجد في قلبه المرتبة الثانية, وهكذا إلى أن توجد فيه المرتبة الأولى التي هي الكفر.
والخلاصة أن المؤمن يجب أن يراقب قلبه وحاله وأن لا يتساهل في علاج نفسه, وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في بحث القسوة.
الحرص الشديد والحزن المفرط:
يجب الإنتباه إلى أن من تلوَّث بحب الدنيا, فإنه - بالإضافة إلى الهلاك الأبدي وأنواع العذاب في الآخرة والحرمان من السعادة - سيبتلى في هذه الحياة بالعذاب والآلام والمحن إلى حد أنه يصبح يتمنى الموت ويشار إلى بعض ما سيبتلى به على سبيل الإختصار:
1 - الحرص الشديد.. إذا لم يكن لديه من الدنيا بعض ما يريد فإنه سيظل يركض حتى يحصل عليه وعندما يتحقق له ذلك سوف لن يستقر ويظل
يركض للحصول على المزيد إلى حد أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): بيَّن أنه لو كان للرجل واديان من ذهب لظل يطمع بالثالثة.
2 - الحزن المفرط: ويظل في حزن دائم شديد الإضطراب من أجل مستقبله خشية الفقر وعدم تحقق رغباته, وإذا فقد شيئاً مما حصل عليه من الدنيا من الإمكانات البدنية والمالية وسائر ما يحبه فإنه يتململ ويجأر وتضيق عليه الدنيا بما رحبت, ولا يقر له قرار.
الحسد, الغضب, عدم الورع:
3 - ومن أحب الدنيا لا يستطيع أن يرى محبوبه مع غيره, ويحترق لحصول غيره على النعم الدنيوية ويشب ضرامه, حتى إذا كان هو قد حصل على بعض النعم, إلا أنه لا يريد أن يحظى غيره بوصال محبوبه.
4 - الغضب: محب الدنيا إذا واجهه في الحياة خلاف ما يرغب فإنه لا يستطيع أن يسيطر على نفسه فيغضب ويحترق بنار غضبه.
5 - عدم الورع: ومحب الدنيا لا يفكر - وهو بصدد تحقيق رغباته - بعواقب الأمور ويصبح لا يتورع عن شيء ولا يقيم وزناً لأي شيء, الأمر الذي يوقعه في كثير من الورط والصراعات والمهالك وقد تكون النتيجة موته في هذا السبيل.
6 - التشديد عليه عند الموت: الذين يعشقون الدنيا يدركون عند الموت أنهم سينفصلون عن معشوقهم وإلى الأبد وواضح أي أثر يتركه ذلك فيهم, وكلما كانت العلاقة بالدنيا أشد أصبح الإنفصال عنها أصعب " وحيل بينهم وبين ما يشتهون ". سبأ 54.
والخلاصة أن الموت بالنسبة لمحبي الدنيا هو أول الفراق والإنفصال
وبالنسبة لمحبي الآخرة أول الوصال والفوز " وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون "[582]. الأنبياء 102.
ومن الواضح أنه كلما ازداد تذوق الإنسان لحلاوة الدنيا, وازداد ادخاره للثروة, كان الموت والإنفصال عن ذلك أعظم حسرة عنده[583].
قال الإمام الصادق عليه السلام: " من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد
لحسرته عند فراقها[584] ".
" العالم الأفضل هو الذي يراه العارف مراً فإن من يرى الحياة حلوة يموت ميتة صعبة[585] ".
سوء العاقبة:
من كان متعلقاً بالحياة الدنيا يدرك عند الموت أنهم سيفصلونه عن معشوقه وأن ذلك أمر الله, ولذا سيشعر قهراً بعداء الله والملك ومن دخل عالم الآخرة وهو يبغض الله فمصيره معلوم, وإنه - بشهادة القرآن المجيد والروايات المتواترة - لا نجاة له من النار وعذابه أبدي, وأحياناً يتمثل له ساعة الموت الشيء الذي كان متعلقاً به, ويحمله على الكفر والشواهد على ذلك كثيرة ويكتفى هنا بقصتين:
أبو زكريا في سكرات الموت:
كان أبو زكريا الزاهد في سكرات الموت, وكان معه أحد أصدقائه يلقنه فأعرض أبو زكريا بوجهه عنه فقال له ثانية: لا إله إلا الله فأعرض عنه أيضاً وقالها له ثالثة فقال: لا أقولها, وأغمي عليه, وبعد ساعة أفاق وفتح عينيه قائلاً: هل قلتم لي شيئاً فقال صاحبه: لقناك كلمة الشهادة ثلاث مرات وفي الأولى والثانية أعرضت بوجهك وفي الثالثة قلت لا أقولها.
فقال: اعلموا أن الشيطان جاءني مرتين يحمل قدحاً من الماء وقال: هل تريد ماءاً قلت نعم؟ قال: قل عيسى إبن الله فأعرضت بوجهي عنه وفي المرة الثالثة قال: قل لا إله, فقلت لا أقولها فرمى بقدح الماء وولى هارباً وكنت
أقول أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, وأن علياً ولي الله[586] ".
الليرات الذهبية, ووثيقة الدَّين عند الموت:
شخص آخر لقن الشهادة أثناء احتضاره فأعرض بوجهه, وبعد أن أفاق وسئل عن سبب ذلك قال: أنا شديد التعلق بالذهب المسكوك, وفي تلك الحال - الإحتضار - جاءني شخص يحمل طبقاً مملوءاً بالليرات الذهبية وقال لي: لا تقل كلمة الشهادة لأعطيك هذا الطبق, وقد منعني النظر إلى تلك الليرات والتفرج عليها من النطق بالشهادة.
وآخر كانت له وثيقة دين على شخص, فجاءه الشيطان حال الإحتضار وهدد بتمزيق هذه الوثيقة إذا أنطق بكلمة الشهادة فامتنع لذلك عن النطق بها[587].
ومن الجدير بالذكر أن الوسيلة الوحيدة لتسلط الشياطين هي حب الدنيا, إذن, إذا كان حب الله والرسول والآخرة أقوى في قلب شخص فإن الله تعالى سيثبته - كما في قصة أبي زكريا الزاهد - ولن يستطيع الشيطان أن يمسه بسوء " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ". يوسف 134.
الفرار من النصيحة:
يفر عشاق الدنيا عادة من استماع الحديث عن معايب الحياة الدنيا ونقائصها وعدم أهميتها وزوالها, ينفرون من قراءة كتاب يذم الدنيا ويمدح الآخرة,
يستوحشون من مجلس يذكرهم بالآخرة فقط, يثير دهشتهم إسم الموت القبر, ويهزأون بأهل الآخرة, ومن الواضح أن العاشق ليس مستعداً لاستماع مذمة المعشوق التي توجب إعراض قلبه عنه.
من هنا كان علاج مرض حب الدنيا في غاية الصعوبة والإشكال لأن المرض الذي يمكن علاجه هو المرض الذي يدرك المريض خطورته ويكون مستعداً لمعالجته.
عاشق الدنيا, إذا قرأت عليه الآيات والروايات التي تقدمت حول حُرمة حب الدنيا, وخوفته من خطورة هذا الذنب, سوف لن يقبل, وسيبادر إلى المغالطة والسفسطة المغرضة, محاولاً تفنيد الإجابات التي ذكرت في هذا البحث على اعتراضات محبي الدنيا المتعلقين بها وباختصار إنه ليس مستعداً للإعتراف بأن حب الدنيا ذنب ليكون مهتماً بالتوبة منه.
وأيضاً: إذا دار الحديث معه عن آفات حب الدنيا وبلياتها, ومشقاتها ومحنها, وشقاءاتها, وأنواع الأمراض النفسية والجسدية التي تنتج عن حب الدنيا, فإنه لا يفسح مجالاً لهذا الحديث ليصل إلى قلبه, وليس على استعداد لأن يعتبر نفسه مريضاً ليكون بصدد العلاج واقتلاع حب الدنيا من قلبه والحصول على قلب سليم.
هكذا قيل للمجرب: أيها العم قال الحق تعالى: " إعملوا ما شئتم ":
" فأجاب حيث أن الجد والنصيحة والجلال لا تؤثر فيهم إلا تولد الخيال.
فطريق الموعظة والنصيحة إلى نفوسهم مسدود ولذلك استحقوا أمر الله:
" أعرض عنهم "[588].
وهذا الفرار من النصيحة والنفور من ذكر الله والآخرة علامة أهل الدنيا كما أن علامة أهل الآخرة النفور من ذكر الدنيا وشهواتها, واطمئنان قلوبهم وأنسها وابتهاجها بذكر الله والآخرة[589].
يجب التدبر في القرآن:
من أجل نصيحة الناس, وتنبيههم بيّن الله تعالى في القرآن المجيد حقيقة الحياة الدنيا وعدم أهميتها وفناءها مع ذكر أمثلة على ذلك, لينجو أتباع القرآن من مهلكة حب الدنيا.
وواجب كل مسلم أن يتدبر في آيات القرآن ويكرر تلاوتها حتى يحقق الهدف من هذه الآيات وهو الإعراض بقلبه عن حب الدنيا, والتعلق بالآخرة, وكنموذج يكتفى بذكر آية واحدة.
الدنيا لعبة, ولهو ولغو:
" إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ( للكافرين ) ومغفرة من الله ورضوان ( للمؤمنين ) وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ". الحديد 20.
هذه الآية الشريفة شرح لحياة أهل الدنيا, وتوضيح ذلك: الناس منذ خلقهم الله تعالى وإلى نهاية الحياة على قسمين:
الأول: أهل الدنيا وهم الأكثر عدداً, وهم الذين لا يرون أن لهم حياة أخرى غير الحياة الدنيا ولذلك فكل جهدهم منصب على الوصول إلى ما يشتهون.
الثاني: أهل الآخرة وهم دائماً قلة, وقد أدركوا أن حياتهم الدنيا مقدمة ووسيلة للوصول إلى حياتهم الخالدة, وحياة هؤلاء عقلائية ورحمانية وليست نفسانية وشيطانية.
هدفهم من الحياة معرفة ربهم والإيمان به والعمل الصالح الذي ينفعهم في آخرتهم, ومن هنا فإن كل جهدهم منصب على تحقيق هدفهم الإلهي بالتفصيل المتقدم.
وكل عمل يؤديه الإنسان بهدف إلهي فرغم أن العمل نفسه يفنى إلا أن نتيجته وهي نور الطاعة باقٍ في ذاته وسينعم به في الحياة اللامتناهية.
إذن حياة أهل الآخرة في الدنيا ليس لعبة ولغواً, وأما أهل الدنيا فلأنهم لا يفكرون بالله والآخرة, ومن هنا فإنهم لا يعملون صالحاً تبقى لهم نتيجته, فإن جميع أفعالهم لغو وعبث أي أنها سريعة الزوال عديمة الفائدة.
وفي الحقيقة إن جميع حياتهم من أول العمر إلى الموت لا تتجاوز أحد هذه الأمور الخمسة: اللعب, اللهو, الزينة, التفاخر, التكاثر في الأموال والأولاد, وهذا إيضاح لكل منها على سبيل الإختصار.
اللعب:
كل عمل يقوم به الإنسان, ليس له هدف سليم, ونتيجة صحيحة ثابتة يسمى لعباً, كالعمل الذي يقوم به الأطفال حين يجتمعون ويركضون ويلعبون بالماء والطين أو غيرهما, فإنه عمل ليست له أية فائدة إلا تمضية الوقت.
بناءاً على هذا فالشباب والشيبة من أهل الدنيا الذين ليس لعملهم هدف إلهي ولا يعرفون سوى الهوى والهوس هم والأطفال سواء[590] لأن نتيجة جميع الجهود والأعمال حتى الثروة وطلب الرئاسة ليست إلا أموراً وهمية وخيالية, وكل من يبذل جهداً من أجل شيء منها فإن نتيجته ليست كمالاً ذاتياً وأمراً ثابتاً, بل هو باختصار تضييع للعمر في اللعب الأمر الذي يستلزم دخول العالم الآخر صفر اليدين خالي الوفاض, والفرق الوحيد بين ذلك وبين لعب الأطفال أن لعب الأطفال أصغر وأقصر مدة, وأعمال أهل الدنيا الكبار أكبر وأطول مدة, وكما ينتهي لعب الأطفال بحلول الليل فإن لعب الكبار ينتهي بحلول الموت.
اللهو:
كل عمل يشغل الإنسان عن القيام بعمل مهم, يسمى " لهواً " كالطفل الذي ينشغل باللعب عن الذهاب إلى المدرسة والتعلم, بناءاً على هذا فجميع أعمال أهل الدنيا لهو, لأنها تشغل عن أمر مهم أي الدار الآخرة والحياة الخالدة, وتتضح أهمية عالم ما بعد الموت بالتفكير في نسبة المتناهي إلى اللامتناهي.
مهما طالت حياة الإنسان وسواء كانت مائة سنة أو أكثر فإنها ستنتهي وتفنى لذاتها, ولذلك فإن من ينشغل بها ويغفل عن حياته اللامتناهية, لاهٍ وعمله لهو.
أما أهل الآخرة فلأن هدفهم من كل عملٍ ينشغلون به هو هدف إلهي, ويقومون بذلك إطاعة لأمر الله وهم باستمرار مهتمون بزيادة الإيمان الذي هو كمال ذاتي ومهتمون كذلك بزيادة العمل الصالح الذي هو رأسمال الآخرة فليسوا لاهين بل هم أذكياء وعقلاء ومفلحون.
الزينة:
من حسَّن منظر بدنه أو ثيابه أو أثاث منزله أو سائر علائقه المادية وأخفى عيوبها وجعل مظهرها جميلاً بحيث تثير الإنتباه فإن عمله هذا يسمى زينة, كالنساء اللواتي يزينن أنفسهن لاستمالة قلوب الرجال فيخفين عيوبهن ويتظاهرن بما ليس فيهن غافلاتٍ عن أن هذه الزينة لا تنفع, وأقل مرض أو فقر, أو الوصول إلى الشيخوخة, سيبدي ما أخفين ويكشف عيوبهن فيفتضح أمرهن, وفوق ذلك كله الموت الذي يكشف الحقيقة المرعبة.
والتأمل في أحوال أهل الدنيا يكشف أن حياتهم بشكل عام زينة وتظاهر
وستر للعيوب, يحكمون بناء بيوتهم ليخفوا بذلك حقيقة فنائها, يزينون ظاهر البيوت واللباس والأثاث بزينة خادعة, ويهتمون بشدة بمختلف الموديلات ليظهروا أنفسهم بمظهر المتدينين, المؤدبين, الغير محتاجين, الذين يجيدون التصرف, يبذلون الجهود للوصول إلى الرئاسة ليشبعوا غريزة حب الظهور, يتظاهرون بالعلم والكمال ليخفوا بذلك جهلهم بعالم الحقيقة.
يتظاهرون بحب الخير والعمل الصالح ليخفوا بذلك أنانيتهم وخيانتهم, يذكرون اسم الله والآخرة والكتب السماوية ويتظاهرون بالتدين حتى لا ينكشف حبهم للدنيا وميلهم الجامح للشهوات.
والخلاصة بمقدار ما تلوث باطنهم بأنواع القبائح فإنهم يزينون ظاهرهم بأنواع الزينة, تماماً بعكس أهل الآخرة الذين يزينون باطنهم - الذي هو مصب نظر الله - بزينة الإيمان.
وفضائل الإنسانية والقيم والأخلاق الحسنة, والتقوى, وأما زينة ظاهرهم فإنهم يهتمون بها إلى الحدود التي لا تتنافى مع الإنسانية والتقوى, وبمقدار ما ورد الأمر بها في الشرع, كتزين المرأة لزوجها, أو النظر في المرآة قبل لقاء الآخرين ومجالستهم لتفادي كل ما لا يناسب, والمحافظة على نظافة البدن والثياب, أو كإظهار النعمة التي أنعم بها الله, فإذا حصل الشخص على مبلغ من المال أكمل ما يحتاج الإكمال من بيته أو رممه, وغير ذلك مما ذكر في باب الحياة الإسلامية[591].
والخلاصة أهل العقل وأولو اللب يقدمون على تزيين الظاهر من منطلق إطاعة الأمر لا من منطلق التظاهر, وهذا مما يزيد في زينتهم المعنوية والباطنية.
التفاخر:
يتباهى الغافلون عن حقيقة ما لديهم من الحياة الدنيا من تعلم الصنعة وزيادة الثروة, والقدرة, والشهرة والرئاسة, والإمتياز بالحسب والنسب, ويفتخرون به على من سواهم, إلى حد أن البيض يفتخرون على السود ويتكبرون عليهم, حتى باتت حياة الناس اليوم تنقضي في غمرة من التفاخر بالموهومات بدءاً من رئيس الدولتين الكبيرتين وانتهاءاً بأي شخصين عاديين, ولأن الناس انشغلوا بالتباهي والتفاخر فإنهم لا يفكرون بمعرفة أنفسهم والله والحياة الخالدة, ولا يبحثون عن الكمال الذاتي الذي ينتهي بالموت.
وحقاً, لو أنهم فكروا بعاقبة أمرهم والبقاء سنين طوالاً في بطن الأرض لخجلوا من تفاخرهم وأقلعوا عنه.
وأما العارفون بالحقيقة فقد أدركوا أن أصل الحياة الدنيا بالنسبة لحياة عالم ما بعد الموت اللامتناهية لا تكاد تذكر فإنهم يرون جميع معلومات وممتلكات وعلائق هذه الحياة أوهاماً والتفاخر بها منافٍ للعقل[592].
وما عدا الإيمان والتقوى اللذين هما كمال ذاتي يرى - العارفون بالحقيقة أن جميع بني البشر سواسية, لا مزية لأحدهم على الآخر ولا يحق له أن يتباهى ويستعلي بما هو موهوم وغير ثابت " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".
التكاثر في الأموال والأولاد:
الذين ظنوا أنفسهم ماديين وظنوا حياتهم هي هذه الحياة الدنيا فقط ورفضوا ما جاء به الأنبياء عن الحياة الخالدة, هؤلاء أضاعوا الهدف من الحياة وانصرفوا إلى ادخار المال المنقول منه وغير المنقول وانصرفوا كذلك إلى سائر العلائق المادية إنهم في الحقيقة قد فقدوا الشعور الإنساني, لأن الهدف من المال هو رفع الإحتياجات المؤقتة.
مثلاً: البيت لتأمين الإستقرار في فترة الحياة الدنيا, الثياب ليتقي الحر والبرد وحفظ ماء الوجه, الطعام لحفظ قوى البدن, المرأة لإعمار الحياة, ودفع الغريزة الجنسية وبقاء النسل, وكذلك سائر الأمور الأخرى.
بناءاً على هذا فمن يجمع من المال ويدخر أكثر من مقدار حاجته, ويبقى دائماً مثل جهنم يقول " هل من مزيد " وتصبح سيرته سيرة قارون, قد انفصل عن سيرة العقلاء.
ألا يقول العاقل: ما الفرق في الإدخار بين الحجر والذهب؟ وهل تنفعه مدخراته هذه بعد انتهاء عمره القصير.
ومن الغني عن البيان أنه ليس معنى هذا أن العقلاء وأهل الإيمان لا يسعون للحصول على المال والثروة, أو أنهم إذا وصل إلى أيديهم مال يرموه جانباً, بل إنهم يطلبون المال ويحبونه ولكن من أجل رفع الإحتياجات الدنيوية وتأمين الحياة الخالدة, وأنهم لا يحبون الثروة بالذات وبعبارة أخرى: يحصلون على المال من الطريق الذي أذن به الله تعالى ويصرفونه في السبل التي أمر بها سبحانه, وهكذا يعمرون دنياهم وآخرتهم[593].
وفي مقابل هؤلاء, أهل الدنيا الحريصون على الثروة فقط, ويسعون للحصول عليها من أي طريق ممكن حتى إذا كان عن طريق امتصاص دم الضعفاء وسحقهم العاجزين, ولأنهم معرضون عن الحياة الخالدة فهم في منتهى البخل عن صرفها في سبيل الله.
والخلاصة علامة أهل الدنيا الحرص والبخل, كما أن علامة المتدينين القناعة والسخاء.
يجب أن تعلم, لا أن تقرأ:
يجب العلم أن الأمور الخمسة المذكورة في الآية الشريفة في وصف
الحياة الدنيا, أمور ينبغي أن تُعلم, لا أن تقرأ لأنه سبحانه قال " اعلموا " أي يجب أن تعلموا أن الحياة الدنيا هي هكذا, بناءاً عليه فإن واجب أتباع القرآن أن يدققوا في ذلك ويقلبوه ظهراً لبطن ليصبحوا عالمين وهكذا يتم شفاؤهم من مرض حب الدنيا.
وكذلك تجب الدقة في المثل المذكور في هذه الآية وعدة آيات أخر ويطبقوا ذلك على الحياة الدنيا.
وخلاصة المثل المذكور في الآية أنه سبحانه شبه الحياة الدنيا بأرض خصبة, ألقي فيها البذر, ونزل عليها مطر مبارك نافع فاخضرت وازدهرت, بحيث أصبحت طراوتها تثير الإنتباه والتعجب, ثم إنها - بسبب الشمس أو بسبب آفة ما - اصفرت ويبست, وتناثرت ثم إنها - بسبب رياح الخريف أو غير ذلك - تلاشت نهائياً.
" أنظر إلى ما على وجه الأرض عند إطلالة الربيع, تجده كلوحة رائعة زينت بيتاً جميلاً ".
" وعندما تنظر إلى أوراق الرياحين في فصل الخريف تجدها إذا أنصفت تستحق أن تذروها الرياح " " مضامين أبيات ".
الشباب ربيع كان وانقضى:
كذلك هي مرحلة الشباب من عمر الإنسان كما نرى... حماسها, وغضارتها ونضارتها يهددها الضعف والذبول والهرم والسلامة والصحة والإستقرار والهدوء يهددها المرض والألم واختلال الأمن والحوادث المؤلمة.
إذا كان الشاب ثرياً وقوياً فإن الفقر والعجز له بالمرصاد.
وإذا كان حسن السمعة مشهوراً فإن سوء سمعته وانزواءه حتميان.
وإذا كان في حركة ونشاط دائمين يملأ الجو ضجيجه, فإنه قطعاً سيصبح هامداً منطفئاً خافت الصوت بطيء الحركة أو لا يقوى على الحراك والمقبرة والأضرحة خير دليل لمن أراد معرفة الحقائق[594].
الدنيا دار عبرة:
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الدنيا: " ثم إن الدنيا دار فناءٍ وعناء وغير وعبر فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه لا تخطيء سهامه ولا تؤسى جراحه يرمي الحي بالموت والصحيح بالسقم والناجي بالعطب, آكل لا يشبع وشارب لا ينقع, ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل ويبني ما لا يسكن ثم يخرج إلى الله ( يموت ) لا مالاً حمل ولا بناءاً نقل, ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطاً والمغبوط مرحوماً ومن عبرها أن المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله[595] " ومعنى قوله عليه السلام " ترى المرحوم مغبوطاً والمغبوط
مرحوماً " أن الشخص الذي يثير الشفقة والرحمة سرعان ما يصبح قوياً ثرياً فيصبح مغبوطاً والعكس صحيح...
حديث علي عليه السلام عن زوال الدنيا:
وقال عليه السلام: " فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها, ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها فإن عزها وفخرها إلى نفاد, وكل مدة فيها إلى انتهاء وكل حي فيها إلى فناء أوليس لكم في آثار الأولين مزدجر وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر إن كنتم تعقلون, أولم تروا إلى الماضين
منكم لا يرجعون؟ وإلى الخلف الباقي لا يبقون؟ أولستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى فميت يبكى وآخر يعزى وصريع مبتلى وعائد يعود وآخر بنفسه يجود, وطالب للدنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه[596] ".
العمي عن الآخرة, يطلبون الدنيا:
وقال عليه السلام: " وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى, لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير ينفذها بصره, ويعلم أن الدار وراءها, فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص, والبصير منها تزود والأعمى لها تزود واعلموا أنه ليس من شيء إلا ويكاد صاحبه يشبع منه ويمله إلا الحياة فإنه لا يجد له في الموت راحة[597] ".
فمتى.. تفكرون في المعاد:
دخل أمير المؤمنين عليه السلام سوق البصرة فنظر إلى الناس يبيعون ويشترون, فبكى بكاءاً شديداً ثم قال: يا عبيد الدنيا وعمال أهلها, إذا كنتم بالنهار تحلفون وبالليل في فراشكم تنامون, وفي خلال ذلك عن الآخرة تغفلون، فمتى تجهزون الزاد وتفكرون في المعاد؟ فقال له رجل يا أمير المؤمنين إنه لا بد لنا من المعاش فكيف نصنع؟
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: " إن طلب المعاش من حله لا يشغل عن عمل الآخرة فإن قلت لا بد لنا من الإحتكار لم تكن معذوراً, فولى الرجل باكياً فقال له عليه السلام: أقبل عليَّ أزدك بياناً فعاد الرجل إليه فقال له:
إعلم يا عبد الله أن كل عاملٍ في الدنيا للآخرة لا بد أن يوفى أجر عمله في الآخرة وكل عامل في الدنيا للدنيا عمالته ( أجرته ) في الآخرة نار جهنم ثم تلا قوله تعالى: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى "[598].
علي عليه السلام ينهى عن الإفراط والتفريط:
كان العلاء بن زياد الحارثي من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وقد دخل عليه الإمام في البصرة يعوده فلما رأى سعة داره قال: " ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا, وأنت إليها في الآخرة أحوج؟ وبلى.. إن شئت بلغت بها الآخرة, تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها, فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ".
فقال العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا, قال: عليَّ به, فلما جاء قال: يا عُدي نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها, أنت أهون على الله من ذلك.. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك, قال : ويحك, إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس, كيلا يتبيَّغ بالفقير فقره[599] ".
التنعم بالدنيا حرمان في الآخرة:
قال الإمام الصادق عليه السلام: إنا لنحب الدنيا, وأن لا نؤتاها خير لنا
من أن نؤتاها, وما أوتي ابن آدم شيئاً إلا نقص حظه من الآخرة[600].
وعن ابن أبي يعفور قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا لنحب الدنيا فقال لي: تصنع بها ماذا؟ قلت: أتزوج منها وأحج وأنفق على عيالي وأنيل إخواني وأتصدق، قال لي: ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة[601] ".
نور الحكمة للزاهد في الدنيا:
وقال عليه السلام: " من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه, وأنطق بها لسانه, وبصره عيوب الدنيا ودواءها وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام[602] ".
وقال: " جعل الخير كله في بيت, وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا " ثم قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): " لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا " ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: " حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا[603] ".
ما هو الزهد ومن هو الزاهد:
الزهد هو عدم الرغبة في الدنيا واجتنابها وعدم التعامل معها على طريقة أهل الدنيا.
روى المجلسي في تفسير الزهد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله
وسلم ) أنه قال: قلت: يا جبرائيل فما تفسير الزهد؟ قال: الزاهد يحب من يحب خالقه ويبغض من يبغض خالقه، ويتحرج من حلال الدنيا ولا يلتفت إلى حرامها، فإن حلالها حساب وحرامها عقاب، ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه، ويتحرج من الكلام كما يتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها ويتحرج عن حطام الدنيا وزينتها كما يتجنب النار أن تغشاه، ويقصر أمله وكان بين عينيه أجله[604].
الدنيا في أمثلة:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى تقتله[605] ".
حقاً إن الحريص على الدنيا تزداد نار عطشه إليه اضطراماً, وكلما حصل على شيء من الدنيا ازداد إحساساً بالحاجة, وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال الإمام الباقر عليه السلام: مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً[606].
والواقع أن الحريص على الدنيا أسوأ من دودة القز, لأن دودة القز التي تسجن في نسيجها لا تموت إذا لم تحرقها حرارة الشمس, بل إنها تمزق شرنقتها, وقد تنقذ نفسها وتطير, ولكن الحريص على الدنيا لا يحاول النجاة أبداً ولا يبذل أي جهد من أجل ذلك والإقلال من العلائق, وتبقى إنسانيته ميتة إلى أن يحترق بنار جهنم.
وفي جوفها السم الناقع:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " إن في كتاب علي عليه السلام إنما مثل الدنيا كمثل الحية, ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع يحذرها الرجل العاقل, ويهوي إليها الصبي الجاهل[607] ".
حقاً.. إن ظاهر الدنيا جذاب, وزخارفها وبهارجها خداعة لأصحاب الرؤية المحدودة, ولكن العقلاء والمفكرين بعواقب الأمور يعلمون أن حب الدنيا والتعلق بها سم قاتل, يخرج الإنسان نهائياً من دائرة الإنسانية ويحيل الحياة لديه علقماً, بحيث أنه كلما ازداد بها تعلقاً وركض خلفها أكثر كلما ازدادت مصائبه وآلامه ومعاناته كما تقدم. من هنا أمكن القول أن الدنيا أسوأ من الحية, لأن الحية وإن كان في جوفها السم القاتل إلا أن في جوفها أيضاً " الترياق " وهو مضاد للسم, بحجم بندقة سوداء, إذا وضعت على مكان عضة الحية شفي المصاب بشمها, والحية غالباً لا تؤذي من لا يؤذيها ولكن الدنيا تؤذي محبيها أكثر من غيرهم.
قصة عجيبة عن الحية:
يقول في الأنوار النعمانية:
حكى لي ثقة من أصدقائي, أنه كان في بيتهم حية وكان معها فراخها قال: فأردنا أن ننظر إليها يوماً, فلما خرجت بادرنا إلى فراخها فوضعناها تحت قدر وخرجنا من البيت, فلما أتت إلى فراخها فلم ترها, عمدت إلى البيت وفتشت فيه فلم تجدها, فلما يئست أتت إلى لبن في البيت فدخلت فيه وشربت
منه وقاءته حتى صار أصفر من السم, وخرجت من البيت فعمدنا إلى فراخها ووضعناها حيث كانت ورجعت مرة أخرى فلما رأتها أتت إلى ذلك اللبن ودخلت فيه وخرجت منه فوضعت نفسها على التراب ودخلت في اللبن وظلت تكرر ذلك حتى صار اللبن بلون التراب فتركته وإنما فعلت ذلك حتى لا نشربه[608].
ونحبها, رغم المساويء:
والعجيب أن الإنسان يظل يعشق الدنيا معانقاً لها رغم كل مراراتها ولسعاتها السامة التي تصيبه من الدنيا وأهل الدنيا ورغم كل الآلام والإخفاقات ولا يعرض عنها, وإذا نصحه محب للخير وقال له: الدنيا لا تستحق الحب, فكّر بآخرتك فهي دار البقاء وتستحق الحب, فإنه يستاء ويبادر إلى المغالطة ويرفض النصيحة.
موعظة لقمان لابنه:
قال لقمان لابنه إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها الأكثرون, فلتكن سفينتك فيها تقوى الله, وحشوها الإيمان, وشراعها التوكل وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر[609].
قال أحد الأكابر[610] في شرح تشبيه الدنيا ببحر عميق: يا قرين الأطفال ( في اللعب ) ويا حمال الأثقال, أيها المحبوس في بئر الجاه المسموم من أفعى المال, يا غريق بحر الدنيا, وأسير هموم الآمال, ألم تسمع ولم تقرأ
" إنما الدنيا لعب ولهو ".
ألم تسمع ما قاله ذلك الحكيم العالم بالغيب, المنزه عن كل شين وعيب ( لقمان ) عندما قال لولده: " يا بني الدنيا بحر عميق غرق فيه الأكثرون " و ( أنا ) الحقير أقول عن تحقيق " ونحن منهم ".
وإذا أردت أن تفهم عمق حكمته, فكر في حقيقة لفظ " عميق " وانظر ما أكثر جواهر الحكمة التي أدرجها في هذا الصندوق الصغير, ويكفي أن تعلم:
أن في البحر حوتاً, وسمكاً, وحيوانات عجيبة كثيرة, ومهالكه الغريبة لا تحصى.
جزره المهولة أذابت شجاعة الأسود, وجباله المخيفة غيبت كثيراً من الناس ( من صفحة هذا الوجود ).
أصل هذا البحر وساحته ناشئان من ظلمة الجهل, ومستقرهما أودية أراضي أهل الغفلة.
أمواج آمال هذا البحر طالما عصفت بسفن العمر فأفنتها وجبال همومه طالما حالت دون تفتح براعم الأحلام.
وأفاعي معاصيه المهلكة أهلكت بسمها الكثيرين, وحيتان صفاته المذمومة ابتلعت العديدين...
وماء محبته المر والمالح كم أعمى الناس وسلب النور من عيونهم, كل من غرق في هذا البحر, أطلع رأسه من بين أطباق نار الجحيم, وسيبقى في العذاب الأليم.
ناس هذا البحر هم النسناس[611] وسباحتهم في هذا البحر إلى ساحة الوسواس.
وقراصنته هم جنود إبليس, وأسلحة حربهم الخدعة والتلبيس إذا سألت عن عمق هذا البحر فسأقول لك: لا يتناهى.
وإذا كنت لا تصدق فانظر إلى غواصي هذا البحر, يعني أهل الدنيا من الأولين والآخرين, فسترى أنهم جميعاً غرقوا فيه, ولم يصل أحد إلى قعره.
وإذا أردت أن تفهم ذلك أفضل, فانظر إلى حالك الخرب ( التعيس ) فسترى أنك مهما كنت تملك تظل تطلب المزيد, ولا يقف حرصك عند حد.
يا سيدي, كيف أذلت هذه الدنيا الناس, وجعلت قلوبهم التي خلقت للمحبة والمعرفة إسطبلاً للخيل والبغال, جوارحهم متعفنة من القاذورات, وقلوبهم لا تعرف الخضوع والخشوع آناً ( من الآنات ) ولم يذوقوا ذرة من حلاوة الطاعة لا في كيانهم من التوبة أثر, ولا في أوهام تفكيرهم النحس عن الله جل جلاله خبر...
ليل نهار, يمزقون بسيف لسانهم وسنانه عرض المسلمين ( كرامتهم ) ومالهم وعصمتهم إرْباً إرْباً.
قلوبهم خالية من الذكر والفكر مملوءة بالحيلة والمكر.
أوثقوا يد العقل وأطلقوا يد الهوى...
أية جراحات أثخنت بها تلك الأيدي كبد الدين.
وأية مصائب ألحقتها بالشرع الشريف.
خلعوا لباس الإلهيين, وارتدوا ثياب الإفرنجيين استبدلوا أطعمة الإسلام وأشربته بسم النصارى والدهريين وزقومهم.
تركوا آداب الشرع والتزموا بآداب الكفر.
سوق الكفر والشرك في بلادهم معمورة, وسوق إسلامهم خربة ( مهجورة ).
وافضيحتاه, عسكر الكفر في بلاد وجودنا منصور ومسرور وجيش الإسلام مقتول ومأسور.
لا نحن في عاقبة أمرنا فكّرنا, ولا بسياسات الله ( جميل صنعه ) في الأمم الماضية اعتبرنا.
قضية أبابيل الهائلة, وقصة فرعون وقابيل ظنناها مزاحاً.
الأرض التي ابتلعت قارون مع كنوزه العظيمة موجودة معنا نحن العوج المصابون بالدور.
يا روحي...
الرياح التي أدب بها قوم هود, هي الآن مطيعة لذلك القادر الحليم.
إذا كنت أنت قد تجرأت على التمرد على إطاعة أمر ذلك السلطان العظيم الشأن, فالتراب والماء والرياح والطين والحجر أذلاء ومنقادون له.
بلى, لقد انطلت عليهم حيلة صبره وحلمه, فغفلوا عن سلطته العظيمة, فنزعوا لباس الخجل والحياء, وتابعوا خطى الجرأة, فارتكبوا
المعصية في حضور عزه وجلاله.
ألست ترى أن حكم المحكم جارٍ في السماوات والأرض ألم تقرأ أن السماء تنشر ( تتناثر ) في يوم النشور...
بلى, ماذا أقول عن شر ذلك اليوم المليء بالآه والحرقة الذي أذاب خوفه قلوب الخائفين, وكيف لا تذوب وهي خائفة مضطربة من يومٍ أرضه نار محرقة, وصراطه أحدُّ من السيف القاطع, العقول متطايرة, والدموع منهمرة, نجومه متناثرة, وناسه كالجراد المنتشر, هوله عظيم, والأنبياء في اضطراب وخوف, الأخيار مدهوشون, والأبرار أغمي عليهم ( لا يعون ) الشدائد كثيرة والمحن لا تحصى...
الشمس من فوق ( رؤوس العباد ) والأرض كتنور الحداد...
الأبدان غارقة في العرق, واللحوم والعظام تحترق...
أحاطت جهنم بهم وسدت في وجوههم سبل الفرار...
الظالم خجل, والعادل بدمعه خضل...
الصحف تتطاير عن اليمين واليسار, والناس في دهشة وانتظار, والملائكة الغلاظ الشداد يروحون ويجيئون ينفذون العقوبة الإلهية في المردة والعصاة ويتشددون...
أحد أسماء ذلك اليوم يوم الحساب والآخر يوم التناد...
من جهة ينادي المنادي ضاحكاً مستبشراً: يا أهل الجنة اركبوا..
ومن جهة أخرى ينادي: يا أهل النار اخسئوا واحد يُكسى خلعة ( حلة ) وآخر يسحب ( على وجهه ) طائفة أسكرها الشراب الطهور, وقوم ترك الضريع والزقوم أكبادهم إرْباً إرْباً...
في حيرة من أمري أنا, لست أدري أعن قهره ( وانتقامه ) أتحدث أم عن عطفه ( وحنانه ).
أهلُ قهره الترابيون, وأهل عطفه الأفلاكيون, أي الذين أوصلوا أنفسهم إلى الأفلاك النورانية ولا يقيمون وزناً لهذه الأفلاك ( غير النورانية ) جسمهم روح وروحهم في عرش الرحمن...
يا فداءاً لقلوب أشرق فيها النور الإلهي جل جلاله وجلالة مرتبتهم لا تتناهى.
فصلوا أنفسهم عن العالم واتصلوا بعالم الأنوار فاستناروا بنور المعرفة, مُنحوا خلعة المحبة وركل زهدهم الدنيا, ونبت توكلهم في أرض التوحيد, نفروا من خلق هذا العالم, واطمأنوا إلى مقام القرب...
فكرهم نور وذكرهم نور, وباطنهم وظاهرهم وروحهم وخيالهم وعقلهم وجنانهم كله نور وغارق في بحر النور...
كفى!!!
أين أنا - اللاطاهر - من مدح الطاهرين ووصفهم؟ أمثالنا نحن, يجب أن نهتم بالوصول إلى ترك المعصية إذا كنا قد أحكمنا أصل الإيمان.
لقد خدعتنا الدنيا وأصمتنا وأعمتنا بحيث أن مثل هذه المواعظ لا تؤثر أبداً في قلوبنا القاسية.
كل ما أعرفه أن واجب المريض الرجوع إلى الطبيب وإطاعته, وواجب الطبيب المعالجة.
والآن لا المريض مطيع, ولا الطبيب حاذق.
ولكن إذا كان المريض مطيعاً فإن الله الرحيم سيوصله دون شك إلى طبيب حاذق.
وإن لم يكن مطيعاً, فالسكوت أولى.
" نهاية بحث حب الدنيا ".
11 - العزم على الذنب والرضا به
من الذنوب القلبية, العزم على الذنب والرضا به.
على كل مسلم أن يوطن نفسه أي يحتم عليها الإجتناب عن جميع الذنوب وإذا عرض ذنب ومال إليه فيجب عليه أن يكف نفسه عنه أي يمتنع عن ارتكابه وأن لا يعزم ويقصد القيام به.
بناءاً على هذا, فإذا قصد الذنب وعزم على ارتكابه, فإن هذا العزم ذنب قلبي وفاعله مستحق للعقوبة الإلهية أي عقوبة التمرد والطغيان والخروج على أمر الله.
وإذا ارتكب ذلك الذنب, فقد استحق أيضاً عقوبة ذلك الذنب, أي أنه مستحق لعقوبة أشد.
مثلاً: إذا أصبح شخص جاهزاً لقتل بريء, فقصده هذا هو ذنبه القلبي ويجب عليه أن يفسخ هذا العزم الشيطاني, والتوبة منه واجب فوري, وإذا لم يتب وأصر على عزمه واستمر فإن ذلك في حد ذاته ذنب تنبغي العقوبة عليه, ولو أنه مات في هذه الحال فقد مات مذنباً وهو مستحق للعذاب.
وإذا حال حائل آخر من تحقق القتل فإن استحقاق العقوبة على العزم على الذنب باقٍ على حاله والتوبة منه واجبة.
ويتضح من هذا العرض استحقاق العقوبة على الذنب القلبي قائم وموجود في جميع موارد التجري ( إضمار السوء جرأة على أمر الله ) والتوبة منه واجبة.
موارد التجري:
مثلاً: ظن شخص براءة شخص آخر وقتله بقصد إراقة دم لا تجوز إراقته ثم اكتشف فيما بعد أن هذا المقتول كان مهدور الدم كأن يكون كافراً حربياً أو مرتداً.
أو: امرأة يقاربها شخص تعتقد أنه أجنبي وتقدم على ذلك بقصد الزنا ثم يتبين أنه زوجها.
أو يشرب شخص كأساً بقصد شرب الخمر ثم يكتشف أنه سائل حلال.
أو يسرق مالاً من آخر, أو يأخذه غصباً ثم يتبين أنه ماله أو يقارب زوجته وهو معتقد أنها حائض ثم يتبين أنها في طهر.
والشخص المتجري تجب عليه التوبة لأنه ارتكب ذنباً قلبياً هو العزم على الذنب واستحق بذلك العقوبة.
الآيات والروايات:
1 - " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ". الإسراء 37.
أي يقال للإنسان يوم القيامة لمَ سمعت ما لم يكن ينبغي لك أن تسمعه ولم نظرت إلى ما لم يكن ينبغي لك أن تنظر إليه, ولم عزمت على ما لم يكن يحل لك أن تعزم عليه.
قال البيضاوي وسائر علماء العامة إن هذه الآية دالة على أن العبد سيؤاخذ بالعزم على الذنب.
يسأل عن السر والعلن:
2 - " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ". البقرة 284.
هذه الآية الشريفة عامة وهي تشمل الإعتقادات والملكات والنيات, أي أن كل عقيدة وخُلق وعزيمة خيراً كانت أم شراً أفسحت لها مجالاً في باطنك وثبت عليها واستقريت, فإن الله تعالى سيحاسبك على ذلك ويجازيك, ( إلا أن الخواطر العابرة التي لا تستقر في القلب لا يحاسب الله عليها لأنها ليست اختيارية كما سيأتي ).
ويجازى أيضاً على العزم:
قال في تفسير مجمع البيان:
وإنما يؤاخذ الإنسان بما يعزم ويعقد قلبه عليه، مع إمكان التحفظ عنه فيصير من أفعال القلب، فيجازيه به كما يجازيه بأفعال الجوارح, وإنما يجازيه جزاء العزم لا جزاء عين تلك المعصية لأنه لم يباشرها ( أي أن من نوى القتل إلا أنه لم يتمكن من تحقيقه فإنه يجازى على عزمه ونيته لا على القتل لأنه لم يفعله ) وهذا بخلاف العزم على الطاعة فإن العازم على فعل الطاعة يجازى على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة كما جاء في الأخبار أن المنتظر للصلاة ( يكون )
في الصلاة ما دام ينتظرها, وهذا من لطائف نعم الله تعالى على عباده[612].
الوعيد على إشاعة الفحشاء:
3 - " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة... ". النور 19.
والمراد بالفحشاء كالزنا والقذف وأنواع القبائح, وفي هذه الآية الشريفة اعتبر حب الذنب ( إشاعة الفحشاء ) ذنباً يستحق الوعيد بالمجازاة الإلهية.
الجنة لمن؟
4 - " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ". القصص 83.
والمراد بالفساد في الآية هو كل ذنب, لأن كل ذنب يوجب الفساد في الأرض إما بواسطة أو بلا واسطة, وبناءاً على هذا فإن الإرادة القلبية لأي ذنب تمنع من دخول الجنة, لكن يمكن القول إن الفساد وإن كان عاماً وشاملاً لكل ذنب, لكنه خصص بالكبائر من الذنوب " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ". آل عمران 31.
والخلاصة إن الإرادة القلبية للذنب الذي هو من الكبائر والميل إليه ومن جملة ذلك إرادة العلو على الناس هي ذنب يمنع من دخول الجنة.
لماذا قتلوا الأنبياء:
5 - " فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ". آل عمران 183.
هذه الآية خطاب لليهود في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسألهم تعالى لماذا قتلتم أنبياءكم, مع أن الذين قتلوا الأنبياء هم الماضون لا أولئك المخاطبون, إلا أنهم لرضاهم بفعل أسلافهم وميلهم إليه فكأنهم هم الذين قتلوهم.
بناءاً على هذا فالرضا بالذنب, ذنب ويستحق المجازاة.
يسأل الله على النية:
6 - " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ". البقرة 225.
قال في تفسير الجوامع: " كسب القلب, العقد والنية ".
قال الإمام الصادق عليه السلام: " إنما يحشر الناس على نياتهم[613] ".
وقال: " إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً, وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " قال على نيته[614] ".
النية إما أحسن من العمل أو أسوأ:
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): " نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله[615] ".
وروى الصدوق في علل الشرائع عن الإمام الباقر عليه السلام أنه كان
يقول: " نية المؤمن خير من عمله وذلك لأنه ينوي من الخير ما لا يدركه ونية الكافر شر من عمله وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه[616] ".
القاتل والمقتول في النار:
روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتل صاحبه[617] ".
الملعونون:
لعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الخمر عشرة غارسها, وحارسها, وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها[618].
وكما تلاحظ, إن أكثر هؤلاء المذكورين إنما لعنوا بسبب إرادتهم تهيئة الخمر, وعزمهم على ذلك.
من أخاف مؤمناً فهو في النار:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " من روع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروه فلم يصبه فهو في النار, ومن روَّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروه فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار[619] ".
بناءاً على هذا فإذا وشى شخص بآخر إلى السلطان بقصد الإضرار به بماله أو بعرضه ( كرامته ) أو روحه, فإن هذا الشخص في النار بسبب القصد الذي قصده حتى إذا لم يصل إلى ذلك الشخص ضرر من السلطان.
الراضي بعملٍ, شريك فيه:
قال علي عليه السلام: " الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان, إثم العمل به وإثم الرضا به[620] ".
ولكن على الراضي بالباطل دون الدخول فيه إثم الرضا به فقط...
الإمام المنتظر يثأر:
روي عن عبد السلام بن صالح الهروي أنه قال: " قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: إذ خرج القائم عليه السلام قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام بفعال آبائهم فقال عليه السلام هو كذلك, فقلت: وقول الله عز وجل " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ما معناه؟
قال صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين عليه السلام يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قُتل بالمشرق, فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عز وجل شريك القاتل, وإنما يقتلهم القائم عليه السلام إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم....[621] ".
عقر الناقة واحد, فعمهم بالعذاب:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: " فعقروها فأصبحوا نادمين, فأخذهم العذاب[622] " ويتضح جيداً من هذه الروايات - ومن غيرها مما لم ينقل رعاية للإختصار - أن الرضا بالذنب حرام, إذن العزم على الذنب الذي هو في مرحلة تالية للرضا حرام وذنب بطريق أولى.
الروايات تؤيد حكم العقل:
ومن الجدير بالذكر أن ما ذكر من الآيات والروايات لإثبات الحرمة الشرعية للعزم على الذنب يؤيد حكم العقل باستحقاق العقوبة على ذلك لأن من عزم على الذنب وجزم بحكم العقل باستحقاقه المؤاخذة واستحقاقه مرتبة من العقوبة, لأنه في تلك الحال تمرد على أمر الله وإذا ارتكب ذلك الذنب
استحق مرتبة أشد من مراتب العقوبة, وكل من يرجع إلى وجدانه سيجزم بهذا الحكم العقلي, والآيات والروايات شاهدة على ذلك.
رأي الشيخ البهائي عليه الرحمة:
من هنا قال الشيخ البهائي عليه الرحمة:
" .. إن تحريم العزم على المعصية مما لا ريب فيه عندنا, وكذا عند العامة وكتب الفريقين من التفاسير وغيرها مشحونة بذلك بل هو من ضروريات الدين.
ثم نقل كلمات بعض العلماء من الخاصة والعامة حول ذلك إلى أن قال: وقال السيد المرتضى علم الهدى أنار الله برهانه في كتاب تنزيه الأنبياء ( .... ) وإرادة المعصية والعزم عليها معصية، وقد تجاوز قوم حتى قالوا: العزم على الكبيرة كبيرة, وعلى الكفر كفر. إلى أن يقول الشيخ البهائي رحمه الله: وأيضاً: فقد صرح الفقهاء بأن الإصرار على الصغائر الذي هو معدود من الكبائر إما فعلي وهو المداومة على الصغائر بلا توبة، وإما حكمي وهو العزم على فعل الصغائر متى تمكن منها.
وبالجملة فتصريحات المفسرين والفقهاء والأصوليين بهذا المطلب أزيد من أن تحصى, والخوض فيه من قبيل توضيح الواضحات، ومن تصفح كتب الخاصة والعامة لا يعتريه ريب فيها تلوناه[623] ".
غير اختياري, ومعفو عنه:
وقد ذُكر اعتراضان على ما تقدم:
الأول: أن قصد الذنب غير اختياري, والمؤاخذة والعقوبة عليه قبيحتان.
الثاني: قد ورد في الروايات العفو عنه.
قال الإمام الصادق عليه السلام: " إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه[624] ".
وفي هذا الباب ثلاث روايات أخرى بهذا المضمون ومن هنا قال الشهيد في القواعد وجمع من الفقهاء: لا عقوبة ولا مؤاخذة على مجرد قصد المعصية.
المقدمات غير اختيارية لا نفس العزم:
ونقول في جواب السؤال الأول: إن ما هو غير اختياري هو حديث النفس والخاطرة والميل, وأما العزم والجزم فهو أمر اختياري, أي أن الإنسان بعد أن يوجد في نفسه الميل إلى الذنب يستطيع أن يمتنع عنه ولا يعزم على القيام به , - يستطيع ذلك - بواسطة الحياء أو الخوف من الله.
توضيح ذلك:
إن كل فعل اختياري يصدر من الإنسان, توجد في باطن الإنسان - قبل صدور ذلك الفعل - حالات أربع ( المباديء الأربعة ): الخطور, الميل, الإعتقاد, العزم, مثلاً: يخطر ذنب على قلب شخص ثم يميل إليه ويرغبه, ثم يقول قلبه: يجب أن آتي به, هنا إذا لم يوجد مانع خارجي أو داخلي كالحياء أو الخوف يمنع من الإتيان به فإنه يعزم على فعل ذلك ويفعله.
الحالة الأولى: تسمى الخاطرة, حديث النفس, الوسوسة.
والحالة الثانية: تسمى الرغبة, الميل, الطبع والشوق.
والحالة الثالثة: الإعتقاد.
والحالة الرابعة: العزم والإرادة.
بعد اتضاح هذه الحالات الأربع نقول: إن ما هو اضطراري وغير اختياري هو الحالة الأولى والثانية, لأن منع النفس عن الخاطرة السيئة, وعن الميل إليها مشكل وأحياناً يكون محالاً, وبناءاً عليه فليس ذلك مورداً للتكليف والمؤاخذة والعقوبة على هاتين الحالتين قبيحتان.
وأما الحالة الثالثة أي الحكم بأن هذا العمل يجب الإتيان به فعندما يكون غير اختياري, لا مؤاخذة عليه أيضاً, أما عندما يكون اختيارياً أي يستطيع أن لا يحكم وأن لا يعتقد بوجوب الإتيان بالفعل فتصح المؤاخذة عليه.
وأما الحالة الرابعة فمن الواضح كونها اختيارية, لأنه بعد وجود المراحل الثلاثة المذكورة ليس وجود الحالة الرابعة حتمياً بل قد يصرف الشخص النظر عنها لوجود مانع خارجي أو داخلي ولا تتحقق منه إرادة ذلك الفعل, نعم إذا أراد فوقوع الفعل حتمي, بناءاً على هذا فالعزم والإرادة مورد للتكليف والعقل يحكم باستحقاق المؤاخذة والعقوبة على ذلك.
معصية معفو عنها:
التأمل في الروايات بدقة, يكشف أن قصد الذنب, معصية وسيئة معفو عنها, ولا تكتب لأنها أصلاً ليست ذنباً, لاحظ مثلاً هذه الرواية:
" عن عبد الله بن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: سألته عن
الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد أن يفعله أو الحسنة فقال عليه السلام: ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟ قلت: لا, قال: إن العبد إذا همّ بالحسنة خرج نَفَسه طيب الريح فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال قم ( قف ) فإنه قد هم بالحسنة, فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها له, وإذا هم بالسيئة خرج نََََفَسه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين قف فإنه قد هم بالسيئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها عليه[625] ".
والخلاصة: إن من قصد ارتكاب ذنب يجد الملك منه عفناً معنوياً, لكنه إذا لم يرتكب ذلك الذنب يعفى عنه ولا يكتب عليه شيء.
وفي حديث آخر:" وإذا تحدث بأن يعمل السيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها[626] ".
ومن الواضح أن المغفرة شاهد على أن نية الذنب ذنب. وحيث قد علم بدليل العقل والنقل الذي تقدم ذكره وشهادة روايات العفو أن قصد الذنب معصية فيجب إيضاح المراد بروايات العفو فنقول: روايات العفو مجملة لأن هناك وجوهاً في المراد ويجب ذكر هذه الوجوه والإحتمالات ثم تعيين القدر المتيقن منها:
العفو عن الخاطرة والميل والإعتقاد:
الوجه الأول: أن روايات العفو مرتبطة بالخاطرة والميل والإعتقاد, ولا تشمل العزم والإرادة بالتفصيل الآتي:
من خطر على قلبه ذنب, ومال إليه, وعقد القلب على الإتيان به إلا
أنه - بسبب الحياء أو مانع آخر - لم يرده, لم يعزم عليه, وصرف النظر عنه, فتلك النية, ذلك الهم, ذلك القصد رغم أنه ذنب إلا أنه معفو عنه بشهادة روايات العفو والمغفرة.
وفي الحقيقة إن ترك إرادته ( صرف النظر عن فعله ) هو كفارة معصية قصده.
وإذا صرف النظر عن ذلك الذنب بسبب الحياء من الله أو خوف عقوبة الآخرة ولم يرده, لم يعزم عليه, فبالإضافة إلى العفو عن قصده, تكتب له حسنة على كف النفس وترك إرادة المعصية لله, واستحقاق الثواب على كف النفس لله ( قربة إليه سبحانه ) عقلي وتشهد به هذه الرواية.
اكتبوها له حسنة:
روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): قالت الملائكة: رب ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة ( أي مال إلى الذنب ) وهو أبصر ( الله تعالى أبصر ) فقال تعالى: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من أجلي[627].
والخلاصة: إن قصد الذنب بدون عزم عليه وإرادة له معفو عنه وإذا كان ترك العزم, لله تعالى ففاعل ذلك مستحق للثواب...
وأما العزم على الذنب فهو ذنب ويستحق فاعله المؤاخذة والعقوبة, سواء وقع ذلك الذنب الذي قصده وتحقق أم لم يتحقق بسبب مانع خارجي أو داخلي, تدل على ذلك الأدلة المتقدمة.
لا يكتب له الذنب الذي لم يرتكبه:
الوجه الثاني: روايات العفو مرتبطة بالذنب الذي قصده ولكنه لم يرتكبه ولا تشمل نية المعصية أي إذا قصد شخص ارتكاب ذنب كالزنا ولم يتحقق ذلك فإن هذا العمل لا يكتب في صحيفة عمله بشهادة هذه الروايات ( روايات العفو ) ولا يستحق العقوبة الخاصة بذلك الذنب, أما ذنب قصده الذنب واستحقاقه المؤاخذة على ذلك فهذه الروايات لا تشمله: وبناء على هذا تجب عليه التوبة من ذلك القصد الذي قصده, وقد نقل هذا الوجه الشيخ البهائي.
فسخ العزيمة كفارة قصد الذنب:
الوجه الثالث: روايات العفو مرتبطة بمن قصد الذنب وعزم عليه ثم انصرف عن قصده وفسخ عزيمته, في هذه الصورة يكون فسخ العزيمة هذا كفارة نيته وقصده, ولا يكتب عليه شيء, ولكن إذا أصر على عزمه واستمر إلى أن وجد مانع خارجي منع من وقوع ذلك الذنب فلم يقع, فهنا لا يعفى عن نيته وعزمه, وذلك ذنب تكتب عليه بسببه سيئة, وتجب عليه التوبة منه, والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول هو أنه في الوجه الأول يكون وجود العزم على المعصية هو المعصية ولا تشمله روايات العفو وفي هذا الوجه يكون الإستمرار والإصرار على العزم هو المعصية.
مجرد العزم, بدون مقدمات الفعل:
الوجه الرابع: روايات العفو مرتبطة بمن لم يصدر منه إلا مجرد العزم على الذنب فقط إلا أنه لم يتحرك أية حركة باتجاه ارتكابه, فإذا كان قد تحرك في هذا الإتجاه فهو خارج عن دائرة العفو وهو عاصٍ.
مثلاً: إذا عزم شخص على شرب الخمر ونوى ذلك, فما دام لم يقم بأي عمل فإن هذا العزم وحده معفو عنه, أما إذا تحرك لتناول كأس الخمر وشربه فهو خارج من دائرة العفو وهو عاصٍ, حتى إذا لم يتحقق شرب الخمر كأن لم يستطع الحصول عليه, أو تبين له أن ما شربه ليس خمراً وإنما هو مائع حلال, أو منعه أحد من شربه أو أن يموت قبل شربه.
وفي جميع هذه الموارد التي انشغل فيها ببعض المقدمات تكون عزيمته حراماً, وهو عاصٍ, وهذان الوجهان صرح بهما في الرسائل, الشيخ الأنصاري عليه الرحمة.
على الأقل, لا يترك الإحتياط:
بعد معرفة محتملات روايات العفو, يتضح أن الغرور, والجرأة وعدم اعتبار العزم على الذنب معصية لا مبرر له, ومقتضى الإحتياط اعتبار العزم على الذنب معصية والإجتناب عنه, وكف النفس عن قصد الذنب والمعصية, وإذا وجد العزم في نفسه فليتب منه فوراً, وإذا تساهل واستمر على ذلك العزم وأصر فليتب أيضاً من أصل العزيمة ( العزم ) ومن استمرارها.
وإذا انشغل بمقدمات ارتكاب ذلك الذنب فليعلم أن عزمه حرام قطعي والتوبة منه واجب فوري.
العزم على الطاعة:
كما أن العزم على الذنب معصية, واستحقاق العقوبة عليه, والعفو عن بعض مراتبه وموارده ثابتان في الجملة, فكذلك العزم على الطاعة عبادة واستحقاق الثواب الإنقيادي عليها مسلَّم, مع فارق أنه في قصد الذنب لا استحقاق للعقوبة إذا لم يرتكب ذلك الذنب, ويستحق فقط عقوبة التجري
( التجرؤ ) كما تقدم, بينما في قصد الطاعة, يستحق ثواب ذلك العمل ويكتب له حتى وإن لم يعمله وهذا فضل من الله للمؤمن, وفي هذا المجال أخبار كثيرة ذُكر بعضها, وتذكر هنا عدة روايات أخرى إيناساً لقلوب أهل الإيمان بالفضل الإلهي:
نية الإنفاق من الفقير إنفاق:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " إن العبد المؤمن الفقير ليقول يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير فإذا علم الله ذلك منه بصدق نية كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إن الله واسع كريم[628] ".
تكتب له صلاة الليل:
قال الإمام الصادق عليه السلام: " إن العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل فتغلبه عينه فينام فيثبت الله له صلاته ويكتب نفسه تسبيحاً ويجعل نومه عليه صدقة[629] ".
وعن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنه قال: " رحم الله فلاناً.. يا علي لم تشهد جنازته قلت لا قد كنت أحب أن أشهد جنازة مثله فقال عليه السلام قد كتب لك ثواب ذلك بما نويت[630] ".
المؤمن والحسنات التي لم يعملها:
روي عن الإمام الرضا عليه السلام: " إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يديه ( تعالى ) فيكون هو الذي يتولى حسابه، فيعرض عليه عمله فينظر في صحيفته، فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه, وترتعش فرائصه وتفزع
نفسه, ثم يرى حسناته فتقر عينه وتسر نفسه وتفرح روحه، ثم ينظر إلى ما أعطاه الله من الثواب فيشتد فرحه ثم يقول الله للملائكة هلموا بالصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، قال: فيقرأونها ثم يقولون: وعزتك إنك لتعلم أنا لم نعمل منها شيئاً فيقول: صدقتكم نويتموها فكتبناها لكم ثم يثابون عليها[631] ".
هو معنا, لأن هواه معنا:
عندما أظفر الله تعالى أمير المؤمنين عليه السلام بأصحاب الجمل قال له بعض أصحابه, وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ( معنا ) ليرى ما نصرك الله به على أعدائك فقال له عليه السلام:
" أهَوى أخيك معنا؟ فقال: نعم. قال: فقد شهدنا, ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان, ويقوى بهم الإيمان[632] ".
شركاء شهداء كربلاء:
قال الإمام الرضا عليه السلام للريان بن شبيب: " إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين عليه السلام فقل متى ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً[633] ".
قال جابر بن عبد الله الأنصاري في زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً الشهداء: والذي بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه, قال عطية: كيف ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً,
ولم نضرب بسيف والقوم قد فُرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأولادهم وأرملت الأزواج, فقال لي:
يا عطية سمعت حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول:
" من أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم شرك في عملهم، والذي بعث محمداً بالحق نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه[634] ".
وفي الجزء 52 من البحار روايات عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة عليهم السلام حول أن أفضل الأعمال انتظار الفرج, وأن من مات منتظراً لظهوره عليه السلام كالمجاهد بين يديه وأن له أجر خمس وعشرين شهيداً.
جرح صفين بعد سنوات طوال:
قال محيي الدين الإربلي أنه حضر مجلس أبيه وكان عنده شخص فنعس ذلك الشخص فوقعت عمامته عن رأسه, فبدا فيه أثر ضربة هائلة فسأله عنها فقال: هي من صفين.
فقيل له: وكيف ذلك ووقعة صفين قديمة..
فقال: كنت مسافراً إلى مصر فصاحبني إنسان من غزة فلما كنا في بعض الطريق تذاكرنا وقعة صفين, فقال لي الرجل: لو كنت في أيام صفين لرويت سيفي من علي وأصحابه، فقلت: لو كنت في أيام صفين لرويت سيفي من معاوية وأصحابه، وها أنا وأنت من أصحاب علي عليه السلام ومعاوية لعنه الله.. فاعتركنا عركة عظيمة، وتضاربنا فما أحسست بنفسي إلا مرمياً على
الأرض فبينما أنا كذلك, وإذا بإنسان يوقظني بطرف رمحه، ففتحت عيني فنزل إلي ومسح الضربة فالتأمت فقال: إلبث هنا ثم غاب قليلاً وعاد ومعه رأس ذلك الرجل مقطوعاً ومعه الدواب فقال لي: هذا رأس عدوك، وأنت نصرتنا فنصرناك, فقلت: من أنت فقال: فلان بن فلان يعني صاحب الأمر عليه السلام ثم قال لي: وإذا سئلت عن هذه الضربة فقل: ضُربتها في صفين[635].
ختام الكتاب باسم المهدي عليه السلام:
هنا ختمت الكتاب باسم خاتم الأوصياء الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر الحجة بن الحسن العسكري صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
منَّ الله تعالى ببركاته سلام الله عليه على الكاتب والقاريء ﺒ " القلب السليم " وطهرهما من الذنوب القلبية والجسدية.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار وصلى الله على محمد وآله الأخيار.
ربيع الثاني 1392
وقد وقع الفراغ من ترجمته ليلة الإثنين
الثاني والعشرين من ربيع الثاني لعام 1410
للهجرة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة وأتم السلام.
بيروت - حسين كوراني
الفهرس
الموضوع ..........................................................................الصفحة
المقدمة ...................................................................................5
صراط التوحيد طريق القلب السليم: .......................................................8
اهتموا بتهذيب النفس: .....................................................................9
الذنوب التي محلها القلب, أليست حراماً, القلب الملوث لا يتحقق منه قصد القربة: ........10
1 - القسوة ............................................................................13
سبب للخروج عن الدين: ................................................................15
أولى علامات الإيمان: ..................................................................16
توبة مالك بن دينار: .....................................................................17
فوائد من هذه القصة, ما هو الخشوع وكيف يحصل: .....................................20
القلوب أشد قسوة من الصخر, لماذا هي أقسى من الصخر: ..............................22
لماذا لم يتضرعوا عند نزول العذاب: ....................................................23
روايات عن المعصومين عليهم السلام: ..................................................25
معنى القلب وقسوته: ....................................................................26
مكتوب من المكاتيب: ...................................................................27
ما هي القسوة: ..........................................................................29
قسوة القلب منشأ كثير من الذنوب: ......................................................30
القسوة ممكنة العلاج ولها مراتب: .......................................................31
مع كلام المجلسي والفيض رحمهما الله: .................................................32
علاقة بقاء الإيمان وزواله بعمل الإنسان: ................................................33
تنقل أحوال القلب: ......................................................................34
1 - الذنب أكبر أسباب القسوة: .........................................................41
2 - الأماني تقسي القلب: ...............................................................42
3 - كثرة الأكل تورث قسوة القلب: .....................................................42
ميزان كثرة الأكل نسبي: ................................................................43
4 - كثرة الكلام الحلال تورث قسوة القلب: .............................................44
5 - كثرة النوم: ........................................................................45
مقدار النوم اللازم: ......................................................................46
6 - كثرة المال: ........................................................................47
7 - الغفلة: .............................................................................47
متى تجهزون الزاد: .....................................................................48
ما هي الغفلة: ...........................................................................49
ذكر الله على كل حال: ..................................................................50
8 - 9 - اجتنب خمساً... وثلاثاً: .......................................................51
10 - حب الراحة: .....................................................................52
11 - النظر إلى البخيل: ................................................................52
12 - الجزارة ( القصابة ): ............................................................52
ما لم تصل القسوة إلى الحرمة فهي مكروهة: ............................................52
علاج القسوة: ...........................................................................55
مع كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر: ..............................57
استعملوا دواء مرضكم: .................................................................59
جواب الإمام الباقر لابن المنكدر, إن أسامة لطويل الأمل: ................................60
كيف يتحقق الحياء من الله: ..............................................................61
مواعظ: .................................................................................62
تقرير عن النار: ........................................................................63
بعض ما يلين القلب: ....................................................................64
ذو القرنين والأمة العادلة: ...............................................................67
1 - هم الدنيا: ..........................................................................69
2 - كثرة هم القوت: ...................................................................70
3 - خفق النعال: .......................................................................70
4 - الضحك: ...........................................................................70
5 - إهالة التراب في قبر الرحم: ........................................................71
6 - ترك مجالسة العلماء: ..............................................................71
1 - يعظ نفسه بالمرض والموت ........................................................71
2 - بنار الدنيا يتذكر جهنم: .............................................................72
3 - التمرين على القبر: ................................................................72
4 - يا نفس ذوقي: .....................................................................73
2 و 3 الرياء والسمة ...................................................................75
حقيقة الرياء: ...........................................................................77
ابن زياد والحجاج أيضاً كان يصليان: ...................................................78
حب الشهرة سبب الرياء: ................................................................79
بيتي, أم بيت الله: .......................................................................80
المقدمات ليست اختيارية: ...............................................................81
يعيد صلاة ثلاثين سنة: ..................................................................82
لا بد من تصحيح النية: .................................................................83
الرياء هو مرض القلب: .................................................................84
إنه أيضاً مثلك مسكين وعاجز: ..........................................................85
حرمة الرياء: ...........................................................................86
من عمل للناس فثوابه على الناس, علامات المرائي: .....................................87
انتشار الرياء في آخر الزمان: ...........................................................88
السمعة: .................................................................................89
ذكر نعمة الله عند الضرورة, ليس تزكية: ...............................................90
السمعة أيضاً شرك: .....................................................................91
الرياء بعد العمل ليس مبطلاً: ............................................................92
مجرد السرور بعمل ليس رياءاً ولا سمعة: ..............................................93
الجمع بين الروايات: ....................................................................94
الرياء مطلقاً مبطل للعمل: ...............................................................95
علاج الرياء: ...........................................................................96
ليلة عبادة لكلب: ........................................................................97
الندم حين الموت, يتمنى سرعة الذهاب إلى جهنم: .......................................98
إشراق اليقين, علاج قطعي, عبادة السر, والإخلاص ....................................99
الأحكام التي تستفاد من هذه الآية: .....................................................101
قصد القربة يعني الإخلاص في العبادة, الإخلاص في العمل أصعب من العمل: .........102
ما هو الإخلاص في النية: .............................................................103
النعم الروحية في الجنة: ...............................................................105
الأهداف الفاسدة تبطل العمل: ..........................................................106
الضميمة المباحة التبعية ليست مفسدة, تحطيم الأصنام للنفس أم لله: .....................107
ضربة واحدة أفضل من عبادة الجن والإنس, تعلم الإخلاص من علي: ..................109
1 - مراتب الإخلاص: ................................................................110
إذا كان الهدف من العبادة خواصها: ....................................................111
الأهداف في الطاعة متفاوتة: ...........................................................112
الحصول على الثواب والخوف من العقاب هدفان صحيحان, العمل بدون قصد الطاعة باطل: 113
2 - العبادة بداعي الشكر: .............................................................114
شكر النعمة بحكم العقل: ...............................................................115
3 - العبادة بداعي القرب من الله: .....................................................116
القرب بحسب المرتبة والكمال: ........................................................117
القرب بحسب الذكر والمحبة: ..........................................................118
4 - العبادة حياءاً: ....................................................................118
5 - العبادة حباً: ......................................................................119
بذكر الله تطمئن القلوب: ...............................................................120
علامات المحبين: ......................................................................121
مثال ذلك: .............................................................................123
أردت السلطنة فصرت لك عبداً: .......................................................124
6 - عبادة الكاملين في المحبة والمعرفة: ..............................................124
نصيحة ضرورية: .....................................................................125
التوجه إلى الله, كيف؟ رغبات القلب ميزان: ...........................................126
من أراد الله به خيراً: ..................................................................127
مسائل في الإخلاص: ..................................................................128
يجب عدم الإعتناء بالوسوسة: .........................................................129
يترك الصلاة أول الوقت جماعة: ......................................................130
إخلاص المقدس الأردبيلي, لا يترك العمل عند الشك في الإخلاص: ....................131
المسألة الثانية: لا ينبغي الرياء في كتمان المعصية أيضاً: ..............................132
الأهداف الصحيحة لإخفاء الذنب: ......................................................133
المسألة الثالثة: الرياء في العبادة فقط هو الحرام, الأمور التي يراءى بها: ...............134
1 - " الرياء في الدين بالبدن ": .......................................................135
2 - الرياء بالهيئة والزي: .............................................................135
3 - الرياء بالقول: ....................................................................136
4 - الرياء بالعمل: ....................................................................137
5 - الرياء بالأتباع وأمثالهم: ..........................................................137
4 - العجب ...........................................................................139
معنى العجب والإدلال: ................................................................141
مع المجلسي والشيخ البهائي رحمهما الله, العجب مرض القلب: ........................142
كل ما لديه من الله ولكنه لا يعلم: ......................................................143
الذين يخافون من التزكية: .............................................................144
العجب ذنب قلبي وحرام شرعي, فلا تزكوا أنفسكم: ....................................145
بل الله يزكي من يشاء, تزكية الله بحسب الإستعداد: ....................................146
التزكية المطلوبة, الإعتماد على النفس شرك: ..........................................147
العجب كفر, مع هذه القصة: ...........................................................149
المعجب يظلم نفسه, يظن أنه خالد: ....................................................150
الكفر والحسرة, الذنب خير للمؤمن: ...................................................151
مثلي يسأل عن صلاته: ................................................................152
أنذر الصديقين, فأضربه بالنعاس: ......................................................153
العجب مهلك, بين عيسى عليه السلام ومعجب: ........................................154
سفعة من الشيطان: ....................................................................155
العجب حالة ثابتة: .....................................................................156
هل العجب غير اختياري, إزالة سبب العجب اختيارية: ................................157
العمل بالعلم, احترام العلماء: ..........................................................159
عجب أهل العبادة, لماذا رأى أنه مطيع: ...............................................160
هل العجب مبطل للعمل؟ ..............................................................161
1 - العجب بالعقائد الباطلة: ...........................................................161
2 - الإطاعة مع المن: ................................................................163
العجب ينافي قصد القربة, أين الإدلال من الحاجة: .....................................164
يمنون عليك أن أسلموا, لا تبطلوا أعمالكم: .............................................165
3 - العجب بكثرة العمل: .............................................................166
مصدر الذنوب: .......................................................................167
هل يفسد العمل, المعارون, روايات في العجب: ........................................168
خليل الرحمن حقاً, لا يقيم لنفسه وزناً: .................................................169
4 - استكثار العمل بالنسبة لآخر, يأمن مكر الله: ......................................170
حذيفة بن اليمان: ......................................................................171
هل يعجب النبي؟ ......................................................................172
5 - العجب في غير العبادات: ........................................................173
هذا الإهتمام القرآني, هل يستلزم ذلك العسر والحرج: ..................................174
الآيات والروايات أعم: ................................................................175
1 - العجب بالبدن: ...................................................................176
2 - العجب بالقوة: ....................................................................176
3 - العجب بالعقل: ...................................................................177
4 - العجب بالنسب الشريف: .........................................................177
الإحتمالات التي توجب الخوف: .......................................................178
5 - العجب بسائر الأنساب: ...........................................................179
6 - العجب بكثرة العدد: ..............................................................179
7 - العجب بالمال: ...................................................................180
8 - العجب بالرأي الباطل: ...........................................................180
السرور بالنعمة ليس عجباً: ............................................................181
لا تنسب الفعل إلى نفسك فقط, آفات العجب: ...........................................182
الحرمان من الحق: ....................................................................183
عدم الجد في اكتساب الحسنات: ........................................................184
المؤمن يتهم نفسه, علاج العجب, معرفة الله: ..........................................185
كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له: .................................................................186
معرفة النفس: .........................................................................187
وهل يبقى مجال للعجب؟, العجب بالأسباب الظاهرية: .................................188
قد لا تترتب الآثار على الأسباب: ......................................................189
العجب في الأفعال الإختيارية, الأفعال الإختيارية أيضاً من الله: ........................191
وقفة مع العظماء: .....................................................................192
بين الإمام السجاد عليه السلام وجابر: ..................................................193
من يقوى على عبادة علي, لاحظ قيمة العمل: ..........................................194
وما أنا وما عملي: .....................................................................195
قيمة المُلك: ............................................................................196
5 و 6 الكبر والتواضع................................................................197
معنى الكبر: ...........................................................................199
التكبر استعمال الكبر: .................................................................200
الكبر في الأفعال: .....................................................................201
نموذج لتكبر الغني, حرمة الكبر: ......................................................203
آيات الكبر: ...........................................................................205
العزيز والكبير المطلق, الكبر منشأ الصفات السيئة: ....................................206
لا يريدون علواً في الأرض: ...........................................................206
علي عليه السلام في سوق الكوفة: .....................................................208
ذهبت الأماني: ........................................................................209
كيف يمنع الكبر من دخول الجنة: ......................................................210
الدين لا يمنع التقدم المادي: ............................................................211
أدنى درجات الإلحاد: ..................................................................212
المتكبر لا يدخل الجنة: ................................................................213
التوبة قبل الموت: .....................................................................215
الكبر المساوي لإنكار الحق: ...........................................................216
التكبر من ذلة النفس: ..................................................................217
الكبر ونقص العقل, الجنون الحقيقي: ...................................................218
مراتب الكبر: .........................................................................209
فرق بين القاصر والمعاند: .............................................................220
تحقير الخلق: ..........................................................................221
إحذر هذا الخطأ, درس من النبي موسى عليه السلام: ..................................222
عطاء الله ليس سبباً للكبر: .............................................................223
حرمة تحقير الناس: ...................................................................224
صاعقة تقتل من حقر مؤمناً: ..........................................................226
العلم والقدرة, والكبر, العلم كالطعام: ...................................................227
إعرف نفسك أولاً, فائدة العلم المادي المؤقتة: ..........................................228
هذه الحياة لا قيمة لها: .................................................................229
ويل للعالم غير العاقل, هذه العلوم مدعاة للفرح: .......................................230
الكبر بالقدرة: .........................................................................232
1 - الكبر بالعبادة: ....................................................................232
2 - الكبر بالنسب: ....................................................................233
زيد النار: .............................................................................234
النسب الشريف ظاهراً: ................................................................235
3 - الكبر بالجمال الصوري: .........................................................235
4 - الكبر بالقوة والشجاعة: ...........................................................236
5 - الكبر بالأتباع: ...................................................................236
6 - الكبر بالثروة: ....................................................................237
الكبر بغير ما تقدم: ....................................................................237
يجب استئصال الكبر: .................................................................238
يجب أن يصبح التواضع ملكة: ........................................................238
التواضع مع الله: ......................................................................239
نماذج من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله: ........................................240
لماذا لم يشرب صلى الله عليه وآله المخيض بعسل, إحذر استماع التملق: ...............242
أحثوا في وجه المداحين التراب: .......................................................243
بين الشكر والتملق: ....................................................................244
7 - شكر النعمة وقصة النجاشي: .....................................................245
السجود عند النعمة المحدثة: ...........................................................264
8 - كثرة الدعاء: .....................................................................247
9 - التواضع لدين الله: ................................................................248
الإعتراض ينافي العبودية, عبادة الله, لله فقط, التواضع للنبي والإمام: ..................250
نموذج من تواضع الشيعة: .............................................................251
العشار يتشيّع: .........................................................................252
10 - التواضع للخلق: ................................................................254
لا ينبغي التواضع للمتكبر: .............................................................255
إذا لم يترتب ضرر, ما ينبغي مراعاته: ................................................256
1 - الإبتداء بالسلام: .................................................................257
2 - أن يكون خادماً لا مخدوماً: .......................................................257
المصطفى مع خادمه: .................................................................258
يكره الإمتياز, مع الأطفال .............................................................259
تواضع أمير المؤمنين عليه السلام: ....................................................260
التواضع للأيتام والأرامل: .............................................................261
الإمام السجاد يخدم المسافرين معه: ....................................................262
3 - اجتناب صدر المجلس: ...........................................................262
حسن المعاشرة: .......................................................................263
إدفع بالتي هي أحسن: .................................................................264
أربعة من التواضع, المراء, النقاش والجدل: ...........................................265
لا شك في حرمة المراء, المراء يمرض القلب: ........................................266
الجدال لا عن تظاهر, الجدال في طلب الحق: ..........................................267
التواضع للمنبوذين: ....................................................................268
حيث كان علي يتواضع, من آثار التواضع, التواضع للذمي: ...........................269
التواضع في خدمة العائلة, التواضع في نوعية اللباس: .................................271
تواضع عيسى عليه السلام للحواريين, العلماء أحق بالتواضع: ..........................272
التلميذ يجب أن يكون متواضعاً: .......................................................273
الحسنان يعلمان شيخاً الوضوء, من نال منه رفعة لا يتضع, أدب الحر مع الإمام الحسين عليه السلام: ................................................................................274
العبد الأسود الوفي: ....................................................................276
7 - سوء الظن .......................................................................279
معنى سوء الظن: ......................................................................281
الحمل على الفساد في الأمور العادية: ..................................................283
ما يخالف التوقع ليس سبباً لسوء الظن, ومنهم من يلمزك في الصدقات: ................284
نحن أيضاً أهل هذه الآية: ..............................................................285
سوء الظن بصفات الله وأفعاله: ........................................................286
الإعتقاد بأن عالم الوجود عبث: ........................................................287
منكرو النبوة والمعترضون على القضاء, يتوقع الرفاهية لأنه أسلم: .....................288
توقع استجابة الدعاء فوراً, الظنون الخاطئة سوء ظن بالله: .............................290
سوء الظن بالله من الكبائر: ............................................................291
علاج سوء الظن بالله: .................................................................292
الدنيا مزرعة والله صادق الوعد: ......................................................293
الإمام الصادق والتاجر المفلس, حسن الظن بالله: .......................................294
حسن الظن بالله حين الموت: ..........................................................296
الخاطرة ليست سوء ظن: ..............................................................297
سوء الظن بالمسلم حرام: ..............................................................298
لماذا لم تحسنوا الظن بالمؤمنين, إن بعض الظن إثم: ...................................299
ضع أمر أخيك على أحسنه: ...........................................................300
أمثلة على ذلك: .......................................................................301
توبة ماعز بن مالك, سوء الظن أصل كل فساد: ........................................302
لا تسمعنّ في أخيك أقاويل الناس: ......................................................303
كذب سمعك وبصرك, الجمع بين الروايتين: ...........................................304
هل ينسجم حسن الظن مع تكذيب الآخرين: ............................................305
التهمة تزيل الإيمان, درس الإمام الكاظم عليه السلام: ..................................306
سوء الظن عدم إنصاف: ...............................................................307
مع الشهيد الثاني رحمه الله: ...........................................................309
سوء الظن خاطرة ثابتة: ...............................................................311
1 - انعدام الأمن: .....................................................................311
2 - تتبع عثرات الآخرين الباطنية: ....................................................312
3 - الغيبة والفضيحة نتيجتان: ........................................................314
4 - سوء الظن يفسد العبادة: ..........................................................314
5 - سوء ظن الإنسان ينسيه عيبه: ....................................................315
6 - المؤمن سيء الظن بنفسه: ........................................................316
7 - غربة سيء الظن: ................................................................317
8 - سوء الظن مرض مسر: ..........................................................317
سوء الظن سبب للخيانة, علاج سوء الظن: ............................................318
لا تحدثنّ نفسك أنك فوق أحد من الناس: ...............................................319
الحمل على الصحة ما أمكن: ..........................................................320
الإمام الكاظم وشقيق البلخي: ...........................................................321
تدريجياً, يصبح حسن الظن عادة: ......................................................322
لا تساعد الآخرين في سوء الظن: .....................................................323
مثال من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم, لا استثناء في حرمة سوء الظن: ...324
صدق المؤمنين, إسماعيل وشارب الخمر القرشي: .....................................326
8 - الحقد ............................................................................329
البغض الحرام: ........................................................................331
1 - بغض الله: .......................................................................331
2 - بغض القضاء الإلهي: ............................................................332
لا يؤمنون حتى يحكموك: .............................................................333
العلاج, حسن الظن بالله: ..............................................................334
3 - بغض النبي والإمام والملائكة: ....................................................336
4 - بغض المؤمن لإيمانه: ............................................................337
5 - بغض المؤمن لمعصيته: ..........................................................338
عمله قبيح وذاته جميلة, ما تقدم لا ينافي النهي عن المنكر: .............................339
مداراة المخالفين: ......................................................................340
6 - بغض المؤمن لظلمه: .............................................................341
المعاملة بالمثل جائزة, الكل في هذه الأحكام سواء: .....................................343
العفو أفضل: ..........................................................................344
والكاظمين الغيظ: .....................................................................345
هل بغض الظالم غير اختياري, هل يدخل الحاقد الجنة: ................................346
هل العفو استسلام للظالم: ..............................................................347
الدفاع واجب: .........................................................................348
عدم الثأر ليس استسلاماً للظلم, العفو واختلال النظام: ..................................349
العفو يمنع الظلم غالباً, النبي يعفو عن قاتل عمه: ......................................350
عند الإعتذار يصبح العفو لازماً: ......................................................351
7 - بغض المؤمن لعدم مراعاته الآداب, في سخط الله, ولا يقبل عمله: ................352
السابق إلى الجنة: .....................................................................353
وربما استحقا اللعنة: ...................................................................354
من أدب طلب الحوائج: ................................................................355
يجب استصغار الدنيا وإكبار الآخرة: ..................................................357
1 و 2 - الحسد والهجران: ...........................................................358
3 - الشماتة والتأنيب: .................................................................358
4 - الغيبة والتهمة: ...................................................................358
5 و 6 - الخيانة والتحقير: ............................................................359
7 و 8 - منع الحقوق الواجبة والإيذاء: ................................................359
9 - الأضرار الدنيوية: ...............................................................359
10 - الأضرار الأخروية: ............................................................360
صلاة الجماعة تغيظ الشيطان: .........................................................361
خير المؤمنين.. الأليف, علاج البغض الحرام: .........................................362
1 - بغض الله: .......................................................................363
حب المنعم فطري: ....................................................................364
الإيمان اتصال قلبي والكفر انفصال: ...................................................365
2 - علاج بغض القضاء والقدر: ......................................................365
ليس في العالم سيء مطلق, ليتذكر النعم الأخرى: ......................................366
النبي يوسف, مع أبيه وإخوته, الدنيا المتقلبة, بلاء دائم: ................................367
يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب: ..................................................368
3 - علاج بغض النبي والإمام والملائكة: .............................................369
عزرائيل واسطة وصال لا فراق: ......................................................370
4 - بغض المؤمن: ...................................................................370
بغض المؤمن الفاسق: .................................................................371
5 - بغض الجاهل القاصر: ...........................................................372
التكفير والتفسيق الرائجان: ............................................................372
بغض الفاسق في الواجبات والمحرمات العملية, بين الغضب الرحماني والنفساني: ......374
6 - بغض الظالم: ....................................................................375
من يَظلم يُظلم: ........................................................................375
درس من مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه: ........................................376
كظم الغيظ: ...........................................................................377
مس الرحم يسكن الغضب, لم يغضب وحقن الدماء: ....................................378
عندما تضطرم نار الغضب: ...........................................................379
7 - الوقاية من الغضب: ..............................................................380
إذا أكبر الإنسان الآخرة: ...............................................................381
نصيحة ضرورية: .....................................................................382
1 - المراء والجدال يورثان الحقد: ....................................................382
2 و 3 - النميمة وكثرة المزاح: .......................................................382
4 و 5 و 6 - العبوس والسب وحبس الحقوق: ........................................383
7 - الطمع يسبب العداء: ..............................................................384
البغض الواجب: التبري, يجب أن يكون الحب والبغض في الله: ........................385
إستغاثة.. من تفرق المسلمين: .........................................................386
الحياة الإجتماعية للمسلمين, مأساوية: ..................................................388
صلاح المجتمع من صلاح الفرد, نفسك.. فعائلتك.. فالآخرين: .........................389
التأكيد على الإصلاح بين المسلمين, صدقة يحبها الله: ..................................390
إذا دعيت إلى الإصلاح: ...............................................................391
9 - الحسد ...........................................................................393
بين الحسد والغبطة: ...................................................................395
الحسد في القرآن: .....................................................................396
إنكار حق أهل البيت حسداً: ............................................................397
لا تتمن نعم الآخرين: ..................................................................398
لو أننا نعمل بهذه الآية: ................................................................399
أعوذ بالله من الحاسد, الحسد في الروايات: ............................................400
آفة الدين, وعلامة النفاق, داء الأمم من قبلكم: .........................................401
يخرج من الجنة ويذهب الإيمان, الحسد أهلك قابيل: ....................................402
فتاوى فقهاء الإسلام: ..................................................................403
الحسد حرام أم إظهاره, دليل حرمة الحسد: ............................................407
الحسد ليس خلقاً طبيعياً: ...............................................................408
التنافس غير الحسد, الإحساس بالحاجة في الطفل, مع المحدث الفيض والفاضل النراقي: 409
وقفة مع حديث الرفع: .................................................................410
ثلاثة لا يسلم منها أحد: ................................................................413
الحسد ينافي عصمة الأنبياء: ...........................................................414
الحسد بمعنى المحسود, جذور الحسد: ..................................................415
1 - العداوة ..........................................................................415
حسد العداوة من صفات الكفار: ........................................................416
2 - الإشتراك في أمر معنوي: ........................................................418
العلماء والوعاظ في معرض الحسد أكثر: ..............................................419
الزمالة والحسد: ......................................................................420
3 - التكبر وحب التفرد: ..............................................................421
حسد النساء وغِيَرهِن: .................................................................422
العلاج في الخروج من الجهل المركب: ................................................423
4 - الحرص والطمع: ................................................................423
5 - البخل الشديد, لا يجتمع الإيمان والبخل: ..........................................424
علاج الحسد بشكل عام: ...............................................................425
لا يرى عيبه الخفي, العجب يحجب رؤية العيب: .......................................426
العلاج العلمي للحسد: ..................................................................427
معرفة الدنيا والآخرة, هل تستحق هذه الدنيا الحسد: ....................................428
أ - الأضرار الدنيوية - العذاب الدائم, الحسد سجن الروح: ............................430
ب - الخيبة الدائمة: ...................................................................431
الحاسد يفرح المحسود! ................................................................432
ج - المرض: .........................................................................432
د - قصر العمر: ......................................................................433
ﮪ - الحسود وحيد دائماً: ..............................................................434
و - الحسود لا يسود: .................................................................434
ز - زوال الإيمان: ....................................................................435
ح - زوال الحسنات القلبية والبدنية: ...................................................435
العبادة الميتة, حسد إبليس وبني أمية: ..................................................435
لماذا يحسُد العلماء: ....................................................................436
تفكير ساعة: ..........................................................................437
1 - سوء الظن وحسن الظن: .........................................................438
2 - القدح والمدح: ....................................................................438
3 - الكبر والتواضع: .................................................................439
4 - الشماتة والمواساة: ...............................................................439
5 - العداوة والصداقة: ................................................................439
يرى نعمة المحبوب نعمته: ............................................................440
6 - ترك صحبة الحسود: .............................................................441
7 - تذكر الله والآخرة يصرف عن الحسد, نصيحة لا بد منها: .........................441
التأمل في فضائل أصحاب الكمال: .....................................................443
صعب ولكنه لذيذ: .....................................................................444
مقارنة بين سلوكين: ...................................................................445
فكان العفو منا سجية: ..................................................................447
10 - حب الدنيا .....................................................................449
معنى الدنيا: ...........................................................................451
العمل الصالح باق, العبادة خارجة من موضوع حب الدنيا: .............................452
خلقتم للبقاء, فالآخرة إذن تُحب: .......................................................453
حب الدنيا للآخرة: .....................................................................454
النعم الدنيوية بأهداف إلهية, ... وبهدف السعادة في الآخرة: ............................455
الحب الإستقلالي للدنيا مرفوض: ......................................................456
علامة حب الدنيا للآخرة, ما هو الحب الإستقلالي: .....................................457
مراتب حب الدنيا: .....................................................................458
يحب الدنيا أكثر: ......................................................................459
حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان في قلب: ..............................................460
لا ينسجم مع ادعاء الإيمان: ...........................................................461
هل حب الدنيا فطري؟ إخراج حب الدنيا من القلب, لأنه عسر وحرج فليس واجباً: .....462
حب الآخرة أكثر, اختياري: ...........................................................463
هل يختل الوجود بدون حب الدنيا؟, ليس كل حب للدنيا حراماً: .........................464
لتفرغ قلوبهم للآخرة, ما كان لله ينمو: .................................................456
رأس كل خطيئة: ......................................................................467
حب الدنيا سبب اختلال النظام, تلخيص ما تقدم: .......................................468
أولئك مأواهم النار, وقفة مع هذه الآية: ................................................469
المسافر وحب الوطن: .................................................................470
اطمئنان أهل حب الدنيا, الغفلة عن آيات الله: ..........................................471
الإعراض عن ذكر الله: ...............................................................472
القلوب المطبوعة بسبب حب الدنيا, في ضلال بعيد " عن الحقيقة ", ويذرون ( ... ) يوماً ثقيلاً: .................................................................................473
بين طريقين, الناس على ثلاث: ........................................................474
رأس كل خطيئة: ......................................................................475
الشقاء عند الموت, قصة قرية مات أهلها: .............................................476
يفسد العقل, عدوان لدودان: ............................................................479
إن كنتم تحبون الدنيا أكثر: .............................................................482
حب الله يستلزم حب أوليائه: ...........................................................483
حب الدين من حب الله: ................................................................484
فللنظر في أنفسنا: .....................................................................485
هل نريد رضا أهل البيت؟ .............................................................486
أهل البيت يعتبرونه عدواً, حب أهل البيت, طاعة الله, حب الله منشأ كل خير: ..........487
عشرون خصلة في حب أهل البيت: ...................................................488
وهل الحب اختياري, ليدرك أحدنا خطأه: ..............................................489
المعرفة هي الميزان, لا الرؤية, لماذا لا يحبون الله؟ ...................................490
معرفة الآخرة وحبها: .................................................................491
علي ( عليه السلام ) يصف الجنة والناس, آيات أخرى في حرمة حب الدنيا: ...........492
أرضيتم بالحياة الدنيا, تأمل في هذه الآيات: ............................................493
والله لا يحب كل مختال فخور: ........................................................495
ما هو الفرح الحرام: ..................................................................496
يقترن بالأمن واليأس: .................................................................497
علامة الشاكر والكافر: ................................................................499
شكر النعمة أسمى من النعمة, الفرح بالنفس, إنقطاع عن الله: ..........................500
الحزن الحرام, على الدنيا: .............................................................501
لا تمدن عينيك, طراوة البرعم قصيرة الأمد: ...........................................502
مع المحقق الأردبيلي عليه الرحمة: ....................................................503
خلاصة معنى الآيات المتقدمة, الإضطراب, نتيجة حب الدنيا: ..........................504
الإضطراب في الدنيا والآخرة: ........................................................505
أعمال جميلة ولكنها بلا فائدة, كانوا يجعلون الآخرة فداءاً للدنيا: ........................506
لا نصيب له من الإخلاص, لا يغفر له وهو يحب الدنيا: ...............................507
الذين يعادون الله: ......................................................................508
بغض الدنيا أفضل الأعمال, أقسام الأعمال: ............................................509
أضر من ذئبين جائعين, قطاع طريق الله, العلماء الدنيويون: ...........................510
المتبع لعابد الدنيا يصبح مثله: ..........................................................511
طلب الرئاسة ملعون: ..................................................................512
حيوانات في صورة إنسان: ............................................................514
علي يعرف هذه الحيوانات المفترسة: ..................................................515
حكم المرتبة الثالثة الكراهة, يمنع كمال الإيمان والتقدم: ................................516
حب غير الله بعد عن الله: .............................................................517
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم: ..........................................................518
رجال لا تلهيهم تجارة, لنبلوهم أيهم أحسن عملاً: ......................................519
الهدف الأصلي والتبعي من الخلق: .....................................................520
كيف يبلونا بزينة الدنيا: ................................................................522
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم: .............................................................524
رواية عجيبة في حب الدنيا: ...........................................................525
ولكم في رسول الله أسوة: .............................................................526
شمول حب الدنيا, الملِّيون على ثلاث فرق: ............................................527
المصلون المتساهلون: .................................................................528
كلهم في هذا سواء: ....................................................................529
اليهود والنصارى والإدعاء الباطل: ....................................................533
فتمنوا الموت: .........................................................................534
الآثار السيئة للفرار من العلماء: .......................................................535
يا صاحب الزمان, عجل ظهورك, كوخ الأحزان يصبح يوماً روضة غناء: .............536
تكمل العقول, واجبنا اليوم: ............................................................537
مغالطة الحمقى وجوابها: ..............................................................538
نصيحة إلى جميع المتدينين: ...........................................................539
الأنبياء أحق أن يتبعوا: ................................................................541
لاحظ هذا المثال بدقة, الدنيا تعرض نفسها على علي عليه السلام: ......................542
كيف يستأصل حب الدنيا: ...............................................................54
هل نزل القرآن للتبرك: ................................................................546
حب الآخرة لا ينسجم مع الغفلة عنها: ..................................................550
إضعاف حب الدنيا: ...................................................................551
يمنع من التزود للآخرة, لا بد من معالجة الألم: ........................................552
الخطر إلى حافة القبر, الحرص الشديد والحزن المفرط: ...............................553
الحسد, الغضب, عدم الورع: ..........................................................554
سوء العاقبة, أبو زكريا في سكرات الموت: ............................................556
الليرات الذهبية, ووثيقة الدَّين عند الموت, الفرار من النصيحة: ........................557
يجب التدبر في القرآن, الدنيا لعبة, ولهو ولغو: .......................................560
اللعب: ................................................................................561
اللهو, الزينة: ..........................................................................563
التفاخر: ...............................................................................565
التكاثر في الأموال والأولاد: ...........................................................566
يجب أن تعلم, لا أن تقرأ: .............................................................567
الشباب ربيع كان وانقضى: ............................................................568
الدنيا دار عبرة: .......................................................................570
حديث علي عليه السلام عن زوال الدنيا: ...............................................571
العمي عن الآخرة, يطلبون الدنيا, فمتى.. تفكرون في المعاد: ..........................572
علي عليه السلام ينهى عن الإفراط والتفريط, التنعم بالدنيا حرمان في الآخرة: .........573
نور الحكمة للزاهد في الدنيا, ما هو الزهد ومن هو الزاهد: ............................574
الدنيا في أمثلة: ........................................................................575
وفي جوفها السم الناقع, قصة عجيبة عن الحية: ........................................576
ونحبها, رغم المساويء, موعظة لقمان لابنه: ..........................................577
11 - العزم على الذنب والرضا به ...................................................585
موارد التجري, الآيات والروايات: .....................................................588
يسأل عن السر والعلن, ويجازى أيضاً على العزم: .....................................589
الوعيد على إشاعة الفحشاء, الجنة لمن, لماذا قتلوا الأنبياء: ............................590
يسأل الله على النية, النية إما أحسن من العمل أو أسوأ: ................................591
القاتل والمقتول في النار, الملعونون, من أخاف مؤمناً فهو في النار: ...................592
الراضي بعملٍ, شريك فيه, الإمام المنتظر يثأر: ........................................593
عقر الناقة واحد, فعمهم بالعذاب, الروايات تؤيد حكم العقل: ............................594
رأي الشيخ البهائي عليه الرحمة, غير اختياري, ومعفو عنه: ...........................595
المقدمات غير اختيارية لا نفس العزم, توضيح ذلك: ...................................596
معصية معفو عنها: ....................................................................597
العفو عن الخاطرة والميل والإعتقاد: ...................................................598
اكتبوها له حسنة: ......................................................................599
لا يكتب له الذنب الذي لم يرتكبه, فسخ العزيمة كفارة قصد الذنب, مجرد العزم بدون مقدمات الفعل: .................................................................................600
على الأقل, لا يترك الإحتياط, العزم على الطاعة: .....................................601
نية الإنفاق من الفقير إنفاق, تكتب له صلاة الليل, المؤمن والحسنات التي لم يعملها: ....602
هو معنا, لأن هواه معنا, شركاء شهداء كربلاء: .......................................603
جرح صفين بعد سنوات طوال: ........................................................604
ختام الكتاب باسم المهدي عليه السلام: .................................................605
الفهرس ..............................................................................607
[1] - " في مقعد صدق عند مليك مقتدر ". القمر 55.
[2] - " من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ". فاطر 10
[3] - " أن القوة لله جميعاً ". البقرة 165.
[4] - بحار الأنوار ج 15 ط. قديمة. وميزان الحكمة 2 / 336.
[5] - النص هنا مترجم عن الفارسية
[6] - مضامين أبيات من الشعر الفارسي.
[7] - الآيتان التاليتان هما قوله تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون* فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ". الأنعام 44 - 45.
[8] - وسائل الشيعة - الجهاد باب 75 تحريم قسوة القلب. واللمة: الرفقة والصحبة ولعل المراد أن من ارتضى رفقة الشيطان حصل على السهو والقسوة ومن اختار رفقة الملك حصل على الرقة والفهم وقد فسرت اللمة بالمسة. الكافي ج 2 باب القسوة.
[9] - المصدر السابق.
[10] - المصدر السابق.
[11] - الكافي - كتاب الدعاء.
[12] - مستدرك الوسائل - الجهاد - باب 73 تحريم قسوة القلب.
[13] - نفس المصدر السابق.
[14] - المصدر السابق باب 76.
[15] - الكافي كتاب الإيمان والكفر - باب في ظلمة قلب المنافق.
[16] - نقلاً عن خزينة الجواهر للنهاوندي.
[17] - مضامين أبيات.
[18] - روضة الكافي حديث 188.
[19] - أصول الكافي - ج 2 -.
[20] - كلام المجلسي والفيض هنا مترجم عن الفارسية.
[21] - أصول الكافي ج 2 باب المعارين.
[22] - مرآة العقول / 11 / 248 ( بتصرف يسير ).
[23] - أصول الكافي - ج 2 / باب في تنقل أحوال القلب.
[24] - مرآة العقول 11 / 264.
[25] - علل الشرائع.
[26] - أصول الكافي ج 2 / باب الذنوب حديث 20.
[27] - وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الآمال دونك. دعاء أبي حمزة الثمالي.
[28] - نهج البلاغة, والكافي ج 2 باب اتباع الهوى.
[29] - الوسائل الحج باب 12 وأصول الكافي ج 1 - باب الصمت وحفظ اللسان.
[30] - مصباح الشريعة.
[31] - الكافي.
[32] - الكافي.
[33] - الكافي.
[34] - الغرر للآمدي.
[35] - ص 89 ط الدار الإسلامية.
[36] - مضمون بيت شعر فارسي.
[37] - دار السلام للنوري.
[38] - سفينة البحار ج 1 / 674.
[39] - دار السلام للنوري / 63.
[40] - مضامين أبيات من الشعر الفارسي.
[41] - مضمون بيتين.
[42] - " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ". المجادلة 7.
[43] - عن أبي هاشم الجعفري قال : أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد عليه السلام فأذن لي فلما جلست قال: يا أبا هاشم أي نعم الله عز وجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟ قال أبو هاشم فوجمت فلم أدرِ ما أقول فابتدأ عليه السلام... فقال: رزقَك الإيمان فحرم بدنك على النار ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة ورزقك القنوع فصانك عن التبذل يا أبا هاشم إنما ابتدأتك بذلك لأني ظننت أنك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا وأمرت لك بمائة دينار فخذها. بحار ج - 50 / 129.
[44] - عن معاوية بن وهب قال: كنت مع أبي عبد الله عليه السلام بالمدينة وهو راكب حماره، فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق أو قريباً من السوق قال: فنزل وسجد وأطال السجود وأنا أنتظره ثم رفع رأسه قال: فقلت: جعلت فداك رأيتك نزلت فسجدت قال: إني ذكرت نعمة الله علي قال: قلت: قرب السوق والناس يجيئون ويذهبون قال: إنه لم يرني أحد. بحار / 47 / 21.
[45] - الصحيفة السجادية.
[46] - دار السلام للنوري / 63.
[47] - مضمون بيت شعر فارسي.
[48] - من لا يحضره الفقيه.
[49] - دار السلام للمحدث النوري.
[50] - الخصال للصدوق.
[51] - سفينة البحار ج 1 / 504.
عندما يتخطى عمرك الأربعين فلا تحاول السباحة فإن الماء قد غمر رأسك وعندما يغطي شيبك الشباب فقد أصبح ليلك نهاراً فاستيقظ من النوم.
أسفاً أن فصل الشباب مضى وتصرمت الحياة باللهو واللعب.
أسفاً أننا شغلنا بالباطل فبقينا بعيدين عن الحق عاطلين.
ما أجمل ما قاله للطفل المعلم لم تفعل شيئاً وجاء أوان الإستراحة. ( مضامين أبيات لسعدي ).
[52] - الخصال / 253.
[53] - " انظر كل صوب تَرَ وجه الله وسبب عدم رؤية وجهه عمى العين ".
" ضربنا - عُمْراً - مثل الستار على عين رؤية الله فينبغي أن نصرف عمراً آخر على تمزيق ذلك الستار ".
" حصّل المعرفة لتفهم العبودية فهذا هدف الخالق من خلق العبد ". ( مضامين أبيات ).
[54] - بحار الأنوار 73 / 166 وميزان الحكمة - الأمل ( مختصراً ).
[55] - الوافي نقلاً عن الكافي باب 31 ذكر الموت.
[56] - بحار الأنوار 77 / 385 - 391.
[57] - البحار 6 / 133.
[58] - حامتنا: القرابة الحميمة.
[59] - " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ".
[60] - البهر بالضم انقطاع النفس من الإعياء.
[61] - البحار 46 / 287.
[62] - سفينة البحار ج 1 / 30 والبحار 73 / 166.
[63] - لم أجد هذا النص وهو هنا بالمضمون.
[64] - عين الحياة للمجلسي ( فارسي ) / 295.
[65] - المصدر السابق.
[66] - حيث أن الأنبياء عليهم السلام معصومون فما ينسب إليهم من ذنوب هو ترك الأولى بمعنى أنهم تركوا ما كان الإتيان به أولى إلا أنه ليس واجباً ولذا فتركه ليس حراماً.
[67] - الشعب ( بالكسر ) انفراج بين جبلين.
[68] - بحار الأنوار ج 14 / 21 - 22 ( بتصرف ).
[69] - للمحدث الجليل الشيخ عباس القمي - فارسي.
[70] - بحار الأنوار 8 / 280, ومنازل الآخرة / 110 والأربعون حديثاً للإمام القائد رضوان الله عليه 146 وليلاحظ أن الحديث الوارد هنا بلفظ تفسير القمي.
[71] - من لا يحضره الفقيه.
[72] - دار السلام للنوري 2 / 149.
[73] - نفس المصدر وفي هامشه أن تفسير العدس بالحمص سببه ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام عن العدس " هو الذي تسمونه عندكم الحمص ونحن نسميه العدس ". المحاسن ط طهران ج 8 / باب 85 / 505.
[74] - سفينة البحار ج 2 / 442.
[75] - نفس المصدر / 142 وقد تقدم شرح الحديث بتمامه في قسم العقائد ( القسم الأول ).
[76] - المصدر السابق / 442 ودفع القرض يعني أداء الدين.
[77] - شديد الشهوة, سكران.
[78] - يرى الطب القديم أن في البدن أربعة مواد ( أخلاط ) فإذا هاجت إحداها قتلت صاحبها وأمرضته.
[79] - بحار الأنوار 78 / 399 - 400.
[80] - بحار الأنوار 12 / 192 - 193 وكشف الأسرار فارسي - تفسير سورة الكهف والأنواء ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها ومنه قوله تعالى : " والقمر قدرناه منازل " يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق ( ..... ) وكانت العرب تزعم أنه مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها ينزل المطر وينسبونه إليها فيقولون مُطرنا بنوء كذا وإنما سمي نوءاً لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق أي نهض وطلع.... " نفس المصدر / 177.
[81] - هذا الشعر في الأصل ملمَّع أي بيت فارسي وبيت عربي ولذلك فهو هنا بيت مترجم نثراً وآخر كما هو.
[82] - جم مخفف جمشيد ملك إيراني وكأسه بحسب قصص الأدب الفارسي كانت ترى منه الدنيا, أو رسمت عليه خارطة العالم ويقال له بالفارسية ( ﭼام جم ) ( فرﻫﻨﮛ عميد ).
[83] - لآليء الأخبار.
[84] - سفينة البحار ج 1 / 519.
[85] - لآليء الأخبار.
[86] - أصول الكافي - باب حب الرئاسة.
[87] - وسائل الشيعة 5 / 479 والأحاديث المشار إليها هي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كثرة الضحك يقسي القلب, وقال صلى الله عليه وآله: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب, وقال الصادق عليه السلام: كثرة الضحك يمحو الإيمان. وسائل الشيعة كتاب الحج / باب 81.
[88] - التهذيب - كتاب الطهارة ( 78 ).
[89] - أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني - دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد عليه السلام.
[90] - لآليء الأخبار باب 1 / لؤلؤ 2.
[91] - إشارة إلى قوله تعالى: " كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ".
[92] - تجد نبذة من أحوال الربيع بن الخيثم في سفينة البحار ( ربع ) والنص هنا بالمضمون.
[93] - البحار 70 / 378.
[94] - سفينة البحار 1 / 697.
[95] - أصول الكافي - كتاب الإيمان والكفر - الرياء.
[96] - المصدر السابق.
[97] - المصدر السابق.
[98] - المصدر السابق.
[99] - المصدر السابق.
[100] - المصدر السابق.
[101] - المصدر السابق.
[102] - نفس المصدر السابق.
[103] - مرآة العقول - 10 / 113 والظاهر أن سبب استنتاجه ذلك رحمه الله أن من أدعية زمن الغيبة دعاء الغريق الذي تقدمت الإشارة إليه في الجزء الأول وقد رواه الشيخ الصدوق عليه الرحمة في كمال الدين / 349.
[104] - مضمون ثلاثة أبيات.
[105] - نور الثقلين 5 / 165.
[106] - البحار 78 / 10 وسفينة البحار / 500.
[107] - نور الثقلين 3 / 315.
[108] - ردّاه أي البسه وقد ورد في رواية أخرى إلا رداه الله رداءها إلخ أصول الكافي - الرياء.
[109] - المصدر السابق.
[110] - المصدر السابق.
[111] - المصدر السابق.
[112] - ترجمة مصباح الهدى ج 3 / 476 - 477 والظاهر أن معنى العبارة الأخيرة أنه قد لا تكون في عبارة " فتكتب رياءاً " أية دلالة على بطلان العمل بل هي دالة على زوال الثواب فقط.
[113] - المصدر السابق.
[114] - عدة الداعي / 203.
[115] - نور الثقلين 5 / 316.
[116] - عدة الداعي - 210 - 211 بتصرف.
[117] - تفسير الميزان 7 / 394.
[118] - سنوضح قريباً إن شاء الله أن قصد الثواب لا ينافي الإخلاص.
[119] - أصول الكافي - باب الإخلاص.
[120] - وهذا من باب تسمية المسبب باسم السبب وقد ثبت في علم المعقول أن حقيقة كل شيء هي علته ولأن الداعي والهدف سبب انبعاث النية وتحققها فذلك الهدف يمكن اعتباره حقيقة النية ويمكن إطلاق النية عليه ويراد بها الداعي والهدف كما نجد ذلك في الروايات.
[121] - راجع هذه الروايات في وسائل الشيعة كتاب الطهارة باب 5 و 6.
[122] - ذكر العلامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول عشرة أوجه في معنى هذا الحديث نقلاً عن العلماء.
[123] - إحياء علوم الدين للغزالي 4 / 377.
[124] - ويمكن القول إن هذه المسألة من باب الداعي على الداعي أي توجد في الإنسان إرادة الجنة أو الفرار من النار... ولأنه يرى ذلك في إطاعة أمر الله فتوجد فيه الإطاعة ويؤدي العبادة, والخلاصة: يكفي في صحة العبادة أن تؤدى بداعي أمر المولى, حتى إذا كان ذلك الداعي للإطاعة قد تحقق ووجد من الميل إلى الثواب أو الخوف من العقاب.
[125] - مضمون أبيات.
[126] - مضمون أبيات.
[127] - دعاء السحر.
[128] - أصول الكافي - باب العبادة.
[129] - دعاء أبي حمزة الثمالي.
[130] - دعاء عرفة, والتملق تصنُّع ولعل المراد أن العباد مهما بلغوا في عبادة الله تعالى فإنهم لا يعبدونه حق عبادته, ولذا تبقى عبادتهم بالتملق أشبه والله العالم ( المترجم ).
[131] - لوامع البينات. ولمعرفة عظمة مقام الحب وعلاماته يراجع كتاب " معراج السعادة " ( فارسي ).
[132] - أصول الكافي - العبادة.
[133] - نهج البلاغة - خطبة المتقين.
[134] - هذا المثال يوضح جيداً أن تفاوت لذة أهل الجنة إنما هو باعتبار مراتب محبتهم ومعرفتهم.
[135] - مضمون بيت.
[136] - أي من أمة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وطبيعي أن المعصومين الآخرين كذلك ولم يذكر المؤلف هذا لوضوحه. وإن كان التعبير لا يفي بالمقصود.
[137] - سفينة البحار 1 / 361.
[138] - مضمون بيتين.
[139] - مستدرك الوسائل 3 / 415 ( بتصرف ).
[140] - قصص العلماء للتنكابني - فارسي - 344.
[141] - هو الغزالي في إحياء علوم الدين ج 3 / 297 وقد دمج المؤلف بين كلامه ونص الغزالي ولعله لذلك لم يذكر اسمه.
[142] - مرآة العقول 10 / 218 - 219.
[143] - " سألني الصديق من هم أولئك القوم الذين أدركوا من بين كل الناس غور الحقيقة فقلت وكيف تسأل عن علامتهم وهم لم يظهروا أنفسهم لأنفسهم بدافع الإظهار " " مضمون بيتين ".
[144] - الفتيل: الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. البحار 5 / 4.
[145] - " قد أفلح من زكاها " الشمس 9.
[146] - أصول الكافي - كتاب الإيمان والكفر - باب العجب.
[147] - نفس المصدر.
[148] - نفس المصدر.
[149] - نفس المصدر.
[150] - نفس المصدر.
[151] - نفس المصدر السابق.
[152] - نفس المصدر السابق.
[153] - نفس المصدر السابق.
[154] - وسائل الشيعة - كتاب الطهارة - باب تحريم الإعجاب بالنفس والإدلال به.
[155] - الخصال / 84.
[156] - الصحيفة السجادية, الدعاء الثامن.
[157] - المصدر السابق الدعاء العشرون.
[158] - مرآة العقول 10 / 165.
[159] - المحجة البيضاء 6 / 240.
[160] - مكارم الأخلاق 462.
[161] - مضمون بيت.
[162] - ميزان الحكمة 5 / 340 نقلاً عن فروع الكافي 4 / 22.
[163] - بحار الأنوار 73 / 301 نقلاً عن أمالي الصدوق, وميزان الحكمة 2 / 101 والقتات هو النمام.
[164] - الخصال 184.
[165] - مضمون بيتين.
[166] - أصول الكافي باب الإعتراف بالتقصير.
[167] - نفس المصدر.
[168] - نفس المصدر السابق.
[169] - نفس المصدر.
[170] - وسائل الشيعة.
[171] - وسائل الشيعة.
[172] - الصحيفة / الدعاء الثامن.
[173] - الصحيفة / الدعاء العشرون.
[174] - سفينة البحار 1 / 74 والبحار 12 / 13.
[175] - جامع السعادات 1 / 332.
[176] - الدرة النجفية / 41.
[177] - سفينة البحار 1 / 160.
[178] - مضمون بيت.
[179] - هامش.
[180] - توحيد الصدوق / 14.
[181] - نهج البلاغة - خ - 211.
[182] - " لله ما في السموات والأرض - الله خالق كل شيء ".
[183] - " وهو القاهر فوق عباده ". الأنعام 61.
[184] - يا من توحد بالعز والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء - دعاء الصباح.
[185] - مضمون بيتين والمقصود أن الشيء قد ينتج نتيجة مغايرة لما يتوقع منه والأمثلة المذكورة من الطب القديم.
[186] - مضامين خمسة أبيات.
[187] - " ويرزقه من حيث لا يحتسب ". الطلاق 3.
[188] - " إنما يخشى الله من عباده العلماء ". فاطر 28.
[189] - بحار الأنوار 46 / 78 - 79.
[190] - المصدر السابق / 75.
[191] - عدة الداعي / 204.
[192] - أصول الكافي - باب الفخر والكبر.
[193] - المصدر السابق ولاحظ كلام العلامة المجلسي في مرآة العقول 10 / 290.
[194] - مضمون بيت شعر.
[195] - قواعد الشهيد.
[196] - النص هنا بالمضمون.
[197] - سفينة البحار 2 / 541.
[198] - نفس المصدر / 459.
[199] - أصول الكافي, فضل فقراء المؤمنين.
[200] - أصول الكافي - باب الكبر.
[201] - أصول الكافي - باب الكبر
[202] - نور الثقلين 4 / 144.
[203] - تفسير القمي 2 / 146.
[204] - تفسير كشف الأسرار وعدة الأبرار ( فارسي ) ج 7 / 359.
[205] - اللفظ مأخوذ من الرواية " نازع الله رداءه ".
[206] - أصول الكافي - الكبر.
[207] - أصول الكافي - الكبر.
[208] - مرآة العقول 10 / 184.
[209] - نفس المصدر / 185..
[210] - أصول الكافي - باب الكبر.
[211] - أصول الكافي - باب الكبر.
[212] - أصول الكافي - باب الكبر.
[213] - أصول الكافي - باب الكبر
[214] - مرآة العقول ج 10 / 217 - 218.
[215] - سفينة البحار - ج 2 / 46.
[216] - معاني الأخبار / 237 وبحار الأنوار 73 / 234.
[217] - أصول الكافي / باب الإنصاف والعدل وفيه تسعة عشر حديثاً.
[218] - من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي, وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي - البحار 75 / 158.
[219] - عدة الداعي / 226 والأنوار النعمانية 3 / 30 ط. الأعلمي.
[220] - المراد أن ما جعله الله تعالى سبباً للإستحقاق يعود الفضل فيه إليه سبحانه ولذا يصح القول إن العطاء الإلهي يكون بدون استحقاق, أي بدون استحقاق ذاتي, لا بدون استحقاق على الإطلاق حتى لا ينافي العدل. ( المترجم ).
[221] - أصول الكافي - باب من آذى المسلمين واحتقرهم, بحار الأنوار 75 / 158.
[222] - معاني الأخبار / 112.
[223] - الكافي - من آذى المسلمين.
[224] - أصول الكافي - باب من آذى المسلمين واحتقرهم.
[225] - أصول الكافي - من حجب أخاه المؤمن.
[226] - عيون أخبار الرضا - باب 58, وفي البحار 43 / 230 " يا زيد أغرك قول بقالي الكوفة... ".
[227] - من النساء المؤمنات من يدركن أن جمال الظاهر لا يصلح أن يكون سبباً يعتمد عليه ويركن إليه فسرعان ما يزول, وفي هامش الكتاب ( الأصل ) وردت هنا قصة أعرابية في البادية رواها الأصمعي وهذه خلاصتها:
بينا أنا أسير في البادية رأيت خيمة فخرجت منها امرأة كالشمس الطالعة أو القمر المطل من خلف السحاب...
ثم جاء أعرابي أسود اللون قبيح المنظر, فهبّت المرأة لاستقباله ومسحت العرق عن جبهته وقامت بخدمته كما تخدم الجارية مولاها.
وعندما سألتها عن سر تعلقها بزوجها مع جمالها وقبحه قالت:
سمعت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
الإيمان نصفان نصفه الصبر ونصفه الشكر. إلخ.
ولا يخفى أن فضول الأصمعي غير مبرر على الإطلاق.
[228] - سفينة البحار 2 / 557.
[229] - سفينة البحار 1 / 417 وفي مناقب آل أبي طالب ما يشبه كونه خلاصة للنص الثاني وفيه أنها كانت متبرزة وفيها وقاحة فصارت ذات حياء بعد ذلك مناقب 1 / 118.
[230] - نفس المصدر السابق.
[231] - البحار 16 / 236.
[232] - سفينة البحار 417 - 418.
[233] - سفينة البحار 417 - 418.
[234] - أصول الكافي 2 / التواضع, والبحار 16 / 265.
[235] - سفينة البحار 2 / 528.
[236] - سفينة البحار 2 / 528.
[237] - سفينة البحار 2 / 528.
[238] - البحار 22 / 86.
[239] - عيون أخبار الرضا باب 58 / 238.
[240] - أصول الكافي 2 / التواضع.
[241] - وسائل الشيعة 4 / 1080.
[242] - البحار 46 / 6.
[243] - أصول الكافي 2 / التواضع وفي هامش الحديث: الترديد من الراوي.
[244] - أصول الكافي - كتاب الدعاء.
[245] - جمع بين نصين. البحار 41 / 190 وميزان الحكمة 5 / 190.
[246] - جمع بين نصين. البحار 41 / 190 وميزان الحكمة 5 / 190.
[247] - ميزان الحكمة 5 / 381.
[248] - تجد بعض التفاصيل حول ذلك في المصدر السابق كما تجد النص حول كون الصلاة أمانة الله تعالى.
[249] - بحار الأنوار 68 / 156 - 157.
[250] - دار السلام 2 / 54 - 55 بتصرف.
[251] - من بعض كتب المناقب المعتبرة بإسناده عن نجيح قال: رأيت الحسن بن علي عليهما السلام يأكل وبين يديه كلب كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها فقلت له يا ابن رسول الله ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك قال دعه إني لاستحي من الله عز وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه. بحار 43 / 352.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال بينا رسول الله صلى الله عليه وآله يتوضأ إذ لاذ به هر البيت وعرف رسول الله صلى الله عليه وآله أنه عطشان فأصغى إليه الإناء حتى شرب منه الهر وتوضأ بفضله. سفينة البحار 1 / 417.
[252] - أصول الكافي / باب التسليم.
[253] - أصول الكافي / باب التسليم.
[254] - أصول الكافي / باب التسليم.
[255] - أصول الكافي / باب التسليم.
[256] - وسائل الشيعة / أحكام العشرة والبحار 16 / 215.
[257] - وسائل الشيعة / أحكام العشرة والبحار 16 / 215.
[258] - وسائل الشيعة / أحكام العشرة والبحار 16 / 215.
[259] - روي ذلك بألفاظ شتى واختلاف يسير راجع تاريخ الخميس 1 / 211 وسنن المصطفى للعلامة الطباطبائي / 52 ومجموعة ورام ج 1 / 57.
[260] - بحار الأنوار 86 / 247 ومكارم الأخلاق / 32.
[261] - تاريخ الخميس 1 / 211 والبحار ج 76 / 273.
[262] - سفينة البحار 1 / 416.
[263] - جاء ذلك في حديث طويل في البحار 16 / 214.
[264] - سفينة البحار 1 / 416.
[265] - سفينة البحار 1 / 416.
[266] - سفينة البحار 1 / 381 وفيها بعد الحديث: قيل في قوله عليه السلام إلا أعطاه الله الإستثناء من مقدر أي ما فعل ذلك إلا أعطاه الله أو هي زائدة.
[267] - بحار الأنوار 40 / 113.
[268] - بحار الأنوار 41 / 52 والمناقب 2 / 116.
[269] - سفينة البحار 1 / 382.
[270] - أصول الكافي: باب الجلوس والتواضع.
[271] - أصول الكافي: باب الجلوس والتواضع.
[272] - أصول الكافي: باب الجلوس والتواضع.
[273] - أصول الكافي: باب الجلوس والتواضع.
[274] - سفينة البحار ج 1 / 169.
[275] - سفينة البحار ج 1 / 169 والمعنى: يسأل الراوي هل هذه المخلوقات كلها ينطبق عليها اسم الناس فقال عليه السلام: استثن منهم إلخ...
[276] - أصول الكافي 2 / باب التواضع.
[277] - أصول الكافي: باب التواضع.
[278] - أصول الكافي - باب المراء والخصومة.
[279] - أصول الكافي - باب المراء والخصومة.
[280] - " وجادلهم بالتي هي أحسن ". النحل 125.
[281] - أصول الكافي - باب التواضع.
[282] - أصول الكافي - باب إدخال السرور على المؤمنين.
[283] - المصدر السابق - باب حسن الصحابة وحق الصاحب في السفر.
[284] - أصول الكافي - باب التواضع.
[285] - كشف الغمة 2 / 369.
[286] - الكافي - باب صفة العلماء.
[287] - عامر بن شراحيل الكوفي من التابعين مات سنة 104 بالكوفة.
[288] - البحار 43 / 319.
[289] - أصول الكافي - باب التواضع.
[290] - مقتل الحسين للمقرم / 184.
[291] - نفس المهموم للقمي / 255.
[292] - واستيقظ الوجدان في أعماقه بعد السبات وعادت الأفكار
( ... ) فاغتاظ ثم لوى عنان جواده نحو الحسين وكله إصرار
ناداه يا ابن المصطفى أنا تائب مما جنيت وأنتم الأطهار
أفهل ترى لي توبة أرجو بها عفواً يجود به الغفار
فأجابه من تاب أفلح سعيه مهما عليه تراكمت أوزار
والله يمحو عنه كل ذنوبه من أجلنا وله النعيم قرار
من ملحمة كربلاء للعسيلي بدلاً من أبيات فارسية.
[293] - نفس المهموم للمحدث القمي 290 - 291 وللإطلاع على تواضع سائر أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يراجع الكتاب المذكور ولمعرفة الخضوع التكويني لأرض كربلاء تراجع سفينة البحار ج 2 / 475 وراجع كذلك أصول الكافي باب التواضع حول تواضع جبل الجودي ( الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام ) وحيث أن الكلام طال في بحث التواضع فقد اكتفي بالإشارة إلى هذه الموارد.
[294] - نفس المصدر السابق.
[295] - المصدر السابق / نفس المهموم.
[296] - مضمون أبيات, وقد وردت في هامش الكتاب أبيات بالفارسية في وصف موقف جون رضوان الله عليه وهذه أبيات بدلاً منها:
وأراد سبط المصطفى أن نعلما من فضل جون ما تخفى ونفهما
ناداه اذهب حيث تهوى سالما ودع القتال فقد أتيت لتخدما
فهوى على قدم الإمام متمتما والدمع منهمر يحاكي العندما
أيطيب في السراء أكل طعامكم وأفر عنكم إن زمان أظلما
مولاي ريحي ريح عبد منتنٌ وترى سوادي والأصول الألأما
هذي صفات جهنم يا سيدي حاشاك ترضى أن أظلّ جهنما
ولأنتم الفردوس أكرمني بها وائذن لعبدك أن يموت مكرما
سيطيب ريحي إن قبلت شهادتي ويطاول الحسب الوضيع الأنجما
وبياض وجهي في المعاد بفضلكم حاشا يضاهي نوره قمر السما
قسماً بربي لا أفارق جمعكم قبل اختلاط دمي بهاتيك الدما
ومضى إلى الهيجاء ليث عقيدة يزهو ويرتجز القصيد ترنما
أرأيت صباً كيف ينتظر اللقا قد كان جون عاشقاً ومتيماً
أفديه من عبد تعاظم شأنه حتى غدا بين العباد معلما
خمساً وعشريناً أباد وسيفه كولائه هيهات أن يتثلما
واشتاقت الأفلاك قرب جواره فأجابها والروح طوعاً أسلما
فمشى لمصرعه الحسين يزوره ويشير للأجيال زوروا مثلما
هاتيكم التقوى تبيض أوجهاً سوداً وتكسو بالضياء المعتما
ما ضرّ جوناً لونه وفؤاده لحبيبه الرحمن أضحى محْرَما
أو ينفع المبيض وجهاً أن يرى يوم القيامة كالحنادس مظلما
ودعا الحسين له وقال مؤبناً طيّب إلهي ريحه ليكرَّما
بيض إلهي وجهه واحشره مع خير الورى والآل يا رب السما
قال الرواة عن المباشر دفنه كدنا لطيب عبيره أن نزكما
ولمَ التعجب والعبير تضوع لمودة القربى الكرام قد انتمى
***
[297] - أصول الكافي - باب المؤلفة قلوبهم.
[298] - راجع تفسير الآية 125 من سورة آل عمران وراجع تفسير الآيات حول " أحد " في تفسير الميزان.
[299] - بهذا المضمون عدة أحاديث في ميزان الحكمة - الظن.
[300] - إنكار علم الله وقدرته إنكار للتوحيد, وإنكار حكمته إنكار لإرسال الرسل لأنه دليل حكمة وإنكار العدل الإلهي إنكار للمعاد لأنه مظهر العدل الإلهي.
[301] - الكافي - باب حسن الظن بالله.
[302] - مضمون بيت.
[303] - المجالس السنيّة للمرحوم السيد الأمين.
[304] - مرآة العقول 8 / 44 والبحار 70 / 366 بتصرف يسير والترقيم ليس موجوداً في الأصل في كلام العلامة المجلسي ولكن هكذا أورده المؤلف نقلاً عن أصول الكافي المترجم إلى الفارسية.
[305] - وسائل الشيعة - الإحتضار - باب 30.
[306] - وسائل الشيعة - الإحتضار - باب 30.
[307] - وسائل الشيعة - الإحتضار - باب 30.
[308] - ذُكرتْ في كتاب " الذنوب الكبيرة " قصة الإفك ونزول عشرين آية فيها من جملتها هذه الآية.
[309] - أصول الكافي - باب التهمة وسوء الظن.
[310] - مرآة العقول 11 / 15.
[311] - المحجة البيضاء 7 / 67.
[312] - الخصال للصدوق.
[313] - نهج البلاغة - خ / 168.
[314] - أي نقله جماعة كثيرون يمتنع اتفاقهم على الكذب عادة.
[315] - عقاب الأعمال للصدوق.
[316] - أصول الكافي - باب التهمة وسوء الظن.
[317] - توضيح ذلك: أنك يا صاحب هارون تعتبر هارون إماماً وعلى هذا فموسى غير إمام أي إمام من نوع آخر لأن هارون إمام ضلال وموسى إمام حق ( عليه صلوات الله وسلامه ).
ولذلك لم يقل " ليس إماماً " ويبدو أن التعبير في هذا المورد " بغير " كان متداولاً / الإحتجاج / 394 - 395 ولاحظ الهامش.
[318] - غرر الحكم للآمدي.
[319] - مضمون بيت.
[320] - غرر الحكم للآمدي,
[321] - كشف الريبة 65 - 68.
[322] - أصول الكافي 2 / من طلب عورات المؤمنين وعثراتهم.
[323] - المصدر السابق.
[324] - لأن المؤمن من أمن الناس من غوائله وبواقه.
[325] - غرر الحكم للآمدي.
[326] - إن لي شيخاً جليلاً مرشداً نصحني نصيحتين لم أوفق للعمل بهما إحداهما لا تحسن الظن بنفسك والثانية لا تسيء الظن بالناس. ( مضمون بيتين لسعدي ).
[327] - غرر الحكم للآمدي.
[328] - غرر الحكم للآمدي.
[329] - غرر الحكم للآمدي.
[330] - غرر الحكم للآمدي.
[331] - غرر الحكم للآمدي والنص بالمضمون.
[332] - مضمون أبيات لسعدي.
[333] - نهج البلاغة خ 176.
[334] - مضمون بيت.
[335] - غرر الحكم للآمدي.
[336] - غرر الحكم للآمدي.
[337] - غرر الحكم للآمدي.
[338] - نهج البلاغة / مكتوب / 34.
[339] - النص لمولى المتقين عليه السلام / غرر الحكم.
[340] - معالم الأخبار نقلاً عن الخصال.
[341] - مجموعة ورام 1 / 209.
[342] - كشف الغمة 3 / 3 - 4 - 5 ودلائل الإمامة للطبري / 155 وصحيفة الأبرار 2 / 213.
[343] - جامع السعادات 1 / 282.
[344] - جامع السعادات 1 / 282.
[345] - جامع السعادات 1 / 282.
[346] - في الأصل " جائزاً " والظاهر أنه سهو.
[347] - وليس هذا استثناء لحكم حرمة سوء الظن فإن من يريد إيقاع معاملة مع شخص لا يحق له أن يسيء الظن به وإذا سأل عنه ولم يسمع ما يشجعه على التعامل معه أو سمع تحذيراً قدحاً, فعليه أن لا يسيء الظن به أيضاً, بل يجتنب المعاملة ويقول: لعل ما سمعته ليس صحيحاً. ( المترجم ).
[348] - ميزان الحكمة 5 / 628.
[349] - النص بالمضمون والآية: التوبة 61.
[350] - وسائل الشيعة 13 / 230.
[351] - تفسير نور الثقلين 1 / 511.
[352] - لمعرفة الروايات التي تتضمن هذه الأحكام يراجع وسائل الشيعة أبواب الدفن باب 75 و 80 و 84 وهذه بعض الأحكام في هذا المجال:
قال الإمام الخميني رضوان الله عليه:
مسألة 2 - يجوز البكاء على الميت، بل قد يستحب عند اشتداد الحزن ولكن لا يقول ما يسخط الرب وكذا يجوز النوح عليه بالنظم والنثر إذا لم يشتمل ذلك على الباطل من الكذب وغيره من المحرمات بل والويل والثبور على الأحوط ولا يجوز اللطم والخدش وجز الشعر ونتفه والصراخ الخارج عن حد الإعتدال على الأحوط ولا يجوز شق الثوب على غير الأب والأخ بل في بعض الأمور المذكورة تجب الكفارة.
1 - ففي جز المرأة شعرها في المصيبة كفارة شهر رمضان.
2 - وفي نتفه كفارة اليمين.
3 - وكذا تجب كفارة اليمين في خدش المرأة وجهها إذا أدمته بل مطلقاً على الأحوط.
4 - وفي شق الرجل ثوبه في موت زوجته أو ولده وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
تحرير الوسيلة 1 / 93 ( الدفن ).
[353] - " كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ". البقرة 285.
واعلم أن لله تعالى أربعة ملائكة كباراً يتم تدبير أمور الناس وشؤون عالم الوجود بواسطتهم بإذن الله.
أحدهم إسرافيل ومهمته نفخ الروح في الجسد أي المادة التي يخلق منها الإنسان وكل ذي روح, عندما تصبح جاهزة لذلك أي تنتقل من كونها نطفة فمضغة وتظهر أعضاؤها وأجزاؤها يأخذ إسرافيل روحاً من أمر الله وينفخها فيها, كما يتولى إسرافيل نفخة الإماتة الكلية العامة ونفخة الإحياء الكلي العام في يوم القيامة.
والثاني ميكائيل ومهمته تحصيل مواد الأرزاق وتكميل صورها أي أن ميكائيل وأعوانه بإذن الله يثيرون البخار من البحر وينشرون السحاب على الهواء فيوصلون منه المطر إلى الأرض ويتولون رعاية البذرة في الأرض والثمرة على الشجرة.
الثالث جبرائيل وهو الذي ينقل الوحي إلى الأنبياء ويعلمهم ما فيه سعادة القلب وسعادة الناس في الدنيا والآخرة وكما أن ميكائيل وسيلة حياة الجسم فإن جبرائيل وسيلة حياة القلب وبعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم ينزل جبرائيل إلى الأرض بهدف إيصال الوحي والملائكة الذين يلقون في قلوب أتباع المصطفى صلى الله عليه وآله ما يلقون ويلهمونهم إياه, هم من أعوان هذا الملك المعظم وأنصاره.
الرابع عزرائيل ومهمته فصل الأرواح عن الأجساد وتحرير النفوس من سجن البدن ولأن هذا العمل أكبر خدمة للإنسان وأكبر نعمة عليه فمن الواجب تعظيم هذا الملك المعظم..
وبعبارة ثانية رغم أن الموت محزن للإنسان بلحاظ طبيعته وعلائقه المادية والحيوانية إلا أنه يجب أن يدرك بنور العقل وقوة الإيمان أن الموت هو الوسيلة الوحيدة لنجاته من الآلام والآفات والمنغصات التي لا تحصى وهو أيضاً الطريق الوحيد للوصول إلى القرب الإلهي ومجاورة الأبرار والأخيار وثواب الرحيم الغفار فلذا يجب أن يفسح في قلبه مكاناً لحب عزرائيل وتعظيمه حتى يستقبله عند اللقاء به مبتهجاً وينقاد له, أما إذا أحلّ في قلبه - لا سمح الله العداوة واستقبله بالكفر فإنه: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ". الفرقان 22.
وهناك فريق من الحمقى والعابثين إذا كرهوا لقاء أحد شبهوه بعزرائيل وكفروا بهذه الوقاحة وسوء الأدب بمن يجب عليهم الإيمان به والواقع أن أكثر الناس مقصرون في معرفة الملائكة وتعظيمهم.
راجع حول الملائكة: البحار ج 5 / 310 و 6 / 173 و 24 / 254 و 338 و 26 / 356 و 59 / 144 وحق اليقين 1 / 159.
[354] - للإطلاع راجع البحار الأجزاء 23 إلى 27 وخصوصاً ج 23 و 27 / 218 - 219.
[355] - دعوات الراوندي.
[356] - دار السلام للمحدث النوري - والنص هنا بالمضمون.
[357] - أمالي ابن الشيخ والبحار 27/ 220.
[358] - ما بين القوسين بالمضمون.
[359] - قال تعالى: " إنما المؤمنون أخوة " في هذه الآية يقرر الله سبحانه مبدأ الأخوة بين أهل الإيمان, وعليه ينبغي أن يكونوا جميعاً عوناً لبعضهم شركاء في الأفراح والأحزان.
وإذا وقع نزاع بين طائفتين فيجب الإصلاح بينهما كما تم الأمر بذلك في هذه الآية نفسها.
والمراد بالمؤمنين هم الذين آمنوا بالله والرسول والقرآن والمعاد ولا ينكرون حكماً من أحكام الإسلام الضرورية حتى إذا لم يعرفوا الأئمة الإثني عشر عليهم السلام بسبب القصور واتبعوا غيرهم في الأحكام الفرعية وقد ورد التصريح في الروايات كثيراً بأن غير الشيعة من فرق المسلمين إن لم ينصبوا العداء لأهل البيت عليهم السلام ولم يقصروا في أصل الإيمان بالله والرسول ( صلى الله عليه وآله ) والعمل الصالح فهم من الناجين, والفرق بينهم وبين الشيعة إنما هو في الدرجات في الكافي بإسناده الصحيح عن الصادق عليه السلام قيل له أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب فقال عليه السلام: إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته.
وفيه قال رجل للصادق عليه السلام: " إنا نتبرأ من قوم لا يقولون ما نقول فقال عليه السلام: يتولونا ولا يقولون ما تقولون تتبرأون منهم قال قلت نعم قال عليه السلام فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم إلى أن قال فتولوهم ولا تتبرأوا منهم ".
وفي الإحتجاج للطبرسي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: " الناس ثلاث فرق منهم عرفونا وسلموا لنا واتبعونا فهم الفائزون وأولياء الله وأحباؤه ومنهم من عادونا وخاصمونا وهم يلعنوننا ويرون أن سفك دمنا حلال وينكرون حقنا فهم كافرون ومشركون وفاسقون ومنهم من يحبوننا ولا يعادوننا إلا أنهم لا يعرفون حقنا ولا يتبعوننا وهم يتبعون اليقين في أفعالهم فإنا نرجو الله أن يغفر لهم وهم المسلمون المستضعفون ( النص بالمضمون ) وقد تقدم في قسم العقائد من هذا الكتاب أن الجاهل القاصر - سواء في العقائد أو الأعمال الواجبة - معذور ولن يعذب " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ". البقرة 286 أي لا يكلف الله إلا بمقدار الإستطاعة وكذلك " لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ". الطلاق 7 أي أن الله لا يكلف شخصاً إلا بما أعطاه إياه.
[360] - أصول الكافي - باب الظلم.
[361] - مرآة العقول 10 / 305.
[362] - " وجزاء سيئة سيئة مثلها ".
[363] - الخصال.
[364] - الكافي.
[365] - الخصال.
[366] - مضمون بيت.
[367] - مضمون أبيات.
[368] - مناقب آل أبي طالب 4 / 157 - 158 ولمعرفة فضيلة كظم الغيظ يراجع أصول الكافي أبواب الرفق والمداراة, الحلم, كظم الغيظ, العفو.
[369] - الكافي - باب الذنوب.
[370] - من لا يحضره الفقيه.
[371] - مشكاة الأنوار للطبرسي.
[372] - الكافي.
[373] - كشف الغمة 3 / 9.
[374] - عقاب الأعمال للصدوق.
[375] - الكافي.
[376] - الكافي.
[377] - الكافي.
[378] - الكافي.
[379] - الكافي.
[380] - الكافي.
[381] - الكافي باب الهجرة 2 / 344.
[382] - أي إذا كان لا يقطع الهجران إلا ذلك فليقله المظلوم فإن في تآلف مؤمنين خيراً كبيراً يستحق ذلك وطبيعي أن هذا ليس عاماً وهو واضح.
[383] - دار السلام للمحدث النوري.
[384] - من لا يحضره الفقيه.
[385] - معاني الأخبار.
[386] - الشرائع - الشهادات / مسألة 7.
[387] - المسالك.
[388] - رياض المسالك 2 / 434 الشهادات.
[389] - أصول الكافي باب التعيير وباب الشماتة.
[390] - أصول الكافي باب التعيير وباب الشماتة.
[391] - أصول الكافي باب التعيير وباب الشماتة.
[392] - " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ". فاطر 6.
[393] - وسائل الشيعة أحكام العشرة باب 7.
[394] - المصدر السابق.
[395] - المصدر السابق.
[396] - المصدر السابق.
[397] - نفس المصدر.
[398] - مضمون بيتين.
[399] - راجع القصتين رقم 71 و 72 من كتاب القصص العجيبة للمؤلف.
[400] - مضمون بيت لحافظ الشيرازي.
[401] - مضمون بيت.
[402] - مضمون بيت.
[403] - الكافي - باب الحب في الله والبغض في الله.
[404] - قال المحقق الطوسي عليه الرحمة في تجريد الكلام: ومحاربو علي عليه السلام كفرة ومخالفوه فسقة ويجب الإنتباه إلى أن فسقهم ثابت فيما إذا كانوا مقصرين في الإعتقاد بإمامته عليه السلام لا قاصرين وبناءاً عليه فالمسلمون الذين لا يعتقدون بإمامة علي وسائر الأئمة عليهم السلام ثلاث فرق:
الأولى: الذين هم محاربون وأعداء لهم وهؤلاء كفرة يستحقون الخلود في النار وبغضهم واجب.
الثانية: الذين لا يعادونهم ولا يعتقدون بإمامتهم عن تقصير منهم مثل الذين يمكنهم البحث عن الحقيقة ولكنهم لا يهتمون بهذه الفريضة الإلهية عن تقصير فهم فسقة ويستحقون العذاب.
الثالثة: الذين لا يعادونهم لا عن تقصير بل عن قصور فهؤلاء ليسوا كفرة وليسوا فسقة وهم معذورون عند الله ولا مبرر لبغضهم وهو حرام وحيث أن نقل الروايات لإثبات ما ذكر يستدعي الإطالة فليراجع كتاب أصول الكافي باب المستضعف وغيره.
[405] - يحكى أن عاقلاً كان ماراً في زقاق فرمى أصحاب البيت من السطح نفايات وأوساخاً وصادف ذلك مروره من أمام هذا البيت فوقع ذلك على رأسه, فرفع رأسه وقال, إلهي هذا الرأس العاصي يستحق الرجم بالحجارة شكراً لك أن أصابته النفايات بدلاً من الحجارة.
[406] - الكافي - باب الظلم.
[407] - الكافي - باب الظلم.
[408] - الكافي - باب الظلم.
[409] - منازل الآخرة للشيخ عباس القمي ( فارسي ).
[410] - الكافي - باب كظم الغيظ.
[411] - الكافي - باب كظم الغيظ.
[412] - الكافي - باب كظم لغيظ.
[413] - روي عن عصام بن المصطلق الشامي أنه دخل المدينة فرأى الإمام الحسين عليه السلام فأعجبه سمته ومنظره فحمله الحسد على إظهار ما يعتمل في صدره من حقد تجاه أمير المؤمنين عليه السلام فدنا منه وقال: أنت ابن أبي تراب؟ قال نعم, يقول ابن المصطلق: فبالغت في شتمه فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم, إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ثم قال: خفض عليك أستغفر الله لي ولك إن استعنتنا أعناك وإذا استرشدتنا أرشدناك.
قال ابن المصطلق فندمت على ما كان مني وأدرك ( عليه السلام ) ذلك فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ثم قال أمن أهل الشام أنت قلت: نعم قال: شنشنة أعرفها من أخزم حيانا الله وإياك سل حاجتك فستجدنا أحسن مما تظن.
قال ابن المصطلق: وأمام هذا الخلق الكريم ضاقت علي الأرض بما رحبت حتى لوددت أن الأرض تنشق فتبتلعني فتسللت من بين يديه مختبئاً بين الناس حتى ابتعدت عنه ولم يكن بعد ذلك أحد أحب إليّ منه ومن أبيه / منتهى الآمال 1 / 532 ومنازل الآخرة: وليلاحظ أن بعض العبارات في النص مترجمة عن الفارسية حيث لم أجده في مصدر آخر غير المذكورين وهما بالفارسية.
[414] - الكافي / باب الغضب.
[415] - الكافي / باب الغضب.
[416] - إحياء علوم الدين 3 / 163 - 168. بتصرف يسير.
[417] - أصول الكافي.
[418] - أصول الكافي.
[419] - المصدر السابق.
[420] - المصدر السابق.
[421] - المصدر السابق.
[422] - المصدر السابق.
[423] - الكافي - باب الطمع.
[424] - الكافي - باب الطمع.
[425] - مرآة العقول 10 / 258.
[426] - تراجع الآية 35 من سورة النساء, والآية العاشرة من سورة الحجرات.
[427] - الكافي - باب الإصلاح.
[428] - الكافي - باب الإصلاح.
[429] - المصدر السابق.
[430] - المصدر السابق.
[431] - " واسألوا الله من فضله " في عدة الداعي أن رجلاً في المدينة كانت له جارية جميلة, فوقعت في قلب رجل, وأعجب بها، فشكى ذلك إلى أبي عبد الله عليه السلام فقال له: تعرض لرؤيتها وكلما رأيتها فقل: أسأل الله من فضله, ففعل, فما لبث إلا يسيراً حتى عرض لوليها سفر فجاء إلى الرجل فقال: يا فلان أنت جاري وأوثق الناس عندي، وقد عرض لي سفر، وأنا أحب أن أودعك فلانة جاريتي, تكون عندك, فقال الرجل ليس لي امرأة، ولا معي في المنزل امرأة، فكيف تكون جاريتك عندي؟ فقال: أقومها عليك بالثمن وتضمنه لي, وتكون عندك فإذا أنا قدمت فبعنيها أشترها منك، وإن نلت منها, نلت ما يحل لك، ففعل, فغلَّظ عليه بالثمن، وخرج الرجل فمكثت عنده ما شاء الله.
ثم قدم رسول لبعض خلفاء بني أمية يشتري له جواري فكانت هي في من سُمي أن يشترى, فبعث الوالي إليه, فقال له: جارية فلان, قال: فلان غائب, فقهره على بيعها, فأعطاه من الثمن ما كان فيه ربح، فلما أخذت الجارية من المدينة, قدم مولاها، فأول شيء سأله, سأله عن الجارية كيف هي فأخبره بخبرها وأخرج إليه المال كله الذي قوَّمه عليه والذي ربح, فقال: هذا ثمنها فخذه, فأبى الرجل فقال: لا آخذ إلا ما قومت عليك وما كان من فضل فخذه لك هنيئاً. بحار الأنوار 47 / 359 بتصرف يسير.
[432] - البحار 73 / 253.
[433] - الكافي - صحيحة محمد بن مسلم, الكافي - صحيح معاوية بن وهب.
[434] - نفس المصدر والبحار 73 / 248 - 249.
[435] - نفس المصدر والبحار 73 / 248 - 249.
[436] - المصدر السابق.
[437] - المصدر السابق.
[438] - الوسائل - الجهاد - باب 54.
[439] - الوسائل - الجهاد - باب 54.
[440] - مستدرك الوسائل.
[441] - مستدرك الوسائل.
[442] - مستدرك الوسائل.
[443] - المصدر السابق.
[444] - عدة الداعي - 229.
[445] - المقنعة - البينات.
[446] - القواعد - الشهادات.
[447] - يمكن القول إن الشهيد وسائر الفقهاء الذين حرموا إظهار الحسد لا يصح أن يستنتج من كلماتهم أنهم لم يحرموا نفس الحسد, لأنهم كانوا بصدد تعداد الذنوب التي توجب الفسق وتسقط العدالة ولأن الحسد أمر خفي لا يعلم إلا إذا أظهر فلم يذكروه.
والخلاصة إن عبارة الشهيد الأول ترجع إلى نفس معنى عبارة الشهيد الثاني وعليه فحرمة الحسد محل اتفاق.
[448] - بحار الأنوار 73 / 238 - 239 بتصرف.
[449] - بحار الأنوار 73 / 238 - 239 بتصرف.
[450] - بداية الهداية.
[451] - جامع السعادات ج 2 / 209 - 212 بتصرف.
[452] - ليلاحظ أن نص صاحب الجواهر تلخيص لعدة روايات والرواية الأخيرة بتمامها كما في الخصال: إن الله يعذب ستة بستة: العرب بالعصبية، والدهاقنة بالكبر، والأمراء بالجور والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهل, واعلم أن كلاً من هذه الخصال قد توجد في أي إنسان ويهلك بها وإنما نسبت كل واحدة منها إلى فئة باعتبار أن وجود هذه الخصلة في هذه الفئة أكثر من غيرها, مثلاً: الحسد, قد يوجد في كل شريحة اجتماعية, إلا أنه أكثر ما يوجد بين أهل العلم, كأن يحسد عالم عالماً على درجته العلمية, فيعمل على القضاء عليه, وإذا لم يستطع فإنه يحول دون معرفة الناس بعلمه, وأكثر ما تكون نسبة الحسد بين أهل العلم في أهل العلم الديني لأن هذا العلم هو رأس الكمالات, فإذا كان فقيه لم يتربَ تربية دينية, أي لم يعمل بعلمه, ولم يهذب نفسه, فكيف يمكنه أن يرى مثيلاً له أو أعلى منه, خصوصاً إذا كان أكثر شهرة وشعبية, وفقيه حسود كهذا أخطر الحساد على الإطلاق.
وقصة حسد القاضي ابن أبي ليلى للإمام الجواد وسعايته في قتله عليه السلام مذكورة في تفسير سورة " النجم ". وقصة القاضي ابن جماعة وحسده للشهيد الأول, وقصة شهادة الشهيد الثاني والقاضي نور الله الشوشتري ومئات من هذا القبيل كلها شاهد صدق على القول بأن الفقيه الحاسد أخطر الحساد.
[453] - تهذيب الأصول ج 2 / 215.
وليلاحظ أن نصي صاحب الجواهر والمحقق الأردبيلي وبعض النصوص الأخرى منقولة بتصرف.
[454] - الخصال - باب التسعة.
[455] - في شرح نهج البلاغة للخوئي آخر الخطبة 85 يقول:
حرمة الحسد وكونه كبيرة مهلكة, ثابتان من الآيات والروايات, وإجماع علماء الإسلام قائم على حرمته ثم أورد كلمات الشيخ ( الأنصاري ) في الرسائل في باب حديث الرفع وقال بعد ذلك: كان السيد الأستاذ يقول في مجلس الدرس: الأقرب حمل المؤاخذة المرفوعة في هذا الحديث على الخاطرة القلبية العابرة, وحمل الآيات والروايات الدالة على المؤاخذة - حملها - على الحسد الذي يبقى في القلب ويستقر.
[456] - تفسير التفكر في الوسوسة في الخلق بسوء الظن غريب, إذ الظاهر أن المراد ما سيذكره المؤلف فيما بعد وهو الوسوسة في العقائد ( لاحظ باب الوسوسة وحديث النفس في الكافي ) وسينقل المؤلف فيما يأتي كلام الشيخ الصدوق الذي يعزز هذا الرأي والله العالم.
[457] - أما مرفوعة الكافي التي ورد فيها: " والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد " فيحتمل أن جملة " ما لم يظهر إلخ... " قيد لجملة " والوسوسة في التفكر في الخلق " كما في صحيحة الخصال التي ذكرت في المتن, وبناءاً عليه فإن مرفوعة الكافي من حيث السند والدلالة ليست خالية من الضعف ولا تقيد بها إطلاقات أدلة حرمة الحسد, ولأن المشهور أعرض عنها فضعفها لا ينجبر, وحيث أن الهدف من تأليف هذا الكتاب هو الفائدة العامة فإن الإشارة الإجمالية للإستدلال الفقهي تكفي, ومزيد التحقيق في أطراف المسألة موكول إلى محل أكثر مناسبة.
[458] - فرائد الأصول - الرسائل.
[459] - الدرة النجفية / 224.
[460] - الخصال - باب الثلاث.
[461] - الخصال - 89 - 90 والبحار 73 / 254.
[462] - وأحياناً قد يقدم الحسود التعيس على الإنتحار ويجعل نفسه مصداق ( خسر الدنيا والآخرة ) في الجزء 73 من البحار أورد المجلسي نقلاً عن الراوندي هذه القصة:
كان أيام موسى الهادي ببغداد رجل من أهل النعمة، وكان له جار دونه في حاله، وكان يحسده, ويسعى ضده بكل مكروه يمكنه، إلا أنه لم يكن يقدر عليه، فلما طال أمره والأيام لا تزيده فيه إلا غيظاً، اشترى غلاماً صغيراً فرباه وأحسن إليه فلما شب الغلام قال له: يا بني إني أريدك لأمر جسيم، فهل أنت مستعد؟ فقال الغلام: والله يا مولاي لو علمت أن رضاك في أن أقتحم النار لرميت نفسي فيها، فسُرَّ بذلك وضمه إلى صدره.
وطلب منه الغلام أن يخبره بما أراد فقال: لم يحن وقت ذلك بعد.
وتركه سنة ثم فدعاه فقال له: أريد منك الآن أن تنفذ الأمر الذي أخبرتك به.
قال: يا مولاي: مرني بما شئت، فوالله لا تزيدني الأيام إلا طاعة لك.
قال: إن جاري فلاناً قد بلغ مني مبلغاً أحب معه قتله، قال الآن أقتُلُه, قال: ليس هذا أردت, وأخاف أن لا تستطيع قتله, ثم إن قتلته اتهمت أنا بقتله, ولكني أريد أن تقتلني وترمي جثتي على سطح منزله فيلقى القبض عليه ويُقتل لأنه قتلني.
قال الغلام: أتطيب نفسك بنفسك, ( أي هل ترضى بقتل نفسك ) وليس في ذلك تشفٍّ من عدوك, ثم إني تطيب نفسي بقتلك وأنت أبر من الوالد العطوف, والأم الحنون.
قال: دع عنك هذا، فإنما كنت أربيك لهذا اليوم فلا تنغص علي أمري فإنه لا راحة لي إلا في هذا.
قال: الله الله في نفسك يا مولاي، لا تتلفها في الأمر الذي لا يدرى أيكون أم لا يكون، فإن كان وقتل بك لم تر منه ما أملت وأنت ميت...
قال: أراك لي عاصياً.
قال: أما إذا صممت على ذلك فلا بد منه, وعمد إلى سكين فشحذها ودفعها إلى الغلام وأشهد على نفسه أنه أعتقه ودفع إليه ثلاثة آلاف درهماً، وأوصاه إذا قتله أن يهرب...
وفي أول السحر قام وأيقظ الغلام، فقام مذعوراً وأعطاه السكين ثم تسورا حائط ذلك الجار واضطجع على سطحه مستقبلاً القبلة ببدنه وقال للغلام: ها.. وعجل فوضع السكين على حلقومه وفرى أوداجه, وتركه يتشحط بدمه, وعاد إلى فراشه.
وفي الصباح افتقده أهله وخفي عليهم أمره، ثم وجدوه آخر النهار على سطح ذلك الرجل, وأحضروا وجوه المحلة ليشهدوا ذلك وأخذ جاره وأودع السجن وكتب بخبره إلى الهادي ( الخليفة العباسي ) وعندما أحضره الخليفة أنكر أن يكون له علم بذلك وكان رجلاً صالحاً.
وفر الغلام إلى أصفهان, وكان فيها رجل من أقارب المحبوس يتولى عطاء الجند, فرأى الغلام وكان يعرفه فسأله عن أمر مولاه فأخبره حرفاً بحرف فأشهد على مقالته جماعة وحمله إلى بغداد, وبلغ الخبر الهادي فأحضر الغلام فقص أمره كله عليه فتعجب الهادي من ذلك وأمر بإطلاق الرجل المحبوس وإطلاق الغلام أيضاً.
[463] - خلاصتها أن آدم جعل - بناءاً على أمر الله تعالى - ولده هابيل وصياً له في النبوة وخصه بتعليمه الإسم الأعظم وكان قابيل الأخ الأكبر فغضب وقال أنا أحق من أخي.
فأوحى الله إلى آدم: قل لهما ليقدم كل منهما قرباناً ليتضح أيهما أفضل, فمن تقبل الله قربانه فهو الأفضل والأحق, وكانت علامة قبول القربان آنذاك أن تنزل نار من السماء فتحرق القربان ( أي الذي يتقرب به ).
وكان هابيل غناماً فجاء بشاة سمينة وقدمها قرباناً, وكان قابيل فلاحاً فجاء بحزمة من حنطة لا قيمة لها صغيرة الحب وقدمها قرباناً, ونزلت شرارة من السماء والتهمت قربان هابيل فاتضح أن قربانه قبل فحسد قابيل أخاه وخطط لقتله ووسوس له الشيطان بذلك وقال له: إن لم تقتله سيبقى هذا العار - عار عدم قبول قربانك - في نسلك ويبقى هذا الشرف في نسله.
وذات يوم أخذ حجراً وضرب به رأس أخيه فقتله, وبقي متحيراً ماذا يصنع بجسده فرأى غرابين قتل أحدهما الآخر ثم بدأ يجث الأرض بمنقاره, ودفن الغراب المقتول, فتعلم هابيل منه كيف يدفن أخاه ودفنه وقد وردت هذه القصة في سورة المائدة 26.
[464] - نار الحرب العالمية الأولى والثانية التي أضرمها حسد من كانت بأيديهم مقاليد الأمور آنذاك - كما مر في مقدمة الكتاب, تثير إحصاءات نتائجها العجب.
في الحرب العالمية الأولى قتل في ساحة الحرب حوالي تسعة ملايين إنساناً وأصبح 22 مليوناً من المعاقين والمشوهين وفقد أكثر من خمسة ملايين وبلغت ميزانية الحرب كلها حوالي 400 ميليارداً.
وفي الحرب العالمية الثانية: قتل سبعة عشر مليوناً وبلغت الخسائر البشرية كلها 35 مليوناً وشوه وأعيق عشرون مليوناً وأريق على الأرض سبعة عشر مليون ليتراً من الدماء وبلغت خسارات سقوط الجنين وشبهه اثني عشر مليوناً ودمرت خمسة عشر ألف مدرسة وجامعة وخرب ثمانية عشر ألف مختبراً وانفجرت في الجو حوالي 400 مليارد قذيفة واضطر مليون شخص في بريطانيا لتركيب عيون زجاجية وصنعت في روسيا 4 ملايين رجل اصطناعية للجنود الذين قطعت أرجلهم.....
عن " الإسلام والسلم العالمي " فارسي.
[465] - سفينة البحار ج 1 / 61.
[466] - بحار الأنوار 73 / 301.
[467] - بحار الأنوار 73 / 301.
[468] - نفس المصدر / 302.
[469] - نفس المصدر / 302.
[470] - مضمون بيت.
[471] - مضمون أبيات لسعدي الشيرازي.
[472] - مستدرك الوسائل والبحار 73 / الحسد.
[473] - مستدرك الوسائل والبحار 73 / الحسد.
[474] - في مجمع البيان بسند متصل: " لما نصب رسول الله علياً يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه طار ذلك في البلاد ( انتشر ) فقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم النعمان بن الحارث الزهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله فولى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع ". نور الثقلين 5 / 411 " وقد روى هذه الحادثة الثعلبي في تفسيره وهو من مفسري العامة.
[475] - في سورة فصلت 31 يقول تعالى: " ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ".
[476] - مستدرك الوسائل.
[477] - المصدر السابق.
[478] - غرر الحكم للآمدي.
[479] - غرر الحكم للآمدي.
[480] - غرر الحكم للآمدي.
[481] - في الأصل ورد النص " الحقد يذري " وفي ميزان الحكمة " الحقد يذري " وفي نسخة " يُذوي " بالواو والظاهر أن الصواب بملاحظة النصوص الأخرى الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام في الحقد والحسد ومنها " الحسد يذيب الجسد " وتفريق المؤلف بين ما يقصر العمر وما يؤدي إلى الهلاك الظاهر أن المراد به أن الحاسد قد يبلغ حسده حداً يستحق معه بتر عمره ولا يكون هالكاً بل يكون كل جزائه بتر عمره, وقد يبلغ حداً يستحق الهلاك, ثم إن الروايات في استتباع قطيعة الرحم والبغي قصر العمر كثيرة وواضح أن الحسد يؤدي إليهما.
راجع مثلاً ثواب الأعمال للشيخ الصدوق.
[482] - غرر الحكم.
[483] - غرر الحكم.
[484] - قالت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليها السلام في خطبتها في مجلس يزيد: " فكد كيدك, واسع سعيك, وناصب جهدك, فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا, ولا تدرك أمدنا, ولا ترحض عنك عارها, وهل رأيك إلا فنَد, وأيامك إلا عدد, وجمعك إلا بدد, يوم ينادي المناد ألا لعنة لله على الظالمين ".
[485] - مضمون بيت.
[486] - مضمون بيتين لسعدي.
[487] - البحار / 73 / الحسد.
[488] - الصحيفة السجادية - دعاء 20.
[489] - مضمون بيت.
[490] - مضامين أبيات لسعدي.
[491] - المراد أن أهل المدينة الثائرين آنذاك لم يتعرضوا لحرم مروان لأنهم في حماية الإمام السجاد عليه السلام. والنص هنا تُرجم عن منتهى الآمال 2 / 40 مع ملاحظة ما نقله السيد الأمين في أعيان الشيعة 1 / 636 عن الطبري.
[492] - ابن صيفي هو سعد بن محمد بن سعد الصيفي فقيه وأديب وشاعر وموثق توفي ببغداد عام 574. " عن الكنى والألقاب ".
[493] - الدنيا على وزن الصغرى بمعنى الأقرب إذا كانت من مادة الدنو ومقابلها الآخرة أو بمعنى الدنيئة والدنية إذا كانت من " الدناءة " ومقابلها الأعلى ( أو العليا ) ولا شك أن الحياة الدنيوية بالنسبة إلى الآخرة دنية من جهات كثيرة, والحياة الأخرى حقاً عليا وفي منتهى الشرف والسمو.
[494] - مضمون بيت.
[495] - ومن هنا ورد في الروايات النهي عن تمني الموت " بل تمنَّ الحياة لتطيع ".
[496] - " ولا تنس نصيبك من الدنيا ".
" حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون* لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ".
وقد أخبر القرآن في عدة مواضع أن أصحاب الأعمال السيئة يتمنون بعد الموت الرجوع إلى الدنيا وطبيعي أنهم يتمنون المستحيل.
[497] - إشارة إلى أن العافية مثلاً أصلها في عالم الآخرة وما هو موجود منها في هذا العالم صورة مصغرة عن الأصل, وكذلك الإلتذاذ بطعام ما أو غير ذلك فكل ما في هذه الدنيا ليس خالصاً ولا صافياً واللذة الخالصة الصافية هناك.
[498] - أي لا يحرص الإنسان على هذه المسائل, ولكنها إذا جاءته دون أن يسعى لها فهو يحبها حباً غير استقلالي بل لأنها ستكون وسيلة لرضوان الله تعالى, وطبيعي أن ذلك ليس سهلاً.
[499] - قال أمير المؤمنين عليه السلام: " إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة " نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام.
وإذا أحب شخص الدنيا على أساس أنها تتصف بهذه الأوصاف المذكورة فهو في الحقيقة قد أحب الله والآخرة وإنما أحب الدنيا لأنها وسيلة قرب إلى الله وإعمار الآخرة.
[500] - لمعرفة الفرق بين الحب التبعي والإستقلالي للدنيا تأمل بدقة في هذه الجملة العجيبة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام: " ومن أبصر بها بصرته, ومن أبصر إليها أعمته " نهج البلاغة ح 38.
وكل من نظر إلى الدنيا بنظر الإعتبار تجعله الدنيا يرى فيعرف أنها فانية وينصرف قلبه عنها ويعرف أن الآخرة هي الباقية ويتعلق قلبه بها, ويجعل دنياه وسيلة لآخرته.
وكل من نظر إلى الدنيا بالنظر الإستقلالي, نظر الراغب فيها, فستعميه الدنيا أي أنه لن يرى فناءها ومعايبها, فيحبها ويغفل عن عالم البقاء, مثل هذا محروم واقعاً من البصيرة التي هي رؤية الحقيقة.
[501] - لا يخفى أن التمثيل للمرتبة الثانية من حب الدنيا بعمر بن سعد إنما يصح فيما إذا كان ذلك الشقي مؤمناً بالآخرة, وتدل أبياته التي قالها حول تصميمه على قتل الإمام عليه السلام أنه كان شاكاً بالمعاد " يقولون إن الله خالق جنة إلخ " وبناءاً عليه فحب الدنيا الذي كان في عمر بن سعد ويزيد وابن زياد ونظائرهم من قبيل المرتبة الأولى خاصة يزيد الذي يدل شعره على كفره.
[502] - " فبشره بمغفرة وأجر كريم ". يس 11.
[503] - " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ". آل عمران 133.
[504] - " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات والأرض ". الحديد 21.
[505] - " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ". المطففين 26.
[506] - " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ". العنكبوت 64.
[507] - " قل متاع الدنيا قليل ". النساء 77.
[508] - " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ". الحديد 23.
[509] - نهج البلاغة.
[510] - ضمن تعداد الأمور المحرمة التي تقدح بالعدالة قال المحقق الأردبيلي: ومنها حب الدنيا والأخبار في ذلك كثيرة جداً, وقال صاحب الجواهر في المسألة العاشرة في كتاب الشهادات في معرض تعداد الأمور التي علمت حرمتها بل كون بعضها من الكبائر - قال - : ومن جملة ذلك حب الدنيا.
[511] - قال رحمه الله: " ويحرم طلب الرياسة الدنيوية واختتال الدنيا بالدين, ولا يجوز حب الدنيا المحرمة والحرص عليها ".
[512] - إذا لاحظنا البناء الذي بني لزيادة الثروة والإدخار, نجد أن ظاهره فقط جميل ويلفت النظر, لم يبذل أي جهد على إحكام أسسه وباطنه, أما إذا كان قد بني بهدف رحماني أي لاحظ المعمار مصلحة الناس لا مصلحته الشخصية على حساب الآخرين, ( خير الناس من نفع الناس ) فإنه سيكون في غاية الإحكام والجودة ومن راعى الله تعالى في عمله فإنه يتقن عمله حتى إذا كان قبراً يريد بناءه, وقد روي حول دفن سعد بن معاذ: " فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى لحَّده, وسوى عليه اللِّبن, وجعل يقول: ناولني حجراً, ناولني تراباً رطباً, يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): " إني لأعلم أنه سيبلى ويصل إليه البلى، ولكن الله عز وجل يحب عبداً إذا عمل عملاً فأحكمه ( أحكمه ) ". البحار 73 / 298.
والخلاصة: إذا استجاب الإنسان للأنبياء وقطع من قلبه علائق الدنيا, وأقبل على الله والآخرة فإنه لدى القيام بأي عمل لا يدخل في حسابه الهوى والمصلحة الشخصية وإنما يقوم بذلك بداعي الأمر الإلهي وإطاعة له ولإيصال النفع إلى الناس, فستعمر بذلك دنياه وآخرته وينال السعادة في الدارين لاحظ هذه القصة:
مرَّ كسرى في رحلة صيد بقرية فرأى عجوزاً يزرع زيتوناً قال كسرى: أيها العجوز لقد مضى أوان زرعك الزيتون فأنت عجوز والزيتون يتأخر ثمره, قال الفلاح: زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون. ( إذا تأملت رأيت أننا جميعاً زراع لبعضنا البعض* ) فاستطرف كسرى ذلك, وأثنى عليه وأعطاه أربعة آلاف درهماً فقال الفلاح: تثمر الشجرة في السنة مرة واحدة, وقد أثمرت شجرتي في ساعة واحدة مرتين, فاستطرف كسرى ذلك أيضاً وأعطاه أربعة آلاف درهماً أخرى ومضى قائلاً: لو بقيت لأتت جواهر كلمات هذا العجوز على خزينتي. أنيس الأدباء / 307 وليلاحظ أن النص هنا مترجم.
وحقاً, إن العمل في سبيل الله ولله تشبه عمل الفلاح الذي يبذر البذر ليحصد منه ما يملأ مخزن لقمح, وحين الحصاد يجد مع القمح التبن, ومهما قال إنه لا يريد التبن فإن حصيلته من التبن كبيرة, كذلك من يعمل لله فإنه يحصل بالإضافة على ثواب الآخرة ما يجعل دنياه عامرة.
*- مضمون عجز بيت صدره " زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون ".
[513] - لعل المراد أن الغرور غفلة قال في المعجم الوسيط " غرَّ الرجلُ: كان ذا غفلة وقلّت فطنته " وعلى هذا فالمحب لشيء المؤمل له وهو لا يسعى للحصول عليه هو مغرور حيث لا حصول على الشيء دون السعي وبذل الجهد.
[514] - أي أن من أحب الآخرة حقيقةً لا بد وأن يحب الدنيا حباً يتبع حبه للآخرة, فإن علامة حبه للآخرة أن يتزود في الدنيا لها, وهذا يستدعي حبه للدنيا الذي هو من أجل الآخرة.
[515] - أصول الكافي - حب الدنيا.
[516] - الوافي عن الكافي - باب ذكر الموت.
[517] - كتاب الأربعين للشيخ البهائي / 136 - 137 وقد شرح عليه الرحمة بعض فقرات هذه الرواية وهذه خلاصة ذلك: الطاغوت من الطغيان, وهو تجاوز الحد وهو يطلق على الكاهن والشيطان والأصنام وعلى كل رئيس في الضلالة, وعلى كل ما يصد عن عبادة الله, وعلى كل ما عبد من دون الله تعالى.
ولعلك تظن أن ما تضمنه هذا الحديث من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم, مجاز وليس حقيقة، ولكنه ليس كذلك فإن العبادة هي الخضوع والتذلل والطاعة والإنقياد, فقد روي في آخر باب الشرك من الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: " من أطاع رجلاً في معصية فقد عبده ".
وإذا كان اتباع الغير والإنقياد له عبادة, فأكثر الخلق عند التحقيق مقيمون على عبادة أهواء نفوسهم الخسيسة الدنية وشهواتهم البهيمية على كثرة أنواعها واختلاف أجناسها، وهي أصنامهم التي هم عليها عاكفون، والأنداد التي هم لها من دون الله عابدون، وهذا هو الشرك الخفي, نسأل الله سبحانه أن يعصمنا عنه ويطهر نفوسنا منه, بمنه وكرمه وما أحسن ما قالت رابعة العدوية:
لك ألف معبود مطاعٌ أمره دون الإله وتدعي التوحيدا
وما ذكره هذا الرجل المتكلم لعيسى عليه السلام في وصف أصحاب تلك القرية وما كانوا عليه من الخوف القليل، والأمل البعيد، والغفلة واللهو واللعب والفرح بإقبال الدنيا, والحزن بإدبارها هو بعينه حالنا وحال أهل زماننا بل أكثرهم خالٍ عن ذلك الخوف القليل أيضاً, نعوذ بالله من الغفلة وسوء المنقلب.
وما تضمنه هذا الحديث من كون أهل تلك القرية في جبال من جمر توقد عليهم إلى يوم القيامة, صريح في وقوع العذاب في مدة البرزخ أعني ما بين الموت والبعث وقد انعقد عليه الإجماع ونطقت به الأخبار ودل عليه القرآن العزيز وقال به أكثر أهل الملل وإن وقع الاختلاف في تفاصيله, والذي يجب علينا هو التصديق المجمل بعذاب واقع بعد الموت وقبل الحشر في الجملة ( إجمالاً ) وأما كيفيته وتفاصيله فلم نكلف بمعرفتها على التفصيل، وأكثرها مما لا تسعه عقولنا, فينبغي ترك البحث والفحص عن تلك التفاصيل وصرف الوقت في ما هو أهم منها, أعني في ما يَصرف ذلك العذاب ويدفعه عنا, وهو المواظبة على الطاعات, واجتناب المنهيات لئلا يكون حالنا في الفحص عن ذلك والإشتغال به عن الفكر في ما يدفعه وينجي منه كحال شخص أخذه السلطان, وحبسه ليقطع في غد يده ويجدع أنفه، فترك الفكر في الحيل المؤدية إلى خلاصه، وبقي طول ليله متفكراً في أنه هل يقطع بالسكين أو بالسيف, وهل القاطع زيد أو عمرو ( ... ) ولنورد هنا حديثاً واحداً مختصراً روينا عن الشيخ الصدوق بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إن بين الدنيا والآخرة ألف عقبة أهونها وأيسرها الموت وفي هذا الحديث كفاية والله الهادي ثم لا يخفى أن ما قاله هذا الرجل من أنه كان فيهم ولم يكن منهم فلما نزل العذاب عمَّه معهم يُشعر بأنه ينبغي الهجرة عن أهل المعاصي والإعتزال لهم وأن المقيم معهم شريك لهم في العذاب ومحترق بنارهم وإن لم يشاركهم في أعمالهم وأقوالهم وقد يُستأنس لذلك بعموم قوله تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً ".
" الأربعون, للشيخ البهائي 137 - 141 " بتصرف.
[518] - غرر الحكم للآمدي.
[519] - نهج البلاغة, وغرر الحكم للآمدي.
[520] - قال ( صلى الله ليه وآله وسلم ): " حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة ". البحار ج 75 / حب الدنيا.
[521] - مضمون بيت.
[522] - محبو الدنيا الذين أوصلهم اتباعهم لها إلى النار, من هم؟ وما علامة الحب؟
والعاصون الذين إذا ذكروا الله ذكرهم الله باللعنة, أي العاصين هم؟
وما هي علامة الذنب من هذا القبيل؟
الجواب: الإنسان شيء واحد, والشيء الواحد حيث أنه هو, فلا يستطيع أن يكون إلا شيئاً واحداً, وإذا كان غير ذلك الشيء, فبحسب قوة من القوى لا بحسب كنه ذاته.
محبو الدنيا الذين أوصلهم اتباعها إلى النار هم المحبون للدنيا بحسب كنه ذاتهم لا بحسب قوة من القوى.
وكذلك عصاة القلوب, مبدأ الذنب في كنه ذاتهم لا في قوة من القوى, كذلك متكبرو القلوب الذين ورد في الحديث: " لا شم ريح الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " يكون التكبر حالاً في كنه ذاتهم لا في قوة من القوى.
وعلامة محبة القلب للدنيا أن ينشرح القلب للإنفاق عند ملاحظة وجود الأجر وتصوره, أما المؤمن الذي تكون محبة الدنيا في قوة من قواه لا في صميم القلب, ومع ذلك فإن الإنفاق صعب عليه, فذلك بسبب ذهوله ( غفلته ) عن الأجر, نتيجة استيلاء شهوة أو رغبة ( عليه ) في ذلك الحين. المكتوب 173 من كتاب " المكاتيب " فارسي.
أهل هذا العالم ثلاث طوائف: بعضهم لا يحبون الدنيا أصلاً وهم المفلحون.
وبعضهم يحبون الدنيا ولكنهم إذا جاء الحق في المقابل فإنهم ينقادون للحق ويستسلمون له, ويتترسون ( يتقون ) ويحجمون ويخافون لأنهم يعلمون: " ليس في كل مكان يمكنك أن تجيل حصانك, فما أكثر الأماكن التي ينبغي حمل الترس ( التترس ) فيها " ( مضمون بيت ).
وهذه الطائفة يعفو الله عنها بمحبة الطائفة الأولى.
وبعضهم يحبون الدنيا ويصرّون على حبها, ويزيلون كل العقبات, ويحرقون الأخضر واليابس ليحققوا رغباتهم, ولا يستحون من الحق, وهؤلاء هم الهالكون الذين لا يفلحون أبداً.
والآن, كن من الطائفة الأولى إذا استطعت, وإن لم تكن منها فكن من الطائفة الثانية.
( المصدر السابق المكتوب 167 ).
[523] - التأمل في وفاء الكلاب لأصحابها يثير خجل العاقل لقلة حيائه مع سيده وصاحبه وربه المنعم عليه, ولكون وفائه لله تعالى أقل من وفاء هذا الحيوان, راجع في ذلك قصتين في " القصص العجيبة " للمؤلف.
[524] - قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): أحبوا الله لما يغذيكم, وأحبوني لله عز وجل وأحبوا قرابتي لي. البحار ج 27 / 76 وصحيح الترمذي ج 13 / 201.
[525] - " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ". الشورى 23.
وللإطلاع على الأخبار المتواترة في مودة أهل البيت ( عليهم السلام ) يراجع البحار وتذكر هنا عدة روايات نقلها الشيعة والسنة بطرق متعددة.
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ". البحار ج 6 / 629 ط قديمة, وسفينة البحار ج 1 / 199 باختلاف يسير. صحيح البخاري ج 1 / 9, صحيح مسلم ج 1 / 49, مسند أحمد ج 3 / 177.
وقال ( صلى الله عليه وآله ): " لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وتكون عترتي أحب إليه من عترته, ويكون أهلي أحب إليه من أهله وتكون ذاتي أحب إليه من ذاته ". البحار ج 27 / 76 و 86, ومسند الديلمي, فوائد النصيبي شعب الإيمان للبيهقي. وفي كنز العمال ج 1 / 11 بدلاً من ذاتي: ذريتي.
وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): لا تزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عن أربع خصال عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته, ومالك من أين اكتسبه وأين وضعته وعن حبنا أهل البيت.
البحار ج 27 / 103 كنز العمال ج 7 / 212 والطبراني في تفسير, وفي البحار تتمة للحديث هكذا: فقال رجل من القوم: وما علامة حبكم يا رسول الله؟ فقال: محبة هذا ووضع يده على رأس علي بن أبي طالب عليه السلام. وفي البحار تتمة للحديث ولهذا كان العظماء رغم كل محبتهم لأهل البيت عليهم السلام يعتبرون أنفسهم مقصرين وكانوا يخافون أن لا تكون مودتهم لهم كما ينبغي أي أن لا يكون حبهم لهم أكثر من حبهم لأنفسهم وكل علائقهم.
" والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ". المؤمنون 60.
[526] - التهذيب باب المكاسب ج 6 / 376 والوافي باب شرائط الأذان والإقامة نقلاً عن التهذيب والفقيه والكافي.
[527] - نهج البلاغة.
[528] - أصول الكافي باب الورع.
[529] - الخصال - 515 وتتمة الحديث " وأما التي في الآخرة فلا ينشر له ديوان، ولا ينصب له ميزان، ويعطى كتابه بيمينه، ويكتب له براءة من النار، ويبيض وجهه، ويكسى من حلل الجنة، ويشفع في مائة من أهل بيته، وينظر الله عز وجل إليه بالرحمة ويتوج من تيجان الجنة، والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب, فطوبى لمحبي أهل بيتي ". ولاحظ البحار 27 / 78.
[530] - مضمون أبيات لسعدي الشيرازي.
[531] - نهج البلاغة.
[532] - نفس المصدر خ 129.
[533] - قال الطبرسي في جمع الجوامع: ويمكن أن تشمل هذه الآية كل من عمل عملاً صالحاً وأعجب به ويحب أن يحمد ويمدحه الناس بما ليس فيه من الزهد والتقوى والعبادة وغير ذلك.
وفي تفسير مقتنيات الدرر: الموصول في الآية " الذين " عام وشامل لكل من عمل عملاً صالحاً ويفرح به ويعجب, ويحب أن يمدحه الناس بما ليس فيه من الفضائل.
ويقول الفخر الرازي: إحدى الوجوه التي هي مورد الآية أن اليهود كانوا يحرفون التوراة ويفسرونها بطريقة خاطئة, ويضلون الناس, ويفرحون بفعلهم هذا. ثم يحبون أن يمدحهم الناس بأنهم متدينون صادقون في أقوالهم مستقيمون في أفعالهم ثم يقول:
وإذا أنصفت وجدت أن أكثر الناس كذلك, لأن أكثر الخلق يبذلون الجهود ويعتمدون الحيل للوصول إلى الدنيا وعندما يصلون إلى ما أرادوا يفرحون ثم يحبون أن يمدحهم الناس بالتدين واستقامة السلوك.
وقال المحقق الأردبيلي في زبدة البيان:
" ولا يبعد الاستدلال بها ( الآية ) على تحريم إرادة المحمدة من الغير بما فعل وبما لم يفعل، بل الفرح بهما أيضاً، ولكن بمعنى الإعجاب بما فعل لعموم الآية، وعدم التخصيص بالسبب ( أي الآية لا تصبح خاصة لأن سببها خاص ) وخروج غيره بدليله ( أي يخرج من شمول الآية الفرح غير المقترن بالعجب بالدليل الذي دل على ذلك ). ويؤيده النهي الموجود في الأخبار عن الفرح المعجب مثل: احثوا على وجه المداحين التراب ".
قال في العدة: العجب من المهلكات قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): " ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ". وهو محبط للعمل، والعجب إنما هو الإبتهاج بالعمل الصالح واستعظامه وأن يرى نفسه خارجاً عن حد التقصير وهذا مهلك.
وأما السرور بفعل الحسن مع التواضع لأجل جلاله والشكر على التوفيق لذلك وطلب الإستزادة، فحسن محمود. قال أمير المؤمنين عليه السلام: من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن إلخ, قال في إحياء العلوم: نقل خبر لو صح لهلكنا، روي أنه ذكر أحد في حضرة النبي بمدح فقال لو رضي بما قلتم فيه لدخل النار. قلت: يكفي هذه الآية فافهم. ( قائل العبارة الأخيرة هو المحقق الأردبيلي رحمه الله ). زبدة البيان / 207 والنصوص المتقدمة على نص الزبدة نقلت بالمضمون فليلاحظ ذلك.
[534] - تم إيضاح هذين الذنبين بالتفصيل في الجزء الأول من " الذنوب الكبيرة ".
[535] - " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ". الأعراف 99. مكرُ من أخذ غيره على حين غفلة وألحق به ضرراً, وهو مكر ابتدائي قبيح وحرام, إلا أن المكر الذي يكون مجازاةً وعلى أساس الإستحقاق ليس كذلك, فكلما كان الإنسان مستحقاً للعذاب وأنزل الله به العذاب من حيث لا يعلم ولا يتوقع فهذا العذاب يسمى مكراً إلهياً.
وبناءاً على هذا فمن كفر نعمة الله يجب أن يخاف من المكر الإلهي وإذا أمنه وفرح بالدنيا فرحاً شديداً فإن عدم خوفه هذا هو ذنب آخر أشارت إليه الآية.
[536] - سفينة البحار 1 / 442 وبعده: عن الإمام الصادق عليه السلام: ما أنعم الله على عبد مؤمن نعمة بلغت ما بلغت فحمد الله تعالى عليها إلا كان حمد الله أفضل وأوزن من تلك النعمة.
[537] - قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: المراد نفي الأسى المانع من التسليم لأمر الله, ويقول الراغب: الأسف الحزن والغضب معاً, وقد يقال لكل واحد منهما على الإنفراد, وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الإنتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضباً, ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف، فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظاً وغضباً، ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزناً وجزعاً.
وقال الراغب أيضاً: الأسى الحزن وحقيقته إتباع الفائت بالغم.
[538] - مضمون ثلاثة أبيات.
[539] - زبدة البيان - كتاب المكاسب / 407.
[540] - الكافي - باب حب الدنيا.
[541] - مفاتيح الجنان - أعمال منتصف شعبان من دعاءٍ قراءته في غير النصف من شعبان أيضاً غنيمة.
[542] - الكافي - باب اجتناب المحارم.
والقباطي: الثياب البيض الرقاق التي كانت تصنع في مصر بلد الأقباط ( عن هامش الكافي بتصرف ).
[543] - عدة الداعي / 295.
[544] - عدة الداعي - 164.
[545] - المصدر السابق.
[546] - الكافي - باب حب الدنيا والحرص عليها.
[547] - أصول الكافي - باب حب الدنيا وفي البحار 73 / أورد نصين في أحدهما " بأسرع " بدل " بأفسد " وكذلك في الجزء العاشر من مرآة العقول.
[548] - لم أجد كلام العلامة المجلسي رحمه الله ويلاحظ أن الآية لا تسمي هؤلاء بالأكابر بل بأكابر المجرمين.
[549] - أصول الكافي ج 1 / باب المستأكل بعلمه.
[550] - وأن لا يكون مقبلاً على الدنيا, وطالباً لها، مكباً عليها، مجداً في تحصيلها, العروة الوثقى. التقليد - 22 وأن يكون ورعاً في دين غير مكب على الدنيا ولا حريصاً عليها جاهاً ومالاً على الأحوط ( تحرير الوسيلة ).
[551] - الكافي - باب حب الدنيا.
[552] - الكافي - باب طلب الرئاسة.
[553] - في رجال المامقاني ج 3 / 205 في ترجمة المختار بن أبي عبيدة الثقفي عن الإمام الصادق عليه السلام " إذا كان يوم القيامة مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله بشفير النار وأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام فيصيح صائح من النار: يا رسول الله أغثني ( ثلاثاً ) فلا يجيبه فينادي يا أمير المؤمنين ثلاثاً أغثني فلا يجيبه فينادي يا حسين ثلاثاً أغثني أنا قاتل أعدائك قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله قد احتج عليك قال: فينقض عليه كأنه عقاب كاسر فيخرجه من النار قال فقلت لأبي عبد الله عليه السلام ومن هذا جعلت فداك قال: المختار قلت ولم عذاب بالنار وقد فعل ما فعل قال: إن المختار كان يحب السلطنة وكان يحب الدنيا وزينتها وزخرفها وإن حب الدنيا رأس كل خطيئة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: والذي بعثني بالحق نبياً لو أن جبرائيل وميكائيل كان في قلبهما ذرة من حب الدنيا لأكبهما الله على وجههما في النار ".
وليلاحظ أن في المصدر رواية أخرى في تعليل دخول المختار النار.
وليلاحظ كذلك أن بعض الروايات تتحدث أن المختار كان قد اقترح على بعض أقاربه وكان والياً اعتقال الإمام الحسن وتسليمه إلى معاوية والله تعالى العالم.
[554] - منية المريد 52 - 53.
[555] - نهج البلاغة خ – 87 في صفات المتقين والفساق.
[556] - نهج البلاغة الكتاب 31.
[557] - مضمون ثلاثة أبيات للشاعر سنائي.
[558] - مضمون بيت تقدم الإستشهاد به ويؤدي معناه مع فوارق:
أمر على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
[559] - مضمون بيتين.
[560] - " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ". الحجر 21.
[561] - لتشبيه المعقول بالمحسوس وإيضاح المقصود تأمل في هذه القصة:
يقال إن سبب علاقة السلطان محمود الغزنوي الشديدة بغلامه " أياز " أنه بعد فتح بعض بلاد الهند استولى السلطان على كميات كبيرة من الجواهر فنقلها على جمل ورجع إلى " غزنين "وفي أحد المنازل انكسر صندوق الجواهر فتناثرت فأمر السلطان أن يجمع كل من الحاضرين ما استطاع ويكون له فبادر الوزراء والأمراء يتسابقون على جمع الجواهر, فنظر السلطان حوله فلم ير معه أحداً غير " أياز " الذي كان واقفاً خلفه, والباقون من حاشيته تركوه وانشغلوا بجمع الجواهر المتناثرة.
سأل السلطان " أيازاً " لم لم تبادر كغيرك إلى ما انشغلوا به.
قال: لم أستسغ أن أنسلَّ من محضر السلطان وأنشغل بجمع الجواهر, فإن للسلطان أعداءاً كثيرين, وقد قلت: قد تقع عين موتور على السلطان فلم أبتعد عنك لتكون نفسي فداءاً لك إذا قصدك أحد بسوء.
لقد كنت أركض خلفك دائماً فلم أستبدل الخدمة بالنعمة*.
وكان إخلاص أياز هذا سبباً في أن السلطان جعله ولياً للعهد رغم وجود أخيه وابنه, وكان يجلسه أحياناً على عرش السلطنة.
ليعلم القاريء العزيز أن الله يرضى عن العبد ويحبه إذا كانت زينة الدنيا وبهارجها لا تنسيه ذكر المولى, وكان هو يحذر كل ما يلهيه ويعيقه عن ذكره سبحانه, حتى إذا كان ذلك من الزينة المباحة.
ويقال إن السلطان محمود نفسه كان قد وجد بين الجواهر التي حصل عليها من الهند ياقوتة حمراء كان يسطع منها النور في الليل, وذات يوم عرضها على وزرائه وسألهم عن قيمتها, فذكر كل منهم مبلغاً طائلاً, ثم أمرهم السلطان بكسرها فلم يقدم على ذلك أحد وقالوا ليس من المصلحة كسر مثل هذه الجوهرة, ودخل أياز فسأله السلطان عن قيمتها، فقال: هي أغلى من كل ما ذكروا, ثم أمره السلطان بكسرها فكسرها فوراً, ففرح الحاضرون إذ أن السلطان سيغضب على أياز هذا وتناولوه بالتأنيب واللوم وقالوا لم فعلت ذلك لقد ألحقت الضرر بخزينة الدولة, إنك عدو السلطان ولست من المخلصين له فأجابهم أياز:
" قال أياز يا أفضل العارفين, أمر الشاه أفضل أم الجوهر ".
" قولوا بربكم هل أمر الشاه أفضل عندكم أم هذه الجوهرة الجميلة ".
" إن كنتم تفضلون الجوهرة على الشاه فأنتم في ضلال وتيه ".
" أنا لا أصرف النظر عن تفضيل الشاه ولا أكون كالمشرك يعبد الحجر ".
" لا جوهر للروح التي تختار حجر الطريق الملون فتفضله ولا تقيم وزناً لأمر الشاه ".
" إن الجوهرة هي أمر الشاه ولقد كسرتموها أيها الحمقى جهاراً نهاراً " ( مضامين أبيات ).
فأدرك الحاضرون أن أمر الشاه كان اختباراً لهم فازداد أياز رفعة وازدادوا ضعة وخجلاً.
*مضمون بيت.
[562] - " وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ". الزمر 75.
[563] - هكذا الدنيا: إنها إذا أثارت الإعجاب صرحت عن عيبها بملء الصوت وقالت:
" في هذا الكون والفساد أيها الأستاذ الكون هو الدغل والفساد هو النصيحة ".
" الكون يقول تعال فأنا حسن البنيان والفساد يقول إذهب فلا قيمة لي ".
" أيها المتحسر على جمال الربيع انظر إلى برد الخريف واصفراره ".
" عندما ترى في النهار طلعة الشمس الرائعة تذكر موتها عند الغروب ".
" وعندما ترى البدر ينير الجهات الأربع تذكر حسرته عند المحاق ".
" طفل صار في الجمال سيد الخلق ثم صار بعد غد خرفاً مفتضحاً بين الخلق ".
" إذا تجلى اليوم جسده الفضي فانظر كيف يكون بعد الشيخوخة كالقطن المنفوش ".
" يا من تتحفر عندما ترى الأطعمة الدسمة انظر إلى فضلتها والقها في الماء ".
" قل للخبيث أين حسنك وأين الحسن والراغبة في الإنخداع بك ".
" صارت الأنامل الرشيقة لا تبارى في مهارة الصناعة ثم صارت ترتجف ولا تقوى على شيء ".
" تكون العين نرجسة تسكر كالروح ثم تغدو عمشاء يتقاطر منها الماء ".
" الشجاع الذي كان يشق غمار الصفوف, تغلبه آخر أمره فأرة ".
" صاحب الفرة والأجعد والذي يقطر مسكاً, وصاحب العقل ( ذو اللب ) كل منهم آخره كأوله قبيح هرم متلاش ".
" أنظر جيداً إلى كونه في البدء في رفاهية ثم انظر في نهايته إلى افتضاحه وفساده ".
" إذن لا تقل خدعتني الدنيا بالتزوير وإلا لكان طار بي مما خدعت به ".
" كل من هو أكثر نظراً للعواقب فهو أكثر سعادة وكل من هو أكثر نظراً للبدايات فهو أكثر تعاسة " " مضامين أبيات ".
[564] - إرشاد القلوب.
[565] - مستدرك الوسائل - الجهاد - باب 61.
[566] - مستدرك الوسائل - الجهاد - باب 61.
[567] - مستدرك الوسائل - الجهاد - باب 61.
[568] - نهج البلاغة - من الخطبة 193.
[569] - في كتاب ( الدنيا في خطر السقوط ) لأبي الحسن الندوي كلام مفيد حول أن الناس في هذا العصر استبدلوا عبادة الله وحب الآخرة والحقيقة والقيم والإنسانية بالمادية وحب الدنيا وعبادة الشهوة التي انتقلت عدواها من أوروبا إلى سائر دول العالم وهذا بعض ما قاله:
الحس الديني.
الدنيا إلى أين, وهل بعد هذه الحياة حياة أخرى, وإذا كانت فكيف هي؟
هل في الدنيا تعليمات وإرشادات حول مسائل الآخرة؟
وما هو الطريق الصحيح الذي يوصل الإنسان إلى الحياة المرضية في الآخرة؟
وما هي نقطة الإنطلاق في هذا الطريق؟
وما هي أفضل السبل للوصول إلى نعم ذلك العالم الأبدية واللامتناهية؟
ومن أين لنا معرفة هذا الطريق؟
هذه هي الأسئلة التي كانت تطرح نفسها على البشرية, والشرقيين بشكل خاص وكان الجميع يبحثون عن إجابات مقنعة عليها ومبدأ هذه الأسئلة حس سادس غير الحواس الخمسة يسمى الحس الديني, وهو تلك الفطرة البشرية التي ذكرت في القرآن المجيد, ولكن الناس فقدوا اليوم هذا الحس نهائياً ولا تخطر هذه الأسئلة على بالهم أبداً, إلى أن يقول:
أكبر مشكلة واجهها الأنبياء وهي الصراع مع أناس فقدوا الحس الديني.
حقاً لقد كان أولئك الذين تحجرت أفكارهم وقرروا أن لا يفكروا في الأمور الدينية وأمور الآخرة مصيبة كبرى للقادة الإلهيين, وكلما كان الأنبياء يرفعون من وتيرة تبليغهم كان هؤلاء يقولون: " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ". المؤمنون 37.
" وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ". فصلت 5.
والناس في هذا العصر فقدوا الحس الديني ولم يعد لهذا النوع من الأسئلة مكان في قلوبهم, ولا تثير اهتمامهم, وعندما يتصدى البعض للبحث فليس ذلك من منطلق الإيمان والرغبة في الوصول إلى الحقيقة.
يجب الإعتراف أن المسائل المادية احتلت مكانة المسائل الدينية الإلهية, وأن أبناء القرن العشرين يصرفون جهدهم الفكري في البحث حول المسائل المادية, ولا شغل لهم بالبحث عن وجود عالم آخر وعدم وجوده.
يقوم فكر الناس اليوم على عدم استبدال النقد بالدَّين, وأن جميع الأبحاث حول عالم آخر ينبغي أن تترك للعلماء والفلاسفة وسائر علماء الدين.
وشباب هذا العصر رجال عمل وجدّ, لا يرون الحياة إلا في المصانع والدوائر الحكومية وتشغيل الآلات واستلام المرتبات آخر الأسبوع والشهر, أما العالم الآخر فلا علم لهم بوجوده ولعله - عندهم - لا يعدو كونه وهماً وخيالاً.
وبكلمة: إن الشأن الذي لا يتطرقون إليه ولا يعنيهم أبداً, هو الشأن الديني ومجريات ما بعد الموت.
لا مكان اليوم في القلوب للفكر الديني والإلهي, وقد سدت الحياة المادية سبل العقل ومنافذ الفكر ولا وسيلة لإدراك الأفكار الأخرى.
العقول والقلوب والأعين والآذان كلها مسدودة دون أمور الدين وحديث الأنبياء والقادة الدينيين, والآلام التي يعانيها المخلصون والمرشدون اليوم نتيجة دعوة هذا النوع من الناس إلى عبادة الله تعالى لم يعانِ مثلها الدعاة في أسوأ المجتمعات وأشدها انحطاطاً.
وحول هؤلاء يقول الله تعالى لنبيه:
" إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ". النمل 83.
إلى أن يقول:
عصرنا عصر المادية المحض, الذي صرف الناس فيه كل اهتمامهم إلى حياة هذا العالم, ولا يعتقدون بوجود عالم آخر ليجعلوا له شيئاً من رصيد, ويستعدوا له, وهل بالإمكان أن يستعد الإنسان لما لا يعتقد به.
يعتقد المتمدنون في هذا العصر - ما عدا قلة - أن من الواجب الحصول على الثروة من أي طريق ممكن وصرفها في مجالات تأمين الإحتياجات.
يرى عصرنا أن الشرف والعظمة في المال والثياب ومستلزمات الحياة, ولأن هذا الشرف وهذه العظمة يتغيران باستمرار, فإن أحدهم يضطر إلى صرف مبالغ طائلة حتى يكون وضعه مطابقاً لما يميل إليه المجتمع.
ولأنهم يعتقدون أن من الواجب الحصول على المال فإنهم لا يتورعون عن السعي إليه عن أي طريق حلالاً كان أم حراماً بمشقة أم بدونها.
وحيث أن الذين يتمتعون بالقدرة الكافية لتحصيل المال هم قلة, فإن الناس بشكل عام يعيشون الغم والحزن وأكبر أمانيهم: المال.
وتتوالى المشاكل الروحية والآلام الوجدانية على اللاهثين خلف " الموضة " ولسوء الحظ فإنها في تبدل وتغير دائمين. وفي كل يوم تدخل السوق موديلات جديدة من الأحذية والقبعات وأدوات الزينة وأثاث البيت ومع أنها جميعاً ليست من المستلزمات الأولية للحياة إلا أنها تعتبر - عند هؤلاء - عنوان الشخصية المتحضرة ودليل التمدن والتحضر ومن لا يقتنيها فليس في عداد الأحياء.
مثل هذه الأسباب رفعت قيمة " الثروة " إلى حد لم تشهده مرحلة من مراحل تاريخ البشرية.
أصبحت الثروة اليوم كروح الإنسان, بمثابة أعظم قوة تدفع الناس في ميادين العمل.
المال اليوم هو محور جهود المخترعين والصناعيين والسياسيين, وهو الذي يحمل النواب على الدخول إلى المجالس النيابية, والكتّاب على الكتابة والمحاربين على الحرب.
وباختصار أصبح المال محور كل جهد ونشاط.
" ليلاحظ أن النص هنا مترجم عن الفارسية ".
[570] - " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ". البقرة 96.
[571] - مجمع البيان 1 / 368 وفي النص الذي ترجمه المؤلف الشهيد قبل قوله ألا ترى ما ترجته: كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " والله لإبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه " إلا أن هذا غير موجود في ط دار مكتبة الحياة.
[572] - سفينة البحار ج 2 / 220.
[573] - سفينة البحار ج 1 / 557.
[574] - كتب المؤلف الشهيد ذلك قبل انتصار ثورة الإسلام المظفرة أعزها الله.
[575] - كشف الريبة / 127 ضمن رسالة الإمام الصادق عليه السلام إلى عبد الله النجاشي وقد قال الشهيد الثاني في مستهل هذا الحديث " رويناه بأسانيد معتبرة ثم ذكر أحدها ".
[576] - قال أبو الوفاء الهروي: كنت أقرأ القرآن في مجلس ملك والناس يتحدثون ولا يصغون فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام متغيراً وقال لي: " أتقرأ القرآن بين يدي قوم وهم يتحدثون ولا يستمعون وإنك لا تقرأ بعد هذا إلا ما شاء الله, واستيقظت أخرس ولكن أهل الحديث قالوا لي سينطلق لسانك مجدداً لأنه ( صلى الله عليه وآله ) قال لك " إلا ما شاء الله " وبقيت أنام حيث رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مدة أربعة أشهر, فرأيته مجدداً في منامي فقال لي: " تبت قلت بلى يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: من تاب تاب الله عليه ثم قال أخرج لسانك فمسح عليه بالإصبع المسبِّحة وقال: إذا كنت بين يدي قوم تقرأ كلام الله فاقطع قراءتك حتى يسمعوا كلام رب العزة " واستيقظت وقد انطلق لساني. ﮔلزار أكبري / ﮔلسْن 52.
حَكَمَ أحمد بن طولون مصر سنة 270 للهجرة ثم ضم إليها ثغور الشام واستمر حكمه سبعة عشر عاماً أو ستة وعشرين ويقال إنه كان متواضعاً شجاعاً حافظاً للقرآن, كما أنه عرف بالجود وكذلك بكثرة إراقة الدماء. وقد بلغ عدد الذين قتلهم أو ماتوا في سجونه ثمانية عشر ألفاً.
وبعد موته استؤجر شخص ليقرأ القرآن على قبره, فهرب بعد مدة, وعندما سئل عن السبب قال: لقد نهاني صاحب القبر وهددني وقال لي:
لا أريد أن تقرأ القرآن على قبري لأنك كلما قرأت آية ضربوني على رأسي وقالوا لي: ألم تسمع هذه الآية حتى فعلت ما فعلت. ( حياة الحيوان, بتصرف ).
[577] - ورد في القرآن المجيد الأمر بالتدبر في القرآن في عدة مواضع منها: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ". ص 29.
ويكفي في الدلالة على لزوم التأثر بالقرآن المجيد قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ". الزمر 23.
وخلاصة المعنى أنهم إذا قرأوا آيات الوعد بالرحمة اطمأنوا وفرحوا فمن لم يتأثر عند قراءة القرآن فليعلم أنه قرأ القرآن بلسان ملوّث وقلب مضطرب ملتصق بالدنيا.
" لا ترفع عروس القرآن نقابها إلا إذا رأت دار المُلك ( الإيمان ) خالياً من الضجيج والغوغاء ".
" لا عجب إذا لم يكن نصيبك من القرآن سوى نقش, فإن الأعمى لا يرى من الشمس إلا الحرارة ".
" مُتْ أيها الصديق قبل الموت إذا أردت سكر الحياة, فإن إدريس أصبح بمثل هذا الموت من أهل الجنة, قبلنا ".
" إذا كنت في خوف دائم من النار فلا تغتر بمال أحد فإن صورته هنا مال, لكنه هناك أفاعٍ ".
" إعمل بما تعلمت فإن من القبيح أن يُحرِم أهل الصين والمَكّيون نائمون في البطحاء ".
" مضامين أبيات ".
قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفات المتقين:
" أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ".
[578] - " والله يدعو إلى دار السلام ". يونس 35.
[579] - مضمون بيت لسعدي.
[580] - حول إيمان المسلمين السابقين إلى صدر الإسلام, وعلاقتهم بالآخرة, هناك قصص لا تحصى يكتفى هنا بالتذكير بثلاثة منها:
1 - بعد أن انتشرت شائعة مقتل المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أحد نظر أنس بن النضر إلى جماعة من المسلمين وقوفاً فقال ما يحبسكم قالوا: قتل رسول الله قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه رسول الله ثم استقبل القوم فلقيه سعد بن معاذ فقال أين قال: يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون جراحة.
( عن تاريخ الخميس 434 بتصرف ).
2 - سمع عمير بن الحمام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول يوم بدر: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض فقال عمير: بخ بخ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يحملك على قولك بخ بخ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من كرزه أي جعبته فجعل يأكل منهنّ ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمرات ثم قاتلهم حتى قتل.
تاريخ الخميس / 380.
3 - كان عمرو بن الجموح رجلاً أعرج فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المشاهد أمثال الأسد, فأراد قومه أن يحبسوه وقالوا أنت رجل أعرج ولا حرج عليك وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وآله قال بخ يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولياً قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي، فخرج ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود فأبى وجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال: يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني ( يمنعوني ) والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له: أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك، فأبى، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لقومه وبنيه: لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخلوا عنه فقتل يومئذٍ شهيداً.
بحار الأنوار 20 / 130
وتفاصيل تضحيات أمير المؤمنين عليه السلام وإيثاره وفدائه في سبيل الله وطلباً للدار الآخرة, ليلة المبيت وفي جميع حروب الإسلام واضحة للجميع إلى حد أنه كان كلما رجع من حرب شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: خشيته أن لا يفوز بسعادة الشهادة في سبيل الله وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشره بأنه يستشهد في المحراب..
وكذلك تضحيات ولده الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه المؤمنين وسائر الخواص من الشيعة مدونة في كتب التاريخ والحديث.
[581] - إن قيل إن هذا لا ينسجم مع أوضاع حياة الناس اليوم لأننا في عصر مهما كان الوقت الذي يحدده أحدنا لأعماله فإنه يجد أن الوقت مضى وقد بقي عليه الكثير, ثم إن هذا يصبح مستمسكاً للحمقى القائلين بأن الدين لا ينسجم مع عصرنا الحاضر.
فنقول في الجواب:
أولاً: إن الناس اليوم يسرفون ويتجاوزون الحد في طلب الدنيا وبحجة الوصول إلى ما يشتهون من الملذات والتجملات والتشريفات والثروة, حرموا أنفسهم وحرّموا عليها الإستقرار والراحة والهدوء وهم يركضون ليل نهار في حين أن هذا الجهد المفرط يدمر الأعصاب ويجعلها عرضة للأمراض ويتسبب في النتيجة بقصر الأعمار.
وثانياً: كلامنا في التفكير لا في العمل وما قلته هو أن على الإنسان أن يفكر بأمر حياته الخالدة أكثر من التفكير بأمر حياته الدنيوية القصيرة وأما العمل فقد ورد في روايات كثيرة أن الله لا يحب الكسول العاطل عن العمل الذي يكون كلاًّ على من سواه, كما أن الإنسان الحريص الذي يفرط في حب الدنيا يبغضه الله تعالى, والشخص الذي يقوم بالأعمال الدنيوية في حد الإعتدال إذا كان يقوم بذلك إطاعة لأمر الله فهو حبيب الله تعالى وعمله هذا وسيلة لتأمين حياته في الآخرة.
مثلاً: إذا كان جندياً فيكون هدفه حفظ أمن المسلمين واستقرارهم ومواجهة الأعداء وإذا كان موظفاً فيكون هدفه خدمة الناس ومساعدة العاجز, وإذا كان يعمل في مجال الثقافة والتعليم فيكون هدفه تعليم الأطفال والشباب وتربيتهم تربية دينية, وإذا كان يعمل في مجالات الصناعة, التجارة, الزراعة, وأمثال ذلك فيكون هدفه الإشتغال بذلك لأن الله أمر به وأمر أيضاً بإصلاح المعاش والتوسعة على العيال ( يراجع كتاب الوسائل ) وكلما كان الهدف هو إطاعة أمر الله تعالى فإن عمله يكون عبادة يترتب عليها تأمين الآخرة.
ثالثاً: نحن لم نقل إن التفكير بالآخرة أكثر من الدنيا واجب بل قلنا إن من أراد أن يكون إيمانه صحيحاً ومستقيماً وقوياً يمكنه أن ينعم بخيراته فيجب أن يكون كذلك.
[582] - " عندما أصبح بلال من فرط الضعف مثل الهلال وخيم لون الموت عليه ".
" قال له صاحبه واحربا فقال له بلال واطربا ".
" لقد كنت حتى اليوم في حرب بسبب الحياة... ما يدريك أنت ما هو العيش وأي شيء يعني ".
" قال له صاحبه الفراق يا جميل الخصال فقال له كلا.. كلا.. إنه الوصال ".
" قال صاحبه اليوم تذهب غريباً فتغيب عن الأهل والأقارب ".
" قال: كلا, كلا, بل اليوم تنتقل روحي من الغربة إلى الوطن ".
" قال: يا روحي وقلبي واحسرتا قال: كلا, كلا بل وادولتا ".
" قال أين يمكننا أن نرى وجهك قال: في جوار الله ".
" مضامين أبيات ".
[583] - يقال إن السلطان محمود الغزنوي كان شديد التعلق بالجواهر وقد بقي في فراش الموت ثلاثة أيام يعاني سكرات الموت فأمر بإحضار الجواهر التي جمعها من خزائن الهند وغيرها فأحضرت وبدأوا يفتحون الصناديق أمامه, فكان كلما نظر إلى جوهرة منها اشتد بكاؤه وتتالت حسراته ثم شرب شربة الموت المرة ( بالنسبة لأمثاله ) بقلب مملوء بالحسرة, والعجيب أنه حتى في تلك الحال لم يكن مستعداً لتقسيم بعضها بين الفقراء المستحقين.
" نقلاً عن زينة المجالس ".
[584] - أصول الكافي - حب الدنيا والحرص عليها.
[585] - مضمون بيت.
[586] - لئاليء الأخبار.
[587] - منتخب التواريخ / 854.
[588] - مضامين أبيات والمعنى: سأل شخص شخصاً آخر خبيراً مجرباً فقال أيُّها العم ما معنى قول الله تعالى: " إعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ". فصلت 40 فقال: هذا خطاب لقوم لا يعرفون الجد ولا تؤثر فيهم النصيحة ولا يشعرون بجلال الله تعالى وعظمته ولا سبيل للموعظة إلى نفوسهم وقلوبهم وهم الذين استحقوا أمر " أعرض عنهم " وهذا الأمر قد ورد في عدة آيات من كتاب الله تعالى منها: " والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً ". النساء 81.
[589] - " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". الرعد 28.
يا مولاي بذكرك عاش قلبي, وبمناجاتك بردت ألم الخوف عني " دعاء أبي حمزة الثمالي ".
يقال إن رجلاً دباغاً اعتادت حاسة شمه الروائح المتعفنة, مر يوماً في سوق العطارين, وعندما تنشق رائحة العطر - التي لم تكن تناسبه - أصابه دوار وأغمي عليه, فجاء الناس بماء ورد ونضحوه على وجهه فازداد وضعه سوءاً, وأدرك زميل له سبب إغمائه فقال للناس: دعوه فإني خبير بدوائه ثم بحث عن فضلات كلب ففتها ثم وضعها في أنفه فأفاق ونشط وولى هارباً من العطارين.
نعم.. إن من اعتاد جيفة الدنيا والتذّ بالحلاوة الخادعة لذكر الدنيا وشهواتها ولذاتها, كيف يمكنه أن يلتذّ بحلاوة ذكر الله والآخرة التي تتنافى مع لذته بحلاوة الدنيا, بل هي بالنسبة إليه مرارة ولذلك فهو يهرب منها ويعتبر أن الذي يذكره الله والآخرة جاهل لا يفقه شيئاً من أحوال العالم بل مجنون.
" لأنهم ضلوا عن عطر الوحي وانحرفوا عنه وأطلقوا صرختهم المشؤومة " تطيرنا بكم ".
" قالوا للأنبياء يعذبنا كلامكم ويمرضنا ولسنا نتفاءل بوعظكم. فإذا عدتم إلى نصحنا فسوف نرجمكم ".
" تطيب لنا الحياة باللهو واللعب ولم تألف أنفسنا النصيحة ".
" أصبح قوتنا الكذب واللهو والسخرية ونكاد نتقيأ من هذا " البلاغ ".
مضامين أبيات.
ومن هنا تعرف حكمة الإبتلاءات التي يبتلي الله تعالى المؤمن بها وهي أن يشعر المؤمن بمرارة الدنيا, وحلاوة الآخرة, كالأم الحنون التي تضع المر على ثديها لينفر منه ويأكل الطعام اللذيذ الذي أعدته له ويألفه ويعتاد عليه ويلتذ به.
[590] - " يصنع الأطفال عند اللعب دكاناً لا ربح فيه إلا تضييع الوقت ".
" ويخيم الليل فيرجع كلٌّ منهم جائعاً إلى بيته الذي غادره وبقيت فيه الأم "
" هذا العالم لعبة والموت هو الليل, وسترجع خالي الكيس متعباً ".
" وستبقى وحيداً في بيت القبر تردد نداء واحسرتا ".
" رغم أن الأطفال يفرحون بلعبهم فعند الليل تشدهم رغبتهم إلى البيت ".
" ويصبح الطفل الصغير حافياً وقت اللعب ويسرق اللص قبعته وحذاءه ".
" ويحل الليل ويصبح لعبه مملاً لكنه يستحي من الرجوع إلى البيت ".
" أوما سمعت " إنما الدنيا لعب " حتى أضعت ما لديك وأصبحت خائفاً ".
" إبحث عن لباسك ( التقوى ) قبل أن يحل الليل, ولا تضيع نهارك بالكلام ".
" هيا أيُّها الراكب تب, وألقِ القبض على اللص واسترد منه لباسك ".
" مضامين أبيات ".
[591] - في وسائل الشيعة روايات كثيرة حول ذلك.
[592] - " الدنيا كالحَباب ( الفقاع ), ولكن أي حَباب, إنه ليس على وجه الماء بل على وجه السراب ".
" ثم إن هذا السراب هو سراب يرى في المنام, وهذا المنام أي منام؟ إنه منام السكران السيء السكر التعيس ".
" أيها البستاني أراك غافلاً عن الخريف, أهٍ من ذلك اليوم الذي يحمل فيه الريح وردتك الجميلة ".
" قاطع طريق الدهر قد كمن لك فلا تأمنه, فإذا لم يأخذك اليوم أخذك غداً ".
" أوما سمعت بأن الشاه محمود الغزنوي أمضى ذات ليلة بنشاط داخل فرو السمور الثمين, فيما كان فقير في تلك الليلة يبحث عن الدفء إلى جانب تنوره وعندما تنفس الصبح تنهد الشاه وقال: ليلة السمور مضت وليلة التنور مضت. " مضامين أبيات ".
والمراد بالبستاني الإنسان لأنه يزرع اليوم ما يواجه غداً, كما أن المراد بقاطع طريق الدهر هو الموت.
[593] - " ما هي الدنيا التي تسبب الغفلة عن الله ليست قماشاً وفضة وزوجة وولداً ".
" إذا حملت المال من أجل الحق فهو المال الذي قال عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): " نعم مال صالح ".
" الماء في السفينة سبب لهلاك السفينة, ومن فيها, والماء خارج السفينة يساعدها على الوصول وبلوغ الهدف ".
" من أمكنه أن يطرد من قلبه المال سوف لن يرى سليمان إلا مسكيناً ".
" مضامين أبيات ".
[594] - " دع جانباً حديث الطفولة وعبادة الذات فإنه كان دواراً وسكراً ".
" عندما يتجاوز العمر الثلاثين بل العشرين فلا ينبغي للمرء أن يعيش كالغافلين ".
" يستمر نشاط العمر إلى الأربعين وعندما يتجاوز الإنسان الأربعين يتناثر ريشه ويصبح مهيض الجناح ".
" تدوم سلامة الجسد أكثر من خمسة عقود ثم يخفت البصر وتضعف الرجل ".
" وبحلول الستين تظهر بوادر القعود, وبحلول السبعين تتعطل أجهزة البدن ".
" وعندما تبلغ الثمانين والتسعين فما أشد الصعوبات التي تراها من الدنيا ".
" ثم إذا وصلت إلى محطة المائة فإنه الموت في شكل حياة ".
" كلب الصياد الذي يصطاد الغزال, عندما يهرم فإن الغزال " يصطاده " ".
" عندما يظهر البياض في الشعر الأسود فقد ظهرت علامة اليأس ".
" ها أنت قد أصبحت لابساً للكفن وسدوا أذنيك بالقطن, وأنت رغم ذلك مصر أن لا تصغي إلى الحقيقة وتخرج هذه القطنة من أذنك ".
" مضامين أبيات للشاعر نظامي ".
" من عادة هذا الفلك الأزرق, مضى عمري وأصبحت ابن مائة عام ".
" وعلى رأسي كل سنة من هذا العمر تحسرت على الذكريات الجميلة في هذه السنة المنصرمة ".
" ما أشد تعجبي من دوران هذا الفلك, فقد استرد كل ما أعطاني إياه ".
" ذهبت قوة الركبة والساعد, وذهبت نضارة الخد وذهب لون الشعر ".
" وانفرط عقد ثرياي, وتناثرت جواهر أسناني واحدة تلو الأخرى ".
" وما بقي لي ولا يعتريه خلل هو حمل الذنوب وطول الأمل ".
" ودوى صوت الرحيل: إنتقل, فإن رفاق دربك راحلون ".
" آه من قلة الزاد اليوم فالزاد قليل والمسافة طويلة ".
" وعلى ظهري حمل ثقيل كالطود, بل يعجز الجبل عن حمل ما أحمله ".
" يا من الذنب أمام عفوك العظيم كالقشة أمام سيل الربيع ".
" إذا لم يأخذ فضلك بيدي, إذا لم تعصمني بعصمتك ".
" فلن يؤدي طريقي إلا إلى جهنم وسيتعالى صراخي في سقر ".
" أنا غارق في لجة العصيان, أنا الخجول, وأنا الجاهل ".
" وأنت الخالق والرحمن ذو الإحسان, أنت وحدك القادر على المغفرة المبشر بها ".
[595] - نهج البلاغة خ 114 والشواهد التاريخية على كل من هذه الصفات الأربع, الفناء, العناء, الغير, العبر, كثيرة لا تحصى يكتفى هنا بنقل قصتين فقط:
1 - وقف جيش الأمير إسماعيل الساماني وكان عدده عشرة آلاف فارساً في مقابل عمرو بن ليث وجيشه الذي كان سبعين ألفاً, وعندما اقتربت ساعة النزال وقرعت طبول الحرب جمحت فرس عمرو ونفرت وحملته إلى معسكر الأعداء فألقى الأمير إسماعيل القبض عليه دون أن يحتاج إلى استعمال سيف أو رمح, وحبسه في خيمة, ويقال إن عمرواً رأى في ذلك اليوم - وهو سجين - أحد غلمانه الذين كانوا معه سابقاً فشكى إليه الجوع, فجاءه بقطعة لحم وحيث لم يجد قدراً وضعها في سطل الإسطبل وأضرم النار تحتها ومضى, فجاء كلب ووضع رأسه في السطل فأحس بالحرارة, وأراد الهروب فعلق السطل برقبته, ورأى عمرو ذلك فضحك... وعندما سأله حارسه عن سب ضحكه قال:
هذا اليوم شكى مسؤول المطبخ عندي من ثلاثمائة دابة لا تكفي لحمل لوازم المطبخ وها أنا أرى الآن كلباً يكفي لحمل مطبخي. عن " حبيب السير ".
2 - استمر حكم القاهر بالله الخليفة العباسي سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام ادخر فيها أموالاً لا تحصى وكان غاية في الفساد وإراقة الدماء والقسوة, ثم ألقى الأتراك القبض عليه وأدخلوا ميل حديد في عينيه ثم طردوه من قصر الخلافة, فكانت عاقبة أمره أنه كان يقف على باب المسجد يتسول كسائر العميان ويقول: أيها الناس تصدقوا على من كان سلطانكم, وكان يحكمكم.
" عن تتمة المنتهى ".
[596] - نهج البلاغة خ 99.
[597] - نهج البلاغة خ 133.
[598] - بحار الأنوار 77 / 422 - 423.
[599] - نهج البلاغة خ 209.
[600] - ميزان الحكمة 3 / 326 نقلاً عن البحار 71 / 81 وغيره.
[601] - بحار الأنوار 73 / 106.
[602] - أصول الكافي - باب ذم الدنيا والزهد فيها.
[603] - المصدر السابق.
[604] - ميزان الحكمة 4 / 253 عن البحار 77 / 20.
[605] - الكافي - باب ذم الدنيا والزهد فيها.
[606] - الكافي - باب ذم الدنيا والزهد فيها.
[607] - المصدر السابق.
[608] - الأنوار النعمانية 3 / 102 - 103 بتصرف.
[609] - أصول الكافي كتاب العقل.
[610] - هو المرحوم آية الله الشيخ حسينقلي ( عبد الحسين ) الهمداني, تولى التدريس بعد وفاة أستاذه الشيخ الأنصاري بفترة وجيزة وتوفي سنة 1311 هجرية. ودفن في دار حرم سيد الشهداء عليه السلام.
[611] - النسناس: نوع من القردة صغير الجسم طويل الذنب ( المعجم الوجيز ).
[612] - مجمع البيان.
[613] - الوسائل - كتاب الطهارة - باب 5.
[614] - أصول الكافي - باب النية.
[615] - المصدر السابق.
[616] - ميزان الحكمة 10 / 283 عن البحار 70 / 206.
[617] - رسائل الشيخ الأنصاري - 7.
[618] - الوسائل كتاب الأطعمة باب 34.
[619] - الكافي - باب من أخاف مؤمناً.
[620] - وسائل الشيعة - كتاب الأمر بالمعروف باب 5.
[621] - في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قال عموم الفقهاء: يجب الإنكار القلبي على كل مكلف في مقابل أي ذنب, في أي حال, وفي قواعد العلامة وشرح الإرشاد للأردبيلي والجواهر وغيره التصريح بأن معنى الإنكار القلبي, عدم الرضا بالذنب. بناءاً على هذا فرضا الإنسان بذنب نفسه والعزم عليه حرام وذنب بطريق أولى, خصوصاً بملاحظة أن أمير المؤمنين عليه السلام: قال: " لعن الله الآمرين بالمعروفين التاركين له, والناهين عن المنكر العاملين به ". نهج البلاغة - 129 إذن من لم يرضَ بذنب صدر من غيره, وغضب لذلك, ولكنه يرضى بذنبه هو نفسه ويعزم على فعله, فهو ملعون.
وقد وردت في هذه المسألة روايات أخرى, وتتضح حرمة العزم على الذنب لدى الدقة في هذه الجملة القصيرة ( المتقدمة ) وفي المدارك: لا خلاف في حرمة إرادة الحرام.
[622] - نهج البلاغة - خ 201.
[623] - مرآة العقول 11 / 290 - 291.
[624] - أصول الكافي - باب من يهم بالحسنة أو السيئة.
[625] - المصدر السابق.
[626] - المحجة البيضاء 5 / 74.
[627] - المحجة البيضاء 5 / 76.
[628] - الكافي - باب النية.
[629] - وسائل الشيعة - كتاب الطهارة - باب 6.
[630] - وسائل الشيعة - كتاب الطهارة - باب 6.
[631] - تفسير القمي 2 / 26.
[632] - نهج البلاغة خ 12.
[633] - عيون أخبار الرضا.
[634] - نفس المهموم 543 - 544.
[635] - بحار الأنوار 52 / 75 بتصرف يسير.
اسمي لاري لقد حصلت على قرض في العديد من القائدين وهم جميعاً أخذوا أموالي لكن الله طيب ، عندما وصلت إلى الإنترنت رأيت الكثير من التعليقات حول شركة الملكة رانيا للائتمان بالطريقة التي ساعدت بها الوكلاء . ولكن في البداية لم أصدقهم. ولكن لم أكن أعرف ما الذي حدث لي قررت التقدم بطلب للحصول على قرض قدره 40 مليون دولار أمريكي ؛ عندما أرسل بريدًا إلكترونيًا لوكيله ، وأخبرني الوكيل بدفع رسوم التسجيل ؛ وهو 100 دولار لكنني كنت خائفا. ولكن بعد بعض الدقائق أوافق وأطيع كل ما قاله. لكن انظر إلي الآن أنا سعيد للغاية مع عائلتي. أرسلها بالبريد الإلكتروني اليوم على{queenranialoanleaders@hotmail.com} أو وكيله whatsapp + 2348122022637
ردحذفاسمي لاري لقد حصلت على قرض في العديد من القائدين وهم جميعاً أخذوا أموالي لكن الله طيب ، عندما وصلت إلى الإنترنت رأيت الكثير من التعليقات حول شركة الملكة رانيا للائتمان بالطريقة التي ساعدت بها الوكلاء . ولكن في البداية لم أصدقهم. ولكن لم أكن أعرف ما الذي حدث لي قررت التقدم بطلب للحصول على قرض قدره 40 مليون دولار أمريكي ؛ عندما أرسل بريدًا إلكترونيًا لوكيله ، وأخبرني الوكيل بدفع رسوم التسجيل ؛ وهو 100 دولار لكنني كنت خائفا. ولكن بعد بعض الدقائق أوافق وأطيع كل ما قاله. لكن انظر إلي الآن أنا سعيد للغاية مع عائلتي. أرسلها بالبريد الإلكتروني اليوم على{queenranialoanleaders@hotmail.com} أو وكيله whatsapp + 2348122022637
ردحذف